د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
بالرجوع إلى نصوص الكُتب المقدَّسة لدى أتباع الديانات السماويَّة الثلاثة؛ سواءٌ القرآن لدى المسلمين، أو التوراة لدى اليهود، أو الأناجيل لدى
العلم
ربَّما تنهض الأمم والمجتمعات بأشكالٍ مختلفةٍ وبسبلٍ متعدِّدَة؛ فلكلِّ حضارةٍ طبيعتها المتميِّزة عن الحضارة الأخرى، لكنَّ المتأمِّل في تاريخ قيام الحضارات يتبيَّنُ له أنّ العلم وأخذ طُرق المعرفة المختلفة من الأمور المشتركة بين كلِّ الحضارات القديمة والحديثة، بل والبدائيَّة منها؛ ممَّا يجعلنا نُقَرِّر أنَّ العلم يُمثِّل عنصرًا مهمًّا من عناصر المشترك الإنساني العامِّ، الذي تشترك فيه الإنسانيَّة كلِّها.
العلم مقام تشريف آدم عليه السلام
بالرجوع إلى نصوص الكُتب المقدَّسة لدى أتباع الديانات السماويَّة الثلاثة؛ سواءٌ القرآن لدى المسلمين، أو التوراة لدى اليهود، أو الأناجيل لدى المسيحيِّين، نجد أنَّ الله عز وجل شرَّف آدم عليه السلام على جميع المخلوقات -ومنهم ملائكته- بالعلم؛ ففي القرآن يقول الله عز وجل: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 31-33].
وقد أطنب المفسرون في بيان ماهيَّة هذا العلم الذي تشرَّف به آدم عليه السلام؛ منها ما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابَّة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيره. وعن مجاهد رضي الله عنه أنَّه قال: عَلَّمَهُ اسم كلِّ دابَّة، وكلِّ طير، وكلِّ شيء[1]. وعلى أيَّة حالٍ فإنَّ كلَّ هذه التفسيرات لا تخرج عن أنَّ كنه العلم هو مراد تشريف الله عز وجل لآدم عليه السلام، وأنَّ الله عز وجل عَلَّمَهُ كُلَّ العلوم التي بها ينصلح حاله هو وذريَّته.
وجاء في سفر التكوين من أسفار التوراة: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ، وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ...". (التكوين 2: 19-20).
أي أنَّ الله عز وجل عَلَّمَهُ العلوم الطبيعيَّة التي سيحتاج إليها للحياة فوق الأرض وعمارتها، أمَّا الملائكة فهي لا تعلم هذه الأسماء وتلك العلوم؛ لأنَّها لن تُستخلف على الأرض، ومن ثَمَّ فهي ليست في حاجةٍ إليها.
وفي الهاجادا: "بعد أن أسكن الله آدم في الجنَّة أراد أن يُثْبِتَ للملائكة تَفَوُّقَه عليهم، فجمع حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجًا زوجًا؛ ليُنبئوه بأسمائها، ولكنَّهم عجزوا، فعرضها على آدم بعد أن عَلَّمه أسماءها وحيًا، فسمَّاها آدم بأسمائها"[2].
وذكرت بعض كتب الميدراش: "جمع الله بهائم العالم أمام آدم وكذلك الملائكة، وسُئِلَت الملائكة أن تذكر أسماء تلك الأنواع فلم تقدر، أمَّا آدم فذكر الأسماء دون تردُّدْ: يا إله العالمين؛ الاسم الصحيح لهذا الحيوان؛ ثور.. حصان.."[3].
والملاحظ في قصَّة آدم عليه السلام أنَّ الملائكة أدركت أنَّ آدم هو المخلوق الذي يعرف ويعلم، وهذا أشرف شيءٍ فيه؛ أي: قُدرته على التعلُّم والمعرفة، فكان ذلك هو السرُّ الأعظم ليكون هذا المخلوق جديرًا بعمارة الأرض، والتحكُّم فيها بالعلم والمعرفة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] انظر: البغوي: معالم التنزيل 1/80، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 109، 222، 223، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/281، 282.
[2] فراس السواح: "قصَّة خلق الإنسان بين القرآن والتوراة"، مقال منشور بمجلة أوان الإلكترونيَّة: www.alawan.org.
[3] أ/ هشام طلبة: قصَّة آدم في نصوص اليهود النادرة.. دراسة مقارنة، مقال على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة http://55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=1568&select_page=1
التعليقات
إرسال تعليقك