الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إماطة الأذى عن الطريق مقال للدكتور راغب السرجاني يتحدث فيه عن عناية الإسلام بإماطة الأذى عن الطريق وتطهير الأرض كما يبين أن إماطة الأذى علامة من علامات
بلغت العناية الإسلامية بأمر تطهير الأرض ونظافتها أن كانت الأعمال الصغيرة في هذا الباب -تلك التي لم تلتفت لها حضارة ولا فلسفة ولا منهج من قبل- قد بلغت أن تصبح جزءًا من قضية المسلم الكبرى؛ ألا وهي قضية الإيمان.
فلقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ إماطة الأذى عن الطريق جزءٌ من الإيمان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً؛ فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ"[1]. وإماطة الأذى عن الطريق تعني تنحية وإبعاد كلِّ ما يُؤْذِي؛ من حجرٍ أو شوكٍ أو غيره، والعموم في قوله صلى الله عليه وسلم: "الأَذَى" لا ريب يدخل فيه كلُّ ما تمَّ اكتشاف خطورته أو ضرره على الصحة العامة.
أجر مَن يُميط الأذى عن الطريق
وإماطة الأذى تساوي أجر صدقة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "...يُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"[2].
كذلك كانت إماطة الأذى مما غفر الله سبحانه وتعالى به ذنوب أحد العِباد وأدخله الجنة، وهذا ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"[3]. وفي رواية ابن ماجه: "كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غُصْنُ شَجَرَةٍ يُؤْذِي النَّاسَ، فَأَمَاطَهَا رَجُلٌ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ"[4].
بل وكانت إماطة الأذى من أفضل أعمال الأُمَّة بنصِّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ"[5].
وصايا النبيِّ في إماطة الأذى عن الطريق
ونعجب حين نسمع الصحابي الجليل أبا برزة رضي الله عنه يسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: فيقول: يا نبيَّ الله، علمني شيئًا أنتفع به. فإذا بجواب النبي صلى الله عليه وسلم يكون: "اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ"[6].
ولربما ندهش أكثر حين نسمع وعيد النبيِّ صلى الله عليه وسلم الشديد لمن يُخالف هذا -وعيد يصل إلى اللعن- حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ"[7].
فتلك سبعة نصوص تعنى بأمر "إماطة الأذى عن الطريق"، ولم نقصد الاستقصاء، ولا نعرف من الشرائع والمناهج والفلسفات شيئًا وصل إلى هذا الحدِّ في العناية بتنظيف الطريق، وتطهير الأرض من الملوثات والأقذار، وإذا افترضنا جدلاً أن شيئًا من هذا حدث، وأنه ربما انتبه بعض الناس في الشرق والغرب حديثًا إلى هذا الأمر، فهل يقول قائل: إن إزالة الأذى عن الطريق -حينها- ستكون بحرصٍ وعناية مَن يرى فيها سببًا لمغفرة الذنوب ودخول الجنة؟!
ونقف قليلًا عند هذه القصة: صحابية لم نعرف من أمرها شيئًا إلا أنها كانت تنظِّف المسجد، افتقدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها، فلما علم أنها ماتت عاتب أصحابه أنهم استصغروا أمرها ولم يُعلموه، وقال: "أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا. فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا"[8].
هذه المرأة التي ذُكِرَتْ في تاريخ الإسلام وخُلِّدت في كتب السنن، لم تفعل إلَّا أنها اعتنتْ بنظافة المسجد، فاستحقَّت -في المنهج الإسلامي وحده- أن تُخلَّد، وأن يُعاتِب النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابَه، وأن يصلِّي عليها بعد موتها.
ولقد نهي النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قضاء الحاجة في الأماكن التي يرتادها الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ. قالوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ"[9]. فالذي يقضي حاجته في أماكن يمرُّ بها الناس أو يجلسون فيها يجلب لنفسه اللعن، "قال الإمام أبو سليمان الخطابي: المراد باللاعنيْن الأمريْن الجالبيْن للَّعْن، الحامليْن الناس عليه، والداعييْن إليه"[10].
فإذا كان المكان أشدَّ خصوصية كالمسجد كان الاهتمام به أكبر، إلى حدٍّ قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْبُزَاقُ[11] فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا"[12].وحين جاء أعرابي جاهل فبال في مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"[13]. فإنَّ رحمته بجهل الرجل تبعها اهتمامه ومسارعته صلى الله عليه وسلم بتنظيف ما أصابه البول.
وقد كان اليهود لا يُنظفون ديارهم، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم قائلًا: "طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ؛ فَإَنَّ الْيَهُودَ لاَ تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا"[14]. وفي رواية: "نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ أَنْتَنُ النَّاسِ"[15].
وفي هذه الوصية دليل على أنَّ تعاليم الإسلام بهذا الخصوص توجيهات أصيلة، ولم تكن بتأثيرٍ من البيئة الحارَّة، كما اعتقد بعض الباحثين الغربيين، كما لكم تكن من تأثير مناهج أو شرائع سابقة.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحثُّ على صلاة النوافل في البيت؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاتِهِ خَيْرًا"[16]. وبهذا كانت البيوت مساجد أخرى صغرى، وكان لا بُدَّ من طهارتها كي تصلح للصلاة، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّته؛ فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا"[17].
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الإنسان في مكان الاستحمام، فقال عليه الصلاة والسلام: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ"[18].
فهذه بعض نصوص في شأن إزالة الأقذار والنجاسات والملوثات من الطريق ومن البيت، وهي نصوص من الكثرة والقطعية في الثبوت والدلالة مما لا يترك للمسلم وجهًا من وجوه التفريط والإهمال، لا نقول: في تحري النظافة؛ بل في ترك إماطة الأذى والقعود عن تطهير الأرض.
وهكذا سار المنهج الإسلامي فأثمر سلوكًا وطريقة حياة؛ فمن خلال النهي عن الإفساد فى الأرض قَطَع الإسلام طريق تلويثها، فكان المسلم أرأف الناس بالأرض، وأحرصهم على طهارتها وصيانتها من كافة وجوه وأنواع الفساد، ثُمَّ من خلال الحثِّ على إماطة الأذى أسهم المسلم في تطهير الأرض من الملوثات والأقذار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (58) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد (8913)، وابن حبان (166).
[2] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه (2827)، وأحمد (8593).
[3] البخاري: كتاب المظالم، باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به (2340)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء (1914).
[4] ابن ماجه: كتاب الأدب، باب إماطة الأذى عن الطريق (3682)، وصححه الألباني في التعليق على ابن ماجه.
[5] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (553).
[6] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل إزالة الأذى عن الطريق (2618).
[7] رواه الطبراني في الكبير (3051)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5923).
[8] البخاري: أبواب المساجد، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان (446)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر (956)، واللفظ له.
[9] مسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال (269) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] انظر: النووي: المنهاج 3/161.
[11] البزاق: هو البصاق.
[12] البخاري: أبواب المساجد، باب كفارة البزاق في المسجد (405)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (552).
[13] البخاري: كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (217) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ له، ومسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذ حصلت في المسجد... (285).
[14] الطبراني: المعجم الأوسط 4/231.
[15] الترمذي عن سعد بن أبي وقاص: كتاب الأدب، باب النظافة (2799)، وأبو يعلى (790)، وحسنه الألباني، انظر: مشكاة المصابيح (4413).
[16] مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا... (1298).
[17] أبو داود: كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور (456)، وأحمد (20196) واللفظ له، والترمذي (594)، وابن ماجه (759)، وابن حبان (1634) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.
[18] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في البول في المستحم (27)، والنسائي (36)، وابن ماجه (304)، وأحمد (20588)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7597)، ورواه البخاري ومسلم بلفظ: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ...".
التعليقات
إرسال تعليقك