الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
ما معنى الحنيفية؟ وهل تصح أن تكون ديانة في وقتنا الحالي يجتمع حولها أهل الأديان كلهم كما يدعو بعضهم الآن؟ ومن هم الأحناف؟ نجيب عن كل هذا بإذن الله تعالى
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 67، 68]، وقال -أيضًا- جل وعلا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، وقال -أيضًا- سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]..
وكذلك يقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِى دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّى أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ" [1].
فبتتبع كلمة «الحنيفيَّة» ومشتقَّاتها في القرآن نجد أنَّها ذُكرت اثنتي عشرة مرَّة، وكذلك استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا، وليس هناك أدلُّ من هذا على أهمِّيَّة وقيمة تلك الكلمة في الإسلام..
فما معنى الحنيفية؟ وهل هي دين واحد أم تجمع تحتها اليهودية والنصرانية كما يدَّعون؟! وهل تصح أن تكون ديانة في وقتنا الحالي يجتمع حولها أهل الأديان كلهم كما يدعو بعضهم الآن؟ وأخيرًا، من هم الأحناف؟ ومن أشهرهم في التاريخ؟
نجيب عن كل هذا بإذن الله تعالى وأكثر خلال تلك السطور القادمة..
ما الحنيفية؟
الحَنِيفُ في اللغة كما يذكر ابن منظور هو "المائل من خيرٍ إلى شر، وهو المسلم الذي يَتَحَنَّفُ عن الأديان؛ أي يميل إلى الحق... وقيل كل من أسلم لأمر الله تعالى ولم يلتوِ فيه" [2].
والحنيفية هي ملَّة إبراهيم والأنبياء جميعًا عليهم السلام، وقد خصَّ القرآن بهذا اللفظ إبراهيم عليه السلام لأنَّ المشركين واليهود والنصارى عرفوه نسبةً إلى إبراهيم عليه السلام، فأراد الله أن يُعْلِمَهم أنَّ ما جاء به إبراهيم وما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليهما هو من أصلٍ ومنهجٍ واحد.
وذلك أنَّ إبراهيم حنف ومال عن ضلال قومه وغيِّهم، وجاء بالتوحيد، وأعلنه إعلانًا لم يترك للشرك مسلكًا إلى نفوس الغافلين، وأعلن تمام العبوديَّة لله تعالى بقوله: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 80]، وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81]، وتطَلَّب الهدى بقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] ، وكسر الأصنام بيده {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58]، وتصدَّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80]، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] [3].
بين الحنيفية والإسلام
فلكلِّ هذا وأكثر لا نجد خلافًا أبدًا بين الحنيفيَّة بمعناها الخاص -بأنَّها ديانة إبراهيم عليه السلام- وبين الإسلام كما جاء به نبيُّنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فيقول سبحانه تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وإنَّما ذُكِرت الحنيفية مرتبطة بالإسلام {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]؛ حتى ييأس مشركو العرب من أن يكونوا على ملَّة إبراهيم عليه السلام..
وكذلك فيه نفيٌ واضحٌ لا ريب فيه لادعاء اليهود والنصارى الذي كانوا يُردِّدونه مرارًا وتكرارًا بأنَّهم على ملة إبراهيم، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران: 67]..
فلهذا فإنَّ ملَّة الإسلام حنيفيَّةٌ في التوحيد، سمحةٌ في العمل، تسع جميع الناس، والكل مأمورون باتِّباعها: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقد روت عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِى دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّى أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ" [4].
الإبراهيمية الحنيفية ووحدة الأديان
وإنَّنا نجد في أيَّامنا تلك دعواتٍ في ظاهرها الخير ووحدة البشرية، تُنادي بوحدة الأديان كلِّها تحت ديانةٍ واحدةٍ هي "الإبراهيمية"؛ باعتبار أنَّ إبراهيم عليه السلام هو جدُّ الأنبياء جميعًا.
والمتكلِّمُون في هذه الوحدة يُنادون بطباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل وضمِّهم معًا في كتابٍ واحدٍ بين دفَّتين، وببناء مجمَّع لأماكن العبادة يضمُّ مسجدًا وكنيسةً ومعبدًا، تتبادل الزيارات بين عُمَّار المساجد، ومرتادي المعابد؛ ممَّا يُقلِّل الفجوة ويُوَلِّد المودَّة، وإقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان؛ سواءٌ بابتداع صلاةٍ يشترك فيها الجميع، أو بأن يُصَلِّيَ كلُّ واحدٍ صلاة الآخر [5].
ولكنَّها كما يقول الدكتور راغب السرجاني: "محاولةٌ فكريَّة إجباريَّة، تُجْبِر الناس على دينٍ جديد؛ فهي لا تختلف -في جوهرها- عن محاولة إجبار الناس على دينٍ قديمٍ موجود، وهي عقيدةٌ جديدةٌ لا يقبل بها أحدٌ من أتباع الديانات المراد توحيدهم، فمحاولة إنهاء الخلاف وتبسيطه أو حتى اختزاله هي محاولةٌ ذاهبةٌ في طريق الفشل؛ إذ إنَّ كلَّ أتباع دينٍ يرون في الدين الآخر أفكارًا وعقائد مرفوضة، إلى الحدِّ الذي لا يُمكن قبولها؛ ومِنْ ثَمَّ فإنَّ دينهم هو الذي يُقَدِّم البديل المعقول والمقبول بالنسبة إليهم، فإذا أتى مَنْ يُريد إنهاء الخلاف وسَوْق كلِّ فريقٍ ليقبل ما يراه "خرافات وأضاليل" الأديان الأخرى، بل أنْ يعتنقها ويتوحَّد مع مَنْ كان منذ قليلٍ يُفارقه في خلافاتٍ جوهريَّةٍ وأساسيَّة.. فإنَّه يرتكب حماقةً مؤكَّدة!
وهي دعوةٌ ليست بالجديدة كما يظنُّ البعض؛ فقد قال بها (إسبينوزا) أحد فلاسفة القرن 17م الهولنديِّين، وهو يهوديُّ الأصل، وقد نادى بتوحيد اليهودية والنصرانية، وحتى إن أمكن التبرير لهذا لقرب الملَّتين خاصَّةً أنَّ النصارى يؤمنون بالعهدين القديم والحديث؛ فإنَّه كما يقول الدكتور راغب: "أمَّا دمج الإسلام معهم فمستحيلٌ بكلِّ المقاييس؛ لأنَّ التشريع الإسلامي منظومةٌ متكاملةٌ تحكم الحياة كلَّها، ولا يترك أمرًا صغيرًا أو كبيرًا إلَّا وله فيه قواعد وأصول.. يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]" [6].
وإنَّها ليست مستحيلةً فقط في حقِّ المسلمين؛ بل هي مستحيلةٌ كذلك بالنسبة إلى عموم العقائد الأخرى.
الحنفاء قبل البعثة النبوية
لقد بقيت بقايا من دين إبراهيم عليه السلام وصلت إلى العرب قبل مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت قلَّةٌ من العرب يدينون بها، وقد اختلفت المصادر في تحديد عددهم ووصفهم؛ فمنهم من أدخل كلَّ من خالف عبادة الأوثان سواءٌ من نشأ منهم على النصرانية مثل: (جرجس، وبحيرا، وحبيب النجار، وأصحاب الأخدود، وأهل الكهف، وعدَّاس)..
أم من تنصَّر منهم مثل: (ورقة بن نوفل، وعدي بن زيد، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث)، أم من لم يُسلم بعد ظهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعثته مثل: (أمية بن أبي الصلت، وأبي عامر الفاسق).
أم من الكهان الذين أخبروا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأنذروا الناس بها مثل: شِق، وسَطِيح، والكاهنة طريفة، وغيرهم [7]..
ولكنَّنا قد انتهجنا أنَّ من يندرج تحت مسمَّى «الأحناف» هم كلُّ من عُرِف عنه التوحيد ربوبيَّةً وألوهيَّة، عن طريق ما نُقل عن أحوالهم أو ما ورد من شعرهم وخطبهم وأغلبهم كانوا شعراء في الجاهلية..
سواءٌ من مات قبل البعثة أم من لحق البعثة وآمن، ونستثني منهم كلَّ من لَحِق الإسلام وتكبَّر عن الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم كأمية ابن أبي الصلت وغيره -كما ذكرنا-، أو من تنصَّر أو ارتدَّ منهم بعد إسلامه كعبيد الله بن جحش، أو حتى من اشتهر عنه صفاتٌ حميدة وأخلاق كريمة؛ فالأصل أن الأحناف كما عرَّفاهم سابقًا، هم من مالوا عن كلِّ شركٍ عقيدةً وسلوكًا، وثبتوا على دين إبراهيم وماتوا عليه.
ونحن -بإذن الله- سنذكرهم هنا إجمالًا ونُفصِّلهم في مقال قادم بإذن الله تعالى. وهم كما يلي حسب الترتيب الزمني من الأقدم:
- أسعد أبو كرب تبع الحميري القحطاني.
- رئاب الشتي من بني عبد القيس.
- وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي.
- عبد الله بن تغلب بن وبرة القضاعي.
- سويد بن عامر المصطلقي.
- عامر بن الظرب بن عمرو العدواني (ذو الحلم).
- علاف بن شهاب التميمي.
- عمیر بن جندب الجهني.
- زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي.
- صُرَیم بن معشر بن ذهل (أفنون التغلبي).
- سيف بن ذي يزن الحميري القحطاني.
- خالد بن سنان العبسي (نبي أضاعه قومه).
- عبيد بن الأبرص بن عوف الأسدي المضري.
- قُس بن ساعدة بن عمرو بن عَدي الإيادي.
- زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي (موحد الجاهلية).
- زهير بن أبي سُلمى ربيعة بن ریاح المزني المضري (أحد شعراء المعلقات المشاهير).
- عمرو بن عَبَسَة السُلَمِي (أبو نجيح).
- جنادة بن عوف بن أمية الكناني (القَلَمَّس).
- صرمة بن أبي أنس أبو قيس النجاري.
- صيفي بن عامر ابن الأصلت أبو قيس الأوسي الأنصاري.
- ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي (ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها).
- أسعد بن زرارة بن عدس الخزرجي.
- مالك بن التيهان الأنصاري الأوسي.
- جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري).
- سلمان الفارسي.
- لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر العامري.
- قیس بن عبد الله بن عدس أبو ليلى (النابغة الجعدي).
- عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة (أبو بكر الصديق).
[1] مسند أحمد، حديث رقم (24899)، 6/116. قال شعيب الأرناءوط: حديث قوي وهذا سند حسن، وقال الألباني: إسناده جيد.
[2] ابن منظور: لسان العرب، مادة (حنف)، دار صادر – بيروت – ط1، 9/56.
[3] انظر: الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984هـ، 3/275.
[4] سبق تخريجه.
[5] هدى درويش: تقارب الشعوب، ص41، 42.
[6] راغب السرجاني: المشترك الإنساني: نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 2011م، ص303.
[7] محمد أحمد ملكاوي: الحنفاء العرب .. دراسة تاريخية تحليلية، مجلة جامعة أم القرى، العدد 55، ربيع الثاني 1433هـ، ص394،395.
التعليقات
إرسال تعليقك