الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
جاء الشرع بضرورة حماية الماء من التلوُّث، حتى تلك المياه الموجودة في الأواني، حتى إن كان الملوث المفترض هو النسمة التي في الهواء
- النهي عن التنفس في الإناء.
- إذا لم يرتوِ المرء من الشرب بنفس واحد، فليُبعد فمه عن الإناء، وليأخذ نفسه، ثم ليَعُدْ.
- إذا رأى عودًا، أو شيئًا سقط في القدح ويُريد أن يتخلَّص منه فلا ينفخ في الإناء، بل يسكب هذا العود أو الشيء الذي كرهه.
- خير الهيئات ما كان عليه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يشرب على ثلاث مرات، أو ثلاثة أنفاس.
الإسلام منهج تعميريٌّ إنمائيٌّ، وهو -أيضًا- منهجٌ إصلاحيٌّ يهتمُّ بدفع الضرر كما يهتمُّ بجلب المنفعة، بل دفع الضرر مُقَدَّم على جلب المنفعة، وقد جاء الشرع بضرورة حماية الماء من التلوُّث، حتى تلك المياه الموجودة في الأواني، حتى إن كان الملوث المفترض هو النسمة التي في الهواء.
إنَّ تناول أمر "تلويث الماء" عبر نصوص القرآن والسنَّة يكشف لنا كيف تكمن الحكمة الدقيقة والعميقة -في آنٍ- في تعاليم وإرشادات يفهم منها الناس في كلِّ عصرٍ بعضًا من جوانبها، وتظلُّ العصور كاشفة عن جوانب أخرى.
الحفاظ على آنية الشراب
في حديثٍ عجيب يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإغلاق الآنية التي فيها الطعام والشراب، ويُصَرِّح بأنَّ هذا لحفظها من الأمراض والأوبئة التي تنتشر في الهواء وتمرُّ بالآنية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غَطُّوا الإِنَاءَ وَأَوْكُوا[1] السِّقَاءَ؛ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لاَ يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إِلاَّ نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ".
في رواية أخرى يدخل هذا التوجيه ضمن توجيهات أخرى: "أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ".
لهذا يصحُّ لمن مضى من العلماء أن يجمعوا بين الحديثين فيفهموا أنَّ الأمر بالتغطية لمنع وقوع الفئران والحيات في هذه الآنية، خاصَّةً في أثناء فترة الليل، أمَّا نحن الآن فقد عرفنا أن الميكروبات والجراثيم وما تمَّ اكتشافه من كائنات دقيقة منتشرة في الجو مشمولة -أيضًا- بهذا التحذير، فكان هذا حمايةً لأقلِّ ما يُمكن تصوُّره في الماء، وهو الماء الموجود في الإناء.
الحفاظ على الماء الراكد والجاري
في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ"[2].
الملاعن: جمع مَلْعَنَة؛ وهي الفعلة التي يُلْعَن بها فاعلها، كأنها مَظِنَّة للعن، "فِي الْمَوَارِدِ"؛ أي: المجاري والطرق إلى الماء[3].
لقد ثبت علميًّا أنَّ هناك عديدًا من الميكروبات والطفيليات تنتقل عن طريق مياه الشرب (الملوثة)؛ مثل: الكوليرا، والتيفويد، والإنكلستوما، والبلهارسيا، والتهاب الكبد الوبائي، وشلل الأطفال، وغيرها من الطفيليات والميكروبات[4].
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نهيه عن البول في الماء الراكد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ"[5]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ"[6].
في رواية الصحيحين يضيف نهيًا آخر، وهو نهيٌ عن الاغتسال في الماء الراكد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"[7].
قال النووي في شرح هذا الحديث بعدم جواز نصب لفظ: "يغتسل"؛ وذلك "لأنه يقتضى أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحد هنا، وهذا لم يَقُلْه أحد، بل البول فيه منهي عنه سواءٌ أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا"[8].
قال ابن حجر: "ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره"[9].
من الجدير بالانتباه ما أشار إليه العلماء من أن الأمر ليس مقصورًا على "البول" تحديدًا، بل هو مثال لكلِّ المنجِّسات والملوِّثات، قال النووي: "قال أصحابنا[10] وغيرهم من العلماء: والتغوُّط في الماء كالبول فيه وأقبح، وكذلك إذا بال في إناءٍ ثم صبه في الماء، وكذا إذا بال بقرب النهر؛ بحيث يجرى إليه البول، فكلُّه مذمومٌ قبيحٌ منهيٌّ عنه على التفصيل المذكور"[11].
يشمل ذلك النهي التبول أو التغوط قُرب الماء، وفي هذا ذكر النووي: "قال العلماء: ويُكره البول والتَغَوُّط بِقُرْب الماء وإنْ لم يصل إليه؛ لعموم نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارِّين بالماء، ولما يُخَافُ من وصوله إلى الماء"[12].
التلويث في عصرنا لم يعد مقصورًا على البول والبراز، ونحوهما من الحاجات البشرية التي يفعلها الدهماء من الناس، بل غدت هناك أنواع أشدُّ خطرًا، وأبعد أثرًا، وأوسع نطاقًا من هذا كله؛ وهي التلويث بمخلَّفات الصناعة والموادِّ الكيماويَّة، ومنها موادٌّ سامَّةٌ وقاتلة، ومخلَّفات النفط والبواخر التي تغرق في البحار ويسيل ما فيها فتُلَوِّث المياه، وآثار الحروب وما تتركه من المواد المشعَّة، التي تكون خطرًا على الأسماك والأحياء المائية، وبالتالي تُصبح خطرًا على الإنسان نفسه حين يأكلها[13].
كل هذه النصوص تمثل نهيًا صريحًا عن تلويث الماء في الآبار والمناهل والعيون والقنوات والأنهار، وما إلى ذلك من الموارد العامَّة التي يشترك فيها جميع الناس.
الحفاظ على الماء المستخدم
استخدام يد واحدة للنظافة
نجد مستوًى آخر من النصوص معني بالماء المستخدم على المستوى الفردي، ولقد ضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم القدوة في هذا؛ فكان من حرصه ألا يتناول الماءَ مُلَوِّثٌ من الملوثات يجعل يده اليمنى للطعام والشراب، ويجعل يده الأخرى لما سوى ذلك من معاملة ذوات النجاسات والأقذار، روت عائشة < قالت: "كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى"[14]. وفي رواية أحمد عن أم لمؤمنين حفصة بنت عمر أنه صلى الله عليه وسلم: "وَكَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَوُضُوئِهِ وَثِيَابِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ"[15].
الأذى في حديث عائشة < كلمة عامَّة تشمل كلُّ ما يُمكن أن يندرج تحتها من الضرر، بل بعض العلماء جعلها تشمل كلَّ ما تعافُّه النفس، قال المباركفوري في مرقاة المفاتيح: "أي ما تستكرهه النفس الزكية كالمخاط[16] والرعاف[17] وخلع الثوب، والظاهر أنَّ إدخال الماء في الأنف باليمين والامتخاط باليسار"[18].
بعد أن كان صلى الله عليه وسلم قدوةٌ في نفسه، وَجَّه أُمَّته إلى مثل هذا؛ أن يتجنَّبوا باليد اليمنى مَظَانَّ الأقذار والتلوُّثات، فعن عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ"[19].
المقصود ليس الذَكَر تحديدًا، بل هو مثال لمواضع الأقذار والملوثات، قال ابن حجر: "يلحق به الدبر قياسًا، والتنصيصُ على الذكر لا مفهوم له؛ بل فرج المرأة كذلك، وإنما خصَّ الذَكَر بالذِّكْر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الأحكام"[20]
بهذا تبتعد اليد اليمنى ما أمكن عن الملوِّثات، وهي اليد التي تُوضع في الماء للوضوء وللغُسل، وهي التي تُوضع في الطعام والآنية، وهي التي يتمُّ بها الأخذ والبيع والإعطاء والشراء والمصافحة، ونحو ذلك.
قد رأى العلماء أنَّ الحكمة في هذا النهي من قبيل الاستحسان أو الاستحباب -بمعناه اللغوي لا الشرعي- فقد نقل ابن حجر قول العلماء فقال: "الحكمة في النهي لكون اليمين مُعَدَّة للأكل بها، فلو تعاطى ذلك بها (أي: النجاسات) لأمكن أن يتذكَّره عند الأكل فيتأذَّى بذلك"[21]. ومن ثَمَّ فإنه يصحُّ لنا؛ بل يحقُّ علينا أن نفهم بعد معارفنا الحديثة أنَّ النهي قد يرقى إلى التحريم؛ بعد ثبوت انتقال الملوثات عبر الجلد، وما تُؤَدِّي إليه من ضرر.
النهي عن التنفس في الإناء
في حديث أبي قتادة رضي الله عنه توجيهٌ آخر مختصٌّ بالماء؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ". وهذا المعنى نفسه يتكرَّر وبشكل أوضح وأكثر تفصيلًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإنَاءِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ الإِنَاءَ ثُمَّ لِيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ"[22].
روى ابن عباس رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ"[23]. وفي رواية الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ، فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةُ[24] أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ؟ قَالَ: أَهْرِقْهَا. قَالَ: فَإِنِّي لا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَأَبِنِ الْقَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ"[25].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ[26] فِي الشَّرَابِ ثَلاَثًا، وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ". قال أنسٌ: فأنا أتنفَّس في الشَّراب ثلاثًا[27].
قال النووي في تبيين معاني هذه الألفاظ: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَرْوَى". من الرِّي؛ أي: أكثر رِيًّا، "وَأَبْرَأُ"؛ أي: أبرأ من ألم العطش، وقيل: أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفسٍ واحد، ومعنى "أَمْرَأُ"؛ أي: أجمل انسياغًا"[28].
يلتقط المناوي لفتة طبيَّة رائعة وصحيحة في نزول الماء البارد على المعدة ذات الحرارة المرتفعة، فيرجح في معنى "أَبْرَأُ" بأنه أسلم من المرض، يقول: "من البراءة أو البرء؛ أي: أكثر براءة؛ أي: صحة للبدن؛ لتردُّده على المعدة الملتهبة بدفعات؛ فتُسَكِّن الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت عنه الثانية"[29].
والمستفاد من هذه الأحاديث أمور هي:
اجتهد أسلافنا من العلماء في تلمُّس الحكمة من هذه النصائح الدقيقة، وأعملوا عقولهم في تَفَهُّم دواعيها، فأصابوا وأخطئوا، ولعله من المفيد أن نستعرض بعضًا من اجتهاداتهم؛ فهي بالأساس تدلُّ على وعيٍ بيئيٍّ وأخلاقيٍّ، وعلى حسٍّ جماليٍّ مرهفٍ أيضًا.
من ذلك ما قاله ابن عبد البر: "واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله ورد النهي عن التنفس في الإناء؛ فقال قومٌ: إنما ذلك لأنَّ الشرب في نفسٍ واحدٍ غير محمود عند أهل الطب، وربما آذى الكبد، وقال آخرون: إنما نهى عن التنفس في الإناء لأدب المجالسة؛ لأنَّ المتنفس في الإناء قلَّ ما يخلو أن يكون مع نفسه ريق ولعاب، ومن سوء الأدب أن يشرب ثُمَّ يُناول جليسه لعابه، ألا ترى أنه لو عمد إلى الإناء فشرب منه، ثم تفل فيه وناوله جليسه، إنَّ ذلك مما تقذره النفوس وتكرهه، وليس من أفعال ذوي العقول، فكذلك مَنْ تَنَفَّس في الإناء؛ لأنه ربما كان مع تَنَفُّسه أكثر من التفل من لعابه، والله أعلم"[30].
وقال النووي:[31] "هو على طريق الأدب مخافة من تقذيره ونتنه، وسقوط شيءٍ من الفم والأنف"[32]. وبمثل هذا قال السيوطي[33] وغيره.
وقال ابن دقيق العيد:[34] "لما في التنفس من احتمال خروج شيءٍ مستقذرٍ للغير، وفيه إفسادٌ لما في الإناء بالنسبة إلى الغير لعيافته له"[35].
وقال ابن حجر:[36] "وهذا النهي للتأدُّب لإرادة المبالغة في النظافة؛ إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء، فيُكسبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه"[37].
وقال المناوي في فيض القدير: "لأن التنفُّس فيه يُورث ريحًا كريهًا في الإناء فيعاف، والنفخ في الطعام الحارِّ يدلُّ على العجلة الدالَّة على الشره وعدم الصبر وقلَّة المروءة"[38]. ثم عاد وقال في شرح الجامع الصغير: "فإنَّه أحفظ للحرمة، وأنفى للتهمة، وأبعد عن تغيُّر الماء، وأنزه عن القذارة"[39].
وبهذا تعدَّدت الاتجاهات في فهم الحكمة؛ فالبعض قَدَّره طِبِّيًّا لضرره، وبعضهم اعتبره على طريق الأدب وحسن السلوك، ومنهم من جمع بين الأمرين.
العلم الحديث والنفخ في الإناء
ومصداقًا لقوله سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ، فقد جاءنا العلم الحديث بخبر يُؤيِّد ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، وما يتأيَّد به اجتهاد بعض أسلافنا من العلماء؛ إذ ثبت حديثًا أنَّ النفخ أو التنفس في الإناء ينقل بعض البكتيريا، التي تعيش في الفم إلى الماء، وهو ما يُؤَدِّي بدوره إلى انتشار المرض عبر الإناء وعبر الماء.
ومن أهم الكشوفات العلمية ما اكتشفه الباحثان روبين وورن، وباري مارشال[41] (Robin Warren and Barry Marshall) في عام 1982م عن البكتيريا المسبِّبَة لقرحة المعدة، والمعروفة باسم (Helicobacter pylori)؛ حيث أثبتَا أنَّ هذه البكتيريا بانتقالها عن طريق الفم أو البراز تتسبَّب في الإصابة بقرحة المعدة وقرحة (الاثنا عشر).
ويُمكن التعرُّف على الإصابة من خلال اختبار هواء الزفير؛ إذ يخرج في الزفير الإنزيم الذي تنتجه بكتيريا (Helicobacter pylori)[42].
لقد كان يُعتقد – كما يقول الدكتور باري مارشال- أنَّ المرض وراثي؛ لأنه كان ينتقل من الأم إلى الطفل، ولكن أظهرت النتائج البحثية على الحالات التي أجراها انتقال المرض بشكل (فموي – فموي)، أو بشكل (برازي – فموي)[43].
النهي عن الشُّرب من فم السقاء
وفي ذات الموضوع؛ حيث العناية الإسلامية بأمر تلوُّث الماء كان نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشُّرْب من فم السقاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ"[44].
وهذه الطريقة في الشرب -أيضًا- من أسباب انتقال العدوى عن طريق البكتيريا والميكروبات الموجودة في الفم، التي تنتقل حينئذ إلى الماء فتلوِّثه.
ومجمل كلام شُرَّاح الحديث يدور حول خمسة معانٍ، ذكرها ابن الجوزي[45] فقال: "إنما نهى عن ذلك لخمسة معانٍ:
أحدها: أنه ربما كانت في السقاء هَامَة أو قذاة فانتشرت في الحلق.
والثاني: أنه ربما وقع الشرق باندفاق الماء.
والثالث: أنه لا يمكن مصُّ الماء بل يقع العبُّ[46] الذي يؤذي الكبد.
والرابع: أنه يُغَيِّر ريح السقاء.
والخامس: أنه يتخايل الشارب الثاني رجوع شيءٍ من فم الأول فيستقذره"[47].
وبمثل هذا قال ابن القيم في الطبِّ النبوي، وأضاف: "أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ حظَّه من الماء، أو يُزاحمه، أو يُؤذيه، ولغير ذلك من الحِكَم"[48].
وبعد استعراض الخلاف في: هل النهي للكراهة أم للتحريم؟ نقل ابن حجر قول الشيخ ابن أبي جمرة قائلاً: "والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم، وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي[49]"[50]، وقال ابن حجر بأن أحاديث الشرب من القِرَب كانت في حال الضرورة[51].
والمعروف أن قيام مجموعة من الناس بالشرب من وعاءٍ واحد، يُعرِّضهم جميعًا لانتقال العدوى بمرضٍ أصاب أحد الذين شربوا من هذا الوعاء[52].
نختم قولنا هنا بتلك الوصية النبويَّة البليغة، التي نرى أنها أقوى وأرفع الوصايا في الحرص على تلويث الماء؛ إذ نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يضع المسلم يده الملوَّثة في ماء، بل التي يحتمل أنها تلوَّثت، إلا أن يغسلها أولاً؛ فعن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"[53].
واختار النبي صلى الله عليه وسلم أقوى مظانِّ الجهل بالتلوث، وهو حال النوم، فحتى النائم يجب أن يتحرَّز فيغسل يده قبل أن يغمسها في الماء؛ لوجود احتمال إصابتها بمُلوِّث وهو لا يشعر، وهذا أقوى في حال مَنْ شكَّ أو غلب على ظنه عدم نظافة يده؛ "لأن الشرع إذا ذكر حكمًا وعَقَّبه بعلَّة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها"[54].
قال ابن حجر: "فيه (أي: الحديث) أنَّ علَّة النهي احتمال هل لاقت يده ما يُؤَثِّر في الماء أو لا؟ ومقتضاه إلحاق مَن شَكَّ في ذلك ولو كان مستيقظًا"[55].
ورتَّب الشيخ ابن جبرين على هذا الماء حكمًا؛ فهو يرى أنه غير طهور قال ~: "ليس هذا خاصًّا بالغمس بل حتى الاغتراف، فلو صبَّ عليهما ماءً من الصنبور أو نحوه، فإن الماء الذي يقع عليهما قبل الغَسْل يُعْتَبَر غير طهور، فلا بُدَّ أن يصبَّ الماء عليهما ويغسلهما، حتى إذا اغترف بهما أو صبَّ فيهما ماءً للمضمضة؛ كان ذلك الماء الذي وقع فيهما طهورًا يرفع الحدث"[56].
وخلاصة القول أنَّ الشرع الإسلامي كان في غاية الحرص على عدم تلويث الماء، وتمثَّلت هذه العناية في:
أولاً: الأمر بإغلاق قرب الماء، وعدم تركها معرضة للهواء.
ثانيًا: النهي عن التبوُّل، أو التغوُّط، أو إلقاء الملوِّثات في مجاري الماء أو بالقرب منها.
ثالثًا: النهي عن الاستنجاء ومسِّ الذكر ومواضع الأقذار في الجسد باليد اليمنى.
رابعًا: النهي عن التنفُّس أو النفخ في الإناء.
خامسًا: الأمر بأن يكون الشرب على مرات، إذا لم يرتو من المرَّة الواحدة؛ وذلك بأن يُبعد فمه عن الإناء، ثم يعود فيشرب.
سادسًا: إذا رأى عودًا أو ما يُؤذي في الإناء فلا ينفخ فيه ليُذْهِبْها، بل يريقها.
سابعًا: النهي عن الشرب من فم السقاء.
ثامنًا: النهي عن غمس اليد المحتمل أنها تلوثت في الماء.
وبهذه التعاليم خطَّ الإسلام أفضل السبل الممكنة لحماية الماء وحفظه من الملوثات والأقذار والنجاسات ونحوها.
ونسأل الله العظيم أنَّ هذا المقال يعود بالنفع على كلِّ من يقرأه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وكى الصرة ونحوها: شدها بالوكاء، والوكاء: السير أو الخيط الذي تشد به الصرة أو الكيس وغيرهما. ابن منظور: لسان العرب، مادة وكي 15/405، والمعجم الوسيط، ص1055.
[2] السقاء: وعاء من جلد يكون للماء واللبن. ابن منظور: لسان العرب، مادة سقى 14/390، والمعجم الوسيط ص437.
[3] مسلم: كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء (2014)، وأحمد (14871).
[4] البخاري: كتاب الأشربة، باب تغطية الإناء (5301)، وأحمد (15057).
[5] أبو داود (26)، وابن ماجه (328)، والحاكم (594)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في التعليق على سنن أبي داود وسنن ابن ماجه.
[6] السيوطي: شرح سنن ابن ماجه 1/28.
[7] د. أحمد عبد الوهاب عبد الجواد: المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، ص89.
[8] ابن ماجه (344)، وصححه الألباني في التعليق على سنن ابن ماجه.
[9] مسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (281)، وابن ماجه (343)، وأحمد (14709).
[10] البخاري: كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (236)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (282).
[11] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 3/187.
[12] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري1/348.
[13] يقصد الشافعية، فالنووي شافعي المذهب.
[14] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 3/188.
[15] السابق الصفحة نفسها.
[16] د. يوسف القرضاوي: رعاية البيئة في شريعة الإسلام، ص102.
[17] أبو داود (33)، وأحمد (26326)، وصححه الألباني في التعليق على سنن أبي داود، وحسنه شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد.
[18] أحمد (26507) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره.
[19] المخاط: إفراز مائي لزج تفرزه غدد أو أغشية خاصة كالأغشية التي في الأنف. انظر: المعجم الوسيط 2/857.
[20] رعف الشيء: سال وسبق، والرُّعاف: دم يخرج من الأَنف، وذلك لسبْقه عِلْم الرَّاعِفِ. ابن منظور: لسان العرب، مادة رعف 9/123، والمعجم الوسيط ص354.
[21] مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2/58.
[22] البخاري: كتاب الوضوء، باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال (153)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين (267).
[23] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري1/254.
[24] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري1/255.
[25] رواه –بهذا اللفظ- ابن ماجه (3427) وصححه الألباني في تعليقه على سنن ابن ماجه، وقد تقدم اللفظ الذي أخرجه البخاري ومسلم.
[26] رواه أبو داود (3728) وابن ماجه (3429) وصححه الألباني في التعليق على سنن أبي داود وسنن ابن ماجه.
[27] القذاة: هي العود، وهي في الحديث تشمل أي شيء يقع في القدح أو في عين الماء ويتأذى به الشارب. انظر: شرح الموطأ للزرقاني 4/371، والعظيم آبادي: العظيم آبادي: عون المعبود 2/91.
[28] رواه الترمذي (1887)، وأحمد (11219)، وصححه الألباني في التعليق على سنن الترمذي، وصحح إسناده شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد.
[29] يتنفس في الشراب: أي يشرب على ثلاث مرات ويكون التنفس خارج الإناء.
[30] مسلم: كتاب الأشربة، باب كراهة التنفس في نفس الإناء واستحباب التنفس ثلاثًا خارج الإناء (2028)، وأحمد (13230).
[31] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 13/199.
[32] المناوي: التيسير بشرح الجامع الصغير 2/493.
[33] ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/397، 398.
[34] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 3/160.
[35] السيوطي: الديباج على مسلم 2/44.
[36] ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/46.
[37] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري1/253.
[38] المناوي: المناوي: فيض القدير 6/448.
[39] المناوي: التيسير بشرح الجامع الصغير 1/33.
[40] (فصلت: 53).
[41] باري مارشال: ولد في منطقة كالغورلي بولاية أستراليا الغربية، ثم انتقلت أسرته للعيش في كارنارفون، وفي السابعة من عمره انتقل مع أسرته إلى مدينة بيرث. التحق بجامعة أستراليا الغربية حيث حصل على درجة البكالوريوس في الطب والجراحة سنة 1975م. حصل على جائزة نوبل في الطب سنة 2005م مناصفة مع مواطنه روبن وارن، وذلك لدورهما في إعادة اكتشاف بكتيريا الملوية البوابية.
[42] طالع للتعرف على المزيد التقرير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية عن هذا النوع من البكتيريا عبر الأطعمة "Transmission of Helicobacter pylori: a role for food" على هذا الرابط:
http://whqlibdoc.who.int/bulletin/2001/issue5/79(5)455-460.pdf
[43] من محاضرة البروفيسور باري مارشال عقب فوزه بجائزة نوبل، وهي منشورة على موقع الجائزة على هذا الرابط: http://nobelprize.org/nobel_prizes/medicine/laureates/2005/marshall-lecture.pdf
[44] البخاري: كتاب الأشربة، باب الشرب من فم السقاء (5305)، وأبو داود (3719)، والترمذي (1825)، والنسائي (4448)، وابن ماجه (3420)، وأحمد (1989).
[45] ابن الجوزي: هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي التيمي (510- 592هـ): فقيه حنبلي، ومؤرخ، وموسوعي، صنَّف في الكثير من العلوم والفنون، وُلِد وتُوفِّي في بغداد. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/365
[46] العبُّ: هو تجرُّع الشراب بكثرة، يقال: تعبَّب الشراب تجرَّعه بكثرة وألحَّ في شربه. انظر: المعجم الوسيط ص579.
[47] كشف المشكل من حديث الصحيحين 1/574.
[48] ابن القيم: الطب النبوي، ص187، 188.
[49] وهذا لتمسك ابن حزم بظاهر النصوص، ونفيه لوجود حكمة فيها، وذلك ما جعله يقول بكثير من الغرائب أحيانًا، أمَّا هنا فإن تمسكه بالتحريم لثبوت النهي ورفضه أن يكون للكراهة هو الموقف الأصوب.
[50] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/91.
[51] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/92.
[52] د. أحمد عبد الوهاب عبد الجواد: المنهج الإسلامي لعلاج تلوث البيئة، ص49.
[53] مسلم: كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا (278)، وأبو داود (103)، والترمذي (24)، وأحمد (10093)، وابن حبان (1064).
[54] مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2/88.
[55] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/264.
[56] من تفريغ لمحاضراته في "شرح عمدة الأحكام" – الدرس الأول.
التعليقات
إرسال تعليقك