الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن العدل من الأخلاق الأساسية التي أرى أن البشرية تحملها في أعماقها منذ القديم؛ بل كان لا بد للبشرية أن تحملها لكي تستطيع أن تحيا على هذه الأرض، وإلا
ما الأخلاق الأساسية؟
شهد التاريخ الإنساني اختلافًا واسعًا في المنظومات الأخلاقيَّة للشعوب، ثُمَّ أتى عصر الكتابة والتدوين والتفكير والفلسفة، فتوسَّع في نقاش هذه المنظومات الأخلاقيَّة، وصنع جدالًا لا يبدو أنَّه سينتهي حول الأخلاق، كان من ضمن عناصره الحيَّة والثريَّة والمـُحْتَمِلة للجدل فكرة "ترتيب الأخلاق"، أو وضع الهيكل للمنظومة الأخلاقيَّة البشريَّة؛ أيُّ الأخلاق يستحقُّ أن يكون في موقع الصدارة، وأيُّها يُمكن أن يحتلَّ المواقع الخلفية؟ وأيُّ الأخلاق يسع الإنسانيَّة أن ترفضه، أو حتى تهمله وتتخلَّى عنه؟ ثُمَّ أيُّها الذي يُمَثِّل غيابه تهديدًا خطرًا ومؤثِّرًا؟ وما الذي جعل البشر يختلفون في منظوماتهم الأخلاقيَّة؛ فلا يتَّفِقُون على منظومةٍ واحدة؟ وهل ثَمَّة تفسير أخلاقي -أي من زاوية المنظور الأخلاقي- يستطيع أن يقول: لماذا بقي بعض الناس آلاف السنين في الشكل البدائي لا يكادون يتطوَّرون؟ ولماذا استطاع غيرهم أن يتطوَّر -وبسرعة أحيانًا- لكي يُقيم حضارات واسعة وعريقة؟ ثُمَّ هل ثَمَّة تفسير أخلاقي يُفَسِّر سقوط الحضارات الكبرى وانهيارها؟
وما زالت جوانب البحوث تتَّسع ويُؤخذ منها ويُرَدُّ، وما زال العلماء والفلاسفة والمؤرخون يُحاول كلٌّ منهم أن يُدلي بدلوه في صناعة تفسير وصياغة إجابات لهذه الأسئلة، ومن منطلق قراءتي للتاريخ ومسار الحضارات واستنادًا إلى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية أستطيع أن أُمَيِّزَ بين نوعين، أو بالأحرى مستويين من الأخلاق.
المستوى الأوَّل: هي الأخلاق التي لا بُدَّ منها لحياة مجموعةٍ من البشر، التي إذا غابت تصير هذه المجموعة في حالةٍ من القلق والاضطراب يُؤَشِّر إلى الفناء. والمستوى الثاني: هي الأخلاق التي يُمَثِّل وجودها إضافةً إنسانيَّةً مهمَّة في حياة الجماعة البشريَّة، بينما يُؤَثِّر غيابها بالسلب على جمال الحياة ومستواها الإنساني، ولكنَّه غيابٌ لا يُؤَدِّي إلى المراحل المتأخِّرة من القلق والاضطراب؛ ومن ثَمَّ الفناء.
وعلى هذا فنحن أمام تقسيمٍ كبيرٍ للمنظومة الأخلاقيَّة البشريَّة؛ تقسيم يَخُطُّ حدَّ الضرورة ثُمَّ يخطُّ حدَّ الجمال والكمال، ونستطيع أن نقول باطمئنان: إنَّ المجتمعات البشريَّة القائمة التي قامت ذات يومٍ على هذه الأرض استطاعت الاحتفاظ لنفسها بمجموعةٍ من الأخلاق التي مَثَّلَت الحدَّ الأدنى للوجود البشري، ثُمَّ قامت الحضارات بالبناء على هذا الحدِّ الأدنى لتصل إلى الجمال والكمال، ولكن تظلُّ المحاولة بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التحديد والتوضيح، فما تلك الأخلاق التي تُمَثِّل الحدَّ الأدنى للوجود البشري؟ ومن ثَمَّ تمثِّل الحدَّ الأدنى من مستوى التعاون بين الناس، وهي بالتالي تُمثِّل الإطار الذي نتخوَّف من انتهاكه أو الخروج عليه.
ومن واقع ما خَلُصت إليه عبر القراءة في التاريخ والواقع، فإنِّي أرى أنَّ هذه الأخلاق التي يُمكن أن يتَّفق عليها جميع الناس وتصلح لأن تُمثِّل قاعدةً ينطلق منها التعاون الإنساني- تنحصر في ثلاثة أخلاق أساسيَّة: الصدق، والأمانة، والعدل. إنَّني أجد في جميع الثقافات البشريَّة بما فيها الأديان السماويَّة، والفلسفات القديمة، حتى ثقافات الشعوب التي عاشت في عزلة حضاريَّة ما يُؤَسِّس لهذه الأخلاق الأساسيَّة.
العدل
إنَّ العدل لَمِنَ الأخلاق التي اتَّفقت عليها الإنسانيَّة عبر العصور والحضارات؛ فإنَّنا نجد في الإسلام أمرًا صريحًا وبلهجةٍ قويَّةٍ في القرآن الكريم: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل: 90]، وهذا فيما بين المسلمين أو فيما بين غيرهم؛ قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].
ولا مكان في ساحة العدالة لأيِّ صلات نسبٍ أو قُربى أو مودَّة؛ فقد قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152]. وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء: 135].
بل لقد أمر الإسلام بالعدل حتى مع كراهية الخصوم؛ قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
واعتبر الإسلام قول الزور جريمة؛ فأوصى القرآن الكريم المسلمين باجتنابه، قال سبحانه وتعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 30]. وصرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ شهادة الزور من أكبر الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟". ثَلاَثًا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ". قال: فما زال يكرِّرها حتَّى قلنا: لَيْتَهُ سَكَتَ[1].
ومن ارتكب ظلمًا فقد باء بالخسران الكبير يوم القيامة؛ قال سبحانه وتعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه: 111]. وقال عز وجل: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) [الفرقان: 19]. وقال جل جلاله: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 57].
وقد دعا الإسلام إلى التعاون على الخير وما فيه نفع الإنسانية، ولم ينسَ في الوقت نفسه أن يُشَدِّدَ في النهي عن الاجتماع على الظلم والتعاون على مخالفة العدل؛ قال سبحانه وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]. بل لقد لعن الله الذين تتفشَّى فيهم الأفعال والأخلاق السيئة، ثم لا يبذلون محاولة في القضاء عليها، قال سبحانه وتعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78، 79].
وكتب الله في القرآن الكريم أنَّ الذي قتل نفسًا واحدةً بظلمٍ كان كمن قتل كلَّ الناس، قال عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32]. وعبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن خطورة القتل في الدين بأنَّ المرء ما يزال متعلِّقًا بأمل شديد في الله أن يغفر له ذنوبه ما لم يرتكب جريمة القتل، قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا"[2].
وإنَّ الأمر بعدم القتل هنا والتحذير منه عامٌّ يشمل نفوس المسلمين وغير المسلمين؛ إذِ العدل في الشريعة مطلقٌ لا يتجزَّأ، ومن ثَمَّ فلكلِّ إنسانٍ حقُّه في الحياة الحرَّة الكريمة، وفي صيانة العرض والأموال وجميع الحقوق من أيِّ عدوان[3].
وقرَّر القرآن العدالة في العقوبة، قال سبحانه وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى) [البقرة: 178].
وجاء في الوصايا من الكتاب المقدس: "لا تقتل"[4]. وفيه -أيضًا-: "لا تقتل البريء والبار؛ لأنِّي لا أُبرِّر المذنب"[5]. وفي الوصايا كذلك: "لا تشهد بالزور"[6].
ونقرأ في سفر اللاويين: "لا تغصب قريبك ولا تسلب، ولا تُبِتْ أجرة أجير عندك إلى الغد. لا تشتم الأصم، وقدَّام الأعمى لا تجعل معثرة، بل اخش إلهك، أنا الربُّ. لا ترتكبوا جورًا في القضاء، لا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك"[7].
وبعد ذلك بقليلٍ تتكرَّر الوصيَّة: "لا ترتكبوا جورًا في القضاء لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل. ميزان حق، ووزنات حق، وإيفة حق، وهين حق تكون لكم"[8].
وفي سفر التثنية نجد التنبيه على العدل مؤكدًا: "العدل العدل تتبع لكي تحيا وتمتلك الأرض التي يعطيك الرب إلهك"[9]. وفي المزامير يُوصف الربُّ بأنَّه عادلٌ يحبُّ العدل: "الربُّ عادلٌ ويحب العدل"[10]. كما يُوصف بأنَّه "الربُّ مُجْرِي العدل والقضاء لجميع المظلومين"[11].
وممَّا وصلنا من تراث المصريِّين القدماء -أقدم الحضارات الكبرى المعروفة- مقطوعة شعريَّة معبِّرة عن خُلق العدالة، تقول:
"لا تطمع في ذراعٍ من الأرض،
ولا تعتدِ على حدود أرملة...
واحرث الحقل حتى تجد حاجاتك،
وخذ خبزك من بيدرك[12]،
وإنَّ قدحًا من الحَبِّ يُعطيكه الله
لخيرٌ من خمسة آلاف تنالها بالعدوان"[13].
وكان من مهمَّات الفرعون في مصر إشاعة العدل، ويتجلَّى هذا بوضوح في الخطبة الفصيحة التي ألقاها الفلاح المصري في حضرة الملك بصيغةٍ ناصحةٍ تقترب من الآمرة، والتي بقيت من ذلك التراث القديم؛ إذ يقول فيها: "يا مولاي... أَجْرِ عدلَ مُلْكِ العدل، واسلك عدالة العدل... واعمل بحسب القول المأثور الذي خرج من فم رع نفسه... قُلِ الحقَّ، وأْتِ العدل؛ فالعدل قوَّة، والحقُّ شيءٌ عظيم، فكلاهما راسخٌ رسوخ الجبال الشوامخ"[14].
ومنذ أقدم نصٍّ نعرفه في أدب العالم القديم -وهو نصائح الحكيم المصري القديم بتاح حتب[15]- نرى فيها العدل: "حَصِّل الأخلاق، وَارْعَ الحقَّ، واعمل على نشر العدالة، وعامل الجميع بصدق"[16].
وفي أقدم الشرائع التي وصلتنا -شريعة حمورابي- قام العقاب في أوَّل الأمر على مبدأ قانون القصاص؛ فإذا كسر إنسانٌ لرجلٍ شريفٍ سنًّا، أو فقأ له عينًا، أو هشم له طرفًا من أطرافه، حلَّ به الأذى نفسه الذي سَبَّبه لغيره، وإذا انهار بيتٌ وقُتل مَنِ اشتراه حُكم بالموت على مهندسه أو بانيه، وإذا تسبَّبَ عن سقوطه موت ابن الشاري، حُكم بالموت على ابن البائع أو الباني؛ وإذا ضَرَب إنسانٌ بنتًا وماتت لم يُحْكَمْ بالموت على الضارب بل حُكِم به على ابنته، ثُمَّ استبدل بهذه العقوبات النوعيَّة شيئًا فشيئًا غرامات ماليَّة، وبدأ ذلك بأن أُجيز دفع فديةٍ ماليَّةٍ بدل العقوبة البدنيَّة، ويحكم على المرأة بالقتل إذا قتلت زوجها لتتزوَّج بغيره[17].
ومن فارس القديمة وصل إلينا منشورٌ ملكيٌّ يُعلن فيه الملك دارا[18]: "لقد أحببتُ العدل وأبغضتُ الكذب، وإرادتي هي ألَّا يلحق ظلمٌ بالأرملة واليتيم، لقد جازيتُ الكذَّاب وكافأتُ الفلاح". وهذا لم يكن مجرَّد إعلان، بل إنَّ هذا الملك الإخميني شهد له حتى بعضُ اليونان -وهم خصومه- بأنَّه كان مشرِّعًا عادلًا ونشيطًا[19].
وفي الصين القديمة لمـَّا سُئِلَ كونفوشيوس: ما قولك في المبدأ القائل: إنَّ الإساءة يجب أن تُجْزَى بالإحسان؟ أجاب بحدَّة: وبأيِّ شيءٍ إذًا تَجْزِي الإحسان؟! لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان"[20].
***
إِذَنْ فالصدق والأمانة والعدل تلك هي الأخلاق الأساسيَّة التي أرى أنَّ البشريَّة تحملها في أعماقها منذ القديم؛ بل كان لا بُدَّ للبشريَّة أن تحملها لكي تستطيع أن تحيا على هذه الأرض، وإلَّا لاستحالت الحياة شيئًا أبشع من حياة الكائنات المفترسة؛ إذ إنَّ الفصائل المتوحِّشة لا تفترس بعضها، وقد رأينا كيف أنَّ الحضارات المختلفة والفلسفات التي تكاد تتناقض لا تلبث أن تتَّفق على هذه الأمور وتتبنَّاها بألفاظٍ مختلفة، وطرائق متنوعة، وأساليب متباينة؛ ممَّا يُؤَكِّد أنَّ الحاجة إلى هذه الأخلاق كانت قائمةً ودائمةً في كلِّ العصور وعلى اختلاف البيئات، ومهما تنوَّع الطيف الإنساني في الطبائع والعادات.
إنَّ هذا المستوى من الأخلاق إنَّما يُمَثِّل الحدَّ الأدنى الذي ينبغي أن يتوفَّر في البشر جميعًا؛ لكي يتحقَّق الحدُّ الأدنى من الحياة التي يُمكن أن تُسَمَّى "إنسانيَّة"؛ هذا الحدُّ الأدنى الذي داعب خيال الفلاسفة والمصلحين والزعماء المخلصين، فاستطاع بعضهم أن يُحَقِّقَه داخل الدائرة التي استطاع التأثير فيها، فيما نجح البعض الآخر بشكلٍ جزئي، بينما بقيت من سيرة بعضهم بعضُ الكلمات التي تذكر أنَّهم سَعَوْا ليُحَقِّقُوا هذه الحياة، وإنَّ خلود هذه الكلمات لدليلٌ آخر يُضاف إلى أدلة إثبات الحاجة البشريَّة الدائمة التي تتوقُ لتحويل هذه المبادئ إلى واقعٍ حيٍّ.
لكن ثَمَّة أخلاقٌ أخرى كثيرةٌ ومتنوِّعة فضَّلتُ أن أُسمِّيها "الأخلاق السامية"، وهي تلك الأخلاق التي تتجاوز ذلك الحدَّ الأدنى لتضع حدودًا ودرجاتٍ أخرى في مدارج السموِّ الإنساني؛ هذه الأخلاق لم تشترك فيها كلُّ الحضارات ولا كلُّ الفلسفات، ممَّا يجعلها خارجةً عن "المشترك الإنساني العام"، ومنتمية إلى ما أسميناه "المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة"؛ حيث نجد أقوامًا اتَّفقت على بعضٍ منها، فيما اتَّفق آخرون على بعض آخر، وبين كلِّ "قوم" و"آخرين" مساحةٌ من المشترك تكبر أو تصغر في بعض الأخلاق.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] البخاري: كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور (2511) عن أبي بكرة، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (87).
[2] البخاري: كتاب الديات (6469) عن عبد الله بن عمر، وأبو داود (4270)، وأحمد (5681)، والحاكم (8029).
[3] راغب السرجاني: التعامل مع غير المسلمين في السنة النبوية، ص51.
[4] سفر الخروج 20/13، وسفر التثنية 5/17، وإنجيل متى 5/21، 19/18، وإنجيل مرقس 10/19، وإنجيل لوقا 18/20.
[5] سفر الخروج 23/7.
[6] إنجيل متى 19/18، وإنجيل مرقس 10/19، وإنجيل لوقا 18/20.
[7] سفر اللاويين 19/13: 15.
[8] سفر اللاويين 19/35، 36.
[9] سفر التثنية 16/20.
[10] سفر المزامير 11/7.
[11] سفر المزامير 103/6.
[12] البيدر: الجرن، والقمح ونحوه بعد دياسه وتقويمه. المعجم الوسيط 1/78.
[13] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/100.
[14] أندريه إيمار، وجانين أوبوايه: تاريخ الحضارات العام.. الشرق واليونان القديمة 1/53.
[15] بتاح حتب: حكيم مصري فرعوني، يُعرف بحكيم الدولة القديمة، عاش من حوالي 4500 عام. انظر: نبيلة محمد عبد الحليم: معالم التاريخ الحضاري والسياسي في مصر الفرعونية، ص157.
[16] محرم كمال: الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء، ص10.
[17] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/208، 209.
[18] دارا XE \F M"دارا" الأول، داريوس الأول: ملك أخميني فارسي حكم في الفترة (521–486 ق.م)، وهو مؤسِّس الإمبراطوريَّة الإخمينيَّة الفارسيَّة، وهو من سمح لليهود بإتمام بناء الهيكل من جديد في عام 515 ق.م بعد السبي البابلي.
[19] أندريه إيمار، وجانين أوبوايه: تاريخ الحضارات العام.. الشرق واليونان القديمة 1/219.
[20] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/58.
التعليقات
إرسال تعليقك