د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
مقدمة كتاب المشترك الإنساني لفضيلة الدكتور راغب السرجاني.
انتحاري يُفَجِّر نفسه في سوق..
صاروخ يسقط فوق ملجأ للأيتام..
قوَّات الاحتلال تقتل ستمائة..
سباق تسلُّح محموم يشمل أسلحة دمار شامل..
صراع حدودي خطر يرفع درجة الاستعداد إلى القصوى..
تَعَثُّر مباحثات السلام..
هذه بعض عناوين الجرائد في يوم واحد من عدد متفرِّق من بلدان العالم!
لم أجتهد كثيرًا في انتقاء هذه العناوين.. فبقيَّة العناوين لا تختلف عنها كثيرًا!!
يا أيُّها الناس..
إلى أين أنتم متَّجهون؟!
إنَّ العالم يسير بخطًى حثيثة نحو عدَّة كوارث كونيَّة؛ تكفي الواحدة منها إلى إفناء النوع البشري.. وأكثر من ذلك فإنَّ العالم في الحقيقة فَقَدَ «سعادته»! إنَّ هناك حالةً من التوتُّر والاحتقان والقلق والغضب أصابت كلَّ بقاع العالم تقريبًا.. تفشَّى الظلم والقهر، وظهر الفساد في البرِّ والبحر، وصار الناس شيعًا وأحزابًا يضرب بعضهم رقاب بعض..
إنَّ العالم يُوَاجه أزمةً خطرةً في العقود الأخيرة من عمر الدنيا.. وهذه الأزمة تتمثَّل في الأساس في تنامي شعور الكراهية بين الشعوب بشكلٍ مخيف، وترسَّخت عند المعظم حالةٌ من فقدان الثقة، والشكِّ في الآخرين، وحدث عكس ما كنَّا نتوقَّعه عندما شاهدنا تقدُّمًا مذهلًا في مجال المواصلات والاتِّصالات؛ فقد كُنَّا نتوقَّع ازدياد العلاقات الحسنة بين شعوب الأرض لسهولة التواصل، فإذا بهذه الوسائل الحديثة تُصَدِّر الكراهية والحقد والحسد والشحناء والبغضاء بشكلٍ أوسع وأسرع..
وأخطر من ذلك ظهور بعض النظريَّات والدراسات والبحوث التي تُحاول تأصيل الكراهية! وتسعى إلى إثبات أنَّ الإنسان في مجتمعٍ ما لا بُدَّ أن يصطدم مع الإنسان في المجتمعات الأخرى، وأنَّ تَعَارُضَ المصالح يجعل الصراع حتميًّا، وبعض هذه النظريَّات تؤصِّل الكراهية تجاه شعبٍ معيَّن، وبعضها تؤصِّله تجاه عدَّة شعوب، وأخرى تؤصِّله ضدَّ العالم أجمع!
ولقد رأينا آثار هذا الفكر المنحرف في مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشرَّدين.. ورأيناه في ملايين الفقراء والمعدمين.. رأيناه في الأرامل والأيتام.. ورأيناه في الجوعى والظمأى والأسرى والمحاصَرين..
لقد بدا العالم وكأنَّه فقد عقله!
ما السرُّ في هذه الحالة من فقدان السيطرة.. حتى صار الصدام في كثيرٍ من الأحيان عشوائيًّا ومتخبِّطًا؟!
يقولون: إنَّ السبب هو «الاختلاف» بين الشعوب!
عشرات الأديان، ومئات العرقيَّات..
عددٌ كبيرٌ من الدول والدويلات والعشائر والقبائل..
مذاهب وأفكار، ومدارس وفِرَق..
أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء..
رأسماليُّون غربيُّون، وشيوعيُّون شرقيُّون..
ومترفون شماليُّون، ومعدمون جنوبيُّون..
مختلفون.. مختلفون.. مختلفون..
أهذا هو السرُّ فعلًا؟!
أنا لا أعتقد هذا؟!
تخيَّل أنَّ هناك لوحةً بها ألف شجرة، وليس فيها شيءٌ آخر..
ولوحةٌ أخرى بها ثلاث شجرات وجدول رقراق منساب، وسماء زرقاء، وقليل من السحب هنا وهناك، وشلَّال بديع من بعيدٍ، وطائر أو طيور، وكوخ أو أكواخ، وسهل منبسط وراءه جبل سامق، وفي قمَّته جليد، وتحت سفحه راعٍ يرعى عشرة أغنام!
أيُّ اللوحتين أبدع؟!
وفي أيِّهما ترغب؟!
إنَّ النفس السويَّة تختار اللوحة الثانية..
قد تكون الأشجار في اللوحة الأولى أجمل من شجرات اللوحة الثانية، لكنَّ السرَّ في جمال اللوحة الثانية كان في تنوُّع مظاهر الإبداع فيها!
وكذلك البشر!
إنَّ العالم بحضاراته المختلفة، وتنوُّعاته الكثيرة، وأعراقه وأجناسه، وأفكاره ولُغاته ليُمَثِّل منظومةً رائعةً متكاملة، تُعطي ثراءً لا نهاية له, وروعةً لا حدَّ لها.. ولو كان البشر كلُّهم على شاكلةٍ واحدةٍ لعانى النَّاس من السآمة والملل، والكآبة والإحباط..
إِذَنْ ليس «الاختلاف» هو سرَّ أزمتنا..
بل إنِّني أقول: إنَّنا إذا تدبَّرنا في الأمر حقَّ التدبُّر، وأمعنَّا النظر بعمقٍ في أحوال الشعوب والحضارات لوجدنا أنَّنا كبشرٍ متَّفقون في ما لا يُمكن أن نُحصِيَه من أمور، و«مشتركون» في ما لا يُمكن حصره من «مشتركات»..
نعم هذا أبيض وهذا أسود..
وهذا مسلم وهذا نصراني..
وهذا غني وهذا فقير..
لكن..
هذا «إنسان».. وهذا «إنسان»!
ولكوننا جميعًا ننتمي إلى الإنسانيَّة، فيقينًا نحن «نشترك» في أضعاف أضعاف ما نختلف فيه.. ولعلَّ هذا يتبدَّى لنا بوضوحٍ مع كلِّ صفحةٍ من صفحات هذا الكتاب.
إذًا ما السرُّ في أزمة العالم.. وفي صراعه وصدامه؟ وحقده وكراهيته؟
إنِّني أرى أنَّ السرَّ في ذلك هو «الجهل» بمَنْ يُحيط بنا من أممٍ وشعوب!
قالوا قديمًا: «الإنسان عدوُّ ما يجهل»..
وللأسف مع أنَّ القول يصف «سطحيَّة الإنسان»، إلَّا إنَّه يُقرِّر حقيقةً مرصودةً، وواقعًا مشاهَدًا..
فليس من المفروض أن يُعادِيَ الإنسانُ ما يجهل، ولكن من المفروض أن يقف الإنسان وقفةً محايدةً ممَّا يجهل، ثُمَّ يدفعه فضوله إلى «استكشاف» ما يجهله، فلو كان حسنًا أحبَّه واقترب منه، ولو كان قبيحًا كرهه وابتعد عنه..
هذا هو الفكر الأمثل للإنسان؛ الذي مُيِّز عن سائر المخلوقات بالعقل والحكمة..
لكنَّ الواقع أنَّ الناس -في معظمهم- يُعادون ما يجهلون، دون بحثٍ ولا استكشاف، ولا دراسةٍ ولا تنقيب..
والأسوأ من ذلك أن تُرَوَّج شائعاتٌ مغرضة، وأكاذيبٌ مقصودة لوصف شعبٍ من الشعوب بما ليس فيه، واتِّهام حضارةٍ من الحضارات ببهتانٍ وزور.. يقف وراء ذلك ثُلَّةٌ من أصحاب المصالح والأهواء، ويسير العالمُ وراءهم معصوب العينين، مسلوب الإرادة، مخدوعًا، موهومًا، يرتكب المجازر والمآسي، وهو يظنُّ في نفسه النبل، ويُفسد الأرض ويُدمِّر، وهو يعتقد أنَّه من المصلحين..
إنَّه «الجهل» الذي نُعانيه!
وما علاجه؟
كلمةٌ واحدة.. «التعارف»!
بداية نجاة العالم، وصلاح البشريَّة، وتعايش الناس تعايشًا منطقيًّا سلميًّا نافعًا إيجابيًّا.. هو التعارف..
إذا تعارفنا رأينا «المشتركات» الكثيرة التي تجمعنا مع إخواننا في الإنسانيَّة..
إذا تعارفنا أدركنا أنَّ شعوب العالم وحضارات الأرض ليسوا كما صَوَّر لنا بعضُ المنحرفين مسخًا مشوَّهًا، أو خَلْقًا «آخر»، إنَّما هم بشرٌ لهم مشاعر كمشاعرنا، وأحاسيس كأحاسيسنا، ولهم أحلامنا نفسها، وآمالنا ذاتها.. ما يُغضبنا يُغضبهم، وما يُسعدنا يُسعدهم..
بل أكثر من ذلك..
إذا تعارفنا أدرك كلُّ واحدٍ منَّا احتياجه إلى أخيه الإنسان..
«نحن» نسير في صحراء قاحلة مترامية الأطراف.. أنا أعرف الطريق، وأنت معك الماء! بدوني تتوه وتهلك، وبدونك أظمأ وأهلك!
ألاَ يأتي علينا زمان أضع يدي في يدك فنتجاوز الصحراء المهلكة آمنين؟!
ليس لأحدٍ منَّا فضلٌ على الآخر..
لقد صار التعارف حتميَّةً إنسانيَّةً من هذا المنظور..
وما أجمل أن تقرأ الآية القرآنيَّة في ظلِّ هذه المعاني:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. إنَّه ليس خطابًا للمسلمين أو للمؤمنين.. إنَّه خطابٌ «للنَّاس».. لكلِّ الأعراق والأجناس والشعوب والحضارات.. في كلِّ بقاع الأرض.. وفي كلِّ مراحل التاريخ..
أيُّها النَّاس..
خُلِقتم مختلفين..
لا لتتشاحنوا وتتباغضوا ويأكل بعضكم لحم بعض..
ولكن «لتعارفوا»..
ما أجمل هذا المعنى! وما أعمقه!
نحن نحتاج أن نفهم هذا المعنى وأن نستوعبه..
ونحتاج أن نبحث عن المشتركات الكثيرة التي تجمعنا مع إخواننا في الإنسانيَّة، ونحتاج أن نتعارف على كلِّ الحضارات والشعوب، ونحتاج أن نقرأ لكلِّ المفكِّرين والفلاسفة من كلِّ المدارس والمذاهب، ونحتاج أن نبحث عن «نبلاء» كلِّ شعب؛ الذين يُدركون المخاطر التي يُقْدِم عليها العالم، ويعرفون آليَّات الحلِّ، وطُرق النجاة، ويفقهون قيمة التعارف وأهمِّيَّته.. ويرغبون صادقين في وضع أيديهم في أيدي كلِّ المصلحين من شتَّى الأجناس والأعراق؛ لنصل إلى غايةٍ واحدة؛ وهي أنَّ نعيش على هذا الكوكب آمنين مطمئنِّين، لا بغيَ ولا عدوانَ، ولا ظلم ولا طغيان..
قد تبدو أحلامًا عريضة.. وآمالًا واسعة..
قد يبقى حولنا مُحْبَطون يفقدون الأمل في صلاحٍ أو نجاةٍ..
لكنِّي على خلاف ذلك..
أقول: ما فات الأوان..
ولن يموت في قلبي أمل، ما دامت على الأرض حياة..
ولهذا.. كان هذا الكتاب!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك