التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يتحدث الدكتور سهيل طقوش عن تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية، ويُبيِّن فيه عامل المفاجأة وأثره في هذا التراجع.
عوامل التراجع:
يتحدَّث المؤرِّخون عن خصائص الإمبراطورية البيزنطيَّة وأسباب ضعفها عشيَّة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، والواقع أنَّ الدراسة الموضوعيَّة تدفعنا إلى استعراض أوضاع هذه البلاد من خلال علاقة النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بالقبائل الضاربة على الحدود مع الجزيرة العربية، وسياسة الدولة البيزنطيَّة في هذه المنطقة.
يُمكن للباحث أن يرصد ثلاثة عوامل في تراجع النفوذ البيزنطي إذا استثنينا التأثير الضعيف نسبيًّا للاضطرابات الدينيَّة في الإمبراطوريَّة على أوضاعها الداخليَّة وقوَّتها العسكريَّة، على الرغم من أنَّ ما حدث من القلاقل الدينيَّة بسبب ما جرى من محاولةٍ لتنفيذ قرارات مجمع خلقدونية لعام 451م[1]، اتَّخذ صفة الثورات الوطنيَّة العنيفة بدليل استمرار تحالف القبائل العربيَّة النصرانيَّة المخالفة للعقيدة الملكانية الرسميَّة مع بيزنطة[2].
الأوَّل عامل المفاجأة:
فقد نجح البيزنطيون في حلِّ المشكلة العربيَّة على حدودهم الجنوبيَّة حلًّا جذريًّا بنظام الأحلاف التي عقدوها مع القبائل الضاربة على مشارف بلاد الشام؛ لحراسة هذه البلاد من هجمات قد تنطلق من الجزيرة العربيَّة، وقامت القبائل المعنيَّة بدورٍ ناجح واقتصرت مهمَّة الفرق البيزنطيَّة النظاميَّة المتواجدة في قواعدٍ ثابتةٍ ومتفرِّقةٍ على الإشراف على تنقلات القبائل ومساعدتها في التصدِّي لغزوات البدو عند الحاجة، ونسي البيزنطيون بعد ذلك عرب الجزيرة وأنَّهم قد يُشكِّلون خطرًا عليهم في المستقبل.
والحقيقة أنَّ الإمبراطور البيزنطي هرقل لم يُدرك مدى خطورة الوضع على جبهته الجنوبية بعد تنامي قوَّة المسلمين حتى رأى نفسه يُواجه -فجأة- زحفهم باتجاه بلاد الشام، ولم تنفع تدابيره التي اتَّخذها على عجلٍ في وقفهم؛ حيث كان من الصعب تجريد الحدود مع فارس في الشرق والصقالبة والآفار في الغرب -المعرضة للخطر- من الجنود ونقلهم للدفاع عن بلاد الشام في ظلِّ محدوديَّة نقلهم واختيار مواقعهم، وكانت أيُّ محاولةٍ لتدريب السكَّان المدنيِّين في هذه البلاد وتسليحهم قضيَّةً معقدةً وبطيئة، ولا يُمكنها أن تُواجه التهديدات الخارجيَّة المفاجئة والعنيفة، ويُعدُّ المدى الذي يُمكن للقوَّات النظاميَّة أن تتكيَّف فيه مع الأوضاع الطبيعيَّة والمناخيَّة قضيةً أخرى، ورأى هرقل أنَّ أفضل وسيلة للدفاع عن بلاد الشام في القرن السابع تكمن في:
- تجنيد البدو العرب المقيمين على أطراف الإمبراطورية خاصَّةً أنَّهم يتمتَّعون بصفةٍ إضافيَّةٍ هي معرفة طبيعة الأرض ومناخها بالإضافة إلى أساليب القتال. وتبنَّى النظرية القائلة إنَّ خير وسيلة لقتال العرب هي استخدام عربٍ آخرين إزائهم، لذلك كان من الضروري لبيزنطة أن تحتفظ بصداقة بعض القبائل وتنويع صلاتها بالعرب.
- تجنيد الأرمن؛ والمعروف أنَّ عديد الجيش البيزنطي النظامي في بلاد الشام لم يكن كبير الحجم، ولا يُمكن للإدارة العسكريَّة البيزنطيَّة توفير أكثر من عشرين ألف جندي للدفاع عن هذه البلاد في ظلِّ الأخطار التي تتعرَّض لها الولايات الأخرى في آسيا وأوربا ومصر، ولا يُمكن الحصول على جنودٍ منها، ولم يكن ثَمَّة مجال في البحث عن قوى عسكريَّة لبلاد الشام سوى أرمينيَّة القريبة التي يُمكن الاعتماد عليها.
ويقودنا هذا العامل إلى ضرورة البحث في نقطتين:
الأولى: التواجد القَبلي في بلاد الشام عشيَّة الفتح الإسلامي.
الثانية: اهتمام النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم ببلاد الشام.
أولًا: التواجد القَبلي في بلاد الشام عشيَّة الفتح الإسلامي
ففيما يتعلَّق بالنقطة الأولى فقد انتشرت بعض القبائل العربيَّة في مناطق الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام مشكلة سدًّا استغلَّته بيزنطة لصدِّ غارات البدو على المناطق الزراعيَّة؛ فقد سكن بنو عذرة وبنو سعد هزيم على الطريق الممتد من شمال الحجاز إلى بلاد الشام، وامتدَّ بعض أفخاذهم وبطونهم إلى وادي القرى[3] في الشمال، واتَّصلوا بالمسلمين في أواخر حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، واعتنق بعض بني عذرة الإسلام قبل غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة[4].
سكنت إراشة وهي فرع من بلي في منطقة البلقاء في الشمال فجاورت البيزنطيين وأقامت حلفًا معهم، وأسهمت في قتال المسلمين في معركة مؤتة[5]، فأرسل إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريَّةً بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه فقاتلهم وفرَّقهم، وهي الغزوة التي عُرِفت بذات السلاسل[6]، اضطرت بعدها إراشة إلى الدخول في الإسلام، ثُمَّ ارتدَّت بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم[7].
أشارت روايات المصادر إلى نزول لخم بين مدين[8] وتبوك امتدادًا إلى أذرح[9]، وانتشر اللخميُّون في المنطقة الواقعة غرب البحر الميت ونهر الأردن[10]، وسكنت قبيلة جذام في المنطقة الممتدَّة من تبوك إلى شرق وادي عربة والبحر الميت حتى منطقة البلقاء حول عمَّان، فتداخلت مع سكن بعض فروع لخم، شكَّلت هاتان القبيلتان جزءًا من التحالف القَبليِّ الخاضع لبيزنطة الذي حارب المسلمين في معركة مؤتة، وكانت غزوة تبوك ردًّا على تحرُّك القبائل العربية والبيزنطيين باتِّجاه المناطق الجنوبية[11]، ويبدو أنَّ بعض بطون لخم هالهم قيام تحالفٍ قَبليٍّ - بيزنطيٍّ موجَّهٍ ضدَّ إخوانٍ لهم من العرب، فأسلم نفرٌ منهم في السنة التاسعة للهجرة[12]، واعتزلت حدس -وهي إحدى بطون لخم- القتال في مؤتة، لكنَّ هذين الحدثين لا يكفيان لإقامة الدليل على قيام علاقاتٍ طيِّبةٍ بين المسلمين وقبيلة لخم.
وأغرى تعاظم قوَّة المسلمين بعد فتح مكَّة بعض الجذاميين فاعتنقوا الإسلام وأقاموا علاقاتٍ طيبةً مع المسلمين، مثل: فروة بن عمرو الجذامي حاكم معان[13] من قِبَل بيزنطة[14]، وساند بنو الضُّبَيْب -وهم رهط من جذام اعتنقوا الإسلام- زيدًا بن حارثة عندما هاجم الجذاميين الذين اعتدوا على دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه مبعوث النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل[15].
نزلت قبيلة القين -بلقين- في المنطقة الواقعة شرق ديار لخم وجذام؛ أي في المنطقة الممتدَّة من وادي ثَجْر شمال تيماء بمحاذاة وادي السرحان، وباتجاه الشمال إلى تخوم حوران، وجاورت بلاد بلي وعذرة، وكان بنو القين من ضمن التحالف القبلي الذي حارب المسلمين في معركة مؤتة[16]، ويبدو أنَّ جماعةً منهم اعتنقت الإسلام قبل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولَّى عليهم عمرو بن الحكم رضي الله عنه[17].
فرض الغساسنة -وهم من الأزد- وجودهم في مناطق حوران وشرق الأردن وبعض فلسطين، بعد أن تغلَّبوا على بني سليح الضجاعمة وكلاء البيزنطيين[18]، وشعر البيزنطيون بمدى قوَّتهم، فخشوا أن ينضمُّوا إلى الفرس فاستقطبوهم وأحلُّوهم محل السليحيين، وعقدوا معهم حلفًا دفاعيًّا هجوميًّا موجَّهًا ضد غارات البدو وهجمات اللخميين، وقام الغساسنة بتنفيذ الدور الذي حدَّدته لهم بيزنطة على الرغم من أنَّ الطرفين كانا على خلافٍ مذهبيٍّ فإنَّ ذلك لم يُؤثِّر على العلاقة السياسيَّة بينهما، وتمتَّع أمراء الغساسنة بلقب فيلارك[19] الذي أضفاه عليهم الأباطرة البيزنطيون.
شكَّل الغساسنة عماد التجمُّع القبلي اللخمي والجذامي المعادي للمسلمين في غزوة تبوك، وقد رفض الحارث بن أبي شمر الغساني دعوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتناق الإسلام، واستمرَّ في تحالفه مع البيزنطيين، والراجح أنَّه كان يخشى خطر التمدُّد الإسلامي باتِّجاه الشمال على وضع القبيلة الديني والسياسي وعلاقتها ببيزنطة.
سكنت بعض جماعاتٍ من الغساسنة في الجنوب في تيماء والمدينة وقد تأثَّروا بالدَّعوة الإسلاميَّة، وربَّما كان الوفد الغسانيُّ الذي قَدِم إلى المدينة في العام العاشر للهجرة ليُبايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو مِن هذه الجماعات[20].
وُجِدَت قبائل أخرى في بلاد الشام لكنَّها لم تكن على قدرٍ من القوَّة والمنعة والأهميَّة حتى تُعيرها المصادر اهتمامًا، مثل تنوخ؛ وقد نزلت في أواسط بلاد الشام وشمالها على تخوم البادية الممتدَّة شمالًا حتى قنسرين وحلب، وقد ساند التنوخيون البيزنطيين في معركة مؤتة، وسكنت بهراء في أواسط وشرق بادية الشام، وامتدَّت ديارها حتى نهر الفرات، والراجح أنَّها كانت موالية لبيزنطة وأنَّ فئةً من رجالها حاربوا إلى جانب البيزنطيين في معركة مؤتة.
ثانيا: اهتمام النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ببلاد الشام
فيما يتعلق بالنقطة الثانية فقد اتَّخذت بلاد الشام منذ العام السادس للهجرة حيِّزًا بارزًا في سياسة النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الخارجية، بعد أن حسم الوضع السياسي الداخلي في الحجاز لصالحه إثر صلح الحديبية[21]، وكان اهتمامه بتلك البلاد كهدفٍ حيوي:
- بوصفها أرضًا عربيَّةً مثل الحجاز.
- إقامة مراكز إسلاميَّة على الأطراف الشاميَّة لنشر الدعوة بين القبائل العربية الوثنيَّة منها والمتنصِّرة، واحتوائها تحت راية الدولة الإسلاميَّة في المدينة أو عقد صلحٍ معها لتمتين النفوذ الإسلامي في تلك الربوع.
- فك تحالفها مع الدولة البيزنطيَّة.
- السيطرة على طريق التجارة؛ إذ إنَّ مضاربها تُعدُّ بمثابة معابر مهمَّة للتجارة بين بلاد الشام وأنحاء الجزيرة العربية في الوقت الذي وصلت فيه تجارة القوافل إلى ذروة النشاط والاستقرار.
وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُراقب الوضع في تلك المناطق من خلال السرايا المبكِّرة التي كان يُرسلها، والرسائل الموجَّهة إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل والأمير الغساني شرحبيل بن عمرو وصاحب بصرى[22] وسائر رؤساء القبائل العربية.
بتنامي القوَّة الإسلامية شعرت القبائل الموالية لبيزنطة في جنوب بلاد الشام بحدوث تغييرٍ دينيٍّ وسياسيٍّ في الحجاز على مقربة منها، تمحَّض عن قيام حكومةٍ مركزيَّةٍ قويَّةٍ في المدينة, ودخلت في طاعتها معظم قبائل الجزيرة العربية، وراحت تتطلَّع نحو الشمال، ورأت في هذا التطوُّر خطرًا يُهدِّد كيانها الديني والسياسي؛ لذلك وثَّقت علاقاتها ببيزنطة.
رأى هرقل في هذا التنامي تدخُّلًا في شئونه واختراقًا لسيادته بعد انتصاره الكبير على الفرس، ومع ذلك فقد عدَّه مجرد اندفاع قَبلي أو محاولة إمارة عربية ناشئة توسيع رقعتها الجغرافيَّة من ذلك النوع الذي اعتاد بدو الصحراء أن يشنُّوه بين وقتٍ وآخر على أطراف الدولة، ولا تلبث أن تتوقَّف تلقائيًّا عندما يتصدَّى لها حراس الحدود من فرق الجيش الإمبراطوري أو القبائل الموالية لبيزنطة التي تعيش على تخوم بلاد الشام.
مواجهات بين المسلمين والبيزنطيين
دفعت التطوُّرات في الحجاز القبائل القاطنة في دُومة الجندل[23] إلى القيام بتحرُّكٍ سريع، وتزعَّم أُكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني تحالفًا قبليًّا راح يتهيَّأ للزَّحف نحو المدينة، ولمـَّا علم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتلك الاستعدادت خرج من المدينة على وجه السرعة في شهر (ربيع الأول 5هـ/ أغسطس 626م)، وتوجَّه نحو دُومة الجندل مستبقًا قوى التحالف، ولمـَّا وصل إليها لم يجد من يصطدم به، ويبدو أن أُكيدر تهيَّب الموقف فانسحب باتجاه الشمال، واستغلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجوده في تلك المنطقة فقام بعملياتٍ استطلاعيَّة[24].
تعدُّ هذه الغزوة الحلقة الأولى في سلسلة الصراع العسكري بين المسلمين والقبائل الضارية على تخوم بلاد الشام خاصَّةً وبين المسلمين والبيزنطيين عامَّةً في الصراع على بلاد الشام، يُؤكِّد هذا ما ذكره الواقديُّ من أنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو بصدد مهاجمة دُومة الجندل: "إنَّها طرفٌ من أفواه الشام، فلو دنوت منها لكان ذلك ممَّا يُفزع قيصر"[25].
تكثَّفت هجمات المسلمين على المناطق الحدوديَّة مع بلاد الشام في العام السادس للهجرة، نذكر منها سرَّية زيد بن حارثة التي انتهت إلى العِيص[26]، وتلك التي انتهت إلى حسمى وراء وادي القرى، وقد ارتبطت كسبب بدحية بن الخليفة الكلبي وكان عائدًا من بلاد الشام بعد أن اجتمع بهرقل، فهاجمته جماعةٌ من جذام بقيادة الهنيد بن عارض ومعه ابنه، ولا تُشير الرواية إلى دور هذا الرجل أو علاقته بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا إنَّ اسمه يتردَّد فيما بعد كمبعوثٍ له إلى بلاد الشام حاملًا رسالته إلى هرقل، وتدلُّ قرائن هذه المهمَّة الثانية أنَّ لها علاقة بمهمَّة دحية الأولى أو هي استكمالٌ لها بدليل أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتردَّد في إرسال قوَّةٍ عسكريَّةٍ للانتقام له بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه فاجأت بني جذام، وقتل زيد الهنيد وابنه[27].
يبدو أنَّ هذه السريَّة لم تكن محصورة بنتائجها الثأرية، ولكنَّها مهَّدت لقيام علاقةٍ وثيقة بين المدينة وقبيلة جذام سيكون لها تأثيرها في مسار السياسة التي انتهجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم تجاه القبائل العربيَّة[28]، فقد تحدَّثت روايات المصادر على قدوم رفاعة بن زيد الجذامي في رهطٍ من قومه إلى المدينة معتنقًا الإسلام، وأجرى مباحثات مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم تمحَّض عنها ما يُشبه المعاهدة -لم تصلنا بنودها إنَّما عُرفت بنتائجها- فقد وافق النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إطلاق سراح الأسرى والأموال التي غنمها زيد رضي الله عنه، وأرسل عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه مع الوفد لتنفيذ الاتفاق[29]، وستهيمن روح هذه المعاهدة على المعاهدات التي سوف يعقدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المستقبل مع القبائل العربية المتنصِّرة.
ثمَّة سريَّة أخرى خرجت في شهر (رجب 6هـ= ديسمبر 627م) باتِّجاه وادي القرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه[30]، وقد أغفلت روايات المصادر دوافعها ونتائجها، إنَّما يُمكن القول أنَّها تتعلَّق بسياسة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الشاميَّة.
خرجت سرية في شهر (شعبان 6هـ= يناير 628م) بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باتجاه دُومة الجندل لقتال قبيلة كَلَب النصرانيَّة، وقد شغلت حيِّزًا هامًّا في سياسة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الشاميَّة؛ فقد طلب من قائدها أن يتزوَّج ابنة زعيم القبيلة إن استجاب هو وقومه إلى دعوة الإسلام؛ وذلك بهدف استقطابهم وتعزيزًا للعلاقات بين الطرفين، ويُوضِّح هذا الأهميَّةُ التي يُعلِّقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم على كسب قبيلة كَلَب إلى جانبه؛ فقد كانت هذه القبيلة أهمَّ مجموعةٍ عربيَّةٍ في بلاد الشام حين ظهر الإسلام كقوَّةٍ سياسيَّة, نجح عبد الرحمن رضي الله عنه في مهمَّته واعتنق الإصبغ بن عمرو الكلبي الإسلام وتبعه أكثر قومه، وتزوَّج من ابنته![31].
تكمن أهمية هذه السرية في الدلالة على سياسة النبيِّ صلى الله عليه وسلم التوسعيَّة في اتجاه بلاد الشام نظرًا إلى ما تُمثِّله دُومة الجندل من موقعٍ حيويٍّ في التجارة مع هذه البلاد لا يُنافسها فيه سوى بصرى[32]، ويُذكر بأنَّ هذا الموقع لفت نظر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قبل فقام بغزوه في مطلع السنة الخامسة للهجرة.
تميَّزت السريَّة المعروفة بأم قرفة بدوافعها الاقتصادية الواضحة؛ فقد خرج زيد بن حارثة رضي الله عنه في شهر (رمضان 6هـ/ يناير 628م) في تجارةٍ إلى بلاد الشام فتعرَّض لاعتداء من قِبَل جماعة من فزارة في مكانٍ قريبٍ من وادي القرى وعاد إلى المدينة، بيد أنَّه عاد مجدَّدًا إلى استئناف مهمَّته بعد إصرار النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونزل في المكان نفسه، واصطدم مع الجماعة التي اعترضه فقتل وأسر وعاد إلى المدينة[33]، ويُعدُّ هذا الاختراق لقبيلة كبيرة كفزارة ما تزال غير مكترثة حتى ذلك الحين بالقوَّة الإسلاميَّة النامية في المدينة عملًا ناجحًا كان له وقعه الحسن بين المسلمين! [34].
الواضح أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتمكَّن في العام السادس الهجري من حسم الوضع لصالحه على الحدود الشماليَّة للحجاز، وهذا ما دفعه إلى استئناف حملاته، وأتاح له صلح الحديبية التحوُّل نحو هدفه الخارجي وهو مطئمنٌ على وضعه الداخلي. ومن جهةٍ أخرى شهدت الجبهة القَبليَّة - البيزنطيَّة بعض الارتباك؛ إذ تزعزعت ثقة القبائل العربيَّة ببيزنطة بفعل محاولتها تغيير المعادلة في العلاقات الثنائيَّة من واقع فرض سيطرتها المباشرة عليها وتخفيف مساعداتها الماليَّة لها، ممَّا أسهم في تراجع الروح المعنويَّة لدى القبائل التي نشأت على الاستقلال ورفض التدخل الخارجي في شئونها إلَّا ما كان في إطار التحالفات والمصالح الخاصَّة، كما أنَّ الاختلاف المذهبي أسهم في خلق وعيٍ لديها تجاه الإسلام على الرغم من أنَّها وجدت فيه تحدِّيًا عقائديًّا يفوق -مبدئيًّا- التحدِّي البيزنطي، من هذا المنطلق تكتسب غزوات المسلمين نحو الشمال -بعد صلح الحديبية- تلك الأهميَّة التي فرضتها إعادة ترتيب مواقع النفوذ البيزنطي في الأطراف الشماليَّة[35].
استأنف النبيُّ صلى الله عليه وسلم نشاطه الجهادي في الشمال بعد صلح الحديبية فأرسل كتابين؛ أحدهما إلى الإمبراطور البيزنطي والآخر إلى الحارث بن أبي شمر الغسَّاني ملك تخوم بلاد الشام، وتطرَّق في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل إلى أوضاع القبائل العربيَّة الموالية لبيزنطة، الأمر الذي أثار الإمبراطور البيزنطي ودفعه إلى استنفار قوَّاته وحلفائه من العرب: "فلا تَحُل بين الفلَّاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يُعطوا الجزية".
قد وردت -أيضًا- عبارة الآريسيِّين محلَّ الفلاحين؛ أي أتباع آريوس، وهم أصحاب المشيئة الواحدة المعارضة للمذهب الملكاني الذي اعتنقه البيزنطيُّون؛ إذ كانت القبائل العربيَّة المنتصِّرة على مذهب الآريوسيَّة الذي حمل اسم اليعقوبيَّة فيما بعد، كما وردت لفظة الأكاريين للدلالة على أولئك الذين يعملون بحراثة الأرض وزراعتها[36].
هكذا ستحمل هذه المرحلة الجديدة اهتمامًا أكثر من جانب النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمور بلاد الشام، وستتوَّج سياسته هذه بغزوتي مؤتة وتبوك في العامين الثامن والتاسع الهجريين.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية لمحمد سهيل طقوش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر قرارات مجمع خلقدونية عند الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقدونية، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق: ص211-213.
[2] من المعروف أنَّ النصارى في بلاد الشام انقسموا منذ مجمع خلقدونية -إثر الخلاف على صياغة العقيدة الخاصة بطبيعتي المسيح واتحادهما- إلى سُريان أو يعاقبة وملكية أو روم، ويُشير المؤرِّخون إلى أنَّ المذهب اللاخلقدوني (اليعقوبي) انتشر بين القبائل العربيَّة مثل إياد وربيعة وقضاعة، أمَّا القائلون بالمذهب الخلقدوني "الملكية" فكانوا معظمهم يعيشون في المدن التي اصطبغت بالثقافة الهلينية، مثل أنطاكية، وسلوقية، واللاذقية، وبعلبك، وبيروت، وقيصريَّة، وفلسطين، وبيت المقدس، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ نسبة عالية من اليعاقبة كانت مستاءة من الحكم المركزي.
[3] وادي القرى: وادٍ بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى. الحموي: 5/345.
[4] تذكر روايات المصادر أنَّ أحد قادة المسلمين في معركة مؤتة كان رجلًا من بني عذرة يُقال له قحطبة بن قتادة. انظر: سيرة ابن هشام: 4/72. وتبوك: موضع بين وادي القرى والشام، وهو بين الحجر وأوَّل الشام. المصدر نفسه: 2/14.
[5] مؤتة: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل: مؤتة من مشارف الشام. المصدر نفسه: 5/219، 220.
[6] ابن هشام: 4/239.
[7] تتحدث المصادر من غارة قام بها عمرو بن العاص أثناء حروب الرِّدَّة على بلي وبعض القبائل الأخرى. الطبري: 3/305.
[8] مدين: قرية تجاه تبوك بين المدينة والشام. الحموي: 5/77.
[9] أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثُمَّ من نواحي البلقاء. المصدر نفسه: 1/129.
[10] المهمذاني، أبو محمد الحسن بن أحمد: صفة جزيرة العرب: ص271، 272.
[11] الواقدي، محمد بن عمر بن واقد: مغازي الواقدي: 3/1015.
[12] الطبري: 3/96.
[13] معان: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. الحموي: 5/153.
[14] ابن هشام: 4/216، 217.
[15] المصدر نفسه: ص235، والطبري: 3/243-389.
[16] ابن هشام: ج4 ص71.
[17] الطبري: 3/343.
[18] المسعودي، أبو الحسن علي: مروج الذهب ومعادن الجوهر: 2/106، 107.
[19] فيلارك: معناها ملك.
[20] الطبري: 3/130.
[21] تمَّ صلح الحديبية في أواخر السنة السادسة للهجرة بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقريش. انظر: ابن هشام: 4/24-29.
[22] بصرى: قصبة كورة حوران، وهي من أعمال دمشق. الحموي: 1/441.
[23] دُومة الجندل: حصن بين الشام والمدينة على سبع مراحل من دمشق. الحموي: 2/487.
[24] الطبري: 2/564.
[25] الواقدي: 1/403.
[26] العيص: موضع في بلاد بني سُلَيْم من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون منها إلى الشام. الحموي: 4/173.
[27] الواقدي: 2/557.
[28] بيضون، إبراهيم: دولة الرسول في المدينة. بحث في كتاب تاريخ بلاد الشام: ص86، 87.
[29] الواقدي: 2/557.
[30] طبقات ابن سعد: 2/89.
[31] طبقات ابن سعد: 2/64، 65.
[32] بيضون: ص88.
[33] طبقات ابن سعد: 2/90، 91.
[34] بيضون: ص87، 88.
[35] بيضون، إبراهيم: حملة مؤتة. المؤتمر الدولي الرابع لبلاد الشام عام 1987م، ص62، 63.
[36] الطبري: ج2 ص649، وابن كثير: البداية والنهاية، 4/265.
التعليقات
إرسال تعليقك