التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يسرد الدكتور سهيل طقوش تاريخ مختصر للدولة الفارسية ويُبرز فيه أهم الظروف والأحداث السياسية التي مرت بها الدولة الفارسية الساسانية قبيل
إشكالية وسؤال
يبرز أمامنا في هذا المقال سؤالٌ كبير هو كيف تمكَّن المسلمون من تحقيق انتصاراتٍ مذهلة على الجيوش الفارسية[1] والبيزنطية (الرومية) النظامية، مع أنَّهم كانوا خارجين حديثًا من جزيرتهم -ولأوَّل مرة- كمحاربين فاتحين لم يبلغوا من التطوُّر ما بلغته الشعوب التي فتحوا بلادها.
الواقع أنَّ تلك الدولتين وإن كانتا على شيءٍ من الأُبَّهة والعظمة، إلَّا أنَّ الدولة الفارسيَّة الساسانيَّة[2] كانت تمرُّ بمراحل شيخوختها، والدولة البيزنطيَّة أهملت الدفاع عن حدودها الجنوبيَّة مع الجزيرة العربيَّة، كما كانت تمرُّ بمرحلة تحوُّلٍ إداريٍّ عسكريٍّ بعد انتصارها على الفرس، ولم تجد الوقت الكافي للانتقال إلى الوضع الجديد واستثماره، يُضاف إلى ذلك أنَّها كانت في نزاعٍ مذهبيٍّ مع سكَّان بلاد الشام.
استغلَّ المسلمون هذه الأوضاع القلقة ليُحقِّقوا -بفضل إيمانهم- تلك الانتصارات المذهلة، ولا بُدَّ لنا من شرحٍ موجزٍ لأوضاع الدولية الفارسيَّة وتراجع النفوذ البيزنطيِّ في بلاد الشام، ورصد تأثير ذلك على حركة الفتوح.
مختصر التاريخ الساساني
كان العراق الذي غزاه المسلمون بعد حروب الرِّدَّة جزءًا من الإمبراطوريَّة الساسانيَّة التي أسَّسها أردشير بن بابك في عام 224م، وبعد أن توسَّع باتجاه الجنوب وسيطر على كرمان[3] والخليج العربي والأهواز[4] وميسان[5]، وتغلَّب على الجيش الأشكاني بقيادة أردوان آخر الملوك الأشكانيِّين[6]، التفت نحو الشمال وسيطر على همذان[7]، والجبال[8]، وأذربيجان[9]، وأرمينيَّة[10]، والموصل[11] واجتاز السواد[12]، ثُمَّ بسط سلطانه على المناطق الفارسيَّة الشرقيَّة وتجاوز خراسان[13] إلى مرو، وبلخ، وخوارزم[14]، واتَّخذ المدائن عاصمةً له، وأطلق على نفسه لقب شاهنشاه؛ أي ملك الملوك[15].
تُوفِّي أردشير في عام241م[16] بعد أن أقام صرح الدولة على أساس وحدة الإقليم، وأخضع العروش الكثيرة التي تربَّع عليها ملوك الطوائف إمَّا باستعمال القوَّة أو بالإغراء بالمال، وحدَّد سياسته تجاههم وعلاقته بهم من جانبٍ قوي بوصفه الأقوى على السَّاحة السياسيَّة والعسكريَّة، فمنحهم بعض الامتيازات مثل حقِّ اختيار خَلَفه، وأشرك معهم رجال الدين، لكنَّه لم يُقدِّر أنَّه سيكون من بين خلفائه أشخاصٌ ضعاف، وأنَّهم سوف يخضعون لمشيئة هؤلاء ممَّا سينعكس سلبًا على أوضاع الدولة.
أثبتت الأحداث السياسيَّة اللَّاحقة تذبذب ولاء هؤلاء لمـَلِك الملوك وفقًا لتطوُّرات الظروف السياسيَّة، ممَّا أدخل البلاد في متاهات الصِّراع على السلطة والنفوذ، واضطرَّ ملوك الملوك بعد أردشير أن يتعاونوا مع ملوك الإقطاع ورجال الدين الذين تزايد خطرهم بعد أن ملكوا القرى والأراضي الشاسعة، وأضحوا مركز قوَّةٍ عسكريَّةٍ وماديَّة، كما أضحى بقاء ملك الملوك أو سقوطه رهنًا بإرادتهم[17].
تعرضت الدولة الساسانية خلال مراحل تاريخها لصراعاتٍ حادَّةٍ على السلطة بين أفراد البيت الساساني، نذكر منها: صراع فيروز وأخيه هرمز ابنا يزدجرد بن بهرام؛ حيث قتل الأوَّلُ الثانيَ وتولَّى الحكم (459- 484م)، وصراع بلاش وأخيه قباذ الأوَّل؛ فقد خلف بلاش والده على الحكم (484- 488م) فنازعه أخوه وخلعه وتولَّى السلطة (488- 531م)، وقتل هرمز (579- 590م) إخوته حتى لا يُنافسوه على الحكم، كما قتل قباذُ الثاني شيرويه (628م) أباه وتخلَّص من إخوته حتى لا يُنازعوه على السلطة.
حتى يُقوِّي المتنازعون مواقفهم لجأوا إلى الاستعانة بقوًى خارجيَّة غير مكترثين بما يترتَّب على ذلك من إذلالٍ وسقوط هيبة الحكم، نذكر منها: استعان بهرام جور (420- 438م) بالمناذرة[18] العرب ليُجلسوه على عرش أبيه يزدجر الأوَّل، كما استعان قباذ الأول بالهياطلة[19] في صراعه مع أخيه بلاش، واستعان كسرى الثاني أبرويز (590- 628م) بالبيزنطيين لمحاربة بهرام جوبين الذي اغتصب العرش الساساني.
انقسام يعقبه ضعف فسقوط
فقدت الدولة الساسانية وحدتها السياسية منذ عام 631م حين انقسمت على نفسها؛ ففي الشرق بُويع لكسرى الثالث بن الأمير قباذ أخي كسرى الثاني، وفي المدائن عيَّن الأشراف ورجال الدين بوران دخت بنت كسرى الثاني أبرويز، وقد حكمت سنة وأربعة أشهر قبل أن تخلفها أختها آزرميدخت، وظهر في عهدها القائد رستم بن فرخ هرمزذ كأحد القادة الأقوياء، ويبدو أنَّه استاء من تولِّي امرأةٍ عرش الأكاسرة، كما حنق عليها لقتلها والده، فزحف نحو العاصمة واستولى عليها، وعزل الملكة وسمل عينيها.
تتابع على الحكم حكَّامٌ ضعافٌ مثل هرمز الخامس وكسرى الرابع، لكن لم يكن معترفًا بهما إلَّا في بعض أجزاء البلاد، ثُمَّ تولَّى عرش الدولة الساسانيَّة أحد عشر ملكًا على مدى أربعة أعوام كان آخرهم يزدجرد الثالث ابن الأمير شهريار الذي استولى على الحكم بمساعدة القائد رستم[20].
الواقع أنَّ التفكُّك والضعف بدءا يظهران على جسم الدولة في الأعوام المضطربة التي تلت موت كسرى الثاني أبرويز في عام 628م بفعل السياسة العسكريَّة التي نفَّذها كسرى الأوَّل أنوشروان (531- 579م)، فمال التطوُّر شيئًا فشيئًا نحو التسلُّط العسكري، واستقلَّ كلُّ قائدٍ وحاكم ولايةٍ بإقطاعه وكأنَّه وراثيٌّ خاصَّةً عندما هوت الأسرة المالكة إلى تدهورها النهائي، وقد كثرت محاولات اغتصاب السلطة من قِبَل القادة، ويُعدُّ تسلُّط هؤلاء آخر مرحلة من مراحل التطوُّر السياسيِّ أيام الساسانيين، ولكنَّ نظام الإقطاع الذي برز في هذه المرحلة لم يكن لديه متَّسعٌ من الوقت ليتَّحد قبل الفتح الإسلامي، ومنذ عهد فيروز الثاني الذي تولَّى الحكم بعد آزرميدخت كانت جميع الأقاليم الواقعة شرق مرو الروذ[21] خارجةً عن سلطة الدولة، ولم تكن هراة نفسها تابعة للساسانيين، وخضعت الولايات الواقعة على شواطئ بحر قزوين للديالمة، واستقرَّت الولايات الشماليَّة والشرقيَّة في أيدي ملوك وأمراء مستقلِّين.
أضحى رستم الحاكم الفعلي لفارس، ولم تُفلح جهوده التي بذلها في إعادة اللحمة والقوَّة إلى الدولة المتداعية، ووجد نفسه عاجزًا عن وقف زحف المسلمين الجارف.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يتوجب قراءتها الدولة الإيرانية؛ لأنَّ مفهوم كلمة پارس كما يستعملها غير الإيرانيين أوسع من مفهومها الأصلي، ويُطلِق سكَّان هذه البلاد على أنفسهم لقب الإيرانيين ويُسمون بلادهم إيران، والمعروف أنَّ إيران التي أطلق عليها في الأفستا آيريانا هي موطن الآريين، وطبقًا لهذا فإنَّ مفهوم هذا الاسم بعيدٌ جدًّا عن لفظ پارس؛ لأنَّ پارس قسمٌ من أرض إيران، ولمـَّا كانت اللغة العربيَّة خالية من حرف "پ" استبدلوه بحرف "ف"، وعُرِّبت إلى فارس، وكانت فارس إحدى ولايات إيران العديدة، غير أنَّها لكونها مسقط رأس الأسرة الهخامنشيَّة التي كانت تحكم إيران قبل الميلاد بستَّة قرون، والأسرة الساسانيَّة التي حكمت إيران منذ القرن الثالث الميلادي، وقد رفعتا اسم إيران عاليًا في الشرق والغرب؛ فقد انتشر معنى هذا اللفظ الخاصِّ وأطلق على العام، وشمل الشعب كلَّه والمملكة بأسرها، وهي التي نُسمِّيها فارس، وسنستعمل هذا التعميم في هذه الدراسة فنقول مثلًا: الدولة الفارسية، الأراضي الفارسية... إلخ. انظر: الحموي: ج1 ص289، ج4 ص226، 227، وبراون: تاريخ الأدب في إيران: ج1 ص38، 39.
[2] ينتسب الساسانيون إلى ساسان، وهو من عائلةٍ نبيلةٍ عاش في أواخر عهد الدولة الأشكانيَّة، وكان سادنًا على بيت نار اصطخر يُقال له: بيت نار أناهيد.
[3] كرمان: إقليم واسع بين فارس ومكران وسجستان وخراسان. الحموي: ج4 ص454.
[4] الأهواز: هي خوزستان الفارسيَّة، وهي سبع كور بين البصرة وفارس. المصدر نفسه: ج1 ص284، 285.
[5] ميسان: اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط، قصبتها ميسان عند مصبِّ نهر دجلة. المصدر نفسه: ج5 ص242، 243.
[6] حكمت الدولة الأشكانية مدَّة مائتي عام، ولا تعني بهم الأساطير الفارسيَّة، بل تعدُّهم أجانب، لم يتركوا أثرًا في آداب الفرس، ولم يكشف التاريخ عن أصل هذه الدولة أكانت من أصل إيراني أم توراني، وتدلُّ آثار حضارتها على اصطباغها بالصبغة اليونانية، ويُذكر أنَّ الأشكانيِّين كانوا أعظم ملوك الطوائف الذين نبغوا في فارس بعد الإسكندر المقدوني.
[7] همذان: أكبر مدينة في إقليم الجبال. الحموي: ج5 ص410.
[8] الجبال: اسم علم للبلاد المعروفة -باصطلاح العجم- بالعراق، وهي ما بين أصبهان إلى
زنجان، وقزوين، وهمذان، والدينور، وقرميسين، والري، وما بين ذلك. المصدر نفسه: ج2 ص99.
[9] أذربيجان: بلاد واسعة حدُّها من برذعة شرقًا إلى أرزنجان غربًا، ويتَّصل حدُّها الشماليُّ ببلاد الديلم والجبل والطرَّم وقصبتها تبريز. المصدر نفسه: ج1 ص128.
[10] أرمينيَّة: بلاد واسعة حدُّها من برذعة إلى باب الأبواب، ومن الجهة الأخرى إلى بلاد الروم وجبل القبق، ومن مدنها نفليس وشروان. المصدر نفسه: ص160.
[11] الموصل: باب العراق ومفتاح خراسان، وسُمِّيت بذلك لأنَّها وصلت بين الجزيرة والعراق أو بين دجلة والفرات أو بين سنجار والحديثة، وتقع في شمال العراق على نهر دجلة، وتُقابلها من الجانب الشرقي مدينة نينوى. المصدر نفسه: ج5 ص223.
[12] السواد: رستاق العراق وضياعها، وسُمِّي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار؛ لأنَّه تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر، فكانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزروع والأشجار فسمُّوه سوادًا. وحدُّه من حُديثة الموصل طولًا إلى عبَّادان، ومن العُذيب بالقادسية إلى حلوان عرضًا. المصدر نفسه: ج3 ص272.
[13] خراسان: بلاد واسعة حدودها ممَّا يلي العراق، وآخر حدودها ممَّا يلي الهند؛ طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان، وليس ذلك منها إنَّما هو أطراف حدودها، ومن أهمِّ مدنها نيسابور، وهراة، ومرو، وبلخ، وطالقان، ونسا، وأبيورد، وسرخس. الحموي: ج2 ص350.
[14] خوارزم: اسم لناحيةٍ واسعةٍ قصبتها الجرجانيَّة، كثيرة الشجر، والغالب عليها شجر التوت والخلاف، وهي على نهر جيحون، يُحيط بها رمال سيَّالة، ويسكنها الأتراك والتركمان بمواشيهم. المصدر نفسه: ص395- 398.
[15] الطبري: ج2 ص38، 39، والبلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ: ج1 ص287، 288.
[16] الطبري: المصدر نفسه: ص41، 42.
[17] أربري، أ. ج: تراث فارس: إسلام الفرس، يحيى خشاب، ص13، 14.
[18] المناذرة أو آل نصر أو آل لخم: أمراء الحيرة من العرب، نزحوا من جنوب الجزيرة العربية على إثر انهيار سد مأرب، واستقرُّوا في أطراف العراق قريبًا من حدود الدولة الفارسيَّة الساسانيَّة، واستعان الفرس بهم لتحقيق تطلُّعاتهم السياسيَّة من خلال جعلهم سدًّا أمام غارات العرب على الأطراف الفارسيَّة، والتصدِّي لهجمات البيزنطيِّين وحلفائهم الغساسنة على مناطق الحدود بين الدولتين.
[19] الهياطلة: أمَّة تركيَّة كانت تسكن ولاية طبرستان جنوب بحر قزوين.
[20] انظر الخبر عن ملوك الفرس وسني ملكهم في الطبري: ج2 ص37- 234، والفردوسي: الشاهنامة الجزء الثاني.
[21] مرو الروذ: مدينة قريبة من مرو الشاهجان بينهما خمسة أيام وهي في خراسان. الحموي: ج5 ص112، 113.
التعليقات
إرسال تعليقك