الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تُعتبر المدرسة الأحمدية منارة حلب في العصر العثماني، ومن أشهر المعالم التاريخية والدينية والعلمية بحلب، فماذا عن تاريخها وعمارتها وأوقافها؟
المدرسة الأحمدية في حلب، واحدةٌ من أشهر المعالم التاريخيَّة والدينيَّة والعلميَّة في المدينة خلال العصر العثماني، تقع في حيِّ الجلوم الكبرى في زقاق بني الجلبي، أنشأها أحمد أفندي بن طه زادة أفندي، الجلبي، وذلك سنة (1165هـ=1751م)، وأوقف بها أوقافًا كثيرة، وكان بها مكتبةٌ عامرة، بها نوادرٌ من المخطوطات.
موقع المدرسة الأحمدية
تقع المدرسة الأحمدية في حيِّ الجلوم الكبرى في زقاق بني الجلبي "جادة عبد الله سلام" حاليًّا، أمام باب جامع البهراميَّة الشرقي في حلب، قال الشيخ كامل الغزي (1271-1351هـ= 1853-1933م) في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب: "وكان هذا الزقاق يُعرف بدرب السبيعي نسبةً إلى الحسن بن أحمد بن صالح الحافظ الهمذاني السبيعي الحلبي من أولاد أبي إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق له ترجمةٌ في كلام الذهبي وغيره، وكان حافظًا، متقنًا، رحَّالًا، عالي الرواية، خبيرًا بالرجال والعلل، فيه تشيُّعٌ يسير، تُوفِّي سنة 371هـ".
ودرب السبيعي هو أحد الدروب التي تتفرَّع عن أسواق المدينة القديمة، بل كان من أهمِّها وأفضلها، وخلال فترة الحكم العثماني فقد هذا الدرب اسمه، ودُعي بـ"درب البهراميَّة" أو "زقاق البهراميَّة" نسبةً إلى "جامع البهرامية" الذي بُني في الموقع، وبقي هذا الاسم -أي درب البهراميَّة- شائعًا إلى أن قام "أحمد أفندي بن طه أفندي" الملقَّب بـ"الجلبي" ببناء مدرسته الرائعة التي عُرفت بالمدرسة الأحمدية، وذلك في العام (1165هـ=1751م)، فنسي الناس اسم "درب البهراميَّة"، وأطلقوا على الموقع اسم "درب بني جلبي" نسبةً إلى لقب باني المدرسة وهو "الجلبي".
منشئ المدرسة الأحمدية
أنشأ المدرسةَ الأحمدية أحمدُ أفندي بن طه زادة أفندي بن مصطفى أفندي، الشهير بالجلبي، وذلك سنة (1165هـ=1751م) وفقًا للكتابات الموجودة فوق بابيها (الخارجي والداخلي) وفوق باب القبلية.
بنى الواقف أحمد أفندي الجلبي بادئ الأمر مدفنًا لوالده، ثم بنى مدرسةً ملاصقةً له من الطرف الشرقي، واشترط أن يكون المجاورون العشرة فيها من أكراد ما وراء الموصل، عندما نُقلت مخطوطاتها إلى "المدرسة الشرفيَّة العائدة إلى مديريَّة الأوقاف في حلب، وعاد الدرب إلى اسمه السابق وأصبح يُعرف بــ"زقاق البهراميَّة".
تاريخ المدرسة الأحمدية
كانت المدرسة الأحمدية مزدهرةً في العهد العثماني ومنارةً للعلم والعلماء، وقد جعلها بانيها مدرسةً ومدفنًا ومكتبةً عامرة بالمخطوطات النادرة والنفيسة، وكذلك دُفِن فيها كبار عائلة "بني الجلبي"، وقد أوقف بانيها عليها مكتبةً شهيرة، وهي من أشهر خزائن الشام في وقتها، يقول محمد كرد علي: "في الخزانة الأحمدية بحلب المباحث المشرقية للفخر الرازي، والوافي للصفدي، ومختصر تاريخ الذهبي المسمَّى بالعيار، وتاريخ الذهبي في سبعة مجلَّدات، ودر الحبب في تاريخ حلب لابن خطيب الناصريَّة في مجلَّدين، والتفسير المهمل للفيض الهندي، ومثير الغرام لزيارة القدس والشام".
وأصبحت هذه المدرسة منذ نحو عام (1300هـ=1882م) دارًا للبطالة، ثم تعطَّلت خلال الحرب العالمية الأولى وأصبحت خاليةً من الطلاب بتاتًا، وفي النصف الثاني من القرن العشرين انطفأت شهرة هذه المدرسة وتضاءلت أهميَّتها العلميَّة، أمَّا مكتبتها الشهيرة التي كانت تضمُّ أعدادًا كبيرةً من المخطوطات، فقد بقي منها حتى عام 1908م (1467) ألفٌ وأربعمائةٌ وسبعةٌ وستُّون كتابًا فقط، نُقِلَت إلى المكتبة الوقفيَّة في المدرسة الشرفيَّة في حلب، التي نُقِلَ قسمٌ كبيرٌ من مخطوطاتها مؤخَّرًا إلى مكتبة الأسد في دمشق.
ترميم المدرسة
وكان قد رُمِّمت المدرسة الأحمديَّة عام 2006م، ضمن خِطَّةٍ لجعلها لاحقًا مكانًا لمتحف الآثار العثمانية.
التخطيط العمراني للمدرسة الأحمدية
يضم المسقط الأفقي للبناء مدرسة ملحق بها مكتبة وغرفة دفن؛ إذ تتألَّف المدرسة من باحة متوسِّطة (صحن) يُحيط بها أروقة من الجهات الأربع، تقع القبليَّة خلف الرواق الجنوبي وعلى طرفها الغربي مكتبة، وعلى طرفها الشرقي غرفتان.
ويوجد خلف الرواق شرق الباحة بدءًا من الجنوب درج يصعد إلى السطح، يليه ثلاث غرف للطلاب المجاورين (خلوات)، ومطبخ يليه دورات للمياه. وخلف الرواق شمالًا: بدءًا من الشرق حاصل للمياه، يليه أربع خلوات. وخلف الرواق غربًا: بدءًا من الشمال فراغ يليه غرفة، ثم المدخل، ثم الجدار الفاصل بين المدرسة والباحة الصغيرة التي تتقدم المدفن.
تصميم المدفن:
تقع غرفة المدفن في الزاوية الجنوبيَّة الغربيَّة للمدرسة، وتتألَّف من مدخل يُؤدِّي إلى باحةٍ صغيرة، يضمُّ الجدار الشرقي للباحة نافذتين تُطلَّان على رواق المدرسة خلفهما، ويحدُّها شمالًا غرفة الحارس، ويحدُّها جنوبًا غرفة المدفن الرئيسة، التي يوجد بداخلها مسطبتان أسفل الجدارين الشرقي والغربي، تضمُّ المسطبة الغربية في طرفها الجنوبي قبر الواقِف، وهو من الرخام المزخرف، كُتِب عليه: "المرحوم أحمد أفندي طه زادة المتوفَّى سنة 1187ه". وأمام الجدار الغربي ضريح والد الواقف.
أمَّا المسطبة الشرقية ففيها تسعة قبور؛ أحدها حديث، وبعضها مزخرف بزخارف نباتية جميلة، بُنِيت أرضية المسطبتين بحجارة كبيرة مربوطة ببعضها بصبَّةٍ من الرصاص والحديد، أمَّا سقف المدفن فهو قبوٌ متقاطعٌ يرتكز في زوايا الغرفة الأربع على بروزات مقرنصة.
تضمُّ واجهة المدفن المطلَّة على الباحة الصغيرة -والمبنيَّة بمداميك بيضاء- نافذةً وبابًا يعلو كلًّا منهما قوسٌ مجزوءة، وفوق الباب لوحةٌ من الرخام الأبيض تضمُّ نصًّا، لها إطارٌ من الرخام الأسود، وهناك فوق النافذة شريطٌ من الزخرفة النباتيَّة التي تستمرُّ لتُحيط باللوحة.
تصميم المدرسة:
يُدْخَل إلى المدرسة عبر بوابةٍ قليلة العمق، على طرفيها مكسلتان (مقعدان) صغيرتان حجريَّان، يدخل منها إلى ردهةٍ صغيرةٍ تفتح عليها كتلة المدخل الرئيس للمدرسة الذي تتقدَّمه سبع درجات، وتعلوه قوسٌ مجزوءةٌ فقراتها مزرَّرةٌ بسيطة، يُتَوصَّل منه مباشرةً للباحة الكبيرة (الصحن) التي تتوسَّط المدرسة وهي مربَّعة الشكل، تُحيط بها أروقةٌ من الجهات الأربع، وفي وسطها بركة ماء مضلَّعة (12 ضلعًا) لها سياجٌ مرتفع، ويضمُّ كلُّ ضلعٍ من أضلاعها قوس حدوة الفرس المدبَّبة العثمانيَّة ذات المراكز الأربعة المصمتة، فيها صنبور ماء للوضوء، فوق السياج أعمدة ملتحمة مع السياج صغيرة، لها تاج مقرنص، وتحمل أقواسًا على شكل حدوة الفرس المدبَّبة ذاتو المراكز الأربعة، ويتوِّج الجميع من الأعلى شريط من المثلَّثات الكُرَوِيَّة.
للبِرْكَةِ سقفٌ هرميٌّ مضلَّعٌ خشبيٌّ يضمُّ 12 ضلعًا، ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه المدرسة هي الوحيدة من مدارس حلب التي تضمُّ بركةً مازالت مسقوفة؛ حيث ذكرت المراجع أنَّ البركة في المدرسة الصلاحيَّة التي تعود إلى العهد المملوكي كانت مسقوفةً أيضًا.
تقوم البئر شرق البركة على قاعدةٍ متوازية المستطيلات، تتحوَّل في الأعلى إلى شكلٍ مضلَّعٍ يضمُّ 12 ضلعًا، وتُحيط بباحة المدرسة أروقةٌ من الجهات الأربع، أكبرها الرواق أمام القبليَّة، وهو يرتفع عن الباحة بدرجتين، وينقسم بوساطة قوسين كبيرتين مدبتبين إلى ثلاثة أقسام، سُقِف كلُّ قسمٍ منها بقبَّةٍ من دون رقبة، ترتكز الوسطى منها على صفٍّ من المقرنصات، والانتقال من الشكل المربَّع إلى الشكل الدائري يتمُّ بوساطة المثلَّثات الكرويَّة، أمَّا الأروقة الثلاثة الباقية فقد سُقِف كلٌّ منها بسقفٍ مستوٍ من الحجارة الكبيرة والمستطيلة ترتكز على بروزات في ذروة الجدران.
القبلية في المدرسة صغيرة مربعة، تطل على الرواق أمامها بباب على كل من طرفيه نافذة، كما تتصل غربًا بالمكتبة بباب داخلي، وعلى كل من طرفيه خزانة. أما الجدار الشرقي فيضم ثلاث خزن جدارية. يسقف القبلية قبة تقوم فوق رقبة أسطوانية تضم 12 شمسية، يعلو كل منها قوس حدوة الفرس المدببة العثمانية ذات المراكز الأربعة، وتبدو من الداخل من دون رقبة، وترتكز في الأسفل على صفٍّ من اللسينات، والانتقال من الشكل المربَّع إلى الشكل الدائري يتمُّ بالمثلَّثات الكرويَّة.
والمحراب مجوَّف، سقفت حنيته بمقرنصات تنتهي بنصف قبيبة مفصَّصة على غرار النوع الذي شاع في الفترة العثمانية، وله ناصيتان مجوَّفتان تضمُّ كلٌّ منهما عمودًا مدمجًا، له تاجٌ مزخرفٌ بأشكالٍ نباتيَّةٍ وقاعدةٍ مقرنصة، ويعلو المحراب تاجٌ مزخرفٌ بنقوشٍ نباتيَّة، ويُحيط به إطار، وعلى طرفيه ظفران مزخرفان بخطوط متضافرة وأشكال نباتيَّة، ولا يوجد في هذه القبلية منبرٌ أو سدَّة.
وإلى الغرب من القبليَّة هناك غرفةٌ كبيرةٌ يقسمها حاجز من البرامق الخشبية الجميلة إلى قسمين، يتَّصلان بباب، ويغطِّي كلًّا من القسمين قبوٌ متقاطع.
وهناك شرق القبلية غرفتان أكبر حجمًا من باقي الغرف، ربما كانت إحداهما أو كلتاهما مخصصة للأساتذة. وهناك ثماني غرف أخرى للمجاورين يختلف حجمها من غرفة إلى أخرى، تطل كلٌّ منها على الرواق أمامها بنافذةٍ وباب، وتضمُّ خزانة جدارية أو أكثر، ومدفأة، سُقِفت الغرفة شمالي المدخل بقبوٍ متقاطع، أمَّا بقيَّة الغرف فسُقِفت كلٌّ منها بقبوٍ متطاول.
يضم جدار القبلية على الطرفين محرابين صغيرين؛ مما يدل على أن هذا الرواق كان يستعمل للصلاة. يرتفع الرواق أمام القبلية عن الباحة بدرجتين، وهو أكثر الأروقة ارتفاعًا وعرضًا. ويطل على الباحة بثلاث أقواس مدببة - الوسطى هي الكبرى - ترتكز على عمودين مقرنصين في الوسط ودعامتين عند التقاء هذا الرواق الرواقين (الشرقي والغربي) في الطرفين.
تضمُّ البوابة بابًا تعلوه قوس مجزوءة مزرَّرة، يوجد فوقه لوحةٌ ضمن إطار كتب فيها نصٌّ يدلُّ أنَّ المبنى: مسجد ومدرسة وتربة.
وللمدرسة واجهة خارجية مهمَّة رئيسة تتجه للغرب، وتتكون بدءًا من الجنوب من نافذتين مستطيلتين تعودان للمدفن، يعلو كلًا منهما عتب حجري مؤلف من قطعة واحدة. وبين النافذتين في الأعلى شمسية تعلوها قوس حدوة الفرس المدببة العثمانية ذات المراكز الأربعة. يلي ذلك واجهة التربة، وهي تضم ثلاث نوافذ يعلو كلًا منها قوس مجزوءة مزررة بسيطة.
يليها واجهة المدخل وهي بوابة قليلة العمق، على طرفيها مكسلتان صغيرتان، يحدُّها من الأمام قوسٌ كبيرةٌ مدبَّبة فوقها شريط زخرفي من المثلثات الكرويَّة يليها إلى الأعلى شطبة مائلة تُساعد على الانتقال من مستوى البوابة -البارز قليلًا- إلى مستوى الحائط خلفها.
_______________
المصادر والمراجع:
- كامل الغزي: نهر الذهب في تاريخ حلب، الناشر: دار القلم – حلب، الطبعة: الثانية، 1419هـ.
- محمد راغب الطباخ: إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، الناشر: دار القلم – حلب، 1988م.
- محمد كرد علي: خطط الشام، الناشر: مكتبة النوري – دمشق، الطبعة: الثالثة، 1403هـ=1983م.
- أسعد طلس: الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب، الناشر: مديرية الآثار العامة بسوريا، 1956م.
- فؤاد عنتابي ونجوى عثمان: حلب في مئة عام، جامعة حلب، 1993م.
- لمياء الجاسر: المدرسة الأحمدية، موسوعة الآثار السورية، آثار إسلامية، ص235.
- نضال يوسف: المدرسة الأحمدية، موقع آثار مدينة حلب.
التعليقات
إرسال تعليقك