التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كانت جزيرة رودس تحت سيطرة فرسان القديس يوحنا منذ عام 1310م، فأرسل إليها الفاتح حملة عسكرية بحرية في سنة 1479م.
فتح الجزر الأيونية: (1479م)
كانت أحد أهداف محمد الفاتح الكبرى فتح روما! وبعد أن أسقط البندقية، وفتح ألبانيا، صارت الفرصة متاحةً لكي يُحقِّق الحلم، ويغزو البابا في عقر داره، وكان يعلم أن هناك خطواتٍ محددةً لا بُدَّ أن يقوم بها كي يتيسَّر له هذا الفتح، ومنها وضع قدمٍ في مدخل البحر الأدرياتيكي لتكون نقطة انطلاقٍ إلى إيطاليا، ومنها إحكام السيطرة على البحر الأسود لكي لا يُضْرَب من ظهره حين يغزو إيطاليا غربًا، ومنها السيطرة على بحر إيجة، ولن يكون هذا إلا بالتصدي لفرسان القديس يوحنا المسيطرين على جزيرة رودس، ومنها غزو جنوب إيطاليا ومملكة نابولي ليكون قريبًا برِّيًّا من روما، وهذه الخطوات المطلوبة هي التي رسمت مراحل الفترة القادمة في حياة الفاتح رحمه الله.
الجزر الأيونيَّة هي سبع جزرٍ في مدخل البحر الأدرياتيكي الجنوبي؛ وكانت ثلاثٌ منها تتبع البندقية، وهي جزر: كورفو Corfu، وباكسي Paxi، وكيثيرا Kythera. أمَّا الجزر الأربعة الأخرى، وهي: كيفالونيا Cephalonia، وليفكاس Lefkas، وإيثاكا Ithaca، وزانتي Zante، فإنَّها كانت تحت حكم الأمير ليوناردو الثالث Leonardo III، وهو أميرٌ من أصولٍ إيطاليَّة، وكان يدفع الجزية إلى الدولة العثمانية، ولكنَّه في محاولةٍ لتدعيم موقفه أمام العثمانيِّين والبنادقة تزوَّج في عام 1477م -أي قبل هذه الأحداث بعامين فقط- فرانسيسكا Francesca بنت أخي فرديناند الأول Ferdinand I ملك نابولي[1]، فصار من المتوقَّع أن تقف هذه الجزر في صفِّ نابولي في محاولة غزو إيطاليا، وهكذا صار مدخل الأدرياتيكي محفوفًا بالمخاطر، وهي محطَّةٌ لا بُدَّ للعثمانيِّين أن يمرُّوا بها في طريقهم إلى روما!
استغل الفاتح فرصة انقطاع ليوناردو الثالث حاكم الجزر الأيونية عن دفع الجزية[2] فقرَّر فتح الجزر الضعيفة التي كانت تحت إمرته. تحرَّك الأسطول العثماني المكوَّن من تسعٍ وعشرين سفينةً حربيَّة[3] من مدينة ڤلور الألبانيَّة بقيادة كديك أحمد باشا متَّجهًا جنوبًا إلى الجزر الأيونيَّة (خريطة رقم 18).
وصل الأسطول العثماني إلى جزيرة ليفكاس في يوم 17 أغسطس 1479م[4]، فاحتلَّها دون مقاومةٍ تُذكر، وعندما أدرك ليوناردو الثالث أنَّ الأسطول العثماني جادٌّ في احتلال الجزر حمل أسرته وثروته وفرَّ إلى نابولي[5]! وصل الأسطول العثماني إلى كيفالونيا في يوم 26 أغسطس[6]، ومنها إلى جزيرة إيثاكا، وكما حدث مع جزيرة ليفكاس كان الوضع في هاتين الجزيرتين؛ حيث سيطر العثمانيُّون عليها دون مقاومةٍ لخلوِّها من الجيش تقريبًا بعد هروب أميرهم[7].
أما جزيرة زانتي فقد حدث عندها نوعٌ من التحرُّش بين الأسطولين العثماني والبندقي للتنافس عليها، ولكن سرعان ما قَبِل البنادقة الحلَّ الدبلوماسي، وتركوا الجزيرة للعثمانيين خوفًا من انهيار معاهدة السلام المعقودة بين الطرفين[8].
هكذا صار للدولة العثمانيَّة -ولأوَّل مرَّةٍ في تاريخها- قاعدةٌ في مدخل الأدرياتيكي، وهي تشمل أربع جزرٍ من الجزر الأيونيَّة؛ وهي من الشمال إلى الجنوب: ليفكاس، ثم كيفالونيا، وإيثاكا، وأخيرًا زانتي، وفوق ذلك فإنَّ العثمانيِّين صاروا يمتلكون -أيضًا- عدَّة موانئ على الأدرياتيكي، سواءٌ في اليونان، أم في ألبانيا، وهذ كلُّه يصبُّ في توفير فرص النجاح لعمليَّة فتح إيطاليا.
فتح غرب چورچيا: (1479م)
قرَّر محمد الفاتح أن يستكمل فتح قلاع شرق البحر الأسود، والواقعة على شواطئ مملكة چورچيا؛ وذلك حتى يستكمل السيطرة على كامل تجارة البحر الأسود، ويُوفِّر في الوقت نفسه كامل الأمان لحركة السفن في البحر، فاستطاع فتح إقليم أچارستان Adjara وخاصَّةً مدينته الرئيسة باطومي Batumi[9][10]، ويرجع اختيار الفاتح لهذا التوقيت للقيام بهذه العمليات العسكرية شرق البحر الأسود إلى وفاة السلطان أوزون حسن سلطان الآق قوينلو في عام 1478م، مما حرم المنطقة من أكبر الداعمين لها، ويُؤكِّد ارتباط الأمر بموت أوزون حسن أن الفاتح غزا إمارة تورول Torul في هذا التوقيت أيضًا، وكانت تورول إمارةً مستقلَّةً عن چورچيا ولكنَّها تابعةٌ لأوزون حسن؛ وكذلك استطاع محمد الفاتح في الحملة نفسها فتح مدينتين في قفقاسيا، وكانتا تابعتين لچنوة، وهما كوبان Kuban، وأنابا Anapa، وبذلك يكون قد جعل الساحل الشرقي للبحر الأسود عثمانيًّا خالصًا[11].
هزيمة حقل الخبز: (1479م)
نتيجة بعض التحرُّشات بين الدولة العثمانية والمجر اخترق جيشٌ عثمانيٌّ يبلغ عدده ثلاثةً وأربعين ألف مقاتلٍ[12] إقليمَ ترانسلڤانيا الروماني، والتابع للمجر، حتى وصل إلى قريةٍ صغيرةٍ اسمها شيبوت Șibot[13]، وعسكر في وادٍ فسيحٍ اسمه كينيرميزو Kenyermezö، وهي كلمةٌ تعني بالمجريَّة «حقل الخبز»، ولهذا تُعرَف المعركة التي دارت عند هذا الوادي بمعركة حقل الخبز Battle of Breadfield.
في صباح يوم 13 أكتوبر 1479م ظهر جيش استيفين باثوري Stephen Báthory أمير ترانسلڤانيا أمام المعسكر العثماني[14]، وتباطأ الجيش العثماني في التعامل مع الموقف، ويُرْجِع بابينجر هذا البطء لكون الجيش العثماني محمَّلًا بالغنائم الكثيرة فلم يُرِد الحركة حفاظًا على معسكره المثقل بالثروات، كما يُرْجِع ذلك -أيضًا- إلى كثرة القيادات في الجيش ممَّا أحدث بينهم الاختلاف، وهذه الأسباب التي ذكرها بابينجر منطقيَّة، وهي تُفسِّر حالة التردُّد التي كان عليها العثمانيُّون في هذه المعركة. في نهاية الأمر دارت معركةٌ شديدةٌ كان النصر حليفًا للجيش العثماني في أولها، غير أن وصول مددٍ مجريٍّ تحت قيادة قائدهم الشهير بول كينيزي Paul Kinizsi غيَّر من المعادلة.
فوجئ الجيش العثماني، وكانت مناورته ضعيفةً للغاية، وسيطر المجريُّون على الموقف، وقُتِل عددٌ كبيرٌ للغاية من العثمانيِّين، قدَّره بابينجر بثلاثين ألف جندي[15]، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية، ويُمكن أن يكون صحيحًا لأنَّ محاولات العثمانيِّين لاختراق ترانسلڤانيا توقَّفت بعد هذه المعركة لقرابة خمسين سنةً كاملةً! تصف موسوعة أكسفورد المعركة بأنَّها واحدةٌ من أكبر المعارك التي حدثت بين المجر والدولة العثمانيَّة في القرن الخامس عشر، ومن أكثرها دمويَّة[16]، ويُعلِّق عليها المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون بقوله: «حقَّقت المجر واحدةً من أكبر الانتصارات اللافتة للنظر في تاريخ حروبها مع الأتراك»[17]. ومع ضراوة الهزيمة إلا أنها لم تُثْنِ الفاتح عن تخطيطه لغزو إيطاليا!
حصار رودس الأول والثاني: (1479-1480م)
كانت جزيرة رودس تحت سيطرة فرسان القديس يوحنا منذ عام 1310م[18]، وكان البيزنطيون، ومن بعدهم فرسان القديس يوحنا، قد حصَّنوا الجزيرة بشكل عظيم، حتى كانت تحصيناتها توازي تحصينات القسطنطينية[19] (خريطة رقم 19)، بل لعلها أمنع لكونها محميَّةً بالبحار من كلِّ جانب، مما يعيق حمل المدافع الثقيلة إليها، وبالتالي يتعذَّر قصف أسوارها بشكلٍ قوي، وتُقدِّر بعضُ المصادر عددَ القلاع في جزيرة رودس بأكثر من ثلاثين قلعةً حصينة[20].
وكان فرسان القديس يوحنا يتلقون الدعم بشكلٍ مباشر من البابا[21]، وكانوا على عداء شديد مع المسلمين بشكلٍ عام، ومع الدولة العثمانية بشكلٍ خاص؛ لتنافسهم معها على بحر إيجة، وكانت الحرب بينهما معلنة، وقد أراد الفاتح أن يُجنَّب دولته الحرب معهم حتى يتفرَّغ لفتح إيطاليا، فأرسل إليهم سفارة في آخر صيف 1479م تدعوهم إلى هدنة، ووافق أمير تنظيم الفرسان بيير دي أوبسون Pierre d'Aubusson على الهدنة العثمانية[22]، لكن يبدو أنها كانت قصيرة؛ لأن الفاتح قام بإرسال حملة عسكرية بحرية إلى رودس في ديسمبر 1479م بقيادة مسيح باشا Mesih Pasha[23]، وهو ابن أخي آخر الأباطرة البيزنطيِّين قُسطنطين الحادي عشر[24]، وقد تربَّى في مدارس العثمانيَّين، واعتنق الإسلام، وأحسب أن هذه الحملة لم تكن تهدف إلى فتح الجزيرة، ولكن فقط إلى استكشاف نقاط الضعف فيها، وجسِّ نبض الفرسان، وردِّ فعل أوروبا والبابا؛ لأنَّه لم يحدث قتالٌ يُذكر في هذه الحملة، ولم يكن هناك إصرارٌ على الإنزال البحري على الجزيرة.
استعدَّ الفرسان بعد هذه الحملة بشكلٍ كبير، واشتروا المؤن الكافية التي تمكنهم من المطاولة في الحصار[25]؛ لأنهم كانوا يتوقَّعون إرسال الفاتح لجيشٍ آخر كبير في الصيف المقبل، وهو ما حدث بالفعل!
في أوائل شهر (مايو 1480م الموافق جمادى الآخرة 885هـ) انطلق العثمانيون -في حملتهم الثانية على رودس- بأسطولٍ مكوَّنٍ من مائةٍ وستِّين سفينة، ويحمل سبعين ألف جنديٍّ تحت قيادة مسيح باشا أيضًا[26]، وكان الجيش مزوَّدًا إلى جانب الأسلحة التقليديَّة والخفيفة بستة عشر مدفعًا كبيرًا[27].
في 23 مايو ظهر الأسطول العثماني فجأةً عند الشاطئ الغربي لجزيرة رودس، وبالتحديد عند خليج ترياندا Gulf of Trianda[28]. لم يجد مسيح باشا مقاومةً فأنزل جنوده، ونصب مدافعه الستَّة عشر في مواجهة المدينة الرئيسة في الجزيرة، ثم أرسل إلى الفرسان يعرض عليهم التسليم مقابل العفو عن المدينة، وحفظ ممتلكاتهم، ولكن رُفِض الطلب، فبدأ التجهيز للقتال[29].
بعد دراسةٍ سريعةٍ للموقف أدرك مسيح باشا أن برج سان نيكولاس St. Nicholas في شمال غرب المدينة هو أهم النقاط الدفاعية في التحصينات؛ لذلك ركَّز مدافعه أمامه، وبدأ القصف فورًا[30]، وعلى الرغم من الأضرار التي كانت تلحق بالتحصينات فإن الفرسان كانوا يُصلحون الأسوار أوَّلًا بأوَّل[31].
حاول مسيح باشا في أول يونيو أن يخترق الميناء عن طريق عدَّة سفنٍ محمَّلةٍ بالجنود والمدافع الخفيفة، ولكنه تعرَّض لعاصفةٍ كثيفةٍ من السهام والنيران ففشلت المحاولة[32].
كرَّر مسيح باشا المحاولة في 9 يونيو ولكنه فشل كذلك بعد أن فَقَد سبعمائة شهيد[33]، وفي 17 يونيو كانت المحاولة الثالثة، وكانت مدعومة بتقنيَّات مبتكرة، كالأبراج الخشبية، وجسر عائم، بالإضافة إلى مساعدة ثلاثين سفينةً عسكرية، ومع ذلك فقد فشلت هذه المحاولة أيضًا، واستشهد من المسلمين ألفان وخمسمائة جندي[34][35]، وأدرك مسيح باشا أن الاستيلاء على برج سان نيكولاس أمرٌ غير ممكنٍ أبدًا، ومِنْ ثَمَّ بدأ البحث عن أضعف الأماكن في الأسوار الداخليَّة التي يُمكن أن يغزوها من ناحية البرِّ[36].
اختار مسيح باشا المنطقة الجنوبيَّة الشرقيَّة، حيث برج إيطاليا، وبدأ قصفًا شديدًا للغاية[37]، استمر القصف عدَّة أسابيع، وأخيرًا بدأ يظهر التصدُّع في الأسوار، وقرَّر مسيح باشا أن يكون الاختراق في يوم 28 يوليو، فقام بالقصف الدائم يوم 27 يوليو نهارًا وليلًا، واستعدَّ أربعون ألف جنديٍّ تركيٍّ للمشاركة في هذه العملية[38][39]! كانت الأجزاء الأولى من الخطة تسير بشكلٍ طيِّب؛ فقد انهارت الأسوار فعلًا، واقتحم الجنود العثمانيون المدينة، ولم يجدوا مقاومة، وبدا أن المعركة في طريقها للنهاية، غير أن الجيش العثماني التفت إلى جمع الغنائم، فحاول مسيح باشا أن يُعالج الأمر بصورةٍ أحسبها خاطئة؛ حيث أصدر أمرًا عامًّا بأنَّ كلَّ ما يُجمَع من غنائم في هذه المعركة سيئول إلى خزينة الدولة ولن يأخذ الجنود منه شيئًا[40]! كان قرارًا صادمًا للجنود، فتردَّدوا في الحركة، ولاحظ فرسان القديس يوحنا هذا التردُّد[41][42]. أقبل بيير دي أوبسون مع طائفةٍ من الفرسان، ونشب قتالٌ في غاية الشراسة لم تشهد رودس مثله قبل ذلك[43]. حدث تدافعٌ كبيرٌ بين المسلمين ونُصِبت لهم عدَّة كمائن، وتمكَّن فرسان القديس يوحنا من إغلاق الثغرة، وحَصْرِ مَنْ دخل المدينة من الجنود العثمانيين[44]! فشلت المحاولة فشلًا ذريعًا، وفَقَد المسلمون ثلاثة آلافٍ وخمسمائة جنديٍّ من خيرة جنوده[45]، منهم ثلاثمائة من صفوة الإنكشاريَّة، بل خرج الفرسان من الحصون، وطاردوا العثمانيين، وغنموا عدَّة غنائم، منها الراية السلطانيَّة[46]!
كان يومًا عصيبًا على الجيش العثماني، وأدرك مسيح باشا أنَّه لن يتمكَّن من فتح المدينة، فأرسل إلى السلطان الفاتح ليكون له القرار النهائي في مسألة رودس، وتتَّفق المصادر الغربيَّة والتركيَّة على أنَّ مجموع خسائر الجيش العثماني في حملة رودس ككلٍّ بلغ تسعة آلاف شهيد، وخمسة عشر ألف جريح[47][48]. وكما كان متوقَّعًا جاء القرار بالانسحاب من رودس، وإنهاء العملية بعد أكثر من شهرين من الحصار[49].
على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله الجيش العثماني وقائده، وعلى الرغم من التضحيات الضخمة التي دفعها المجاهدون، فإن الأخطاء التي صاحبت العملية كانت سببًا في هذه الكارثة؛ وكان من هذه الأخطاء ضعف المخابرات، فلم تكن معلوماتهم عن الحصون والتجهيزات وافية، وكان منها سوء التقدير العسكري للأمور، مما أضاع وقتًا وجهدًا أمام الناحية الشمالية الغربية، بينما كان الأفضل أن يُركِّز جهوده من البداية على الناحية الجنوبية الشرقية التي اقتحمها في النهاية، وكان منها التهاء الجنود بالغنائم والدنيا عند الاقتحام، ومنها العلاج الخاطئ غير الحكيم من مسيح باشا لرغبة الجنود في الغنائم، حيث كان الأَولى أن يُطمْئِن الجنود على الغنائم، بل يعدهم بما هو أكثر؛ فالشريعة تعطي الجند أربعة أخماس الغنيمة، وتُجيز للقائد أن يعطي المجتهدين من الخُمْس المتبقي للدولة.
هكذا أغلق ملف رودس، ولن يتمكن العثمانيون من فتح الجزيرة إلا بعد أكثر من أربعين سنة، وهكذا سُنَّة الحياة؛ انتصارات وهزائم، ونجاح وفشل، ولن يخرج العثمانيون عن هذه السُّنَّة أبدًا!
غزو إيطاليا، وفتح إقليم أبوليا في مملكة نابولي: (1480م)
كان عداء مملكة نابولي للعثمانيِّين متواصلًا؛ فقد كان فرديناند الأول ملك نابولي هو الداعم الرئيس، وأحيانًا الوحيد، لإسكندر بك متمرد ألبانيا الشهير[50][51]، ثم كانت نابولي داعمةً لنبلاء ألبانيا بعد وفاة إسكندر بك، وكانت ملاذًا لكلِّ متمرِّدٍ أراد أن يلجأ إليها هربًا من الجيش العثماني[52]، وفي عام 1472م شاركت نابولي في الحملة الصليبية التي أحرقت ميناء إزمير[53]، ثم آوت نابولي في عام 1479م الأمير ليوناردو الثالث أمير الجزر الأيونيَّة[54]، كما ساعدت نابولي فرسان القديس يوحنا في حربهم ضدَّ العثمانيِّين في رودس[55].
هذه هي الأسباب التي من أجلها غزا السلطان محمد الفاتح مملكة نابولي، ويضاف إلى ذلك أن الفاتح أمر جنوده أن يكتفوا في تحركاتهم في إيطاليا في هذه المرحلة بالسيطرة على إقليم أبوليا Apulia جنوب شرق إيطاليا؛ لأن هذا الإقليم كان محكومًا قبل ذلك بالدولة البيزنطية[56]، ويُعتبر الفاتح هو وارث الدولة البيزنطية بكلِّ أملاكها في العالم، وذلك بعد أن أسقطها، وحكم عاصمتها القسطنطينية.
تحرَّك أسطولٌ عثمانيٌّ من 40 سفينةً كبيرة، و52 سفينةً صغيرة، بالإضافة إلى 40 سفينة نقل[57]، ويحمل حوالي 20 ألف مقاتلٍ بقيادة كديك أحمد باشا من مدينة ڤلور الألبانيَّة على ساحل الأدرياتيكي إلى ساحل إيطاليا الشرقي، فوصلها في يوم 28 يوليو 1480[58]، وهي الحملة التي وصفها المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول بأنَّها أجرأ حملةٍ في تاريخ محمد الفاتح[59]! لأنها أول مواجهةٍ مباشرةٍ للقوى الغربيَّة في أرضهم، وكذلك لأنها غزوٌ لمعقل النصرانية الأوَّل في العالم.
لعلَّ القارئ يُلاحظ أنَّ وصول الجيش العثماني إلى إيطاليا كان في يوم 28 يوليو 1480م، وهو اليوم نفسه الذي كان الجيش العثماني في رودس يخوض معركته الأخيرة عند برج إيطاليا محاولًا اقتحام المدينة، وهو اليوم الذي شهد كارثةً عسكريَّةً هناك أدَّت إلى إنهاء الحصار برمَّته، فهذه من أعاجيب التوافقات؛ إذ صاحب هذا الفشل في رودس نجاحٌ في إنزال جيشٍ عثمانيٍّ لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ في إيطاليا، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون!
نزل الأسطول العثماني عند مدينة أوترانتو Otranto[60]، ولم يجد أيَّ مقاومةٍ عند إنزاله لجنوده أو معدَّاته[61]. حوصرت المدينة، ونُصبت المدافع، وعَرَض كديك باشا عليها الاستسلام فرفضت[62]، فبدأ القصف، وبعد أسبوعين، وفي 11 أغسطس، سقطت المدينة في أيدي المسلمين، ثم انطلق الجيش في عدَّة اتجاهاتٍ للسيطرة على المدن الأخرى في إقليم أبوليا (خريطة رقم 20)، فوقعت في يده مدن ليتشي Lecce، وبرينديزي Brindisi، وتارانتو Taranto، حتى وصل الجيش إلى مدينة ڤيستي Vieste الساحليَّة على الأدرياتيكي، على بُعد ثلاثمائة كيلو متر شمال أوترانتو[63].
يقول سيتون: «صُدِمَت أوروبا، وارتعبت إيطاليا، وتساءل الجميع: ما الذي يُخفيه المستقبل؟»[64]! فكَّر البابا في الهروب من إيطاليا إلى فرنسا[65]، وهدَّد فرديناند الأول ملك نابولي أنه إذا لم يتلقَّ مساعدة البابا والأمراء الإيطاليين فإنه سوف يُسلِّم البلد إلى محمد الفاتح، بل سيتعاون معه في تدمير بقيَّة الإمارات الإيطاليَّة[66][67]!
كان هذا هو ردُّ الفعل الأول، ولكن سرعان ما تماسك البابا وملك نابولي وبدءا في جمع التبرعات والمساعدات لإعداد حملات مقاومة[68]، ومع ذلك لم يحدث شيء، وهدأت الأمور، وظلَّ الوضع كما هو عليه؛ إذ لم يكن العثمانيون راغبين في التوغُّل في إيطاليا بهذه القوَّة اليسيرة، وقنعوا بما فتحوه في هذه المرحلة، وإن كانوا قد هدَّدوا الإيطاليين بأن الفاتح سيأتي بنفسه في العام المقبل قائدًا لمائة ألف مقاتل، لفتح روما وإيطاليا كلِّها[69]![70].
[1] Miller, William: The Latins in the Levant: A History of Frankish Greece (1204–1566), E. P. Dutton and Company, New York, 1908., p. 485.
[2] Finlay, George: A History of Greece from its Conquest by the Romans to the Present Time, B. C. 146 to A. D. 1864, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1877., vol. 5, p. 62.
[3] Babinger, Franz: Mehmed the Conqueror and His Time, Princeton University Press, 1978., p. 383.
[4] Nicol, Donald MacGillivray: The Despotate of Epiros 1267-1479, Cambridge University Press, New York, USA, 1984, p. 213.
[5] Miller, 1908, p. 485.
[6] Nicol, 1984, p. 213.
[7] Freely, John: The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas, The Overlook Press, New York, 2009., p. 148.
[8] Freely, 2009, pp. 148-149.
[9] Freely, 2009, p. 149.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/170.
[11] İnalcık, Halil: Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time, Speculum, The University of Chicago Press Journals, The University of Chicago, Chicago, USA, Vol. 35, No. 3, 1960.p. 425.
[12] Babinger, 1978, p. 374.
[13] Rogers, Clifford J. (Editor): The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology, Oxford University Press, New York, USA, 2010., vol. 1, p. 320.
[14] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[15] Babinger, 1978, pp. 375-376.
[16] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[17] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The American Philosophical Society, Philadelphia, USA, (Volume 2, The Fifteenth Century, 1978),, vol. 2, p. 330.
[18] Vann, Theresa M. & Kagay, Donald J.: Hospitaller Piety and Crusader Propaganda: Guillaume Caoursin's Description of the Ottoman Siege of Rhodes, 1480, Ashgate Publishing, Surrey, England, 2015., p. 1.
[19] Freely, 2009, pp. 153-154.
[20] Nossov, Konstantin: The Fortress of Rhodes 1309–1522, Osprey Publishing, Oxford, UK, 2010., p. 6.
[21] Nicholson, Helen J.: The Knights Hospitaller, The Boydell press, Woodbridge, England, 2001., p. 48.
[22] Setton, 1978, vol. 2, p. 347.
[23] حليم، 1905 صفحة 67.
[24] Stavrides, Theoharis: The Sultan of vezirs: the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474), Brill Academic Publishers, Inc, Leiden, 2001., p. 62.
[25] Babinger, 1978, p. 382.
[26] Setton, 1978, vol. 2, p. 351.
[27] Roy, Kaushik: Military Transition in Early Modern Asia 1400 - 1750: Cavalry, Guns, Government and Ships, Bloomsbury publishing house, New York, USA, 2014., p. 38.
[28] فريد، 1981 صفحة 176.
[29] Freely, 2009, pp. 155-156.
[30] Nossov, 2010, p. 47.
[31] Setton, 1978, vol. 2, p. 353.
[32] Freely, 2009, p. 157.
[33] Setton, 1978, vol. 2, p. 353.
[34] Setton, 1978, vol. 2, p. 354.
[35] Freely, 2009, p. 157.
[36] Nossov, 2010, p. 56.
[37] Babinger, 1978, p. 398.
[38] Vann & Kagay, 2015, p. 265.
[39] Setton, 1978, vol. 2, p. 358.
[40] خليفة، 2017 صفحة 73.
[41] Creasy, Sir Edward Shepherd: History of the Ottoman Turks: From the beginning of their Empire to the present time, Richard Bentley, London, UK, (vol. 1, 1854), pp. 149-150.
[42] سرهنك، 1895 صفحة 1/518.
[43] Kollias, Ēlias: The Knights of Rhodes - The Palace and the City, Ekdotike Athenon, Athens, Greece, 2005., pp. 46-48.
[44] Porter, Whitworth: A History of the Knights of Malta, Or, The Order of the Hospital of St John of Jerusalem, Cambridge University press, New York, USA, 2013., pp. 375-376.
[45] Setton, 1978, vol. 2, p. 358.
[46] Freely, 2009, p. 161.
[47] Babinger, 1978, p. 399.
[48] أوزتونا، 1988 صفحة 1/174.
[49] Setton, 1978, vol. 2, p. 359.
[50] Hodgkinson, Harry: Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero, Centre for Albanian Studies, London, UK, 1999., p. xii.
[51] فريد، 1981 صفحة 172.
[52] Nasse, George Nicholas: The Italo-Albanian Villages of Southern Italy, National Academy of Sciences-National Research Council, Washington, District of Columbia, USA, 1964., pp. 24-26.
[53] Pitcher, Donald Edgar: An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1973., p. 79.
[54] Nicol, 1984, p. 213.
[55] Setton, 1978, vol. 2, p. 359.
[56] Venning, Timothy: A Chronology of the Byzantine Empire, palgrave Macmillan, Now York, USA, 2006., p. 304.
[57] أوزتونا، 1988 صفحة 1/175.
[58] Babinger, 1978, p. 390.
[59] Turnbull, Stephen R.: The Ottoman Empire 1326–1699, Bloomsbury Publishing, London, UK, 2012 (A).p. 43.
[60] Freely, 2009, p. 163.
[61] Purton, Peter Fraser: A History of the Late Medieval Siege, 1200-1500, The Boydell press, Woodbridge, UK, 2010., p. 383.
[62] Freely, 2009, p. 163.
[63] Shaw, Jeffrey M. & Demy, Timothy J.: War and Religion: An Encyclopedia of Faith and Conflict, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., 2017, vol. 2, p. 623.
[64] Setton, 1978, vol. 2, p. 343.
[65] Shaw, 1976, vol. 1, pp. 69-70.
[66] Freely, 2009, p. 164.
[67] Babinger, 1978, p. 393.
[68] Pastor, Ludwig Freiherr von: The History of the Popes, from the Close of the Middle Ages: Drawn from the Secret Archives of the Vatican and Other Original Sources, Kegan Paul, Trench, Trubner & Company, Limited, London, UK, (Vol. 4, 1894)., p. 335.
[69] Freely, 2009, p. 164.
[70] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 306- 318.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك