الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
المثير في قصة القاهرة أنها خرجت إلى الوجود تتبختر في دلال بمنطقة الحدود بين التاريخ والأسطورة: فقد راجت حول بنائها حكايات خيالية من إبداع الشعب حول وضع
خرجت القاهرة إلى الوجود سنة 358 هـ= 969م لتعلن عن بداية حقبة جديدة في تاريخ مصر والمنطقة العربية كلها، فقد بنيت القاهرة لتكون عاصمة لدولة مستقلة وخلافة شيعية منافسة للخلافة العباسية السنية القائمة آنذاك في بغداد. وقد بناها القائد جوهر الصقلي بعد أن فتح مصر باسم الفاطميين الذين كانت دولتهم قد قامت في شمال أفريقيا. وقد اختار جوهر الصقلي للمدينة الجديدة اسم "المنصورية"؛ ولكن الخليفة المعز لدين الله أول الفاطميين بمصر اختار لها اسم القاهرة. وكانت القاهرة"… رابع موضع انتقل إليه سرير السلطنة من أرض مصر فى الدولة الإسلامية…" على حد تعبير المؤرخ تقي الدين المقريزي، خير من كتب عن القاهرة وأرَخ لها على مرِ الزمان حتى الآن.
فقد كانت الفسطاط العاصمة الأولى لمصر بعد الفتح الإسلامي؛ وقد بناها الفاتح عمرو بن العاص على هيئة مدينة عسكرية بعيدة عن الإسكندرية التي اتخذها البيزنطيون عاصمة لمصر تحت حكمهم. وقد أسكن عمرو بن العاص جنوده في المدينة الجديدة على شكل خطط أو أحياء خصص كلا منها للمحاربين من أبناء القبائل العربية التي كونت جيش الفتح الإسلامي. وفى فترة لاحقة بنيت مدينة" العسكر" خارج الفسطاط لتكون معسكرًا للجيش. وبعدما نجح أحمد بن طولون في الاستقلال بمصر مع الاحتفاظ بالولاء للخلافة العباسية، بنى مدينة القطائع عاصمة جديدة لمصر على أمل أن يبني أسرة حاكمة من سلالته؛ ولكن الدولة الطولونية لم تعش أكثر من بضع وثلاثين سنة ثم سقطت وعاد مركز العاصمة في عصر الولاة الثاني إلى مدينة العسكر، وظل ذلك ساريًا حتى فتح الفاطميون مصر وبنوا القاهرة…
وكان الموضع الذي بنيت فيه القاهرة فضاء تكسوه الرمال يعبره الناس في طريقهم من الفسطاط ذهابًا وإيابًا. وعندما بناها جوهر الصقلي كان القصد أن تكون عاصمة للدولة الجديدة وحصنًا أمام الفسطاط خوفًا من القرامطة الذين زحفوا صوب مصر سنة 360 هجرية؛ كما كان القصد أن تكون دار خلافة، وسرير ملك، وأن تكون مدينة الحاكم والحاشية والحامية. ولكن القاهرة أبت إلا أن تكون عاصمة للناس وتمردت على رغبة منشئها وخرجت عن الحدود التي رسمها لها والسور الذي طوقها به؛ كما رفضت أن تكون غريبة على المصريين. ومنذ عصر الأيوبيين، خاصة في عهد الملك الكامل، بدأت القاهرة تتخلص من طابعها الفاطمي لتصير عاصمة حقيقية لمصر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فلم تعد مدينة الحاكم والحاشية والحامية كما أراد لها الفاطميون، بل تألقت باعتبارها مدينة الناس. وقال تقي الدين المقريزي "… فصارت مدينة سكن بعد أن كانت حصنًا يعتقل به، وابتذلت بعد الاحترام …" وهو كلام يبدو غريبًا من رجل أحب القاهرة كما لم يحبها أحد غيره.
بيد أن المثير في قصة القاهرة أنها خرجت إلى الوجود تتبختر في دلال بمنطقة الحدود بين التاريخ والأسطورة: فقد راجت حول بنائها حكايات خيالية من إبداع الشعب حول وضع أساسها والظروف التي صاحبت بناءها. وعلى الرغم من أن الأساطير والحكايات الشعبية راجت حول القاهرة وأبوابها على مدى أكثر من ألف عام، فإن هذه الدراسة سوف تقصر اهتمامها على أبواب القاهرة وكيفية تناولها بين التاريخ والتراث الشعبي. وتتناول تاريخ أبواب القاهرة والمعتقدات الشعبية التي ارتبطت بها: سواء أبوابها الأصلية التي بناها القائد الفاطمي جوهر الصقلي مع المدينة، أو تلك التي تجددت أو استحدثت عبر العصور… وما قد خرب منها واندثر، وما بقي من هذه الأبواب حتى اليوم وما ارتبط بها من أحداث التاريخ الحقيقي، وما جرت به الألسن بين الناس من حكايات واعتقادات أنتجها الخيال الشعبي.
بنى جوهر الصقلي حول القاهرة سورًا من الطين اللبن؛ وكانت كل طوبة في هذا السور كبيرة الحجم (ذراع طولًا في ذراع عرضًا) بحيث كان يمكن أن يمرَ فوق السور السميك فارسان متجاوران ويسيران عليه بسهولة. ومن المهم أن نشير إلى أن مدن ذلك الزمان كانت تحيط بها الأسوار والحصون والبوابات للدفاع عنها ضد الجيوش الغازية، وعبث اللصوص، وغدر الغرباء؛ وكانت أبواب المدن تفتح مع شروق الشمس، وتغلق بعد الغروب لتأمين الناس في داخلها. ولم تكن القاهرة استثناء في ذلك بطبيعة الحال فقد أنشأ جوهر الصقلي عدة أبواب في نواحيها الأربعة.
ويلفت النظر أن أبواب القاهرة الأصلية قد اندثرت بمرور الزمن، وبنيت عوضًا عنها أبواب جديدة تحمل أسماء الأبواب الأصلية نفسها على مسافة منها تمثل المساحة التي زادت في حجم المدينة التي خرجت من ثوبها الذي حبسها فيه جوهر والذي ضاق عليها بفعل التطورات السكانية والجغرافية التي جرت عليها: ففي الجهة القبلية من السور كان القائد الفاطمي قد أنشأ بابين باسم زويلة قرب مسجد عرفه الناس آنذاك باسم " جامع سام بن نوح" في عصر سلاطين المماليك. وقد اندثر هذان البابان، ولم يبق منهما سوى عقد أحد البابين الذي عرفه الناس آنذاك باسم "الباب القوس". وقد ارتبطت ببابي زويلة الأصليين بعض المعتقدات الشعبية، كما ارتبطت حكايات شعبية أخرى بباب زويلة الكبير الذي بناه أمير الجيوش بدر الدين الجمالي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله سنة 485هـ= 1092م وكذلك بعض الأحداث التاريخية. ومن المدهش أن المعتقدات الشعبية ارتبطت بواحد فقط من بابي زويلة الأصليين دون الآخر. ويقال إن المعز لدين الله الفاطمي عندما جاء إلى مصر دخل من الباب الملاصق للمسجد فتيامن الناس بهذا؛ وصاروا يكثرون المرور من هذا الباب دخولًا وخروجًا وهجروا الباب الآخر بشكل شبه كامل؛ وسرت على ألسنة الناس شائعة مؤداها أن من مرَ من هذا الباب لا تقضى له حاجة. وعندما بنى بدر الدين الجمالي باب زويلة الكبير، الذي نجا من عاديات الزمان حتى الآن، صار مكان البابين القديمين داخل المدينة بعد بناء سورها الجديد.
وعندما سقطت الدولة الفاطمية وبدأت دولة الأيوبيين، بنى الأمير "بهاء الدين قراقوش" السور الثالث للقاهرة في أيام صلاح الدين الأيوبي سنة566هجرية. وكان السور هذه المرة من الحجر كما كان أطول كثيرًا من السور الثاني الذي بناه بدر الدين الجمالي في العصر الفاطمي، وقد ضم القاهرة والفسطاط والقلعة جميعًا. ودخلت منطقة بابي زويلة القديمين في رحاب المدينة وزالت المعالم القديمة تمامًا ولكن المعتقدات الشعبية المرتبطة بها ظلت موجودة، واتخذت شكلًا جديدًا وقدمت تبريرًا مختلفًا: فقد عُرف المكان باسم "الحجارين" بعد اندثار معالم البابين. وفى هذا المكان كانت تباع أدوات الطرب وآلات الموسيقى؛ فقد كان المكان"… سوقًا للمعازف وموضعًا لجلوس أصحاب الملاهي". وقد ذاع بين القاهريين أن الشخص الذى يمرُ من هذا المكان لا تقضى له حاجة. وجرى على ألسنة البعض أن ذلك النحس كان "… من أجل أن هناك آلات المنكر وأهل البطالة من المغنيين والمغنيات … وليس الأمر كما زعم فإن هذا القول جار على ألسنة أهل القاهرة من حين دخل المعز إليها …". في هذا النص يكشف المقريزي عن أن الموروث الشعبي المتعلق ببابي زويلة الأصليين ظل باقيا حتى أيامه على الأقل (منتصف القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي) واتخذ صورة جديدة ولكن جوهره المتمثل في فكرة أن المكان منحوس يضفي شؤمه على كل من يسلك طريقه منه ظل باقيا عبر الزمان.
على أية حال، شهدت القاهرة بناء سورها الثاني منذ إنشائها؛ فقد بنى أمير الجيوش بدر الدين الجمالي ذلك السور من الطوب اللبن السميك وزاد فيه الزيادات التي نشأت في المساحة ما بين بابي زويلة القديمين، وباب زويلة الكبير الذي بناه. وعلى الرغم من أن السور كان مبنيًا من الطوب اللبن فإن الأبواب الجديدة، ومنها باب زويلة، كانت مشيدة من الحجارة. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن بابي زويلة القديمين اللذين بناهما جوهر الصقلي، وباب زويلة الكبير الذي بناه أمير الجيوش بدر الدين الجمالي، تنسب كلها إلى قبيلة زويلة المغربية التي جاءت ضمن جيش جوهر القائد. وكان لهم حي خاص بهم في القاهرة الفاطمية قرب البابين القديمين. ففي العصر الفاطمي نفسه تم تجديد باب زويلة بصورة اختلفت تماما عن الأصل. وقد وصف المقريزي باب زويلة من حيث شكله والتطورات التاريخية التي جرت عليه بعد أن أعاد بدر الجمالي بناءه فقال إنه زاد من ارتفاع أبراجه. وعمل في مدخله كتلة كبيرة من حجر الصوان ملساء بحيث تنزلق عليه خيول المهاجمين، وظلت الأرضية الملساء موجودة حتى أمر بإزالتها السلطان الكامل الأيوبي بسبب سقوطه من فوق فرسه عليها. ويفهم من كلام المصادر التاريخية أنه كانت هناك صعوبة في إخراج هذه الصخرة بحيث اضطر العمال إلى تكسيرها إلى قطع صغيرة على عدة مراحل.
وكان الذي بنى باب زويلة الجديد رجل بنَاء جاء من الرها (أوديسا في تركيا الحالية)، وكان هذا الرجل قد جاء مصر مع اثنين من أخوته، وكان الأخوة الثلاثة بنائين فبنى كل منهم بابًا من أبواب القاهرة بديلًا للأبواب القديمة التي تهدمت: باب زويلة، وباب الفتوح، وباب النصر. وظل باب زويلة بحالته التي بنى عليها أيام بدر الجمالي حتى حدث في عصر سلاطين المماليك أن السلطان المؤيد شيخ المحمودي (815- 824هـ) أراد أن يبني الجامع الذي يحمل اسمه، فأغلق أحد مدخلي باب زويلة وأنشأ المئذنتين الموجودتين أعلى باب زويلة حتى الآن. وهذه البوابة الضخمة عبارة عن كتلة بنائية ضخمة ترتفع 24 مترًا بعرض 26 مترًا وعمقها 25 مترًا. وهي على شكل برجين مستديرين يتوسطهما ممر كان يدخل الناس ويخرجون عندما كانت القاهرة تفتح أبوابها صباحا وتغلقها في المساء؛ ولها باب خشبي يزن حوالي أربعة أطنان يتحرك على مصاريع لفتح البوابة وإغلاقها. وقد قام فريق من الأثريين وخبراء الترميم الأثري من المصريين والأمريكيين بترميم باب زويلة وتنظيفه وإعادة تشغيل الباب الخشبي بعد أن ظل ثابتا لا يتحرك بسبب تراكم الأتربة والطين عليه منذ عدة عقود؛ وتم فتح باب زويلة ثانية سنة 2003م.
ويطلق القاهريون عدة أسماء على باب زويلة توارثوها على مدى الأجيال بالإضافة إلى اسمه الأصلي: أشهرها "باب المتولي" نسبة إلى المحتسب أو متولي الحسبة الذي كان مقره في عصر سلاطين المماليك على مقربة من باب زويلة بحيث يمكنه مراقبة الأسواق والشوارع بنفسه وبمساعدة معاونيه، كذلك كان يطلق على باب زويلة "باب المؤيد" نسبة إلى السلطان "المؤيد شيخ المحمودي" الذي بنى مسجده في هذا المكان وبنى مئذنتي جامعه فوق الباب في عصر المماليك الجراكسة.
ومن الناحية التاريخية، ارتبط باب زويلة بأحداث تاريخية مهمة سواء في بداية عصر سلاطين المماليك (1250 – 1517 م) أو في نهاية ذلك العصر. فقد حدث في عهد السلطان المظفر سيف الدين قطز أن وصلت إلى القاهرة رسالة تفيض تهديدًا ووعيدًا من التتار الذين كانوا قد اجتاحوا الجزء الشرقي من العالم الإسلامي وقضوا على الخلافة العباسية في بغداد. وجاء في تلك الرسالة على لسان هولاكو: "… إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حلَ به غضبه فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم …" كانت الرسالة تفيض عنفا وغطرسة؛ وجاء رد قطز مساويًا في العنف والتحدي: فقد قتل رسل التتار الأربعة، وقد أعدم أحد الرسل في سوق الخيل تحت القلعة، والثاني خارج باب زويلة، والثالث خارج باب النصر؛ أما الرابع فقد تم قتله فى الريدانية بالقرب من ضاحية العباسية الحالية من ضواحي القاهرة. ثم علقت رؤوسهم جميعا على باب زويلة …. وهو ما صار تقليدًا فيما بعد طوال ذلك العصر حتى مصرع طومان باي آخر سلاطين المماليك شنقًا على باب زويلة.
هكذا ارتبط باب زويلة ببداية حكم سلاطين المماليك، كما ارتبط بنهاية عصرهم بعد مائتين وسبعين عامًا أو يزيد. ففى سنة 922 هجرية= 1517م بعد الهزيمة التي نالت السلطان قنصوه الغوري وقتله تحت سنابك الخيل فى مرج دابق ببلاد الشام؛ دخل الجيش العثماني مصر بقيادة السلطان العثماني سليم الأول (سليم خان). وعبثًا حاول طومان باي مقاومة الغزاة ولكن دولته كانت قد دالت منذ زمن، وسلمته يد الغدر إلى عدوه حين أمن هذا الغدر عند حسن بن مرعى من عربان الشرقية الذي كان قد لجأ إليه بعد انهيار جيشه بسرعة. وأمر سليم بشنق طومان باي على باب زويلة. وشنق بالفعل بين الدموع وعلامات الأسى والأسف التي علت وجوه من شاهدوا النهاية المأساوية للسلطان الأخير الذي تدلت جثته من المشنقة تعلن عن نهاية عصر وبداية عصر جديد في تاريخ مصر والمنطقة العربية والعالم الإسلامي كله.
وكان باب زويلة الأوفر حظًا من الشهرة بين جميع أبواب القاهرة في تلك الفترة الممتدة في رحاب الزمان، وقد انتشرت من حوله، وعنه، حكايات وأساطير ومعتقدات على مرِ الأيام والسنين؛ ولكنه لم يكن باب القاهرة الوحيد بطبيعة الحال. ففي الجهة البحرية من القاهرة التي كانت تؤدى إلى مكان ضاحية عين شمس الحالية (حيث كانت بداية طريق قوافل الحج البرية صوب الحجاز)، كان هناك باب النصر الذي بناه جوهر الصقلي على شكل بابين أيضا ضمن السور الأصلي، وأعاد أمير الجيوش بدر الين الجمالي بناءه بالحجر. ومن المثير في هذا المقام أن كل جهة من الجهات الأربع من سور القاهرة الأصلي كان بها بابان. وقد اندثرت هذه الأبواب جميعا مع مرور الزمان، ثم أعاد بدر الجمالي بناءها من الحجارة لتبقى تحمل أسماء الأبواب الأصلية التي اندثرت على مسافة من المواضع التي كانت الأبواب القديمة قائمة بها. لقد أعاد الجمالي بناء باب النصر بالحجارة حين بنى السور الثاني للقاهرة الفاطمية وكان من بناه أخا الرجل الذي بنى باب زويلة الكبير، وبنى أخوهما الثالث باب الفتوح أيضًا. وكانت المسافة بين الأبواب الجديدة والأبواب القديمة تمثل المسافة الزائدة في حجم القاهرة منذ بناها جوهر الصقلي سنة 358 هجرية حتى سنة 485 هجرية عندما بنى بدر الدين الجمالي سور القاهرة الثاني الذي ضم كل المناطق الجديدة داخل السور.
وقد ارتبطت بباب النصر بعض مظاهر الحكم والسياسة في العصر الفاطمي: فقد كان من عادة الخلفاء الفاطميين أن يخرجوا من باب النصر لصلاة العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى خارج هذا الباب. وفى بداية كل سنة هجرية كان الخلفاء يخرجون في موكب مهيب يدور دورتين: الدورة الكبرى تخرج من القصر الفاطمي إلى باب النصر الذى يخرجون منه ليدور الموكب حول سور القاهرة ويزور المناطق الموجودة خارج العاصمة ليعود ويدخل المدينة من باب الفتوح؛ وفى الدورة الصغرى كان موكب الخليفة يخرج من القصر إلى باب النصر أيضا ويسير بحذاء سور القاهرة ليعود من باب الفتوح إلى قصر الخليفة أيضًا بدون المرور على الأماكن الموجودة خارج السور كما حدث في الدورة الكبرى (وقد وصفت المصادر التاريخية المعاصرة مواكب الخلفاء الفاطميين بكثير من الإسهاب والتفصيل).
كان الباب الثالث الذي بناه بدر الدين الجمالي ضمن أعماله في السور الثاني، باب الفتوح الذي بني بالحجارة على يدي البنَاء الثالث من الأخوة الذين قدموا من الرها كما أشرنا في السطور السابقة. ومن الطبيعي أن باب الفتوح الجديد جاء على مسافة من الباب القديم شأنه شأن بقية الأبواب التي أعيد بناؤها وقد أشرنا إلى أن هذا الباب أيضا ارتبط باحتفالات الفاطميين واستعراضاتهم في المناسبات ذات الطابع الديني والتي كان القصد الرئيسي منها إبهار المصريين وتأكيد السطوة والمهابة الفاطمية في نفوسهم.
في الجهة الشرقية من سور القاهرة، باتجاه جبل المقطم الذي بنيت القاهرة أصلًا في رحابه، كان يوجد بابان: أحدهما "باب البرقية" والثاني "باب القراطين" الذي صار يعرف في عصر سلاطين المماليك باسم "الباب المحروق". وقد بنى الأمير بدر الدين الجمالي بابين جديدين بدلًا من البابين اللذين لم ينجيا من عاديات الزمان في السور الثاني للقاهرة يحملان اسم باب البرقية وباب القراطين. وقد عرفت المنطقة بين البابين القديمين والبابين الجديدين باسم "بين السورين"؛ وينطقها العامة "بين الصورين" وهي منطقة تجارية مشهورة في القاهرة القديمة. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن "باب البرقية" قد بقي قائمًا وجدده علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801م) ولكن الباب تعرض للتدمير بعد ذلك واكتشفت آثاره عندما تم شق طريق صلاح سالم سنة 1957م ولكن مصيره النهائي لا يزال غامضًا بعد إزالة آثاره لبناء الطريق.
أما "الباب المحروق"، فكان اسمه في البداية "باب القرَاطين" نسبة إلى سوق القراطين الذي كان موقعه خارج هذا الباب، وفى ذلك السوق كان يباع القرط (البرسيم) اللازم لتغذية الحيوانات والطيور والدواجن المنزلية. وهذا الباب المواجه لصحراء المقطم يرتبط بقصة الصراع التاريخي الذي دار في بداية عصر المماليك بين السلطان عز الدين أيبك وزوجته شحر الدر من ناحية، والمماليك البحرية وأميرهم "فارس الدين أقطاي الجمدار" من ناحية أخرى. فقد تنازلت السلطانة شجر الدر عن الحكم بعد أن جلست على العرش ثمانين يوما بسبب المعارضة الداخلية والخارجية لها ؛ وتزوجت عز الدين أيبك بموافقة كبار الأمراء "…وبقيت الديار المصرية بلا سلطان مدة …" وذلك في سنة 648 هجرية= 125م، وصار هو السلطان، استهتر به الأمير فارس الدين أقطاي وأخذ يتطلع إلى عرش السلطنة؛ وجاهر بذلك وكان يركب في موكب بالقاهرة ببعض شعائر الملك وكان أصحابه يسمونه " الملك الجواد"… كل ذلك والمعز سامع مطيع …" حتى خطب فارس الدين أقطاي بنت الملك المظفر تقي الدين محمود أحد أمراء الأيوبيين في الشام وطلب من السلطان أيبك أن يسمح له أن يسكن القلعة مع عروس المستقبل. وهنا أدرك أيبك مدى خطورة أقطاي الذي كان يتطلع إلى اكتساب الشرعية من زواجه بهذه الأميرة الأيوبية، وقرر هو وزوجته شجر الدر التخلص من هذا الغريم المزعج ودعاه إلى القلعة حيث كان قد دبَر مؤامرة لاغتياله سنة 652هجرية= 1254م. ورفض الأمير بيبرس البندقدارى (الذي تولى عرش السلطنة فيما بعد) الصعود إلى القلعة وبقي مع حوالي سبعمائة فارس من المماليك البحرية تحت القلعة ظنا منهم أن أقطاي سجين بالقلعة. وعندما ألقيت عليهم رأس أقطاي المقتول من فوق أسوار قلعة الجبل فروا إلى بلاد الشام بعد أن أدركوا ما ينتظرهم إذا طالتهم قوات السلطان.
ولما كانت أبواب القاهرة موصدة كالعادة بعد الغروب، توجهوا إلى أقرب الأبواب، وهو باب القراطين، قبالة جبل المقطم وأحرقوه ليخرجوا منه إلى بلاد الشام حيث تقلبت بهم الأحوال إلى أن جاء التهديد التتري؛ فعاد بيبرس ورفاقه إلى مصر للمشاركة في قتال التتر. ولعب بيبرس والبحرية دورًا كبيرًا في هزيمتهم في معركة عين جالوت سنة 658 هجرية= 1260م، ثم اغتال قطز وهو عائد بنصره الكبير وجلس على عرش السلطنة باسم السلطان الظاهر بيبرس الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة سلاطين المماليك.
على أية حال، فإن هذه الأبواب كانت أهم أبواب القاهرة الى ارتبطت من حيث أسمائها بأبواب القاهرة الأصلية التي كان جوهر الصقلي قد أنشأها عند بناء المدينة، والتي أعاد بناءها بالحجارة أمير الجيوش بدر الدين الجمالي كما أشرنا في السطور السابقة في منتصف القرن الحادي عشر عندما بنى السور الثاني للقاهرة.. وعلى الرغم من أن بهاء الدين قراقوش الأسدي بنى السور الثالث للقاهرة كله بالحجارة وزاد فى طول السور، بقصد أن يحيط السور بالقاهرة وتوسعاتها والفسطاط (التي كانت تعرف في مصطلح ذلك العصر باسم مصر) وقلعة الجبل، فإن أبواب المدينة بقيت على حالها تحمل أسماءها القديمة نفسها.
بيد أن هناك عدة أبواب أخرى استجدت في القاهرة في فترات تاريخية مختلفة وورد ذكرها في المصادر التاريخية التي تحدثت عن تاريخ المدينة العريقة وجغرافيتها. وكان بهاء الدين قراقوش قد زاد في سور القاهرة على امتداد المسافة ما بين باب القنطرة إلى باب الشعرية كما زاد قطعة أخرى في السور من باب النصر إلى باب الوزير. ويحسن بنا أن نتحدث بإيجاز عن هذه الأبواب المستحدثة.
أما "باب القنطرة"، فقد عرف بهذا الاسم لأن القائد الفاطمي جوهر الصقلي بنى في هذا المكان قنطرة فوق الخليج الذي كان يمر إلى الجهة القبلية من الفسطاط، وقد عرفت القنطرة أيضا باسم "قنطرة بنى وائل" نسبة إلى سكان هذه المنطقة. وكان الهدف من هذه القنطرة أن يعبر جوهر عليها بقواته لملاقاة القرامطة عندما زحفوا على مصر سنة 360 هجرية متجهًا نحو المقس (بوابة جمرك القاهرة التي كانت موجودة آنذاك بالقرب من مكان ميدان رمسيس الحالي). وكان موقع باب القنطرة عند التقاء سور القاهرة الغربي بسورها الجنوبي وقد بناها بهاء الدين قراقوش زمن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 570 هجرية عوضا عن الباب القديم وقبالته على بعد مسافة خمسة وعشرين مترا منه. وقد ذكر العالم المحقق الأستاذ محمد رمزي أن العامة يخلطون بين باب القنطرة وباب الشعرية.
وعند هذا الباب كان الخليفة العزيز بالله الفاطمي قد بنى "منظرة اللؤلؤة" التي كانت متنزها للخلفاء الفطميين، وكانت بها قصورهم التي يقيمون بها وقت فيضان النيل. وقد هدمها الخليفة الحاكم بأمر الله، ثم جدد بناءها الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله. وقد ذكر المؤرخ أبو المحاسن يوسف بن تغرى بردى أن “… قصر اللؤلؤة عند باب القنطرة، وهو من القصور المعدودة بالقاهرة … وصار متنزها للخلفاء الذين كانوا يقيمون فيه وقت زيادة النيل أيام الفيضان وقد بقي حتى ناله الخراب في أيام الشدة المستنصرية … " (وهو الاسم الذى اشتهرت به سنوات المجاعة التي نتجت عن نقص مياه الفيضان زمن الخليفة المستنصر بالله) "…وذهب من محاسن القاهرة شيء كثير من عظم الغلاء والوباء " أما باب الشعرية فينسب إلى طائفة من البربر الذين قدموا مع القائد جوهر الصقلي يقال لهم "بنو الشعرية" من حلفاء قبيلة لواتة المغربية ؛ وكانوا قد نزلوا المنوفية.
كذلك كان من أبواب القاهرة "باب الوزير" الذي بني في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي زمن أحد أبناء السلطان الناصر محمد بن قلاوون في سنة 742ه= 1341م لكي يسهل مرور سكان القاهرة إلى المقابر الملاصقة للسور، وتم تجديد هذا الباب في عصر المماليك سنة 909 هـ= 1503م.
وقد ذكرت المصادر التاريخية "باب الخرٌق" من أبواب القاهرة دون أن تورد أي تفاصيل عنه. ولأن موضعه كان على رأس شارع تحت الربع الحالي، وقريبًا من موضع الباب المحروق الذي سبقت الإشارة إليه فإنني أرجح أن يكون قد تم الخلط بين البابين. وعلى أية حال فإن مصلحة التنظيم بالقاهرة في النصف الأول من القرن العشرين استهجنت الاسم وغيَرته إلى باب الخلق؛ وهو الاسم الذي يطلق في أيامنا هذه على المنطقة الواقعة بالقرب من دار الآثار الإسلامية ومتحف الفن الإسلامي اليوم تحت القلعة حيث تمت حادثة الحرق التي قام بها بيبرس والبحرية قبل هروبهم إلى الشام.
وبالقرب من هذا المكان تحدثت المصادر التاريخية عن "باب سعادة" الذي كان يطل على الخليج غرب القاهرة القديمة (شارع بور سعيد حاليا). وينسب هذا الباب إلى "سعادة بن حيان" الذي كان غلامًا للخليفة الفاطمي المعز لدين الله. وكان قد جاء على رأس فرقة عسكرية من المغرب سنة 360هجرية لمساعدة القائد جوهر ونزل بناحية الجيزة. ثم خرج جوهر للقائه فترجل عن فرسه ودخل القاهرة ماشيًا من هذا الباب فأطلق عليه الناس "باب سعادة" وقد تهدم هذا الباب في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي. وفى القرن العشرين سُدَ هذا الباب تماما وأغلق الطريق الذي كان يخرج من باب سعادة. وعندما بنى منصور باشا يكن قصره في هذه المنطقة وألحق به حديقة كبيرة اندثرت معالم الباب والطريق (وقد صار قصر منصور باشا يكن مبنى محافظة القاهرة القائم الآن في وقت لاحق ودخل جزء من الطريق في حرم القصر كما بنيت مكان الحديقة محكمة الاستئناف الحالية في باب الخلق). وقد زال باب سعادة تماما بعد بناء مديرية أمن القاهرة سنة 1960م، بيد أن المنطقة لا تزال تحمل اسم "درب سعادة" حتى اليوم.
بطبيعة الحال لم تكن هذه جميع أبواب القاهرة ذات التاريخ العريق لكنها الأشهر بين هذه الأبواب بدون شك والأكثر ذكرًا في مصادر التاريخ وحكايات الناس ونمو مدينة القاهرة نفسها وتطورها[1].
[1] المصدر: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
التعليقات
إرسال تعليقك