التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قوى المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقال يبرز رفض بعض القوى بيعة علي للخلافة؛ كمعاوية في الشام، وتحالف أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير في
حاول عليُّ رضي الله عنه أن يُحيى من جديد نهج عمر رضي الله عنه، على الرغم من تغيُّر الظروف الموضوعية واختلافها كثيرًا؛ لأنَّه كان يرى أنَّه الشكل التنظيمي السليم لأوضاع الأمة وتطورها، وأمورها المصلحية، بالإضافة إلى القيم والمبادئ الدينية، والمعروف أنَّ الرجلين كانا يحملان الرؤية نفسها للعلاقة بين الإسلام كدين وبين تنظيم معاملات الناس بموجب تعاليمه، وأدرك عليٌّ رضي الله عنه أنَّ مهمَّته الأولى هي تنقية وتصفية أجواء العلاقة بين الإدارة المركزية في المدينة وبين الأمصار، ولتحقيق ذلك كان عليه القيام بإزالة جميع الإحداثات التي أتى بها عثمان رضي الله عنه وأدَّت إلى نهايته، وكان تنفيذها مقرونًا بتغييراتٍ جذريةٍ في أجهزة الحكم وسياسة الدولة الإدارية والاقتصادية، وتُشير الكثير من روايات المصادر إلى تحفُّظات عليٍّ رضي الله عنه على الكثير من إجراءات عثمان رضي الله عنه السياسية والاقتصادية الجديدة؛ لأنَّه كان يرى فيها ابتعادًا عن نهج النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخليفتيه رضي الله عنهما.
عزل ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه
كان التغيير الأكثر إلحاحًا من وجهة نظر عليِّ رضي الله عنه هو إعادة النظر في الجهاز الإداريِّ المسئول مباشرةً؛ بوصفه الأداة التنفيذية للخلافة، ذلك من واقع تغيير العمَّال والموظفين، غير أنَّ التصدِّي لرواسب النظام السابق كان يعني المواجهة مع قوى نافذة بلغت مبلغًا كبيرًا من القوَّة، بالإضافة إلى الاصطدام مع عددٍ من كبار الصحابة الذين وقفوا موقفًا سلبيًّا، لذلك كان من الضروريِّ أن يسبق هذا القرار بالتغيير اتخاذ خطواتٍ تُمهِّد لتنفيذه من أجل تجنُّب إثارة المعترضين، وهذا ما أشار به عبد الله بن عباس رضي الله عنه؛ وهو الإبقاء على عمَّال عثمان رضي الله عنه وبخاصَّةٍ معاوية رضي الله عنه[1]، ونصحه المغيرة بن شعبة بالتريُّث في هذا الأمر حتى تهدأ الأوضاع وتستقر، وتتوطَّد له أسباب الحكم، ثُمَّ ينظر ما يكون[2].
الراجح أنَّ عليًّا رضي الله عنه أدرك ذلك، إلَّا إنَّ موقف الثائرين في المدينة والجوِّ العام في الأمصار المشحون بالنقمة كان ضاغطًا، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ مبدأ التغيير كان يعني الشموليَّة وعدم التجزئة[3]، كما كان شديدًا في الحقِّ لا يستطيع أن "يُراهن في دينه"[4]، ولم يكن بوسعه أن يلجأ إلى مهادنة ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمعروف أنَّ خلع عمَّال عثمان رضي الله عنه كان أحد مطالب الثائرين والمعارضين من القبائل فى الكوفة والبصرة ومصر، لهذا كان إبعاد عمال عثمان رضي الله عنه عن الوظائف العامَّة مسألةً مبدئيَّةً تصعب المساومة عليها؛ فالقضية لم تكن أساسًا قضيَّة أشخاص بل قضية مبدأ ونهج وتصوُّر، بالإضافة إلى أنَّه كان لا يثق بهم، ولا يُمكنه التعامل معهم بفعل اختلاف وجهات النظر بشأن ممارسة السلطة[5].
من خلال هذه الرؤية السياسية التي جاءت متسرِّعة وهذا الموقف المتصلِّب، صدر الأمر بعزل ولاة عثمان رضي الله عنه واستبدالهم بفئةٍ جديدةٍ غير متورِّطةٍ في السياسة، وليست لأسمائها شهرةٌ كبيرةٌ خارج المدينة، فبعث قثم بن العباس رضي الله عنه واليًا علي مكَّة، وعثمان بن حنيف رضي الله عنه واليًا على البصرة، وعمارة بن شهاب رضي الله عنه واليًا على الكوفة، وعبيد الله بن العباس رضي الله عنه واليًا على اليمن، وقيسًا بن سعد رضي الله عنه واليًا على مصر، وسهلًا بن حنيف رضي الله عنه واليًا على الشام[6].
إنَّ نظرةً متأنيةً إلى أسماء هؤلاء الولاة تُطلعنا أنَّهم بأكثريتهم ينتمون إلى مجموعة الصحابة التي اتُّصفت بدرجةٍ عاليةٍ من الزهد والتقشف، ولم ترتكز على جاهٍ أو شرفٍ أو نسبٍ أو مال؛ بمعنى أنَّهم ينتمون إلى الشريحة الاجتماعية المغايرة للشريحة "الأرستقراطية" الغنيَّة.
التفَّ حول عليٍّ رضي الله عنه كبار أعلام بني طالب وبني هاشم، مثل: عبد الله بن عباس، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن الحنفيَّة رضي الله عنهم، بالإضافة إلى شخصياتٍ صحابيَّةٍ كبرى، مثل: محمَّد بن أبي بكر، وسليمان بن صرد الخزاعي، وأبي قتادة بن ربعي، وأبي أيوب الأنصاري، وعمَّار بن ياسر رضي الله عنهم، وغيرهم.
ظهور المعارضة السياسية:
رفض معاوية بيعة علي رضي الله عنهما
لم يصادف الولاة الجدد عقباتٍ تُذكر باستثناء ما كان منتظرًا من معاوية رضي الله عنه والي الشام الذي كان يعمل بنزعةٍ لا مركزية، ويجتهد ألَّا تفوته الفرصة لتحقيق منطق الاستمرارية للأسرة الأموية، وتمكَّن بحسن سياسته وإغداق المال على أهل الشام من استقطابهم، فالتفَّوا من حوله، وشكَّلوا قوةً يُناصرونه ويأتمرون بأمره، والواضح أنَّه كان لولاية الشام مركزٌ متفرِّد؛ لأنَّ معظم العرب الذين كانوا يقطنونها لم يذهبوا إليها مهاجرين مثل باقي الأمصار، كما أنَّهم تأثَّروا بالحكم اليوناني والروماني قبل الإسلام بوصفهم تابعين لدولة الغساسنة؛ لذلك اعتادوا على النظام وطاعة الحاكم، والمعروف أنَّ معاوية رضي الله عنه كان واليًا على هذه المنطقة منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستمرَّ في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فارتبط مع أهل الشام برباطٍ قويٍّ من الولاء المتبادل، ونتيجةً لذلك لم يتمكَّن سهل بن حنيف من دخول الشام واستلام منصبه كوالٍ عيَّنه عليٌّ رضي الله عنه، وهو مؤشرٌ إلى فتح الصراع مع هذا الأخير تحت غطاء الدَّعوة إلى الاقتصاص من قتلة عثمان.
كان علي رضي الله عنه يُدرك خطورة ولاء أهل الشام لمعاوية رضي الله عنه؛ حيث القبائل الموحدة والجيش القويُّ الذي تمَّ إعداده، والإدارة التي قطعت شوطًا في التنظيم؛ أي أنَّ الشام اجتمعت فيها كلُّ عناصر الدولة الفتيَّة، فيما الخلافة قد انهارت دولتها وكان عليها أن تُعيد بناءها من جديد[7]، فدعا طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقال لهما: "إنَّ الذي كنت أحذِّركم قد وقع يا قوم، وإنَّ الأمر الذي وقع لا يُدرك إلا بإمامته، وإنَّها فتنةٌ كالنار، كلَّما سُعِّرت ازدادت واستنارت"[8].
تجاه هذا التطور السلبيِّ لوالي الشام أرسل عليٌّ رضي الله عنه كتابًا إلى معاوية رضي الله عنه دعاه فيه إلى الدخول في طاعته وعدم تفريق كلمة المسلمين، لكنَّ الأخير لم يُجبه حتى انقضت ثلاثة أشهر، فأرسل إليه رسالةً بيضاء في شهر "صفر 36هـ= أغسطس 656م" مع رجلٍ من أنصاره ينتمى إلى عبس، مختومةً ومكتوبٌ عليها "من معاوية إلى علي"، وأوصاه بإبراز الرسالة عند دخوله إلى المدينة حتى يراه الناس، فلمَّا وصل إليها -في غرة ربيع الأول- رفع الرسالة فرآها أهل المدينة، فعلموا أنَّه رفض البيعة، وتوقَّعوا حدوث أمرٍ ما، ولمـَّا فتح عليٌّ رضي الله عنه الرسالة لم يجد فيها سوى البسملة، فطلب من الرجل أن يتكلَّم فأخبره بأنَّ خمسين ألف رجلٍ يبكون تحت قميص عثمان رضي الله عنه، وهو معلَّقٌ فوق منبر جامع دمشق ويُطالبون بدمه، وقد عاهدوا الله ألَّا يغمدوا سيوفهم ولا يغمضوا جفونهم حتى يقتلوا قتلة عثمان رضي الله عنه، وحمَّل عليًّا رضي الله عنه مسئولية هذا الدم، فقال عليٌّ رضي الله عنه عندئذٍ: "اللهم إنِّي أبرأ إليك من دم عثمان". ثُمَّ صرف مبعوث معاوية رضي الله عنه[9].
في المقابل نجح عليٌّ رضي الله عنه في الحصول على تأييد الأغلبية في الأمصار، فالبصريون كانوا منقسمين حول الموقف الواجب اتِّخاذه من مقتل عثمان رضي الله عنه، لكنهم قَبِلوا الوالي الجديد الذي أرسله عليٌّ رضي الله عنه، في حين رفض الكوفيون استقبال الوالي الجديد وتمسَّكوا بواليهم الخاصِّ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، إلَّا إنَّهم بايعوا عليًّا رضي الله عنه، وانقسم المصريون على أنفسهم؛ فقبلت الأغلبية استقبال والي عليٍّ رضي الله عنه، لكن تكوَّنت نواةٌ من المتربِّصين من ذوي النزعة العثمانيَّة المطالبين بالثأر لدم عثمان رضي الله عنه، لكنَّهم لم يتحركوا مفضِّلين موقف الاعتزال[10].
هكذا ساد القلق والاستياء كافَّة الأمصار من واقع الاستنكار لمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، لكنَّ المسلمين حاولوا الحفاظ على وحدتهم من خلال الوقوف الحَذِر وراء الخليفة[11].
المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه
بيد أنَّ موقف معاوية الرافض -على خطورته- لم يكن الشاغل الوحيد للخليفة؛ إذ نمت في أوساط بعض الصحابة أنَّ عليًّا رضي الله عنه يتهاون في معاقبة قتلة عثمان رضي الله عنه؛ فقد ذهب كلٌّ من طلحة والزبير رضي الله عنهما مع نفرٍ من أهل المدينة إلى عليٍّ رضي الله عنه بعد أربعة أشهرٍ من مقتل عثمان رضي الله عنه، وطلبوا منه إقامة الحدِّ على قتلته[12]، لكنَّ هذه القضية لم تكن من أولويات علي رضي الله عنه الذي كان يعمل على تهدئة الجوِّ، واستقرار الأوضاع، وتثبيت أقدامه في الحكم أوَّلًا، بحجة أنَّه لا يُسيطر على الوضع العام، وأنَّ الأمور لا تزال بأيدي الثائرين والغوغاء وعبيد أهل المدينة وأعرابها، وخاطبهم قائلًا: "إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقومٍ يملكوننا ولا نملكهم"[13].
يبدو أنَّهما لم يقتنعا بوجهة نظره؛ إذ إنَّ تطبيق مبادئ الإسلام وحدوده هي من الأولويات، فاستأذناه في الخروج إلى مكَّة لأداء العمرة، فأذن لهما على الرغم من وعيه لمدى ما يُمكن أن يُشكِّلاه من خطرٍ على شرعيته[14]، ثُمَّ اتخذا من الأسلوب الذي تمَّت فيه التغييرات الأخيرة ذريعةً للاحتجاج والمعارضة؛ فقد طلبا من الخليفة عليِّ رضي الله عنه أن يُشركهما في هذا الأمر؛ فقد كانت لطلحة رضي الله عنه رغبةً في ولاية البصرة، وكانت للزبير رضي الله عنه رغبةً في ولاية الكوفة، إلَّا إنَّه رفض ذلك، وقال لهما: "تكونان عندي فأتحمَّل بكما، فإني وحش لفراقكما"[15]. لكنَّ معارضتهما بقيت ضمن الإطار الاحتجاجي، ولم تأخذ طابع العمل الفعلي إلا بعد اجتماعهما بعائشة رضي الله عنها في مكَّة.
تكوُّن حركة معارضة لعليٍّ رضي الله عنه في مكَّة
سارعت عائشة رضي الله عنها إلى تحديد موقفها من الخليفة، فقد كانت في مكَّة عندما قُتل عثمان وانتُخِب عليٌّ رضي الله عنهما، وبعد انتهاء موسم الحجِّ غادرت مكَّة في طريقها إلى المدينة، وتلقَّت أخبار ما جرى فيها من الأمويين الذين هربوا إلى مكَّة، فقفلت راجعةً إليها وفضَّلت البقاء فيها وأطلقت منها دعوةً للتنديد بعملية القتل، والواضح أنَّها تأثَّرت بالدعاية الأموية التي كانت نشطة آنذاك، وكوَّنت رأيًا أُحاديَّ الجانب، وساندها والي مكَّة المعيَّن من قِبَل عثمان رضي الله عنه الذي كان لا يزال في منصبه، وهو عبد الله بن عامر الحضرمي رضي الله عنه[16]، والمعروف أنَّ المكيِّين لم يُبايعوا عليًّا متأثرين بنفوذ عائشة رضي الله عنها، وبالتالي بقيت مكَّة خارج إطار سلطة الخليفة.
تذرَّعت عائشةة رضي الله عنها بأنَّ المدينة واقعة تحت سلطة غوغاء الأمصار وبدوٍ نهَّابين، وعبيدٍ آبقين، وأنَّهم هم الذين ارتكبوا جريمة القتل بعد أن حصلوا من عثمان رضي الله عنه على وعدٍ بالتراجع عن سياسته السابقة، وبالتالي لا شيء يُبرِّر عملهم العدواني، "فسفكوا الدم الحرام، واستحلُّوا البلد الحارم، وأخذوا المال الحرام، واستحلُّوا الشهر الحرام"[17]، وإنَّ الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر "فاطلبوا بدم عثمان تعزُّوا الإسلام"[18]. ومن المثير أن يكون هذا النداء من جانب عائشة رضي الله عنها على الثأر لعثمان رضي الله عنه في وقتٍ كانت بعيدةً عن المدينة حين حوصر وقُتِل ومن دون أن تكون من قبل على وفاقٍ معه[19].
هكذا أبرزت عائشة رضي الله عنها فكرة أنَّ عثمان رضي الله عنه قُتل مظلومًا، التي ستكون أساس كلِّ المطالب لصالح قضيته سواءٌ من جانبها أو من جانب معاوية رضي الله عنه في وقتٍ لاحق، أو من طرف أنصار عثمان رضي الله عنه في مصر، والواضح أنَّها ركيزةٌ إسلاميةٌ شرعيةٌ أن تُطالب بالقصاص لدم عثمان رضي الله عنه وفقًا لشرع الله، وهي تتوافق في هذا المقام مع موقف طلحة والزبير رضي الله عنهما، إنَّه تعبيرٌ صادقٌ عن طلب الحقِّ والعدل فيما لا يُمكن التسامح به ولا يُمكن قبوله، وهو نداءٌ إسلاميٌّ في المقام الأوَّل، وسياسيٌّ في المقام الثاني؛ لأنَّه يتضمَّن إنكار شرعية عليٍّ رضي الله عنه التي قامت وسط هذا الجوِّ الضاغط، ولكنَّ هذه القضية لم تُطرح صراحةً، ولم يُقدِّم توجُّه عائشة رضي الله عنها نفسه كمؤامرة، ولا كثورةٍ على عليٍّ رضي الله عنه، إنَّما وبوصفها أم المؤمنين رضي الله عنها فهي تمنح نفسها مسئوليةً تجاه أبنائها الذين يُشكِّلون جمهور المسلمين[20].
إذا كان من الممكن أن نحدِّد دور الدوافع الشخصية مثل إرادة القوة، والرغبة في التقدُّم إلى المقام الأوَّل، والدوافع المتصلة بأحداث الماضي، فقد أدَّت كلها دورًا ثانويًّا[21]،على الرغم من ادِّعاء بعض المؤرخين أنَّ آثار حديث الإفك تلقي بظلالها على هذا الموقف[22].
الواقع أنَّ حركة المعارضة لم تأخذ طابع العمل الجديِّ إلا بمجيء طلحة والزبير رضي الله عنهما إلى مكَّة حيث حرَّضا عائشة رضي الله عنها على النهوض لمحاربة الغوغاء، وأعلماها بأنَّ عثمان رضي الله عنه قُتل مظلومًا، وأنَّ أكثر الناس لم يرضَ عن بيعة عليٍّ رضي الله عنه[23]، فاستجابت لهذا النداء دون أن تقف مجدَّدًا على وجهة نظر الطرف الآخر وهو عليٌّ t، وشكَّلت معهما تحالفًا متينًا لا يقبل الانفكاك تحت شعار رفع الظلم الذي أحاق بالخليفة عثمان t ومعاقبة قتلته، وهو مطلب عامَّة المسلمين، ومن واقع أنَّها تملك سلطةً تحكيميةً ووزنًا معنويًّا كبيرًا ستكون الناطقة باسم قوى التحالف ومحور العمل، وسيقتصر دور طلحة والزبير رضي الله عنهما على قيادة الرجال وتنظيم القتال، وكان كافيًا أن يظهر هذا التحالف في مكانٍ ما أمام المسلمين لكي يهزُّوا مشاعرهم ويستقطبوهم، وأن يُشكِّلوا قوةً ضاربة.
سرعان ما استقطبت دعوة عائشة رضي الله عنها كلَّ الذين كانوا يُعارضون مقتل عثمان رضي الله عنه أو يُحاولون إسقاط عليٍّ رضي الله عنه، وبخاصَّةٍ أفراد الأسرة الأموية، مثل: عبد الله بن عامر الحضرميِّ والي مكَّة، ويعلى بن منبه والي اليمن السابق، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم، وسائر بني أمية. وقد أدُّوا دورًا تحريضيًّا، وهو أوَّل ما تكلَّمَت به بنو أميَّة في الحجاز، ورفعوا أصواتهم[24]، وموَّلوا عائشة رضي الله عنها، وربَّما استغلُّوها لصالح قضيَّتهم دون وعيٍ منها.
هكذا فإنَّ التحرك الذي حرَّضت عليه عائشة رضي الله عنها، واتَّخذ واجهته طلحة والزبير رضي الله عنهما، فيما التمويل والتعبئة تولَّى أمرهما بنو أمية[25]؛ تحوَّل من مطلبٍ عامٍّ وهو المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه إلى مطلبٍ خاصٍّ لصالح الأمويين.
بدا واضحًا أنَّ ملامح انتفاضةٍ قرشيَّةٍ بدأت تتكوَّن ضدَّ عليٍّ t في محاولةٍ لإسقاطه، على أنَّ هذه المواجهة دخل فيها -أيضًا- صراع المصالح؛ إذ وجد الأنصار في عليِّ رضي الله عنه الأقرب إلى تحقيق طموحهم في هذا السبيل، لا سيما المشاركة الفعلية في السلطة التي حُرموا منها في العهود السابقة، فيما كانت قريش تنتفض لاستعادة موقعها المميَّز الذي بدأ يتكرَّس منذ خلافة عثمان رضي الله عنه[26]، والمعروف أنَّ عليًّا t عيَّن رجالًا من الأنصار في بعض مراكز الولاة الأساسية في البصرة والمدينة ومصر.
الواقع أنَّ قريشًا وعلى رأسها بنو أمية -التي أوصلت سابقًا عثمان رضي الله عنه للخلافة- شكَّلت القوَّة السياسية الفاعلة، وكان الجفاء واضحًا بينها وبين عليٍّ رضي الله عنه منذ وفاة عمر رضي الله عنه، وقد حصرت على ألَّا يتسلَّم الخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه؛ لتوافق منهجه مع نهج عمر رضي الله عنه؛ إنها رؤية التاجر القرشي؛ فمصالح قريش كان قد عُبِّر عنها بصورةٍ أمثل في نهج عثمان رضي الله عنه لترتيب أوضاع المسلمين وليس في نظام عمر أو علي رضي الله عنهما. كان عليٌّ يُدرك ذلك لهذا كان يتوقَّع دائمًا معارضة قريشٍ له في كلِّ موقفٍ يقفه وفي كلِّ قرارٍ يتَّخذه، ويرى أنَّ قريشًا تظلمه؛ لأنَّها تُنكر فضله ومنزلته في تاريخ الإسلام[27]، والواضح أنَّ في ذلك عودًا للصِّراع القديم بين بني هاشم وبني أمية.
تُقدِّم روايات المصادر ما يكفي من المعلومات التي تُوضِّح هذه الرؤية المهمَّة في ترتيب القوى وتوازنها داخل المجتمع الإسلامي في نهاية مرحلة صدر الإسلام؛ ففي الكتاب الذي أرسله إلى أخيه عقيل بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ردًّا على رسالته التي أخبره فيها بخروج عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير رضي الله عنهم، قال له: "... فإنَّ قريشًا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قبل اليوم، وجهلوا حقِّي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدُّوا في إطفاء نور الله، اللَّهم فاجز قريشًا عني بفعالها؛ فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمِّي، وسلَّمت ذلك لمن لي في قرابتي وحقي فى الإسلام، وسابقتي التي لا يدَّعي مثلها مدَّعٍ إلَّا أن يدَّعي ما لا أعرف..."[28].
خطب عليٌّ رضي الله عنه في أنصاره في ذي قار عندما خرج لقتال أهل البصرة في موقعة الجمل خطبةً طويلةً ذكر فيها "... ما لي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنَّهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم، والله ما تزحم منَّا قريش إلَّا أنَّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا..."[29].
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] الطبري: 4/439، 440.
[2] الطبري: 4/438، 440، 441.
[3] بيضون: الإمام علي: ص121.
[4] الطبري: 4/440، 441.
[5] إبراهيم: ص266.
[6] الطبري: 4/442.
[7] بيضون: الإمام علي: ص57، 58.
[8] الطبري: 4/443.
[9] المصدر نفسه: ص444.
[10] الطبري: 4/442، وجعيط: الفتنة: ص144، وكاشف، سيدة إسماعيل: مصر في فجر الإسلام، ص122.
[11] جعيط: المرجع نفسه.
[12] الطبري: 4/452.
[13] المصدر نفسه: ص437.
[14] المصدر نفسه: ص444، 445.
[15] المصدر نفسه: ص429. ووحش معناها متألم.
[16] الطبري: 4/448، 449، 458، 459.
[17] المصدر نفسه: ص449.
[18] المصدر نفسه: ص448، 449.
[19] المصدر نفسه: ص459.
[20] جعيط: ص146.
[21] جعيط: ص146.
[22] حسين، طه: الأعمال الكاملة: ص855، وڨلهوزن، يوليوس: الدولة العربية وسقوطها، ترجمة: يوسف العش، ص47، والأناطي، سعيد: عائشة:
ص61، 62، 68-218.
[23] جعيط: الفتنة: ص147.
[24] الطبري: 4/449، 450.
[25] قدَّم يعلى بن منبه خراج صنعاء البالغ ستمائة بعير، أو أربعمائة ألف دينار، وقد جمعه
معه بعد إقالته، ودفع عبد الله بن عامر الحضرمي مالًا كثيرًا وإبلًا. انظر الطبري: 4/452، واليعقوبي: 2/78، 79.
[26] المسعودي: 4/307، وبيضون: الإمام علي: ص59.
[27] إبراهيم: ص283.
[28] ابن قتيبة: 1/50، 51.
[29] ابن أبو الحديد: نهج البلاغة: 1/81.
التعليقات
إرسال تعليقك