التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قصة أرطغرل من القصص العجيبة، وتُنسج حوله آلاف الأساطير، ويختلف العلماء في السبب الذي جاء به إلى الأناضول، ليؤسس النواة التي قامت على أكتافها الدولة
قصة الدولة العثمانية من القصص المثيرة العجيبة التي تظهر فيها آيات الله في خلقه، ويتحقَّق فيها بجلاء قول الله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]، فالله -بقدرته وقوَّته- نزع الملك من كثيرين، وآتاه بني عثمان، وأذلَّ أممًا وشعوبًا وقوَّادًا وسلاطين لا نهاية لهم، وأعزَّ في الوقت نفسه هذه العائلة الصغيرة بلا حولٍ منهم ولا قوَّة، فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيء، فكانت قصَّتهم آيةً من آيات الله، تمامًا مثل آيات الليل والنهار، وتمامًا مثل آيات الإحياء والإماتة؛ ولذلك عقَّب اللهُ على آيات الملك في سورة آل عمران بقوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 27]. فصارت آية إتيان المـُلك ونزعه كآيات الليل والنهار، وغيرها من الآيات الكبرى، التي لا يُنازع فيها اللهَ أحدٌ مطلقًا.
تبدأ القصَّة برجلٍ مغمور يترأَّس عائلةً من العائلات التركيَّة الكثيرة المنتشرة هنا وهناك؛ فقد كانت عائلته لا تزيد عن أربعة آلاف إنسان على أكثر تقدير[1]، ولم يكن هذا الرجل مشهورًا في زمانه، للدرجة التي لا يعرف فيها معظم المؤرِّخين مجرَّد اسم أبيه! وكان من الممكن أن تكون قصَّة هذا الرجل من ضمن آلاف وملايين القصص التي تندرس مع مرور التاريخ، لولا أنَّ الله كتب لذريَّته البقاء والذكر، وليس مجرَّد البقاء والوجود؛ إنَّما البقاء سادةً وقوَّادًا.
هذا الرجل هو أرطغرل التركي، الذي تُنسج حول قصَّته آلافُ الأساطير والحكايات، وليس أيٌّ منها مؤكَّدًا بالمرَّة؛ ممَّا يُؤكِّد أنَّه لم يكن أميرًا لامعًا في زمانه، وإلَّا لحظي باهتمام المؤرِّخين والملوك، ولهذا يختلف العلماء كثيرًا حول أصول الرجل، وعن السبب الذي جاء به من أقصى شرق العالم، حيث الموطن الأصلي للأتراك، إلى أقصى غرب آسيا في منطقة الأناضول، ليُؤسِّس هناك النواة التي قامت على أكتافها الدولة العثمانية العملاقة.
تزعم بعض الروايات غير الموثَّقة أنَّه كان من العائلات التي هربت من منطقة التركستان عند ظهور چنكيز خان والدولة المغولية، وأنَّه استمرَّ في هروبه في اتِّجاه الغرب حتى وصل إلى الأناضول، وهناك وجد مصادفةً معركةً دائرةً بين سلطان سلاجقة الروم علاء الدين كَيقباد وجيشٍ آخر، فانضمَّ إلى علاء الدين، ولمـَّا حدث الانتصار للأخير أعطاه إقطاعيَّةً هديَّة، فكانت هذه الإقطاعيَّة هي البداية[2].
هذه القصة -فوق أنَّها غير موثَّقةٍ بالدليل- لا تحمل المصداقيَّة أو المنطقيَّة؛ فالرجل الذي قطع مئات، بل آلاف الأميال، ليهرب من صِدَامٍ مع جيش التتار، لا يدخل في معركةٍ عشوائيَّةٍ لا يدري فيها شيئًا عن أيٍّ من الفريقين المتقاتلَيْن! بالإضافة إلى أنَّه من غير المعقول أنَّ سلطان سلاجقة الروم علاء الدين كَيقباد يُعطي إقطاعًا من الأرض لعابر سبيل تعرَّف عليه للمرَّة الأولى في معركةٍ من المعارك؛ بل المتوقَّع في هذه الظروف أن يُكافئه بالمال، أو بمجرَّد الإيواء له في مملكته الواسعة دون أن يُعطيه إمارة، خاصَّةً في هذا الوقت الذي كانت العائلات التركيَّة الكثيرة التي تعيش في الأناضول تتنافس على امتلاك الأرض تحت مظلَّة السلاجقة، وفي نفوس الكثيرين منها الرغبة في الاستقلال والانفراد بالملك.
وتُحاول بعض الروايات أن تُضْفي شيئًا من القدسيَّة على شخصيَّة أرطغرل، فتذكر أنَّ هذه المعركة التي اشترك فيها أرطغرل كانت بين سلاجقة الروم المسلمين والجيش البيزنطي، وأنَّ أرطغرل انضمَّ إلى الجيش المسلم نخوةً وحميَّةً للدين[3]، وهذه -أيضًا- معلوماتٌ بلا دليلٍ موثَّق، بالإضافة إلى أنَّها تُنافي المنطق تمامًا؛ حيث كانت الدولة البيزنطيَّة آنذاك واقعةً تحت الاحتلال الكاثوليكي، الذي بدأ في الحملة الصليبية الرابعة 1204م، ولم تتحرَّر الدولة إلَّا في عام 1261م، وحيث إنَّ المعركة التي نحن بصدد الحديث عنها كانت في هذه الفترة فإنَّ الدولة البيزنطيَّة لم تكن في هذا الوقت قادرةً مطلقًا على الدخول في معارك مع سلاجقة الروم، فضلًا عن أنَّ الموقعة كانت في شرق الأناضول؛ ممَّا يجعل اختراق البيزنطيِّين للأناضول كلِّه من أجل حرب السلاجقة أمرًا مستحيلًا.
والذي أميل إليه هو أنَّ المعركة التي اشترك فيها أرطغرل كانت بين سلاجقة الروم بقيادة علاء الدين كَيقباد وجلال الدين خوارزم زعيم الخوارزميَّة المسلم؛ الذي سقطت دولته في الشرق تحت أقدام المغول، وأتى إلى الأناضول باحثًا عن مُلْكٍ بديلٍ للذي ضاع منه في بلاده، فهذا الصدام بين السلاجقة والخوارزميَّة كان هو الصدام الأهم الذي حدث في هذه الفترة الزمنيَّة[4]؛ ممَّا يُشير إلى صحَّة الرواية القائلة بذلك، ولكن يبقى التساؤل عن ملابسات اشتراك أرطغرل في هذه المعركة؛ والذي أراه أنَّ الظروف التاريخيَّة التي عاشها أرطغرل بعد ذلك، تُؤكِّد أنَّه من أهل الأناضول منذ فترة، وأنَّه لم يأتِ وافدًا إليها لحظة المعركة كما تُشير الرواية التي أشرنا إليها آنفًا؛ إنَّما كان من سكَّان الأناضول؛ بل كان من أفراد جيش علاء الدين كَيقباد المعروفين له، وقد يكون وجود أجداده في الأناضول قديمًا، فيرجع مثلًا إلى الفترة التي أعقبت موقعة ملاذكرد عام 1071م (463هـ)[5]، وبذلك كبرت عائلته في حماية السلاجقة، حتى جاءت هذه المعركة، فأبلى فيها أرطغرل بلاءً حسنًا؛ ومِنْ ثَمَّ أعطاه علاء الدين كَيقباد إقطاعيَّةً من الأرض مكافأةً له على جهده في المعركة.
والذي يدعم وجود أرطغرل في أرض سلاجقة الروم منذ فترة؛ أنَّه اشترك في المعركة إلى جانب علاء الدين كَيقباد السلجوقي، ولو كان قادمًا من الشرق في هذا التوقيت هربًا من چنكيز خان، فهذا يعني أنَّه كان يعيش في كنف الخوارزميَّة هناك؛ ومن ثَمَّ كان من المنطقي أن ينضمَّ إلى جلال الدين خوارزم وليس إلى علاء الدين كَيقباد.
انتصر علاء الدين كَيقباد إِذَنْ في المعركة، فأعطى أرطغرل إقطاعيَّةً من الأرض يعيش فيها هو وعائلته، فهل كان هذا العطاء مكافأةً خالصة؟ أم أنَّ وراءه أهدافًا أخرى؟!
الواقع أنَّني أرى أنَّ أمر الإعطاء هذا لم يكن مريحًا! بل كان فيما أظنُّ نوعًا من التخلُّص بشكلٍ دبلوماسيٍّ ذكيٍّ من أرطغرل!!
ولماذا يتخلَّص علاء الدين كَيقباد من أرطغرل؟!
قد يكون السبب في ذلك هو علوَّ نجم أرطغرل في المعركة التي اشترك فيها، وظهور الكفاءة العسكريَّة له بشكلٍ يُخيف الأمراء الكبار التابعين لعلاء الدين كَيقباد، أو يُخيف السلطان السلجوقي نفسه، خاصَّةً في هذا التوقيت الذي يطمع فيه كلُّ أميرٍ تركيٍّ في المنطقة في اقتطاع جزءٍ من الأناضول؛ ليُقيم عليه حكمًا خاصًّا به تحت مظلَّة السلاجقة الكبيرة، والذي يدعونا إلى هذا الافتراض هو أنَّ الإقطاع الذي أُعْطِيَ لأرطغرل كان خطرًا للغاية؛ حيث كان في أقصى غرب الأناضول في منطقة سوجوت Söğüt[6]، وهذه منطقةٌ تقع على حدود الدولة البيزنطيَّة، التي كانت العدوَّ الأول للسلاجقة آنذاك؛ بل إنَّ هذه الأرض التي أقطعها علاء الدين لأرطغرل كانت تقع داخل الأرض البيزنطيَّة نفسها، وليس في أرض السلاجقة الغربيَّة! أي أنَّ علاء الدين كَيقباد «قَذَفَ» أرطغرل في أرض العدوِّ، وطلب منه أن يتوسَّع فيها لو استطاع! وهذا لا يتمُّ إلَّا مع رجلٍ لا يُتَعَامل معه بوديَّةٍ أو محبَّة؛ إنَّما هو تعاملٌ ذكيٌّ محترفٌ يرمي إلى أحد احتمالين؛ الاحتمال الأوَّل هو أن يتمكَّن أرطغرل من السباحة في بحر البيزنطيِّين، ويتوسَّع في أراضيهم، وعندها سيُضاف هذا النجاح إلى رصيد علاء الدين كَيقباد الكبير الذي أرسله إلى هناك، والاحتمال الثاني أن تلتهم الدولة البيزنطيَّة أرطغرل وعائلته؛ وبذلك يتخلَّص علاء الدين من النجم الجديد الذي ظهر في جيشه، وقد يكون هذا التصرُّف بإيعازٍ من كبار الأمراء التابعين للسلاجقة، الذين ينتمون إلى عائلاتٍ أخرى، لا تُريد منافسةً في أرض الأناضول، وخاصَّةً عائلة بني قرمان، التي ستُظْهِر لاحقًا بُغْضًا كبيرًا لعائلة أرطغرل.
وتُشير معظم المصادر دون تفصيل إلى أنَّ علاء الدين كَيقباد أقطع أرطغرل أرضًا دون أن تُشير إلى أنَّ هذه الأرض كانت خارج حدود السلاجقة أنفسهم، ولكنَّني افترضت أنَّ هذه الأرض بيزنطيَّة وليست سلجوقيَّةً للأسباب التالية:
أولًا: مع أنَّ المصادر أثبتت أنَّ السلاجقة بقيادة سليمان بن قتلمش قد فتحوا مدينة نيقيَّة Nicaea قديمًا في سنة (467هـ=1075م)[7]، فإنَّه من الثابت -أيضًا- أنَّ المدينة ضاعت سريعًا لصالح البيزنطيين في سنة (490هـ=1097م)[8]، ولم أجد في أيِّ مصدرٍ بعد ذلك من المصادر التي اطَّلعتُ عليها أنَّ المدينة قد عادت للسلاجقة، وهذا يعني أنَّها كانت بيزنطيَّةً يوم ذهب أرطغرل إلى سوجوت القريبة جدًّا من نيقيَّة.
ثانيًا: من قراءة تاريخ أرطغرل، ثم تاريخ ابنه عثمان، وحفيده أورخان، لم نرَ ذِكْرًا لأيِّ عائلةٍ مسلمةٍ في منطقة نفوذهم، مع أنَّ العائلات التركيَّة في ذلك الزمن كثيرةٌ ومعروفة، فلو كان أحدهم يقطن في هذه المنطقة لحدث نوعٌ من التواصل، أو الصدام، أو التعاون، الذي قد يُعلِّق عليه المؤرِّخون، وهذا يُؤكِّد أنَّ المنطقة كانت خاليةً من المسلمين.
ثالثًا: من الثابت تاريخيًّا أنَّ أرطغرل وعثمان وأورخان لم يُقاتلوا مسلمين في كلِّ حياتهم[9]، فإذا تابعنا تحرُّكات كلٍّ منهم التوسُّعيَّة وجدنا أنَّهم توسَّعوا في كلِّ الاتجاهات؛ شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا؛ ممَّا يُؤكِّد أنَّ الأرض الممنوحة لأرطغرل كانت محاطةً من كلِّ جهاتها بأرضٍ نصرانيَّةٍ بيزنطيَّة، أي أنَّها كانت داخل الإمبراطوريَّة البيزنطية آنذاك!
رابعًا: لم تُعلن أيٌّ من الإمارات الإسلاميَّة التركيَّة المجاورة لإمارة أرطغرل ثم أولاده من بعده، أنَّ أرطغرل -أو أحد أبنائه- قد استولى على أرضٍ تابعةٍ لهم، ومِنْ ثَمَّ فهذه الأرض كانت بلا زعيمٍ أو حاكم، وهذا لا يحدث إلا مع مثل هذه الأراضي المتطرِّفة عن مركز الدولة؛ إذ إنَّها بلا شك لا تتبع سلطان السلاجقة، وإلَّا لما تركها هكذا دون إدارة، ودون رعايةٍ من أحد الأمراء التابعين له.
خامسًا: هذه الأرض التي مُنحت لأرطغرل تعدُّ من أغنى المناطق في الأناضول؛ حيث الخصوبة الشديدة، والوضع الاستراتيجي المتميِّز، وهذه الأرض لو كانت مملوكةً لسلطان السلاجقة لَمَا أعطاها لقائدٍ مغمورٍ لم يُسْمَع عنه إلَّا حديثًا؛ بل كان من المتوقَّع أن تكون مطمعًا للعائلات التركيَّة الكبرى، مثل عائلة بني قرمان، أو عائلة چاندار، أو غيرهما من العائلات العريقة آنذاك، وهذا يُؤكِّد أنَّ هذه الأرض كانت بعيدةً عن سلطة علاء الدين كَيقباد ملك السلاجقة.
هذه الملاحظات الخمس تُعطي الانطباع أنَّ هذا الإقطاع البعيد لم يكن إكرامًا لأرطغرل في الحقيقة؛ ولكنَّه كان تخلُّصًا ذكيًّا من قائدٍ واعدٍ قد يكون له مستقبلٌ يُخيف الكبار من السلاجقة وأتباعهم، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الأزمة التي وُضِعَ فيها أرطغرل وعائلته، فإنَّ الله أراد أن يُظْهِرَ قدرته في إتيان الملك والعزَّة والقوَّة لمن أراد؛ حتى لو كانت كلُّ الظروف تجري في عكس ذلك، فجعل I من هذه الظروف الصعبة أسبابًا عجيبةً لنشأة الدولة العثمانيَّة قويَّةً وحيويَّة، ومِنْ رَحِمِ هذه الأزمات وُلِدَت دولةٌ تنبض بالحياة وطول العمر، كما قال تعالى في معرض حديثه عن آيات الـمُلْكِ: ﴿وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ [آل عمران: 27]. فمِنْ هذه الأرض التي لا تحمل إلَّا أسباب الموت والهلكة، وُلِدَت الدولة التي سيطول عمرها حتى تُصبح أكبر الدول الإسلاميَّة عمرًا، ولننظر ماذا فعل هذا العطاء «غير المقصود» مع هذه العائلة التركيَّة الصغيرة؛ عائلة أرطغرل:
أولًا: بسبب وجود عائلة أرطغرل في وجه الدولة البيزنطيَّة الكبيرة ظلُّوا دومًا في حالة جاهزيَّةٍ للقتال؛ حيث كان موقعهم الخطر سببًا في عدم تركهم للسلاح قط، وهذا الاستعداد العظيم، واللياقة الجهاديَّة العالية، جعلتهم أقوى العائلات التركيَّة في المنطقة، ويوم حدث التنافس بين العائلات على سيادة الأناضول بعد سقوط الدولة السلجوقية، كانت عائلة أرطغرل هي أجهز العائلات لتسلُّم ميراث السلاجقة، ولو كانت أرضهم بعيدةً عن البيزنطيِّين لكان حالهم مثل حال العائلات التي طال عليها الأمد في الراحة والدَّعَة، فنسوا أمر الجهاد، ولم يعتادوا على القتال والنزال.
ثانيًا: هذه الأرض الخصبة التي سكن فيها أرطغرل وأبناؤه كانت سببًا في ثرائهم السريع؛ وكان توفُّر المال في هذا الوقت، وفي كلِّ الأوقات، يعني توفُّر السلاح والخيول والرجال، وهذا أعطى أرطغرل وأبناءه قوَّةً متناميةً فاقت كلَّ القوى المعاصرة لهم.
ثالثًا: الوضع الاستراتيجي الخطر الذي تتميَّز به هذه الإقطاعيَّة جعلها قريبةً من المضايق المهمَّة في الأناضول؛ أعني مضيقي البوسفور والدردنيل، وهذا أعطاهم إمكانيَّةً للسيطرة على هذه المضايق الخطرة وقت الحاجة، وجعلهم كذلك قريبين من العاصمة البيزنطيَّة العريقة القسطنطينيَّة؛ ممَّا جعل تأثيرهم عليها وعلى البيزنطيِّين كبيرًا، وهذا كلُّه أضاف إلى قوَّة أرطغرل وأبنائه.
رابعًا: هذا المكان الذي أُعْطِي لأرطغرل كان في أقصى غرب الأناضول ممَّا جعله قريبًا من أوروبَّا، التي كانت تُعاني من فوضى سياسيَّة في هذا التوقيت؛ وذلك من حيث ضعف البيزنطيِّين، والبلغار، والصربيين؛ ممَّا أعطى أبناء أرطغرل «القابلية للتمدُّد» داخل الأراضي الأوروبيَّة بعد أن اكتظَّ الأناضول بالقُوى والملَّاك، وهذا أعطى دولة أرطغرل وأبنائه قوَّةً كبيرةً دون التعرُّض لصدامٍ مبكِّرٍ مع القوى الإسلاميَّة الموجودة في الأناضول، وهذا الأمر لم يكن متوفِّرًا للإمارات التركيَّة الداخليَّة في الأناضول؛ حيث لم يكن عندها هذه المساحة التي يُمكن أن تتمدَّد فيها؛ ومن ثَمَّ صارت قوَّة إمارة أرطغرل وأبنائه متزايدة مع الوقت؛ بينما ظلَّت الإمارات الأخرى ثابتةً في حجمها أو متقلِّصة.
خامسًا: هذه الأرض التي تملَّكها أرطغرل هي من أكثر المناطق كثافةً في السكان، وكذلك المناطق المحيطة بها، خاصَّةً من جهة الشمال والغرب، وهذا ما جعل عدد سكان إمارة أرطغرل كبيرًا من البداية، وتزايد العدد بقوَّةٍ في زمان ابنه عثمان، ثم حفيده أورخان، ولقد كانت معظم هذه الكثافة السكانيَّة نصرانيَّة في البداية؛ ولكنَّهم سرعان ما تحولَّوا إلى الإسلام بعد رؤيتهم لنموذج عائلة أرطغرل وأبنائه، فصارت هذه الإمارة الواعدة من أكبر الإمارات الأناضوليَّة وأكثرها عددًا، ويكفي أن نعرف أنَّ عدد سكان هذه الإمارة الصغيرة كان في زمن أورخان (حفيد أرطغرل) ثلاثة ملايين إنسان! في الوقت الذي كان سكان دولة عريقة كإنجلترا لا يتجاوز في هذا التوقيت مليونين من البشر[10]! وهذا يُعطينا فكرةً عن حجم الإمارة في هذه المرحلة المبكرة من مراحل نموِّها.
لا شكَّ أنَّ كلَّ هذه الحسابات التي طرحناها في السطور السابقة لم تكن حاضرةً في ذهن علاء الدين كَيقباد وهو يُقْطِع أرطغرل هذه الأرض النائية؛ إنَّما أراد الله أن يهب هذا الرجل ملكًا يتنامى مع أولاده وذريَّته حتى تُصبح هذه الإقطاعيَّة الصغيرة واحدةً من أكبر الإمبراطوريَّات في التاريخ، وليس هذا إلَّا لله!
***
ماذا فعل أرطغرل في أرضه الجديدة؟!
الواقع أنَّ المعلومات المتوفِّرة عن أرطغرل قليلة، ومع ذلك فإنَّنا نستطيع أن نُكَوِّن فكرةً عن طبيعته الشخصيَّة، وطريقته في إدارة أموره وأمور عائلته، من بعض الملاحظات التي نجدها في القَدْرِ اليسير الذي وصل إلينا.
كان أرطغرل في الأربعين من عمره عندما تسلَّم إقطاعيَّته الجديدة، وعاش طويلًا؛ إذ ظلَّ حاكمًا لهذه الإقطاعيَّة مدَّة خمسين سنةً كاملة! أي أنَّه مات في التسعين تقريبًا، وقد استطاع في هذه الفترة أن يُضاعف حجم إقطاعيَّته من ألفي كيلو متر مربع إلى أربعة آلاف كيلو متر مربع أو يزيد قليلًا[11]، وكانت كلُّ هذه الزيادة من الأراضي البيزنطيَّة حوله.
إنَّنا يُمكن أن نلحظ أنَّ أرطغرل كان حكيمًا في آرائه، هادئًا في انفعالاته، متَّزنًا في تصرُّفاته؛ فهو لم يندفع للتوسُّع الأرعن في داخل الدولة البيزنطيَّة، أو في الإمارات الإسلاميَّة المجاورة له؛ إنَّما توسَّع ببطءٍ شديد، مُقَدِّرًا في ذلك حجمه الصغير بالقياس إلى القُوَى العملاقة التي تُحيط به، فزادت مساحة إقطاعيَّته مرَّتين دون أن يُثير غائلةَ مَنْ حوله، وهو لم يفتح أيَّ مدينةٍ بيزنطيَّةٍ كبيرة، ولم يستثر أيَّ قائدٍ تركيٍّ مجاورٍ له، فحافظ على وجوده خمسين سنةً كاملة، ولو تعامل برعونةٍ لابتلعته إحدى هذه القوى الكبيرة حوله.
لقد كان هذا التوسُّع هادئًا للغاية، حتى إنَّ المؤرِّخين المعاصرين لم يلحظوه، فلم يُسجِّل واحدٌ منه خطواته في التوسُّع ولا صداماته؛ لكنَّه في النهاية نجح في تسليم ابنه عثمان مساحةً طيِّبةً من الأرض يستطيع -لو كان حكيمًا كأبيه- أن يُضاعفها هو الآخر. هكذا التدرُّج سُنَّة من سنن الدول الراسخة، أمَّا الجماعات التي تسعى للتضخُّم سريعًا، مُعْرِضَةً عن هذه السُّنَّة -سُنَّة التدرُّج- فإنَّها سُرعان ما تتهاوى، ولو حدث وأقامت دولةً فإنَّها تنهار عند أوَّل أزمة، وهذا ما لم نره في تاريخ أرطغرل وأبنائه.
وكان أرطغرل صاحب نزعةٍ إسلاميَّةٍ واضحة، وظهر ذلك في عدَّة أمور؛ منها حُسن تربيته لابنه عثمان وإخوته على حبِّ الدين وأهله، ومنها عدم تعدِّيه على جيرانه المسلمين ولو رأى منهم ضعفًا، ومنها حرصه على بناء المساجد في القرى الصغيرة التي أسَّسها في إقطاعيَّته.
وكان أرطغرل في كلِّ حياته تابعًا لسلطان السلاجقة، حتى بعد وفاة علاء الدين كَيقباد، الذي كان قويًّا قادرًا، فلم يُفكَّر أرطغرل في أيِّ استقلاليَّةٍ بإقطاعيَّته، مع أنَّ السلاطين الذين خَلَفُوا علاء الدين كَيقباد كانوا في غاية الضعف، ولم يكن لهم من السلطة إلَّا الاسم، ومع ذلك ظلَّ أرطغرل على ولائه لهم، وهذا دليلٌ على اتِّزانه وعدم رعونته؛ لأنَّ أيَّ استقلاليَّةٍ في هذا الوقت المبكر ستلفت الأنظار إليه، وإلى خطورة وأهميَّة المنطقة التي يتزعَّمها، فوق أنَّه لم يرد أن يشقَّ عصا الطاعة ويُفَرِّق المسلمين، فكان مثالًا للقائد الحكيم الذي يُقَدِّر قوَّته، ولا يُهدرها فيما لا يفيد.
ولكون أرطغرل كان تابعًا طوال حياته لسلطان السلاجقة فإنَّ الدولة التي أسَّسها أولاده بعد ذلك لم تُنسب إليه قط، ولم تتردَّد مطلقًا كلمة «الدولة الأرطغرليَّة»، مع أنَّه أبو عثمان المؤسِّس للدولة العثمانية؛ ولهذا يتَّفق الجميع على أنَّ أرطغرل كان تابعًا ولم يسعَ للانفصال قط.
وفي رأيي أنَّ أرطغرل كان شخصيَّةً نقيَّةً طيِّبة، وكان زرعه صالحًا طاهرًا، وقد كتَب اللهُ للبذرة التي ألقاها هذا الرجلُ الصالحُ البقاءَ لأكثر من ستَّة قرون، وليس هذا أمرًا عاديًّا في تاريخ الأمم؛ خاصَّةً أنَّ الدولة العثمانيَّة التي أنبتها أرطغرل لم تكن دولةً عاديَّةً عاشت على هامش التاريخ؛ بل كانت دولةً مؤثِّرةً غاية التأثير، حتى ظلَّ تأثيرها باقيًا في الدنيا حتى بعد سقوطها بمائة سنةٍ وأكثر، وكانت كالشجرة العظيمة التي انتشرت فروعها في السماء؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24، 25][12].
***
[1] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م. صفحة 3/6.
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 115.
[3] 157. شاكر، محمود: التاريخ الاسلامي، المكتب الاسلامي، بيروت، (العهد العثماني، الجزء الثامن، الطبعة الثالثة، 1411هـ=1991م)، صفحة 8/60.
[4] ذكر المؤرخون حربًا بين الخوارزميِّين وسلاجقة الروم في سنة 627هـ (1230م) انهزم فيها جلال الدين الخوارزمي. انظر: ابن الأثير، 1997 صفحة 10/440، وابن واصل، 1957 الصفحات 4/298، 299.
[5] العصامي، عبد الملك بن حسين بن عبد الملك: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ=1998م. صفحة 4/70.
[6] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/484.
[7] ابن العديم، كمال الدين عمر بن أحمد: بغية الطلب في تاريخ حلب، حققه وقدم له: سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1408هـ=1988م. صفحة 1/480.
[8] Oman, Charles William Chadwick: A History of the Art of war in the Middle Ages, Methuen & Company, London, 1924., vol. 1, p. 239.
[9] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، (الجزء الأول 1988م، صفحة 1/92.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/97.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/87.
[12] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 58- 66.
التعليقات
إرسال تعليقك