الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
في موضوع العفَّة والزنا نرى أنفسنا أمام أربع دوائر متقاطعة ومختلفة؛ فالنادر جدًّا إلى درجة الشذوذ هو أن تسمح الحضارة أو الأمَّة أو القوم بإباحة الاتصال
العفة:
في موضوع العفَّة والزنا نرى أنفسنا أمام أربع دوائر متقاطعة ومختلفة؛ فالنادر جدًّا إلى درجة الشذوذ هو أن تسمح الحضارة أو الأمَّة أو القوم بإباحة الاتصال الجنسي الجماعي فيما قبل الزواج وفيما بعده بلا ضابط، وفي المقابل من هذه الدائرة نجد الحضارة التي تمنع الزِّنا وتُحرِّمه قبل الزواج وبعده وعلى الرجال والنساء والشباب والفتيات على حدٍّ سواء، وتكون العقوبة أكثر تشديدًا على الزاني المتزوِّج أو الزانية المتزوِّجة.
في دائرةٍ أخرى نجد كثيرًا من الحضارات تعاملت مع الزنا باعتباره جريمةً إذا كان مقترفها متزوِّجًا فقط، بينما تسامحت مع مرحلة ما قبل الزواج، وقريبٌ منها دائرةٌ أخرى اعتُبِرت الزنا فيها جريمةً في حالة المرأة فقط، بينما كان التسامح قائمًا في حالة الرجل.
أمَّا حالة الإباحيَّة المطلقة فإنَّها لم تُوجد إلَّا عند بعض القبائل البدائيَّة والمنعزلة، التي لم نكن لنعرف أخبارها إلَّا من خلال الرحَّالة المدقِّقين المهتمِّين بالبحث عن الغريب والمختلف، وهذه القبائل نستطيع أن نقول: إنَّها خارج دائرة بحثنا الآن؛ لندرتها وهامشيَّتها في مسرح الحياة.
وأمَّا حالة المنع المطلق والتجريم فيما قبل الزواج وبعده للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، فهو أمرٌ موجودٌ داخل الأديان كالإسلام والمسيحيَّة، ويُشَكِّل هذا إطارًا أخلاقيًّا إضافيًّا للالتقاء بينهما؛ ففي القرآن الكريم نهي عن مجرَّد الاقتراب من الزنا، (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32]. ومثل هذا قول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) [النور: 30، 31].
وشبيهٌ من هذا الاحتراس ما ورد في إنجيل متى: "قد سمعتم أنَّه قيل للقدماء: لا تَزْنِ. وأمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ كلَّ من ينظر إلى امرأةٍ ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك؛ لأنَّه خيرٌ لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كلُّه في جهنم"[1].
كما وُجد هذا -أيضًا- في مرحلةٍ من التاريخ الهندي القديم؛ فقد كانوا غايةً في رقَّة الحاشية والاحتشام والمجاملة؛ فلو غضضت النظر عن عددٍ قليلٍ -هنَّ زانيات المعابد- لوجدتَ البغاء نادرًا في الهند، وألفيت العفَّة الجنسيَّة مصونةً إلى حدٍّ يستوقف النظر؛ يقول (دِبْوَا) الذي لا يعطف على الهنود في كتابته: "لا بُدَّ من الاعتراف بأنَّ آداب السلوك واحترام المعاملة الاجتماعيَّة أوضح في قواعدها وأكثر اتِّباعًا لدى طبقات الهنود كلِّها، حتى أدنى هذه الطبقات منزلة"[2].
ومن أقوال ماني وهو أحد أشهر فلاسفة فارس: "إنَّ المرأة نزَّاعة بطبعها دائمًا أن تُغري الرجل؛ ومِنْ ثَمَّ كان واجبًا على الرجل ألَّا يجلس في عزلةٍ مع امرأة، حتى إن كانت من أقرب ذوات قرباه. وينبغي على الرجل ألَّا ينظر إلى أعلى من عَقِبَيْ فتاةٍ عابرة"[3].
وفي الديانة الزرادشتيَّة يُعاقَب على الزنا بالقتل؛ بل ويُقتل الولد الذي هو ثمرة الزنا، إمَّا وهو في بطن أمِّه، وإمَّا بعد ولادته، وتُعاقَب الزانية في الآخرة بأن تُعَلَّق من ثدييها في النار، وأمَّا الزاني فتلدغه الأفاعي[4].
وأمَّا التفريق في الجريمة بين المتزوَّج وغيره فقد وُجد قديمًا لدى البابليِّين، الذين كانوا يسمحون بقسطٍ كبيرٍ من العلاقات الجنسيَّة قبل الزواج، أمَّا بعد الزواج فهناك إرغامٌ شديدٌ على الاستمساك بالوفاء الزوجي بعده، وكان القانون ينصُّ على إغراق الزوج الزاني ومَنْ زنت معه، كما وُجدت لدى الآشوريِّين -أيضًا- الذين وإن كانوا يرون البغاء أمرًا لا بُدَّ منه فكانت له قوانين، إلَّا إنَّ الزواج كان يجعل الزنا جريمةً عقوبتها القتل[5].
وأمَّا التفريق بين الرجل والمرأة فقد وُجد لدى السومريِّين، الذين كانوا يعدُّون زنا الزوج نزوةً عاديَّة، بينما يُعدمون الزوجة الزانية، كذلك في الصين؛ فقد كان الآباء يحرصون على العفَّة أشدَّ الحرص في بناتهم، وقد نجحوا في غرس هذه الفضيلة في البنات نجاحًا منقطع النظير، يدلُّ عليه أنَّ البنات الصينيَّات كُنَّ في بعض الأحيان يقتلن أنفسهنَّ إذا اعتقدن أنَّ شرفهن قد تلوَّث؛ بأن مَسَّهنَّ رجلٌ مصادفةً، غير أنَّهم لم يبذلوا أيَّ مجهودٍ يرمي إلى أن يحتفظ غير المتزوِّج بعفَّته؛ بل كان يُعَدُّ من الأمور العاديَّة المشروعة أن يتردَّد على المواخير، وكان الزنا عند الرجال من الشهوات المألوفة واسعة الانتشار، يستمتع به الرجل كما يشتهي من غير أن يناله من ورائه أيُّ عار، إلَّا ما ينال المفرط في أيِّ عادةٍ من العادات[6].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] إنجيل متى 5/27-29.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/185.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/185.
[4] Maganlal Amritlal Buch M. A. Zoroastrain Ethics, BiblioLife, October 3, 2009 p. 123, 124
[5] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/231، 232، 281.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/32، 33، 4/267.
التعليقات
إرسال تعليقك