الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
عمارة المآذن لها اهتمام كبير في الحضارة الإسلامية لما تمثله من مكانة وأهمية دينية كبيرة لدى المسلمين، فهي لدى المسلمين كعرائس السماء التي تزين مساجدهم
"أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ" كان يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال أوَّل مؤذِّنٍ في الإسلام؛ ليرفع نداء الحقِّ سبحانه وتعالى، وعلى الرغم من ذلك الارتباط الوثيق بين الصلاة والآذان والمسجد فإن المآذن كما نعهدها الآن لم تظهر في المساجد الأولى؛ إذ كان بلال يُؤذِّن للصَّلاة من مكان عالٍ بجوار المسجد النبوي الشريف.
ويُعدُّ المسجد النبويِّ وتخطيطه الأوَّل هو الأساس الذي اعتمد عليه المسلمون في بناء مساجدهم في شتَّى بقاع العالم الإسلامي، ويرتكز ذلك التخطيط للمسجد على عناصر وظيفيَّة لم تكن المئذنة من بينها بطبيعة الحال، إلَّا أنَّه مع امتداد رقعة الإسلام لتشمل مناطق واسعة مأهولة بالسكان وتزخر بالعمائر والقصور، ظهرت الحاجة إلى وجود مكانٍ مرتفعٍ يشرف على تلك المناطق، ومن هنا بزغ دور المئذنة وظهرت الحاجة إليها.
ولذا، اهتمَّ المعماري المسلم منذ العصور المبكِّرة في الإسلام بجعل المئذنة أعلى جزءٍ في المسجد، ولكن كيف ظهرت المئذنة؟ وكيف تطوَّرت إلى شكلها الحالي؟!
أول مئذنة في الإسلام
يدور خلافٌ كبيرٌ بين المؤرِّخين والأثريِّين حول أوَّل مئذنةٍ بُنيت في الإسلام وأصلها، فبينما يذكر "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان" أنَّ أوَّل مئذنةٍ شُيِّدت كانت على يد "زياد بن أبيه" عامل "معاوية بن أبي سفيان" في مدينة البصرة عام (45هـ=665م).
بينما ينقل "المقريزي" إلينا أنَّ صوامع جامع عمرو بن العاص الأربع التي بناها "مسلمة بن مخلد" والي مصر في زمن حكم الأمويِّين عام (53هـ=672م) أوَّل مآذن في الإسلام.
لكن أيًّا كان الأمر، فإنَّه تبرز حقيقة هامَّة أنَّ أوامر بناء المآذن صدرت في عهد خلافة الأمويِّين لعمَّالهم في الأمصار والمدن الإسلاميَّة.
المآذن والأبراج
واحتدم خلافٌ أكبر بين الأثريِّين والمؤرِّخين حول أصل المئذنة الإسلاميَّة، وهل تأثَّرت بالطرز المعماريَّة البيزنطيَّة، ونماذج أبراج الكنائس والمعابد لدى اليونانيِّين والإغريق؟
حيث يرى بعض المؤرِّخين أنَّ منارة الإسكندريَّة "فاروس" التي تقع مكانها الآن قلعة قايتباي، كانت الأساس الذي اشتُقَّت منه مآذن جامع عمرو بن العاص، ومن هنا أُطلِق عليها اسم المنائر، ولكن يدحض تلك الرواية أنَّ هناك مسافة زمنيَّة تفصل بين منارة الإسكندريَّة ومنارات جامع عمرو بن العاص.
ويذهب المروِّجون لرواية أنَّ المئذنة أصلها أبراج الكنائس المسيحيَّة إلى مدًى أبعد، حينما يُشيرون إلى أنَّ الوليد بن عبد الملك أبقى على أبراج الكنائس الرومانيَّة حينما شيَّد المسجد الأموي بدمشق عام (96هـ=715م)، ورفع بعضها لتُصبح كلُّها على ارتفاعٍ واحد.
ويُؤكِّدون أنَّ المئذنة الأمويَّة المربَّعة المسقطة التي سيطرت على شكل المآذن في المغرب وبلاد الأندلس حتى الآن، أصلها الطرز المعماريَّة البيزنطيَّة.
ولكن من المؤكَّد أنَّ المعماري المسلم بفطرته جعل من المئذنة عنصرًا معماريًّا في المسجد يختلف جماليًّا وهندسيًّا ووظيفيًّا عن أبراج وصوامع الكنائس البيزنطيَّة، وجاءت الإضافة المحلِّيَّة لكلِّ قطرٍ إسلاميٍّ لتُؤكِّد أنَّ المئذنة هي رمزٌ خالصٌ نقيٌّ يرتبط بالإسلام.
فقد كانت دومًا الأطراف العليا تُميِّز المئذنة عن أبراج الكنائس؛ وذلك لأنَّ الأذان يتطلَّب شكلًا خاصًّا لنهاية المئذنة، سواء كانت ذات شكلٍ مربَّعٍ أو مستدير، بينما تتطلَّب الأجراس في أبراج الكنائس شكلًا آخر للنهاية.
فمن الناحية الهندسية كانت القاعدة المربَّعة للمئذنة تنتهي بشرفةٍ تسمح بأن يدور المؤذِّن حول بدن المئذنة للدعوة للصلاة، وتعلو تلك الشرفة أخرى أقلُّ قطرًا تلتفُّ حول جوسقٍ علويٍّ تُغطِّيه قبَّة، وأدقُّ دليلٍ على ذلك هو مئذنة جامع "القيروان"، التي تُعدُّ أقدم مثالٍ للمآذن في العصور الإسلاميَّة المبكِّرة؛ حيث شُيِّدت عام 221هـ.
ويُدلِّل "د. فريد شافعي" في موسوعته "العمارة العربيَّة في مصر الإسلاميَّة" على ذلك بأنَّ المنارات والمآذن المباركة -خاصَّةً في فترة حكم الولاة في مصر (21-358هـ= 642-969م)- ترتفع عن مستوى الأرض في تكوين معماري مترابط يكاد يكون منفصلًا عن المسجد، وقد يتَّصل به بواسطة الجدران الخارجيَّة أحيانًا على عكس أبراج الكنيسة، التي كانت داخل وحدات التكوين المعماري للبناء.
علاوةً على ذلك، فإنَّ طراز الأبراج العالية المربَّعة أو المستديرة ليست حكرًا على عصر أو حضارة بذاتها كالحضارة الرومانيَّة والبيزنطيَّة؛ بل هو طرازٌ قديمٌ عرفته الحضارات منذ القديم.
تطور المئذنة وجماليتها
التكوين المعماري للمئذنة الأمويَّة يتلخَّص في جسمٍ مربَّعٍ يرتفع عن بناء المسجد، ولقد انتقل هذا الطراز -كما أسلفنا- إلى المغرب العربي وبلاد الأندلس منذ مسجد القيروان حتى الآن.
ولم تقف العمارة الإسلاميَّة خاصَّةً في بلاد المشرق عند الشكل المربَّع للمئذنة، فما لبثت أن تطوَّرت ابتداءً من القرن (السادس الهجري= الثاني عشر الميلادي)، واختلف تصميم المآذن مع مرور الزمن واختلاف المدن الإسلامية.
فنجد المئذنة الحلزونية التي ظهرت في سامراء بالعراق، ومئذنة جامع أحمد بن طولون في القاهرة (226هـ=879م) التي يُطلق عليها المئذنة الملوية، ثم ظهرت بعد ذلك المئذنة ذات المسقط الدائري والمنجم وأبدانها مضلَّعة أو مخروطيَّة أو أسطوانيَّة، ولقد كان للعمارة المملوكيَّة الفاطميَّة تأثيرٌ كبيرٌ على شكل المئذنة وتنوُّعها وزخارفها، ثم طراز أسطواني يضيق لأعلى في الأناضول وفارس والعراق، وأكثر ما يُمثِّله مئذنة جامع محمد علي بالقاهرة ومساجد إسطنبول بتركيا؛ حيث تُشبه في رشاقتها واستقامتها ونهايتها المدبَّبة القلم الرصاص.
تناغم المعمار
وتتكوَّن المئذنة معماريًّا أيًّا كان موقعها في المسجد من مدخلٍ يكون داخل الصحن، ثم درج الصعود، وهو عادةً ما يكون حلزونيًّا داخليًّا يدور حول محور المئذنة، ويصل إلى الشرفات المرتفعة التي تُحيط ببدن المئذنة، ولموقع الشرفة ودورانها وظيفةٌ هامَّة؛ حيث يقف المؤذِّن عليها ليرتفع الأذان، ويجب أن تُحيط بالمئذنة كدائرة ليدور المؤذِّن معلنًا نداء الحقِّ في كلِّ الجهات الأربع.
والجزء الثالث للمئذنة هو "الجوسق" تعلوه قبَّة المئذنة التي تنتهي بهلالٍ تتَّجه فتحته نحو القبلة، والطريف أنَّ مئذنة جامع أحمد بن طولون كانت مزوَّدة بشكل خوذةٍ على شكل سفن النيل، تدور مع الشمس أو الهواء، وتُضاء ليلة النصف من شعبان.
ومن الجدير بالذكر أنَّه بسبب علوِّ المئذنة خاصَّةً في المدن الكبيرة أُثيرت قضايا اجتماعيَّة عديدة، ويرجع هذا لإشراف المؤذِّن على صحون الدور المحيطة بالمسجد؛ ولذا توصَّل المسلمون إلى حلولٍ عدَّة منها ما كان تقليدًا متَّبعًا، وهو أن يكون مؤذِّن الجامع الأزهر مكفوفًا.
النحت في الفراغ
يذهب الكثيرون إلى أنَّ المعماري المسلم في تقسيمه للمئذنة لعدَّة أقسام تفصلها شرفات يتناقص طولها مع الارتفاع، أعطى دلالةً نفسيَّةً كبيرة؛ حيث يجذب نظر المشاهد إلى أعلى محقِّقًا قاعدةً معماريَّةً هامَّة في العمارة؛ وهي الانسجام في الارتفاع، ممَّا يُعطي راحةً للمبصر، علاوةً على إحساسه بجلال المبنى وقداسته.
ويقول "د. ثروت عكاشة": إنَّ المعماري المسلم حقَّق فكرة الاتجاه لأعلى بطريقة دراميَّة في ابتكاره للمئذنة؛ ففي قاهرة المعزِّ نرى المآذن سامقةً تشمخ فوق المباني وكأنَّها واحدةٌ من عرائس الجامع.
وتُكوِّن المئذنة مع قبَّة المسجد تشكيلًا هندسيًّا متوازنًا في الفضاء، ولا تستقيم رؤية جامع دون قبَّةٍ أو مئذنة؛ حيث يتكوَّن فراغ المبنى، وتقف العين عن اتِّجاه حركتها الطبيعي لأعلى، ويتكامل لدى نفس المشاهد والمصلِّي معنى السموِّ والرقيِّ من المئذنة، ومعنى السكون والهدوء والتواضع من القبَّة.
مبخرة وقلم رصاص وبصل
وتُمثِّل مآذن القاهرة -ذات الألف مئذنة- نموذجًا حيًّا للتطوُّر المعماري والجمالي للمئذنة؛ فقد كان الجرس في البداية هو أداة الإعلان عن الأذان في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط عاصمة مصر مع الفتح الإسلامي حتى عام (672م=53هـ)، حينما شيَّد مسلمة بن مخلد أربع صوامع في كلِّ ركنٍ من أركان جامع عمرو بن العاص، وفي القرن الثالث الهجري شيَّد أحمد بن طولون جامعه وبه المئذنة الملوية، التي تُعدُّ من أقدم المآذن بمصر، وهي على غرار مئذنة جامع سامرَّاء بالعراق.
حيث تتكوَّن مئذنة جامع أحمد بن طولون من قاعدةٍ مكعَّبةٍ يعلوها جزءٌ أسطوانيٌّ له سلَّمٌ خارجي ملوي، في أعلاه مثمَّنات لها سلالم داخليَّة تنتهي بصفوف من المقرضات، وتنتهي قمَّتها بطاقيَّة مضلَّعة.
ويليها في القدم مئذنتا جامع الحاكم بأمر الله بالقرب من باب الفتوح، وتتكونان من قاعدة هرمية وبدن أسطواني، وقد جددهما بيبرس الجاشنكير عام (1303م=702هـ) بعد دمارها في زلزال بثلاث شرفات، وتوَّجهما بقبَّةٍ على شكل مبخرة.
وتُمثِّل مئذنة الجيوشي بالمقطم -التي مازالت كما هي- أهميَّةً كبيرةً في تطوُّر المآذن في مصر في العصر الفاطمي والأيوبي، وهي تتكوَّن من قاعدةٍ مربَّعةٍ يعلوها مثمن ينتهي بمبخرة، ومن هنا تطوَّر شكل المئذنة إلى ما أُطلق عليه اسم "المبخرة"، الذي شاع استخدامه في العصر الأيُّوبي حتى منتصف القرن (الرابع عشر الميلادي=الثامن الهجري)، مثل مئذنة جامع الصالح نجم الدين أيوب".
ومع عصر المماليك بدأ تطوير طراز المآذن المبخرة؛ حيث أصبح الطابق العلوي من المئذنة مستديرًا، وتطور ذلك إلى قاعدة مربعة يليها جزء مثمَّن يليه جزء مستدير ذو جوسقٍ أُقيم على أعمدةٍ تُسمَّى "قلل"، مثل مئذنة قبة "سلارو سنجر الجاولي".
ومع الوقت اتجهت قاعدة المئذنة إلى الانخفاض مثل قاعدة جامع "المارداني" بالدرب الأحمر، وجامع "برقوق"، وارتفاع الجزء الأوسط الثماني مثل مئذنة مدرسة "منصور قلاوون" بالنحاسين.
واتسمت مآذن دولة المماليك الجراكسة بتناسق نسبها وانسجامها مع أجزاء المسجد، ويمثلها مئذنة مسجد برقوق بالنحاسين عام (1384م=786هـ).
وفي نهاية القرن الثامن الهجري ظهرت مآذن في مصر ذات رءوس مزدوجة بصليَّة الشكل، مثل: مئذنة "قايتباي الرماح" (908هـ)، ومئذنة مسجد "الغوري" ذات الأربعة رءوس أعلى القمَّة (915هـ).
ومع الفتح العثماني لمصر عام (1517م=923هـ) دخل طراز المآذن السائد في إسطنبول؛ حيث زادت طولًا وارتفاعًا، وقلَّت ضخامتها وتعدَّدت أضلاعها، وكانت تنتهي بقمَّة مخروطيَّة مدبَّبة مثل القلم الرصاص، واستمرَّ ذلك الطراز حتى أسرة "محمد علي"، مثل مئذنتي جامع محمد علي بالقلعة.
التعليقات
إرسال تعليقك