التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
انخدع بعض المسلمين بإخوان الصفا، لاعتمادهم الانتاج الأدبي، ولمأخذ التمويه والتلون الذي يسلكونه، وللعبهم على حبال عدة عقائد وكلمات مجملة.. ولكن لا بد من
انخدع بعض المسلمين بانتاج إخوان الصفا، لاعتمادهم الانتاج الأدبي، ولمأخذ التمويه والتلون الذي يسلكونه، وللعبهم على حبال عدة عقائد وكلمات مجملة كثيرًا ما يعتمدها أرباب الانحراف لتدمير العقائد وتبديل الدين، لكن الاسلام شامخ وعزيز يستعصي على تلك المحاولات.. ولكن لا بد من العلم بحقيقة هؤلاء للحذر.
وهذا المقال يسهم في هذا البيان..
الانتماء الفكري
إخوان الصفا: هم جماعة فكريَّة ظهرت بالبصرة في القرن الرابع الهجري. وهم في الظاهر جماعةٌ من الأصدقاء العقلاء، والإخوان الألبَّاء؛ سلموا من الشوائب البشريَّة وتحلَّوا بأوصاف الكمالات الروحانيَّة (1).
وهم -أيضًا- في نظر آخرين: «عصابة قد تآلفت بالعِشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة؛ فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنَّهم قرَّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله» (2).
الاستتار بالتشيع والفلسفة
ولكنَّهم في واقع الأمر جماعةٌ سرِّيَّةٌ باطنيَّة، مزجت الفلسفة الإغريقيَّة والعقيدة الباطنيَّة ببعض المبادئ الإسلامية.
ونتيجة لذلك؛ فهي أُولَى ثمار الحركة الباطنية التي استغلَّت التشيُّع والتصوُّف الفلسفي وجعلت من ذلك ستارًا؛ لنشر رسائلها وأفكارها الهدَّامة بأسلوبٍ متلوِّنٍ غير صريحٍ وغامض؛ حيث جمجموا(3) ولم يُفصحوا للتلبيس على الأتباع.
ولذلك خفي أمرهم على كثيرٍ من الناس حتى في عصرنا هذا، وأصبحوا لغزًا مبهَمًا في التاريخ الإسلامي، واختلف الباحثون والعلماء في تصنيفهم، إلَّا القليل من العلماء النقَّاد المحقِّقين الذين كشفوا عن هويَّتهم وأهدافهم، وعن فحوى رسائلهم (4).
يُعرِّفهم ابن تيمية رحمه الله بقوله:
«كانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنِّفة؛ جمعوا ـ بزعمهم ـ بين دين الصابئة المبدِّلين وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير»(5) .
وقال الذهبي رحمه الله حين ترجم لأبي حامد الغزالي في كتاب السِّيَر:
«وحُبِّبَ إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان الصفا) وهو داءٌ عضال، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسُمٌّ قاتل، ولولا أنَّ أبا حامد من كبار الأذكياء لتَلَف» (6).
وفعلًا كما يقول ابن تيمية والذهبي رحمهما الله، لقد ضلَّ إخوان الصفا وزاغوا عن الصراط المستقيم، وشطحوا شطحات كثيرة لا سيَّما في تأثُّرهم ببعض الِملَل الزائغة والعقائد الوثنيَّة، وإن كانت هذه الوثنيَّة غامضة الملامح؛ ليست بالإغريقيَّة الصرفة، ولا بالبابليَّة والآشورية الخالصة، وليست مزدكيَّة ولا مانويَّة، وإنَّما هي خليطٌ من جميع هذه العناصر المختلفة.
مبادئ ملفقة
وهكذا نجد أنَّ المبادئ العامَّة التي بنى عليها إخوان الصفا نظريَّاتهم مقتبَسة من الديانات المختلفة (موحِّدة ومجوسيَّة) جاهدين في التوفيق بينها كلها.
وقد انتهت بهم نزعتهم التلفيقيَّة هذه إلى أن يَرَوا في جميع المذاهب الفلسفيَّة والوثنيَّة والموحديَّة مذهبًا واحدًا يُوفِّق بين جوهر الأديان، ولهذا قالوا:
«الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبَر، مسيحي المنهج، شامي النسك، يوناني العلم، هندي البصيرة، صوفي السيرة، ملَكيَّ الأخلاق» (7).
وقالوا كذلك:
«ينبغي لإخواننا ألَّا يُعادوا عِلمًا من العلوم أو يهجروا كتابًا من الكتب ولا يتعصَّبوا على مذهبٍ من المذاهب؛ لأنَّ رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلَّها ويجمع العلوم كلَّها» (8).
تبديل الدين والشريعة
إنَّ هذه الرؤية محاولةٌ لوضع نظامٍ دينيٍّ جديدٍ يَحُلُّ مَحَلَّ الشريعة الإسلامية التي يزعم إخوان الصفا أنَّها أصبحت لا تُؤدِّي رسالتها، وهي دعوةٌ إلى دينٍ عالميٍّ جديدٍ وَضْعي، على غرار ما يفعل المادِّيُّون الغربيُّون المعاصرون؛ بوضعهم أسس نظام عالمي جديد يقوم على القوانين الوضعيَّة التي تعارف عليها البشر؛ قِوامه الحريَّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، وبلورتْها العولمة في شتَّى المجالات (السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والإعلامية)، وتمخَّض عنها الإنسان الكوني الذي تجتمع فيه الصفات التي ينبغي -في زعمهم وحسب أهوائهم- أن تكون قاسمًا مشترَكًا بين بني البشر.
وبالجملة؛ فإنَّنا نجد في توجُّه إخوان الصفا نزعةً باطنيَّةً ذات مسحةٍ شيعيَّةٍ عامَّة؛ تتجلَّى في بعض مقاطع الرسائل، كما سنرى.
إلَّا أنَّ الفكر الذي يحمله هؤلاء يتعدَّى حدود المذاهب الشيعيَّة المتعدِّدة، كما يخرج على حدود الفِرق الإسلاميَّة المعروفة؛ فهو فكرٌ انتقائيٌّ يجمع بين الكثير من المعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية، وينفتح أصحابه على أفكار كل نِحلة، ويبتغون جَمْعَ حكمة كل الأمم والأديان والمِلل؛ مذهبهم حسب تعبيرهم:
«يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنَّه بالنظر في جميع الموجودات بأسْرِها (الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليِّها وخفيِّها) بعين الحقيقة من حيث هي كلها مبدأ واحد، وعلَّة واحدة، وعالَم واحد» .(9)
بعض أمثلة التأويل عند إخوان الصفا
مأخذ التأويل هو عند جميع الفرق الباطنيَّة يعتمدونه للنفوذ الى الاعتقادات الباطنيَّة الخبيثة..
تأويل الجنة والنار
أوَّلَ إخوان الصفا الثواب والعقاب الحسي الموجود في الجنة والنار؛ فزعموا:
«أنَّ جهنم هي: عالم الكون والفساد التي هي دون فلك القمر، وأنَّ الجنة هي: عالم الأرواح وسعة السموات، وأنَّ أهل جهنم هم: النفوس المتعلِّقة بأجساد الحيوانات التي تنالها الآلام والأوجاع دون سائر الموجودات» (10).
وهم في سبيل البرهان على معتقداتهم؛ يعمدون إلى تأويل الآيات القرآنيَّة التي تتحدَّث عن عذاب جهنم ونعيم الجنة.
فمن الآراء الفاسدة في زعمهم:
«من يظنون أنَّ جهنم هي خندقٌ محفور، كبيرٌ واسع، مملوءٌ من نيرانٍ تشتعل وتلتهب، وأنَّ الله -تعالى- يأمر الملائكة -قصدًا منه وغيظًا على الكفار- أن يأخذوهم ويرموهم في ذلك الخندق، ثم إنَّه كلَّما احترقت أجسادهم وصارت فحمًا ورمادًا أعاد فيها الرطوبة والدم حتى تشتعل من الرأس ثانيًا كما اشتعل أوَّل مرَّة، وهكذا يكون دأبهم أبدًا» .(11)
وهذا الرأي على حد زعمهم يعني الإساءة إلى الله -سبحانه وتعالى- والاعتقاد بأنَّ فيه من الحقد وقِلَّة الرحمة لخلقه.(12) تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا
.
«ويرون أنَّ من الاعتقادات والآراء المحيِّرة التي تبعث على الشكِّ والريبة، أن يعتقد الإنسان أنَّه يُباشر الأبكار في الجنة ويلتذُّ بها، وأن يرجو الجنة بعد خراب السموات وطيِّها كطيِّ السجل للكتب، وأن يعتقد أنَّ الأعمال تُجعل في كفَّتي الميزان، وأن يعتقد سؤال منكر ونكير في القبر من جسد الميت، وأن يعتقد أنَّ في الجحيم تنانين وثعابين وأفاعيَ يأكلن الفُسَّاق، وما شاكل هذه الاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها» .(13)
الإلحاد في أسماء الله وصفاته
بَيْد أنَّ هذا الكلام ينفي القدرة والحكمة عن الله سبحانه وتعالى، حين يرى إخوان الصفا أنَّه لا مجال لرجاء الجنة بعد خراب السموات وطيِّها كطي السجل للكتب، وفيه إلحادٌ في أسمائه جل وعلا، وتعطيلها عن معانيها وجحد حقائقها؛ فقدرة الله عز وجل طليقةٌ لا يحدُّها شيء؛ إذا قضى أمرًا، فإنَّما يقول له: كن فيكون.
كما أنَّ أفعاله سبحانه وتعالى على مقتضى الحكمة من جميع الوجوه؛ إذ لا بد من مجازاة المسيء بالعقاب والعذاب، ومجازاة المحسن بالفضل والجنة، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]، ويوم الدين هو ميقات الفصل بين العباد: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الدخان: 40].
ولأجل ذلك؛ فإنَّ اعتقادهم هذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله الحسنى وصفاته العلا؛ عقلًا وشرعًا ولغةً وفطرة: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، ومَرَدُّ ذلك أنَّ إخوان الصفا استنبطوا اعتقاد الفلاسفة المادِّيِّين الذين سلبوا الله سبحانه وتعالى صفات كماله، وجحدوها وعطلوها.
إنكار الحشر والنشور
وقد أدَّى تأويلهم للبعث والقيامة إلى إنكار الحشر والنشور؛ إذ اعتقدوا أنَّ خراب العالم وحشر الأجساد يوم القيامة شيءٌ يأباه العقل؛ وإنَّما هي أحوالٌ تطرأ على النفس بعد الموت أو حين تنتبه من غفلتها في الدنيا، في كلامٍ متناقضٍ مضطربٍ لا يُوقن بحقائق الآخرة.
فيقولون:
«إنَّ البعث والقيامة أمور تقال لعامة الناس ولمن لا يعرف من الأمور شيئًا، أمَّا الخاص ومن نظر في العلوم، فإنَّ هذا لا يصلح لهم؛ وذلك لأنَّ كثيرًا من العقلاء والحكماء (الفلاسفة) يُنكرون خراب السموات ويأبون ذلك إباءً شديدًا، والجيِّد لهم أن يعتقدوا أمر الآخرة، وأنَّ لها عَوْدًا متأخِّرًا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودًا متأخِّرًا عن الكون في الرحم، وكما كانت أيام الشيخوخة متأخِّرةً عن أيام الشباب.. وهي أحوالٌ تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد إذا هي انتبهت من نوم غفلتها في الدنيا واستيقظت من رقدة جهالتها قبل الممات» (14).
وهذه عقيدةٌ مستوحاةٌ من نظرة الفلاسفة المادِّيِّين إلى الكون والحياة؛ إذ يُؤمنون بقِدَم العالم وخلوده، وأنَّه لا يلحقه الزوال والخراب، وأنَّه لا بعث ولا حساب على الإنسان بعد مماته؛ ولهذا يُنكر إخوان الصفا اليوم الآخر كما جاء في الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة ويُؤمن به المسلمون.
إنكار إبليس والشياطين
كما أنكروا في رسائلهم -أيضًا- وجود إبليس والشياطين؛ فالاعتقاد بوجودهم -على حد زعمهم- من الآراء الفاسدة.
يقولون:
«ومن الآراء الفاسدة من يعتقد أن الله خلق خلقًا وربَّاه وأنماه وأنشأه وسلَّطه وقوَّاه على عباده متمكنًا في بلاده، ثم ناصبه العداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين» (15).
وبالجملة؛ فإنَّ المتأمِّل في رسائلهم يرى بجلاء ووضوح أنَّهم لا يؤمنون بالأمور الغيبيَّة مطلقًا، على الرغم من أنَّها شرطٌ في صحَّة الإيمان بالله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، بل أوَّلُوها إلى أمورٍ حسِّيَّة، كما رأينا في تأويلاتهم للجنة والنار متأثِّرين بلوثة وتُرَّهات الفلاسفة المادِّيِّين الذين انسدَّت في قلوبهم مدارك البصيرة، والمعرضين عن آيات الله سبحانه وتعالى التي لا تُحصى في الآفاق والأنفس.
حقيقة إخوان الصفا .. وأهدافهم
من خلال ما تقدَّم نُلاحظ بوضوح أنَّ رسائل إخوان الصفا كانت مقدِّمة لتحويل الدعوة الباطنيَّة إلى مؤامرةٍ خَطِرَةٍ لتدمير العقيدة والشريعة الإسلاميَّة معًا، وتفكيك الدولة الإسلامية.
فإخوان الصفا جماعةٌ سِرَّيةٌ من الباطنية المجوس والزنادقة الحاقدين على الإسلام واللغة العربية؛ كان هدفهم من كتابة هذه الرسائل وضع مخطَّطٍ لتقويض المجتمع الإسلامي؛ إذ لمـَّا تعذَّر عليهم مَطلَبُهم وعزَّ عليهم مرامهم؛ بالنيل من الإسلام، لجئوا إلى حقن جسد الأمة الإسلاميَّة بأنسجةٍ فاسدة، وما ذلك إلَّا التلفيق بين دين الأمة وهويَّتها وخصوصيَّتها الحضاريَّة، وبين ما يُناقض دينها ويُصادم هويتها وينتهك خصوصيَّتها الحضارية؛ من المناهج الفكرية الدخيلة الضارة.
وقد أسهم في تنفيذ هذا المخطَّط الذي وضع لبِنَاته إخوان الصفا، والعبيديون في بلاد المغرب ومصر، والحشاشون في بلاد فارس، والدروز والنصيرية في بلاد الشام.
كما حاول إخوان الصفا وضع دينٍ عالميٍّ جديدٍ يحل محلَّ دين الإسلام بعقيدته وشريعته التي يزعمون أنَّها أصبحت عتيقة لا تُؤدِّي رسالتها.
وقد أخفقت محاولتهم إخفاقًا تامًّا؛ فلم تنتج نظامًا علميًّا، ولم تُنشئ مجتمعًا جديدًا يقوم على أساسها، وأصبحت في مدَّةٍ قريبةٍ من الآثار التاريخيَّة التي لا تأثير لها في حياة الناس، وإن تلقَّفت الفِرق الباطنيَّة الأخرى أفكارها واستعانت بها في تقويض دعائم المجتمع الإسلامي في فتراتٍ من تاريخه.
لكل قوم وارث
وفي العصر الحديث كان من أبرز أعمال الغزو الثقافي والتغريب ممثَّلًا في الاستشراق والتنصير، هو إعادة طبع وإحياء رسائل إخوان الصفا من جديد؛ بهدف التشويش على خطِّ الإسلام الأصيل الذي يُمثِّله القرآن والسُّنة؛ فقامت المطبعة الكاثوليكيَّة في بيروت بإعادة طبع هذه الرسائل.
ثم جاء دعاة التغريب وتلاميذ المستشرقين في العالم الإسلامي فأعلَوْا من قيمة هذه الرسائل وقالوا: هي أعظم ذخيرة أدبيَّة وفلسفيَّة.. هكذا علَّمهم المستشرقون.
وعلى رأس هؤلاء طه حسين الذي ادَّعى أنَّ إخوان الصفا قومٌ مجدِّدون مصلِحون، قدَّموا للمجتمع الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية؛ لإنشاء ثقافةٍ جديدة، هي الثقافة التي يجب على الرجل المستنير أن يظفر بها! وهذا خداعٌ من طه حسين لقومه؛ فإنَّ رسائل إخوان الصفا ما وُضِعَت إلَّا لهدم الإسلام، وما جُدِّد طَبْعها ونَشْرها إلَّا لهذا الغرض.
إخوان الصفا الجُدد
ومن المشروعات التلفيقيَّة التي ظهرت في عصرنا متأثِّرة بفكر إخوان الصفا مشروع (اليسار الإسلامي) الذي حاول التوفيق بين الإسلام والماركسيَّة؛ إذ أراد هذا المولود المشوَّه المعاق أن يتبنَّى قضايا الثورة والاشتراكية والعدل الاجتماعي وغيرها من القضايا.
و (إخوان الصفا الجدد) دعاة هذا المشروع المشبوه لمـَّا انفضَّ الناس عن دعوتهم الاشتراكية التي فشلت في عُقْر دارها، ونفر الناس من مبادئهم اليسارية، لجئوا إلى حيلة التوفيق أسوةً بأسلافهم الباطنيِّين والزنادقة.
وهذا أسلوب المنافقين في كلِّ زمان، كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم في التنزيل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 61-62].
وقد حمل راية هذا المشروع المشوَّه لفيفٌ من الزنادقة الباطنيِّين والعلمانيين، أمثال: فتحي عثمان، ومحمود إسماعيل، وسيف الإسلام محمد، ومحمد عابد الجابري.. وغيرهم؛ غير أنَّ الذي تولَّى كِبْرَه في النهوض بهذا هو (حسن حنفي) صاحب مجلة "اليسار الإسلامي".
ويبقى الاسلام شامخًا
على الرغم من طَبْع ونَشْر رسائل إخوان الصفا كجزءٍ من مخطَّط التغريب والغزو الثقافي الذي دشَّنه المستشرقون وتلامذتهم المنتسبون للإسلام، وعلى الرغم من رفع أهل التخريب العقدي من إخوان الصفا الجدد عقيرتهم للجمع بين التيارات المتناقضة تحت عباءة اليسار الإسلامي؛ لنسف الإسلام وتفكيكه من الداخل، فإنَّ مخطَّطات هؤلاء جميعًا للنيل من الإسلام الدين الحق باءت بالفشل ولله الحمد، كما قال الشاعر العربي (الأعشى):
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا فَلَمْ يُضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ (16)
على أنَّه قد ظهر قديمًا وحديثًا من علماء المسلمين من تصدَّى لكشف زيف رسائل إخوان الصفا؛ فما هي إلَّا سمومٌ عرفها أهـل الأصالة الإسلاميَّة، وضلالٌ وزيغٌ أبانوا عن فساده: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
توفيقية متلونة
وحسبك أن تكون هذه التوفيقيَّة المتلوِّنة في رسائل إخوان الصفا منهج الكافرين حقًّا؛ إذ لم تُنتِج إلَّا التناقض والارتباك، والحيرة والاضطراب، وهذه -لعمرُ الله- ثمرات النفاق الاعتقادي والكفر بالله والإشراك به.
لقد فضح الله عز وجل دعاة هذه المناهج التلفيقيَّة المشبوهة وهَتَكَ سترهم بقوله -جلَّ ذِكْره-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [النساء: 150- 151].
………………………………
هوامش:
1. خير الله سعيد: النظام الداخلي لحركة إخوان الصفا، ص35.
2. أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، الليلة السابعة عشرة: ص123.
3. جمجم: لم يُبَيّن كلامه، لسان العرب: مادة (جمم).
4. من كتاب (الباطنية وموقف الإسلام منهم)، د جميل أبو العلاء، دار المعارف بمصر، وكذلك (فضائح الباطنية) لأبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد قطب، نشر: المكتبة العربية بيروت.
5. مجموع الفتاوى: 4/79.
6. سيَر أعلام النبلاء: 19/328.
7. رسائل إخوان الصفا: 4/240.
8. المصدر السابق: 4/42.
9. المصدر السابق: 4/42.
10. رسائل إخوان الصفا: 3/63.
11. المصدر السابق: 3/62.
12. المصدر السابق: 3/62.
13. المصدر السابق: 3/87.
14. المصدر السابق: 4/40.
15. المصدر السابق: 4/62.
16. ديوان الأعشى ميمون بن قيس: ص61.
التعليقات
إرسال تعليقك