التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة مقال يحلل فيه الدكتور سهيل طقوش أحداث القصة المشهورة التي وقعت بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة انتهاء بمقتل مالك بن
تختلف روايات المصادر في عرضها لقضية مالك بن نويرة، الأمر الذي يجعل الحديث عن روايةٍ نموذجيَّةٍ ينطوي على الإشكال، فقد قدم مالكٌ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أمثاله من العرب فولَّاه صدقات قومه بني يربوع -كما أشرنا- فلمَّا مات النبيِّ صلى الله عليه وسلم امتنع عن دفع الزكاة، وفرَّق ما في يده من إبل الصدقة، وتجاهل نصائح أقرانه في القبيلة بعدم الإقدام على هذا التصرُّف[1]، وعندما علم بزحف خالد باتجاه البطاح هاله الأمر، وأدرك أنَّه عاجزٌ عن مواجهة المسلمين ميدانيًّا، فأمر أتباعه بالتفرُّق، ونهاهم عن الاجتماع والمقاومة[2]، وتوقَّف عند هذا الحد فلم يخرج للقاء خالدٍ وإعلان توبته وعودته إلى الإسلام، ويبدو أنَّه لم يكن بوسعه أن يحمل نفسه على مسيرةٍ عدَّها مذلَّةً لكبريائه.
عناصر جوهريَّة في قصَّة خالد بن الوليد ومالك بن نويرة
الواقع أنَّ أحداث بني تميم ومقتل مالك تتضمَّن خمسة عناصر جوهريَّة هي:
1- سوء الفهم اللغوي الذي أدَّى إلى القتل بطريق الخطأ.
2- استجواب مالك الذي انتهى بحكم الإعدام.
3- شهادة أبي قتادة الأنصاري التي يتمُّ إيرادها كروايةٍ مواكبةٍ بأنَّ مالكًا وبني يربوع كانوا
مسلمين.
4- الاختلاف في وجهات النظر بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما.
5- اتِّهام خالد بقتل مسلم والتزوُّج بامرأته.
رواية الطبري لقصَّة خالد بن الوليد ومالك بن نويرة
تظهر قضيَّة سوء الفهم أو الالتباس اللُّغوي في رواية سيف التي رواها الطبري[3]؛ إذ عندما وصل خالد إلى البطاح بثَّ سراياه وأمرهم بداعية الإسلام على أن يأتوه بكلِّ من لم يُجب، وإن امتنع أن يقتلوه تنفيذًا لوصيَّة أبي بكر، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة مع نفرٍ من أصحابه من بني يربوع، فاختلف أفراد السرية فيهم؛ فشهدت فئةٌ منهم بأنَّهم أذَّنوا وأقاموا وصلُّوا وأقرُّوا بالزكاة، كان من بينهم أبو قتادة الأنصاري، في حين شهدت فئةٌ أخرى بأنَّهم استمرُّوا على ردَّتهم، فلمَّا وقع الاختلاف أمر خالد بسجنهم حتى الصباح ليحكم في الأمر، وكانت ليلةٌ باردةٌ تزداد بردًا كلَّما مضى شطرٌ من الليل، فأخذت خالد الشفقة عليهم فأمر مناديًا "أدفئوا أسراكم" وكان معنى العبارة في لغة كنانة القتل، ولمـَّا كان الحرس من هؤلاء قتلوهم، فقتل ضرارُ بن الأزور مالكًا، وسمع خالد الضجَّة فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: "إذا أراد الله أمرًا أصابه"[4].
هذه هي صياغة المشهد التي يبدو عليها علائم الاختلاف، ذلك أنَّ المرء لا يستطيع في مخيَّمٍ عسكريٍّ أن يُدبِّر مجزرةً لا يُلاحظها القائد إلَّا بعد انتهائها، ولكنَّ هذا هو هدف القصة. فهل تعمَّد خالد إصدار الأمر الذي يُساء فهمه ثُمَّ راح ينتظر حتى تحقَّقت النتيجة المرجوَّة وهي قتل مالك بن نويرة والتزوُّج بامرأته أم تميم ابنة المنهال؟ كيف صحَّ من قائد المسلمين أن يُخاطب الحرَّاس بلغةٍ يعلم أنَّها ليست لغتهم فيما يقصد إليه من معنى وهدف؟ وإن كان لا يعلم فلماذا لم يعتذر بهذا العذر عند الخليفة عندما عاتبه؟
الواضح أنَّ هذه القصة لا تذكر سببًا معقولًا ومقبولًا لقتل مالك بن نويرة، على الرغم من أنَّها تستشهد بأقوال فئةٍ من أفراد السريَّة بأنَّه عاد من ردَّته ونصح قومه بالاقتداء به.
إذا تأمَّلنا في صيغة الأمر من الوجهة اللُّغوية كان معناها الأساسي الدفء، أمَّا المعنى الجانبي الذي هو القتل فلا تُسجِّله معاجم اللغة إلَّا على الهامش، وبناءً على هذا نجد الصياغة في لسان العرب؛ دَفَّفَ على الجريح أجهز عليه، وكذلك دافَّهُ مُدافَّةً ودِفَافًا ودَافَاه وهي لغةٌ لجهينة معناها القتل[5].
روايةٌ أخرى لقصَّة خالد بن الوليد ومالك بن نويرة
تجري رواية استجواب خالد رضي الله عنه لمالك بن نويرة للوقوف على أيِّ الشهادتين حق؛ الشهادة بإسلامه أم الشهادة بإصراره على الرِّدَّة ومنع الزكاة. فعندما جاءت به السَريَّة حاوره خالد في موقفه من الإسلام، فقال مالك: "أتقتلني وأنا مسلمٌ أصليِّ إلى القبلة؟ فقال خالد رضي الله عنه: لو كنت مسلمًا لما منعت الزكاة ولا أمرت قومك بمنعها، والله ما نلت ما في مثابتك حتى أقتلك"[6]، وفي روايةٍ أنَّه قال: "أنا آتي الصلاة دون الزكاة.
فقال له خالد رضي الله عنه: أما علمت أنَّ الصلاة والزكاة معًا، لا تُقبل واحدةٌ دون الأخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبكم يقول ذلك، قال خالد: أوما تراه لك صاحبًا؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثُمَّ تجادلا في الكلام، فقال خالد: إني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: هذه بعد تلك، وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري رضي الله عنهما حاضرين، فكَلَّما خالدًا رضي الله عنه في أمره فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدَّم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه"[7].
قد تكون هذه الرواية أقرب إلى القبول؛ لأنها تذكر سبب رِدَّة مالك بن نويرة ومن اتبعه من قومه؛ وهو امتناعه عن دفع الزكاة لأبي بكرٍ رضي الله عنه، كما أنَّ كلامه بحقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يصدر عن شخصٍ مخلصٍ في إسلامه، ألا يرى مالكٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سيِّدٌ له وصاحب؟ ومع ذلك فقد تضمَّن الاستجواب إشارتين إلى إسلام مالك، وهما القول بأنَّه على استعداد لإقامة الصلاة، وقوله لخالد رضي الله عنه: "أتقتلني وأنا مسلم أُصلِّي إلى القبلة". غير أنَّه رفض دفع الزكاة، وهنا يوصف بأنَّه مرتدٌ معاند، وأنَّ تصريحاته الاستفزازيَّة لم تدع مجالًا لخيارٍ آخر سوى القتل، ومن هنا -أيضًا- استقى خالد حجَّته عليه بعد أن كشف نواياه التي لا تخرج من قلبٍ سليم الإيمان، ومع ذلك فإنَّ خالدًا لم يتسرَّع في إصدار الحكم عليه، وجادله علَّه يتمكَّن من إقناعه بالعودة عن رِدَّته، إلَّا إنَّه أصرَّ على موقفه، فلم يبقَ في نفس خالدٍ رضي الله عنه بعد ذلك موضعٌ للشَّكِّ في ردَّته فعقد العزم على قتله، ورفض أن يُرسله إلى أبي بكر كما أرسل غيره، أمثال قرة بن هبيرة والفجاءة السلمي وغيرهما، ولم يكن مالك بأقلَّ قدرًا منهم إلَّا إنَّه كان أعظم إثمًا[8]، وأستبعد أن يكون أصدقاء خالد اختلقوا حديثًا متقن الحبكة يضع عنه الوزر؛ لأنَّ مالكًا إذا كان مطَّلعًا على الإسلام هذا الاطلاع الحسن الذي يُمكِّنه من مناقشة خالد في دقائقه فمعنى ذلك أنَّه كان مسلمًا[9]، والراجح أنَّه لم يكن مسلمًا وقت قتله على الأقل.
تصبُّ شهادة أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في مصلحة مالك؛ إذ أنكر على خالد رضي الله عنه فعله فظنَّ ما حدث حيلةً من حيله، فذهب إليه وقال: "هذا عملك، فزبره خالد، فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر" فأثار القضيَّة أمامه[10]، والراجح أنَّ إقحام اسم أبي قتادة رضي الله عنه هو من نوع التمويه والتضليل، وأن يكون هذا الرجل خاصَّةً هو الذي يُدلي بالشهادة ضدَّ خالدٍ رضي الله عنه فأمر يستحقُّ النظر؛ لأنَّه هو نفسه كان قد عارض خالدًا رضي الله عنه في أمر بني جذيمة وانتقده انتقادًا كبيرًا[11]، أو كان للحادث في نفسه صورةٌ أخرى فَهِمَ منها أبو بكر ما أملى عليه قوله في ردِّه على عمر "تأوَّل فأخطأ". يُضاف إلى ذلك فقد شاهد عشراتٍ من الصحابة ما شاهد أبو قتادة ولم يتصرَّفوا مثله، أمَّا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الذي حضر الجلسة فعلى الرغم من أنَّه خالف خالدًا رضي الله عنه وعبَّر عن رأيه في هذه القضية إلَّا أنَّه لم يخرج على قائده وهذا من فقه ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنَّه علم أنَّ خالدًا رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الذين وافقوه على قتل مالك لا يصدرون أحكامهم عن هوى، وإنَّهم إن أخطأوا فقد تأوَّلوا[12].
أبو بكر وعمر تعليقًا على قصَّة خالد ومالك بن نويرة
تتحدَّث بعض روايات التاريخ الإسلامي عن اختلافٍ في وجهات النظر بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما في هذه القضية، فتجري إحداها أنَّه لما بلغ خبر مقتل مالك وأصحابه عمر رضي الله عنه، قال: "إنَّ في سيف خالد رهقًا[13]، فإن لم يكن هذا حقًّا، حقَّ عليه أن تُقيِّده، وأكثر عليه في ذلك". فأجابه أبو بكرٍ رضي الله عنه: "هيه يا عمر، تأوَّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد"، وأضاف: "لم أكن لأشيم سيفًا سلَّه الله على الكافرين"، وودَّى مالكًا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل[14].
وثمَّة مشهد حدث في المسجد يُلخِّص حكايةً جرت في المدينة حيث يظهر خالدٌ عند أبي بكرٍ رضي الله عنهما قادمًا من أرض بني تميم، فيدخل المدينة مصحوبًا بكلِّ علائم الحرب، ويلتقي عمر في مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيذلَّه ويرميه بتهمةٍ يُلقي بها في وجهه "قتلت امرأً مسلمًا ثُمَّ نزوت على امرأته، والله لأرجمنَّك بأحجارك"، فلم يُكلِّمه خالد ومضى في اضطرابٍ بالغٍ إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه وهو يظنُّ أن رأيه مثل رأي عمر رضي الله عنه. وجرى حوارٌ بين الرجلين اعتذر في نهايته خالد أمام أبي بكرٍ رضي الله عنهما، فعذره وتجاوز عنه، لكنَّه عنَّفه في التزويج الذي كانت العرب تُجمع على كراهته أيَّام الحرب، وأمره أن يُفارق امرأة مالك، فخرج خالد رضي الله عنه وعمرُ رضي الله عنه جالسٌ في المسجد، فقال: هلُمَّ إليَّ يا ابن أمِّ شملة. فعرف عمر أنَّ أبا بكر قد رضي عنه فلم يُكلِّمه ودخل بيته"[15].
الواضح أنَّ هذه الرواية قد استُغلَّت من واقع توجيهها دون مراعاةٍ لحرمة أصحاب رسول الله: فتُصوِّر خالدًا رضي الله عنه في صورةٍ تجافيها المروءة، ويُنكرها الدين، وتشمئزُّ منها الرجولة، ولا يرضى عنها عامَّة الناس، وتحشر رجلًا هو ثالث ثلاثة فتجعل منه محورًا تدور عليه فصولها؛ وذلك هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي تحمل في طياتها عوامل الشكِّ فيها، منها:
- أنَّها تُصوِّر خلافًا حادًّا في الرأي بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في تقييم ما صنع خالدٌ رضي الله عنه، وهو خلافٌ غريبٌ في حادثٍ يمسُّ حدًّا من حدود الله، وإذا لم يكن الاتفاق ضروريًّا بين المجتهدين فليس هذا الحادث من مواضع اختلاف المجتهدين؛ لأنَّه اختلافٌ في تكييف الحادث لا في فهم النص وتطبيقه،[16] بالإضافة إلى ماهية السياسة التي يجب أن تُتَّبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين تجاه المرتدِّين وقيام الثورة في أنحاء الجزيرة العربية[17].
- لا يُمكن الوصول إلى دلالة "ابن أم شملة" التي هتف بها خالدٌ رضي الله عنه في وجه عمر رضي الله عنه أثناء خروجه من عند أبي بكر، لكن ممَّا لا شَكَّ فيه أن خالدًا رضي الله عنه لم يكن يُكنِّي بذلك عن والدة عمر رضي الله عنه، ولكن مجرَّد المخاطبة بلقب ابن امرأة ينطوي وحده على إهانةٍ بالغةٍ وهذا بعيدٌ عن سلوك الصحابة.
- لم تذكر هذه الرواية لأحدٍ من أصحاب رسول الله رأيًا في هذه القضيَّة سوى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا سيَّما أنَّها تتعلَّق بتصرف أكبر قادة المسلمين الذي إذا صحَّ ما نُسب إلى عمر رضي الله عنه في اتِّهامه لخالدٍ رضي الله عنه لكان جزاء هذا القائد في الشريعة الإسلامية القتل، ولا يحقُّ للخليفة تعطيل أحكام الدين، أمَّا بقاء المتَّهم في مقامه في صدارة الدولة فهذا يتناقض مع ما عُرف عن الصحابة من شدَّة البحث عن الحقيقة[18]، فهل اقتدى أبو بكرٍ رضي الله عنه بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما لم يضع نهايةً لتقدير خالدٍ رضي الله عنه عن تصرُّفه مع بني جذيمة ولم يُقم الحدَّ عليه، والمعروف أنَّ الحادثتين متشابهتان في حيثيَّاتهما من حيث الالتباس في إسلام القوم من وجهة نظر فئةٍ من المسلمين، والتأكيد على عدم إسلامهم في نظر خالدٍ رضي الله عنه على الأقل وهو أمير السَّريَّة آنذاك وإليه يعود تقدير الأمور[19].
- عندما تولَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة بعد أبي بكرٍ رضي الله عنه وكان رجلًا قوَّامًا على حدود الله جريئًا في الحق، وكان خالدٌ رضي الله عنه يومئذٍ أميرًا على عامَّة جيوش المسلمين في بلاد الشام فلم يرجمه بأحجاره كما توعَّده، ولم يقتله قصاصًا بمالكٍ وأصحابه، أمَّا عزله عن الإمارة فلم تكن قضية مالك بن نويرة سببًا من أسبابها على وجه اليقين[20].
روايات متباينة في وضع أرملة مالك بن نويرة
وتتباين المصادر -أيضًا- في وضع أرملة مالك بن نويرة، ويُمكن أن نطرح عدَّة أسئلة تتعلَّق به مثل: هل تزوَّج خالدٌ رضي الله عنه أُمَّ تميم امرأة مالك أَمْ اتَّخذها محظيَّةً فحسب؟ وهل عاشرها فورًا أم بعد انتهاء عدَّتها، وكيف تطوَّرت العلاقة بينهما بعد ذلك؟ يروي الطبري: "وتزوَّج خالدٌ أمَّ تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتُعايره"[21]. وثمَّة رواية أخرى: "وقبض خالد امرأته (امرأة مالك) فقيل: اشتراها من الفيء وتزوَّج بها. وقيل: إنَّها اعتدَّت بثلاث حيض ثُمَّ خطبها إلى نفسه فأجابته"، فطلب من ابن عمر وأبي قتادة رضي الله عنهما أن يحضرا النكاح فأبيا[22]. وتجري روايةٌ ثالثةٌ على لسان عمر رضي الله عنه أثناء قدوم خالد للاجتماع بأبي بكر: "قتلت امرأً مسلمًا ثُمَّ نزوت على امرأته". وكأنَّه يتَّهمه بالزنى، ومع هذه النظرة العامَّة فإنَّ المسألة لم تُحسم بعد، لكنَّ معظم المصادر تتحدَّث عن زواج، على أنَّ الوضع الشرعي يُوصف بمسألةٍ ما إذا كان يجوز له أسر زوجة مسلم، أمَّا الزواج من أرملة فلم يكن يحول دونه شيء إذا تمَّ الالتزام بمدَّة العدَّة الشرعيَّة إلَّا أن تكون غير مسلمة، أمَّا معاشرة الأسيرة (الأَمَة) فلم يكن يُوجد تقييدٌ لها، وكان الاستحواذ على نساء المغلوبين من قبل المنتصر ما يزال أمرًا مألوفًا، وعلى هذا لا يتوافر التصرُّف الجرمي إلا إذا كان مالك وأم تميم مسلمين، وعند ذلك فإنَّ عملية الزواج تكون متفرِّعة من أصل عملية القتل، فإن كان قتْلُ مالكٍ حلالًا فلا شيء على خالد، وإن كان قتْله حرامًا فجرم القتل أعظم من جرم الزواج، وجرم قتل الجماعة أخطر من جرم قتل الفرد الواحد، ومن المستبعد أن يضع خالد نفسه في موقفٍ دقيقٍ من الوجهة الشرعية، والراجح أن تكون الروايات عن زواجٍ مع الإشارات المؤيِّدة لها إلى انتظار مدَّة الطهر إنَّما تمَّ إيرادها لتدعيم وضع مالك من حيث كونه مسلمًا[23].
حقائق مندثرة
الخلاصة أنَّ سلسلةً من الحقائق يُمكن وضعها في مواضعها المحكمة من العمليَّة التاريخيَّة؛ إذ تواجه المرء أكثر من رواية لا تنسجم بالضرورة مع الصورة العامَّة للرِّدَّة، فإذا كان خالدٌ قد اقترف ظلمًا عندما قتل مالك بن نويرة فماذا يبقى إذًا بعد رِدَّة بني تميم؟ أتراهم بالفعل كانوا مسلمين جميعًا؟ وهل كان من الممكن القضاء على التذبذب لدى زعماء القبائل الذين تتحدَّث عنهم أكثر المصادر مودَّة بلغة تهديدٍ بالغة الضآلة من قِبَل المدينة؟ وهل كان تجلُّد أبي بكرٍ رضي الله عنه وثباته يكفيان لإدماج قبيلة تميم الكبرى من جديد في المجتمع الإسلامي؟ إنَّها أسئلةٌ لا يُمكن الإجابة عليها بسهولةٍ عندما يُفكِّر المرء في حال المصادر؛ ذلك لأنَّ هدف المؤرِّخين كان يتمثَّل على ما يبدو في خفض حجم رِدَّة بني تميم إلى مستوى شخص مالك، بل تقديمه في صورة المسلم الذي يُساء تقدير إسلامه[24].
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ـــــــــــــــــ
[1] الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين: كتاب الأغاني: 15/305.
[2] الطبري: 3/277.
[3] المصدر نفسه: ص277-279.
[4] الطبري: 3/278.
[5] ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد: لسان العرب: 9/104- 106.
[6] ابن أعثم: الفتوح: 1/26.
[7] ابن خلكان، أبو العباس أحمد: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: 6/13، 14.
[8] عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد: ص169، 170.
[9] كلير، كلاوس: خالد وعمر، ترجمة: محمد جديد، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2001م،: ص178.
[10] الطبري: 3/278.
[11] الواقدي: المغازي، ص877، تحقيق مارسدن جونز، لندن 1966.
[12] عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد: ص169، 170.
[13] الرهق: النزوع إلى العنف.
[14] الطبري: 3/278، 279.
[15] المصدر نفسه: ص280.
[16] عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد: ص164.
[17] هيكل: ص161، 162.
[18] عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد: ص163، 164.
[19] انظر: الطبري: 3/66-69، وقارن بالبلاذري: أنساب الأشراف: 1/489، 490.
[20] عرجون، إبراهيم صادق: خالد بن الوليد: ص164، 165.
[21] تاريخ الرسل والمملوك: ص66-69.
[22] المصدر نفسه: ص278، وابن خلكان: 6/14.
[23] كلير، كلاوس: خالد وعمر، ترجمة: محمد جديد، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2001م، ص181.
[24] المصدر نفسه: ص178، 179.
التعليقات
إرسال تعليقك