الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
يعرض مقال جوامع المغرب ومساجده، تاريخ أشهر المؤسسات الدينية في المغرب منذ عهد الأدارسة ومرورا بالمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين
من حيث هندسة البناء الدينية يظهـر أن الفن المسيحي لم يترك أثرا يذكر في البلاد، حيث أن المغرب نقل عن المشرق طريقته في الزخرفـة التي تزدان بها مساجده ومختلف مؤسساتـه الدينية، وهي الطريقة الإسلامية التي أثارت إعجاب مهندسي الكنائس الرومانيـة في فرنسا، وظهرت آثارهـا فيما شيدوه بها من معابد خلال القرون الوسطى.
المساجد في إمارة نكور
وأول مملكة عربيـة تركزت في المغرب هي مملكة (نكور) الواقعـة بالريف على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وذلـك في عصر الوليد الأموي بإمـارة (صالح بن منصور الحميري).
وقد غزا الإسلام منذ العقود الأولى للفتح قلوب صنهاجـة وغمارة، فاتجهت الجهود إلى بناء رباط في عهد الأمير سعيد بن صالح يحتوي على مسجـد بمرافقـه يحتوي تصميمه الهندسـي من جامع الإسكندرية. وكان الأسلوب المعماري بسيطـا تبعا للفن الشرقي الإسلامي الذي كان لا يزال إذ ذاك في فجـر انبثاقـه، فجامع عمرو بن العاص (عامل مصر) مثلا خال من كل زخرفـة وتنصيق كالقربصة والنقيش الخشبي والمرمري وسائر العناصـر المعمارية الدقيقة التي امتاز بها الفن العربي في العصور التالية.
ومن هـذا الطراز مسجد أغمات غيلانـة الذي أسس عام 85هـ، والذي يظهـر أنه أول مسجد بناه المسلمون بالمغرب بعد أن حولت المعابد التي بناهـا المشركون إلى مساجـد وجعلت المنابر في مساجـد الجماعات، وبدأت إفريقيا تتطـور روحيا وفنيا على نسق الشرق الإسلامي.
وقد لاحظ الكاتب الفرنسي جورج مارسي -وهو من كبار مؤرخـي الفن الإسلامي- أن بلاد البربر أسست منذ القرن السابع الميلادي، فكانت عبارة عن مرحلة في الطريق الكبرى التي تصل الهنـد بجبل (البرانس) بإسبانيا والتي يطرقها علاوة على رسل الخلفـاء وسفرائهم ثلة من الحجاج والطلبة والفنانيـن والتجار. فلا يسعنـا والحالة هذه أن نستهين بآثار عهد الإسلام المستديمـة والمنبعثة بواسطة هذه المسالك، ومن أبرز مظاهـر هذا الإشعاع الفني انبثاق مساجـد وجوامع تنسم بطابع عربي أصيل وتوجـد خاصة بإفريقية العناصر الأوليـة للفن الإسلامي.
فاس أول مركز عربي مغربي
ويمكن أن نعتبر مدينـة فاس أول مركز عربي تفتق في البلاد المغربية، وأصبح بعد ذلك حسب "كوتيي" مظهر إعجـاز في ميدان التكيف بالطابـع الشرقي ذلك أن الفن اتخذ مناهـج جديدة منذ العصـر الأموي في كل من الشرق الأدنى والمغرب العربي بفضل مرونة حساسيـة العرب ومداركهم الإبداعيـة، فهناك عوامل حدت العرب في الأندلس والمغرب وكذلك بمصـر إلى الاستحياء في زخارفهم من معطيات الهندسة وهذه العوامـل هي إهمالهم للأشكال والصور المستمدة من الطبيعة وتعمقهم في دراسة الرياضيات وسعة مواهبهم وأذواقهم. وقد تبلور هـذا الاتجاه مع مرور الأعصار وتهذيب أطرافه ورقت حواشيه وتنمقت معالمـه.
وكان لفاس أثرها القوي حتى في إفريقيا، وبذلك أمسى مهد الإسلام تابعا لمدرسـة برابرة الغرب الإسلامي، ويرجع فضل هـذه النهضة إلى المولى إدريس الثاني الذي أمد حاضرة العلم بأولى مؤسساتها.
المؤسسات الدينية المرابطية
وقد أقام المرابطون عددا كبيرا مـن المؤسسات الدينية في المغرب الأوسط جوامع جزائر بني مزغنـة وندرومة وتلمسان، وكذلك في المغرب مدرسة الصابرين بفاس وجامـع ابن تاشفين بمراكش، وتدل الحفريات الأثرية الأخيرة على أن في الإمكـان تحديد موقع هـذا المسجد العتيق في وسط المدينة، وقد كشفت مصلحـة الفنون عن قبة مرابطية هي قبة البردعيين قرب جامع ابن يوسف بمراكش.
أما في فاس فإن جامع القرويين المؤسس عام 245هـ قد وسعت جنباته في عهد المرابطين على الشكـل الذي ما زال عليه إلى الآن، كما يتجلى ذلك من الوصف الوارد في (القرطاس) و(زهرة الآس) وقد بني جامع القرويين طبقا لتصميم أصيل، فصحونه موازيـة للقبلـة على غرار(مسجد الشرفاء) الذي بناه المولى إدريس بفاس وكذلك جامع ابن طولون بالقاهرة وجامعـي بعلبك ودمشق.
والمواد الأساسية للبنـاء كانت تشكل في القرن الثالث الهجري من الأجر والجبص والطوب والطوابي فسور اجراوة مثـلا بنى بالطوب عام 257هـ، وكذلك رقادة بإفريقية عام 294هـ والبصـرة المهدمة عام 368هـ، هذا بينما استعمل البناؤون الجص والمرمـر والأجر في جامع القرويين لدى تجديد بنائـه عام 252هـ على يد الأندلسي محمد بن حمدون.
وقد أكمـد المؤرخ الفرنسي طيراس لدى حديثه عن الفـن المرابطي أن عليا بن تاشفين فاق والده بكثير في المؤسسات المعمارية مع أن يوسف نفسه كان من كبـار البناة والمؤسسين، وقد اندثرت أعلام جميع ما أقامه من قصور ومساجـد في مراكش باستثناء قبـة البرادعيين (قرب جامع بن يوسف) ومسجد تلمسان (عدا منارته) ومعظم أروقـة جامع القرويين الزاخر بروائـع الفن الأندلسي المقتبس طبق الأصـل من الفن الأندلسي بما كـان ينطوي عليه في القرن الخامس الهجري من رقـة ورشاقـة وروعـة زخرف.
ومع ذلك فإن إسهام المرابطين في الفـن كان مهما لا يخلو من تجديـد، فالفنان لا يمكن أن يستسيغ ويقتبس لا ما تمكن تقريبا من الكشف عنه، ولنـا على ذلك دليل قوي في النفوذ الشامخ الذي بسطه المرابطون في الأندلس وإفريقيـة، وذلك في العمل البناء الذي حققوه في هـذا الجزء من المغرب الإسلامي وقد لاحـظ كودار عن حق أن إقامـة المرابطين لصروح أكبر إمبراطـورية أسست في العالم حيث امتدت من الأندلس على (جزر الباليار) إلـى (نهر الميل النيجر) لتتم لـدى الفاتح المرابطي عن تفتح مدارك قوية.
مساجد الموحدين
وبعد انهيار دولة المرابطين اعتلى أريكة العرش زعيم المصامدة الموحدين المهدي ابن تومرت المنحدر من الأطلس الكبير، ثم خلفـه عبد المؤمن بن علي الذي وصفه بعض المؤرخين الأجانب بأنه أعظـم شخصية بدون منازع طوال القرون الوسطـى البربرية.
إن قادة الموحدين الذين ركزوا للمرة الأولى وحـدة الإسلام السياسية من حدود قشتالة إلى ليبيا قد ساهموا في تأصيل نوع من التوحيد بين عناصر الفن الإسلامي في المغرب. وقد استمر نفوذ الموحدين أزيد من قرن، كان لهم في غضونـه أعمق الأثر في عدوة الأندلس المترامية الأطراف، فانتصار يعقوب المنصور في الأندلس قد أضفى على الفن طابعـا خاصا وحقق بتساوق مع مدرسة القيروان التجانـس الفني بين الشرق والغرب.
وقد احتل الموحدون في تاريخ الفن الإسلامـي مكانة مرموقة تفوق ما كـان للمرابطين في هذا الحقل، وذلك بالرغـم عن معارضة المهدي بن تومرت مؤسس الدولـة الموحدية لبعض مظاهـر هذا الفن كالموسيقى والسماع والزخارف والنقوش.
وكان ابن يوسف هذا يقطـن في إشبيلية التي زخرف معمارها بأبهـى وأروع مما زين به حاضرة مراكش، أما ولده يعقوب المنصور فإن بدائعه الفتيـة تشهد بأنه أروع في العصر الموحدي، مثال ذلك المؤسسات المقامة في إشبيلية والرباط ومراكش.
وبفضل الموحدين تجلى القرن السادس لبعض علماء الآثـار كعصر بلغ فيه الأوج في القسـم الغربي من العالم الإسلامي، وقـد شرع عبد المؤمن في آن واحد في بناء مسجد تازنو والمدينـة نفسها، وكذلك مسجد تينمـل مهد الدولـة الموحدية الذي لم تبق منه سوى معالمه.
جامع الكتيبة
أما في مراكش فإن (كتبيته الأولى) هدمت، وقد تمكنت مصلحـة الآثـار الإسلامية والفنون الجميلة من الرسم الأول لهذا المسجـد، ثم بنى أولاده (الكتبية الحالية) محاذية للأولى، ومتوجهة بدقـة نحو القبلـة، غير أن جانبا من هـذه البنايات لم يتم إلا في عهد يعقوب المنصور.
وتبدو الهندسـة المعمارية الموحدية في أجلى وأجل معالمها في مساجـد مراكش وحسان بالرباط ومرصد الخالدة بإشبيلية. ففي منارة الكتبية توجـد طبقات متوالية من الغرف المقوسة السقف تصل بينهـا درج مركزية لا مرقاة لها ويلاحـظ وجود نفس التصميم في كل من (الخالدة) و(حسان)، فالجدار مطلية بجص أصفر كلس أي ضارب إلى اللون الرمادي، وما زال هذا التسليط جاريا به العمل في مراكش الآن، وتنعكس على صفحته تموجـات وضاءة تنسل داخـل المنارة من النوافذ المفتوحـة في عرض الحائط وتؤدي الدرج آخر المطاف إلى الجزء العلوي من المئذنـة المطل على المدينة، وتستمد النقوش تسطيراتها من أشكـال الزهر والسعف الجامعة بين القوة والرقة، أمـا في الطبقة الأرضية فإن القبـة مخروطـة الشكل تبعا للأسلوب الإسلامي الإسبانـي، بينما تحتوي القاعـة السادسـة والأخيرة على أغنـى قبة ثمانية الهندام ذات ضـلاع ومقريصات تتكون منها مجموعـة هندسية رائعة، ولكن لا يـلاحظ في مجموعة أجزاء المنارة أي عنصر جديد بنفـس الأسلوب أو الهندام العام الشائعيـن في المغرب، اللهم إلا إذا استثنينـا ضخامة برج المئذنة وقـمتها والتنناسـق الأصيل في الزخرف والتنسيق.
وقـد أكد كل من (طيـرس) و(باسي) أن "الكتيبة" أجمـل معبد إقامته الخلافـة الإسلامية في المغرب وأنه يعادل في جـدة أسلوبه روائع الجامع الكبير بقرطبـة والانطباعـة التي ترتسم في نفس الزائر لهـذا المسجد هي الروعـة والتأثير البليغ، ذلك أن مساجد الموحدين أكمـل وأروع المساجـد الإسلامية، فهي عبارة عن خميلة من الأساطيـن تتجلى في غضونها جلالة الصحون والأروقـة الممتدة بين الأعمـدة والحنايا وصفاء الأقـواس في رسومهـا المتناهية والجناس الأخـاذ بين الصحن المركزي والصحـون الجانبيـة بأقواسها المقريصـة وقببهـا البديعـة، وسقوفها الخشبية السامقـة تتلألأ في منتهى الصحـن الذي تخيم عليه أشعـة خافتة وضاءة المحـراب الناعمة وفصوص لعاج المصفـرة في تضاريس المنبر ولمعان الفسيفساء، بحيث تنتشق من هذه المجموعة المعماريـة الخلابـة عظمة تجمع بين الوداعـة والنعومة، فجامع قرطبة رغم سعتـه لا يتسم بنفس الطابع من التجانس والتناسق، ومع ذلك فإن عـددا كبيرا من رؤوس الأساطين في (الكتبية) هو مـن أصل أندلسي، فالأعمدة الأربعة التي تساند قوس المحراب من مخلفات الفن الأموي، وتوجد أيضا في المسجد الموحدي بقصبة مراكش أعمدة أموية من الصعب وجودها ملتئمـة في قرطبة نفسها، فجامع الكتبية يشكل متحفا حيا للأعمـدة الموحدية التي ينيف عددهـا على الأربعمائة، والتي ما زالت تحتفظ بأصالتها المتجلية في عبقريـة الفنان الأندلسي الموحدي ومهارة يـد الصناع، وقد اكتسى في بناء رؤوس الأعمدة غلالة من الخصب الذي لا ينضب معينه ولم يسبـق له نظير في الغرب الإسلامي، ولن يسمح الزمان بمثلـه.
أما منبر الكتبية، فقـد تحدث عنه ابن مرزوق فيمسنده، فأشار على ما أكـده أهل الفن من جودة وإتقان في ترصيع منبري جامـع قرطبة ومسجد الكتبية. ويرى كل مـن (طيراس وباسي)، أن هـذا المنبر هو أجمل منبر في الغرب الإسلامي، بل أبهى وأروع منبر في العالـم الإسلامي أجمع، وما زال قائم الذات إلى عصرنـا هذا في الكتبية، إلا أن بعض أجزائـه تميل إلى التداعي. وقد تعرض ميلي Milie في كتابه عن "الموحدين" إلى المنارات الثلاث، فذكر أن قيمتها لا ترتكز على ضخامتها وتوازنهـا فحسب، بل أيضا على فخامـة هندامها ونسبها الوافيـة بمقتضيات الأناقة مع بساطـة في الزخرف والنقش وأصالة في الـذوق الذي يحدق بها ويحويها دون مساس بوحدة هـذه المجموعة التي تسري في معالمهـا آثار السلطان المؤسس لها محي الديـن وحامي التقاليد، بل مدعم الإسلام في ربوع المغرب.
مساجد وجوامع بني مرين
وقد ازدهرت مظاهـر الحضارة والعمـران في عهد بني مرين الذيـن أصبحوا أقـوى ملوك إفريقيا، إذ بالرغـم من محدثهم الصحراوي، فإن هؤلاء الرجال استطاعوا بفضل اتصالهـم المزدوج ببني نصر ورثة الحضـارة الأندلسية وبالموحدين التكيف والانسياق في مجرى الحضارة تبعا للمقتضيات المدنيـة مع استمداد من معطيات الفكر الإسلامي والمجالي الطريقـة في التجديد، وقـد تبلور اتجاههم في إقامـة المدارس المحصنة والمساجـد وقباب الأضرحة والفنادق المزخرفـة والمدارس الفخمة التي أضفت على المغرب المريني طابعا خاصا من الروعـة والبهاء. وقد لاحـظ الأستاذ ألفريد بيل عن حق أنه خلافا لتقاليـد الشرق كان الملوك في طليعـة من تبني تأسيس المعاهـد، في حين تكفل بذلك الوزراء في المشرق.
وقد اتسمت هـذه الحركة المعمارية بطابع ديني في كثير من الأحاييـن حيث أقام المرينيون مجموعة رائعة من المساجـد في تازة ووجـدة وتلمسان، وقـد تم ذلك خاصة في عهد أبي الحسن بفاس والمنصور قرب سبتة وطنجة، وسلا ومكناس ومراكش، كما أقيمت معابـد حول أضرحة الملوك مثل (مقابر المرينيين في شالة بالقرب من رباط المجاهدين) حدا الملوك منذ عهـد أبي يوسف إلى عهد أبي الحسن إلى اختيار هـذا الحدث الطاهر، وقـد أضفى أبو الحسن على هـذه الأضرحة السلطانية مسحـة الروعة والجلال بتسويرهـا وزخرفتها وإقامـة مسجد ثان حولها، وكـان هذا الأمير إذاك في طليعة زعمـاء الإسلام بالمغرب حيث توحدت إفريقيا الشماليـة لأول مرة منذ عبد المؤمن الموحـدي تحت راية أمير واحـد من قابس إلى المحيط الأطلنطيقي، وبلغت الدولـة المرينية أوج عظمتها كما بلغت حضارتها قمة روعتهـا، وأمسى أبو الحسن -كما يقول أندري جوليان- أقوى ملك في المغرب خلال القـرن الرابع عشــــر الميلادي.
وفي عهد المرينيين أسست زاوية شالة التي تعبد فيها الشاعر الوزير ابن الخطيب السلمـاني والتي أضافها أبو الحسن إلى جناح الأضرحـة بهذه المدرسة الأثرية وهي بساحتها الداخلية وصهريجها وأروقتها وغرفها الشبه بمعهد تتجلى فيه نفس المعالـم الزخرفية المدرسية كالترخيم والنقش والزليج والفسيفساء، والتبليط المرمـري. وقد بنى أبو عنان الزاوية النساك بسلا التي ما زالت ببابهـا المنحوتة من الحجـر البديع قائمـة إلى الآن مع بقايا غرفها الثلاث، حيث كـان يقطن (شيخ الزاوية) وطابقها الأول وصحـن يتوسطه صهريـج ويحيط بـه أحد عشر مرحاضا للوضـوء.
المدارس المرينية
وتعتبر المدارس المرينية مساكن للطلبـة ومزكزا لدراستهـم التي كانت تتابع في المساجـد القريبة منها وأحيانـا كانت المدرسة نفسها تحتوي على مسجـد صغير بمحرابه ومنارته. وقد رسـم التصميم العام لهذه المدرسـة المغربية منذ القرن الخامس الهجري، فهنالك صحن تقوم في جوانبه الثلاثـة سلسلة من البيوت، وفي الجانب الرابع قاعـة للعبادة وتقوم فـي الطابع الأول في بعض الأحاييـن مجموعات أربع من الغرف تشرف على الصحن الداخلي.
ويمكن أن تعتبر توافـر المدارس والمعاهـد في عهد المرينيين بمثابة رد فعـل ضد الحركـة الدينية الموحديـة، وذلك بإقرار برنامج يهدف إلى نشر آراء جمهرة أهل السنة الذيـن نصب بنو مرين أنفسهم للدفاع عنهم وكان المرينيون متضامنين في ذلك من جميع طبقات الصوفيـة التي ساندتهـم في دعم هـذه السلفيـة.
وقد أسست أول مدرسة مرينية عـام 670هـ بأمر من أبي يوسف وهي تحتوي على مسجـد ومنارة وهي المؤسسـة الوحيدة التي يرجـع تأسيسها على هـذا القرن.
وفي القرن التالي أقيمت مجموعة من المدارس منهـا مدرسة فاس الجديد عام 720هـ (وهي تضم مسجدا وصومعـة ومدرسة العطارين ثم مدرسة الصهريج الكبرى)، ومدرسة السباعيين (الصغرى) وكانتا متصلتين ثم أخيـرا المدرسة المصباحيـة. هـذه المدارس الثلاث الأخيرة بنيت بأمر من أبي الحسن الذي زود بالمدارس كبريات مدن المغربيـن الأقصى والأوسط (تازة، ومكناس وسلا وطنجـة وسبتة وأنفا وأزمور، وآسفي وأغمات ومراكش، والقصـر الكبير، والعياد بتلسمان وعاصمة الجزائر)، أما ولده أبو عنـان فإنه أسس المدرستين الحاملتين لاسمه بفاس ومكناس.
ويلاحظ أن هـذه المدارس كانت تشتمل أول الأمر على منـارة وتتجلى كمسجد علاوة على ميسمها كمأوى للطلبـة، وكان تصميمها مزدوج المعالـم عبارة في آن واحد عن مسجد مدرسي (كالقرويين) وعن جناح للسكنى، ثم تبلورت في التصميم بعد ذلـك مظاهر المدرسة، فألغيت الصومعة (مثل مدرسة الصهريج) ثم تقلصت مساحـة المسجد الذي أصبح لا يعدو قاعـة كبرى للصلاة دون زخرفـة خاصة، وحتى المحراب صار يقـام رمزيا في شكل قوس أصم محـاط باسطوانتين دقيقتين.
وقد استمـر هذا الاتجاه فأسقط المحراب تمامـا بعد بضع سنوات من (المدرسة المصباحية)، إلا أن (مدرسة العطارين) وهـي آخر مدرسة بناهـا أبو سعيد تحتوي على محراب، ولعل ذلك راجـع لضرورة تبرير مزيد الزخرفة والنقش بمظهـر ديني خاص. كمـا أن مدرسة سلا احتفظت بمسجدهـا ومحرابها نظرا لصبغتهـا الاستثنائية كمركز صوفي لا يحتـوي على أيـة غرفة لسكنى الطلبـة، ومدرسة أبي عنان في مكناس تمثل مرحلـة انتقاليـة بين نوعين من المدارس يرجـع عهدهما لأبي الحسن وولده أبي عنان (مسجد مربع وأروقـة في الجوانب الثلاثـة من الصحن)، أمـا المدرسة العنانية بفاس فهي تتسـم بهيكلها الضخم وروعتها الأخـاذة لجامـع مزود بمنـار ومنبر لخطبـة الجمعة.
تأثيرات الفن المريني
تلك هي المظاهـر الجوهرية التي يمكن أن نستخلص منها صورة عن الفـن المريني الذي بدأت تتبلور فيه مجالي الازدواج بين الطابعين الأندلسي والمغربـي في شكل جديد سمي بالفن الإسباني الموريسكي.
وبالرغم عن التأثيرات الأندلسية التي وسمت هـذا الفن، فإنه اصطبغ بسمة خاصة إذ عوضـا عما كان يذكي المهندس الأندلسي من رغبة في تحقيق التوازن بين القوى في المعالم المعماريـة هدف المهندس المغربي إلى ضمان متانة الهيكل، بالإضافـة إلى ما كان يشعر به من حاجة إلى مزيد من الزخرفة والتنميق، وهـذا هو الطابع العام الذي يتسم به مجموع الفن الإسلامـي من تسطيرات ناتئـة ومقربصات وتلوينات، علاوة على روعـة الهندام، ورغما عمـا يتسم به الفن المعماري الذي بلغ في العصر المريني أوج عنفوانه من إيغال في التوريق والتسطيـر والنقش مع قلة توازن بين الأجـزاء، وعـدم جودة المواد فإن المجموع ظل كما يصفه المؤرخ أندرى جوليان واضح المعالـم متوازي النسب تتجانس نقوشـه تجانسا رائعا ضمن الحيـز الذي يملأه، وهـذا بالإضافة على ما انطوت عليه الألوان من دقـة وجناس كاملي، وقد أشبـع الفن المريني شرقا وغربا بثروتـه التي لا تضاهي وروعتـه الطريفة الأصلية، فكان فنا أندلسيا مغربيا تتناسق عناصره في العدوتين.
وهـذا التناسق الفني يرجـع الفضل فيه على نشاط المهندس الأندلسي الذي كـان تأثيره ملحوظا في مجموع المآثر المعمارية. وكان للفنانين والمنتجين المغاربـة صيت رائع وحظوة لا بأس بها حتى في الشرق، غير أن درجـة النضج الذي بلغها هذا الفن كانت تنطوي على عناصـر انهياره، فقد استنفذ كثيرا من قواه منـذ عهد أبي الحسن، وحال قيام الفتن دون تحقيق أعمـال عمرانية كبرى بعد ذلك.
وإذا كـان الفن قد استطاع الصمـود في نهاية العهـد المريني فما ذلك إلا بفضل العناصر الأندلسية التي هاجرت إلى المغرب، بحيث أصحب المغاربة منذ عهـد الوطاسيين عالة في كثير من الفنون والحرف على الأندلس، مع ذلك فإن الفـن المغربي نشطت مقوماته العمرانيـة ظل محتفظا بجودتـه النادرة رغما عن انعدام الفخامة في مجاليه ذلك أن وفـرة الزخرفة وثراءهـا وروعتها انتظمت في إطـار من الوضوح والدقـة لا غبار عليـه، وكان المجهود الفني الـذي بذلـه المرينيون قد تقلص -كما يقول طيراس- عندما انهارت قوتهم العسكرية.
المؤسسات الدينية السعدية
وقد اتخـذ تدخل السعديين صورة ثوريـة ضد عجـز الوطاسيين عن إيقاف الحملة المسيحية وهبوب الإسبان لغزو المـغرب بعد سقوط المعاقل الغربية في الأندلس وقد تم احتلال سبتة عام 818هـ، فثارت ثائرة الأمة المغربية وطاف دعاة الجهاد في القبائل يحدون الناس إلى مقاومـة المغير، وقد تركزت هـذه الحركة التحريرية حول مراكـز إقليمية للتجمـع وهي الزوايا، واستغل الشرفاء السعديون الموقف، فتزعموا هـذه الشعبية، ونصبوا أنفسهم قوادا للثورة.
وقد عرف السعديون كيف يوجهون هـذا الحماس الشعبي الرائع الذي كـان يعززه العلماء والصوفية فأخرجوا العدو من أكادير وآسفي وآزمور وأصيلا والقصر الصغير، وكللت سلسلة الانتصارات هذه بهزيمـة شنعاء مني بها البرتغاليون في معركة وادي المخازن التي فقدت البرتغال بعدهـا استقلالها السياسي طوال اثنتين وستين سنة، واندرج المغرب بفضل انتصاره الفذ في صف الدول العظمـى تخطب وده بلاطات أوربا وتسعـى في الخطوة بمعونته.
ومن المؤسسات الدينية السعدية مسجد باب دكالة الذي بنته (مسعودة المزكيتية) والدة المنصور، وبتناسق في هـذا المسجد الأسلوب المريني (الصحن المربع) مع بعض معالم الفـن الموحدي مثل هندام القباب وبعد ذلك بخمـس سنوات أسس (جامع المواسين) بمرافقه من قاعـة الوضوء والحمام والمدرسة والكتاب (أي المسيد) والسقاية مورد الماء المخصص للحيوانات وتنم هـذه المظاهر الجزئية عن استمرار تقاليـد العصور السالفة في الحقل المعماري.
أما في جامع القرويين بفاس فإن السعديين بنوا قبتين في الصحن تتوسط كلتيهما خصة مرمرية شبيهـة بما يوجد في (ساحة الأسود) بالأندلس.
وقد أسهم السعديون في بناء مدارس صغرى مضافـة إلى المساجـد أو الزوايا، حيث توجـد مثلا في مراكش عاصمة السعديين أعظم مدرسة بالمغرب، يرجـع فضل تجديد بنائها إلى الأمير مولاي عبد الله وهي مدرسة ابن يوسف التي تستمد اسمها من الجامـع المجاور لها، وقد بناها أبو الحسن المريني، وكـان أهم مأوى لطلبة جامعة ابن يوسف حيث تحتوي على نحو المائـة غرفة.
وقد لاحـظ طيراس أنه بالرغم عن الجهـود التي بذلها كبار الأمراء السعديين فإنهم لم يسهموا في انبعاث الحضارة الإسلاميـة بالمغرب، ذلك أن المدينة والفن كانـا متجهين نحو الماضي، فلم تستطع بعض التأثيرات الأجنبية تعديل الأصـول القديمة ولا تركيز بذور خلق جديـد، فالفن المغربي إذن - حسب طيراس- فن خال من كـل غض طريف تكتنـفه رواسب الماضي، غير أن صلات عابرة وغير مباشرة بالفنون الإسلامية الشرقيـة تحققت من جديد بفضل ما كـان للسعديين من عـلاقة بالأتراك، ولعل بعض هـذه الآثار تتجلى في فن الطرز والنسيج والتجليد والتذهيب، وكذلك في بعض أزياء الرجـال، لا سيما منها العسكرية نظرا لتأثـر أمراء سعديين مثل عبد المالك الذي عـاش في تركيا ببعض مجالي الحياة في هذه البلاد.
__________________
المصدر: مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 232، صفر 1404هـ / نوفمبر 1983م.
التعليقات
إرسال تعليقك