التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1529م غَزَت القوَّات العثمانية مناطق عديدة من النمسا، وقد وصلت بعض هذه الغزوات إلى سويسرا، ثم عاد الجيش العثماني آمنًا.
الصراع مع النمسا على أرض المجر، وحصار ڤيينا: (1527-1529م)
بطبيعة الحال لم يكن الوضع في المجر مُرْضِيًا للنمسا، كما أنه لم يكن مُرْضِيًا كذلك لقطاعٍ كبيرٍ من النبلاء الذين يُفضِّلون الولاء للنمسا المسيحيَّة على الولاء للدولة العثمانية المسلمة.
نعم لم تُقدِّم النمسا شيئًا يُذْكَر للمجريِّين خلال قرنٍ كاملٍ من الحرب مع العثمانيِّين؛ لكنهم في النهاية كاثوليك مثلهم، بالإضافة إلى العداء الذي كان يُكِنُّه بعض هؤلاء النبلاء لزابوليا منذ زمن. بعد مقتل الملك المجري لويس الثاني في موهاكس، وفي أواخر 1526م اختار نبلاء بوهيميا Bohemia (جمهورية التشيك الآن) فرديناند أمير النمسا ملكًا عليهم[1]، وكانت بوهيميا تابعةً لمملكة المجر في المرحلة السابقة لموهاكس.
كان هذا الوضع طبيعيًّا؛ لأن بوهيميا كانت موطن نزاعٍ دائمٍ بين ملكي المجر والنمسا، مع كونها في الأصل مملكةً مستقلة، وكان ولاؤها يتأرجح بين الاثنين حسب المرحلة التاريخية، والآن، بعد سقوط ملك المجر، صارت تبعيَّتها للنمسا متوقَّعة. ولكن فرديناند لم يقنع بحكم بوهيميا فقط؛ بل طالب بحكم المجر كذلك، بصفته أخًا لماري Mary of Austria زوجة الملك القتيل لويس الثاني، وفي الوقت نفسه زوجًا لأنَّا Anne أخت الملك نفسه.
شجَّع فرديناند بعض النبلاء على القيام بثورةٍ في جنوب المجر، فلمَّا نزل زابوليا لقمعها توجَّه فرديناند بجيشه إلى بودا الخالية فاحتلَّها في 23 سبتمبر 1527م، وبعد صداماتٍ مع زابوليا تمكَّن من طرده خارج البلاد إلى بولندا في 1528[2]. كانت الأخبار مزعجةً للسلطان سليمان القانوني، فمكاسب الحملة السابقة على وشك أن تضيع؛ ولذلك قرَّر السلطان أن يقوم بحملةٍ همايونيَّةٍ كبيرةٍ لا تهدف فقط إلى إعادة زابوليا التابع إلى الحكم؛ بل إلى غزو النمسا ذاتها!
خرج السلطان بحملته الهمايونيَّة الرابعة من إسطنبول في 10 مايو 1529م، كانت حركة الجيش بطيئةً بسبب بعض الفيضانات في بلغاريا[3]. وصل الجيش إلى سهل موهاكس في 18 أغسطس. جاء الملك الهارب زابوليا لملاقاة السلطان، وبعدها توجَّه الجيش العثماني مباشرةً إلى بودا، فوصلها في 3 سبتمبر، وبعد حصارٍ قصيرٍ لمدَّة خمسة أيامٍ قبلت الحامية النمساوية التسليم، وتركت المدينة للعثمانيين. دخل السلطان المدينة، وفي 14 سبتمبر أعاد تنصيب زابوليا ملكًا على المجر، وفي هذه المرَّة ترك حاميةً عثمانيَّةً في المدينة لتأمينها[4].
لم يكتفِ السلطان بإعادة الوضع لِمَا كان عليه؛ ولكنه أراد أن يُرْهِب فرديناند بصورةٍ تجعله لا يُفكِّر في إعادة الكَرَّة على المجر بعد ذلك. قرَّر السلطان غزو ڤيينا Vienna ذاتها! هل كان القرار صائبًا؟! إن هناك الكثير من المعوِّقات المنطقيَّة التي تجعل فتح مدينة ڤيينا صعبًا في هذه الظروف.
أولًا: تقع المدينة على بعد مائتي كيلو متر غرب بودا، فهذا يعني توغُّلًا عميقًا للجيش العثماني بعيدًا عن قواعده، مع العلم أن أقرب قاعدةٍ حقيقيَّةٍ للجيش العثماني ليست في بودا؛ إنما في بلجراد على بعد حوالي خمسمائة كيلو متر إلى الجنوب الشرقي من ڤيينا، وثانيًا هذه هي عاصمة الإمبراطورية الكبرى: النمسا-إسبانيا، ولا بُدَّ أن حصانتها شديدة، كما أن ردود فعل إسقاطها، أو حتى حصارها، ستكون كبيرة، وينبغي أن تكون الدولة العثمانية مستعدَّةً لهذا الزلزال، وثالثًا لم يتمكَّن الجيش العثماني من اصطحاب المدافع العملاقة التي يمكن أن تُؤثِّر في أسوار ڤيينا بسبب فيضانات بلغاريا، وكذلك لسوء الأحوال الجوية في المجر، ورابعًا وأخيرًا فإن وقت الحملة صار متأخِّرًا.
لقد غادر السلطان بودا في النصف الثاني من سبتمبر؛ ممَّا يعني أن حصار ڤيينا سيكون في الشتاء، وهذا قرارٌ عجيب؛ لأن الجيوش العثمانية لم تكن تُقاتل في هذه الفترة حتى في جنوب البلقان، فكيف سيكون الوضع في هذه المدينة الشمالية، التي يهطل فيها المطر والثلج من شهر سبتمبر فصاعدًا؟!
اصطحب السلطان سليمان القانوني معه ملك المجر زابوليا وتوجَّه إلى ڤيينا[5]. وصل الجيش العثماني إلى أسوار المدينة في 27 سبتمبر وضرب الحصار عليها، وبدأ القصف من فوره. لم يشأ فرديناند أن يلقى السلطان سليمان القانوني في حربٍ ميدانيَّةٍ لكيلا يُكرِّر مأساة موهاكس، فترك ڤيينا وانسحب إلى مدينة لينز Linz، على بُعد مائةٍ وخمسين كيلو مترًا غرب ڤيينا، تاركًا الدفاع عن المدينة للكونت نيكولاس كونت مدينة سالْم الألمانية Nicholas Count of Salm، وكان قد جاء على رأس فرقةٍ من المرتزقة الأشدَّاء لمساعدة فرديناند في حرب العثمانيين[6].
جرى تحصين المدينة بشكلٍ جيِّد، وتواصل القصف العثماني، مع محاولة حفر أنفاقٍ تحت الأسوار؛ لكن كانت المهمَّة جِدَّ عسيرة! حاول الجيش اختراق بعض الثغرات دون نجاح، وهطل المطر والثلج بشدَّة؛ ممَّا أعاق حركة الجنود. زادت معاناة الجيش بنقص المؤن، وبداية تفشِّي بعض الأمراض! في 12 أكتوبر عقد السلطان اجتماعًا تقرَّر فيه القيام بمحاولةٍ أخيرةٍ شاملة، وفي حال فشلها يُرْفَع الحصار. خسر المسلمون في هذه المحاولة الكثير من الأرواح[7]؛ ومِنْ ثَمَّ قرَّر السلطان في 15 أكتوبر رفع الحصار[8].
غَزَت القوَّات العثمانية مناطق عديدة من النمسا حول ڤيينا لتأمين انسحاب الجيش الرئيس. وصلت بعض هذه الغزوات إلى سويسرا. عاد الجيش العثماني آمنًا وإن كان مجموع الشهداء والجرحى في هذه الحملة بلغ أربعة عشر ألفًا[9]، مع فقد كثيرٍ من العتاد! تُعتبر هذه هي الخسارة الأولى لسليمان القانوني، على الرغم من أنه كسب ولاء المجر له مرَّةً ثانية.
لا أعتقد أن قرار حصار ڤيينا في هذه الظروف التي ذكرناها كان صائبًا، وعمومًا لكلِّ جوادٍ كبوة، ولم تكن هذه هي نهاية الصراع مع النمسا، إنما في الحقيقة كانت البداية!
الحملة الهمايونية الخامسة للسلطان القانوني، وهي الثانية على النمسا (1532م)
كانت آثار حملة سليمان القانوني على ڤيينا كبيرة. ارتعبت أوروبا، وتوقَّعت أن تكون هذه الحملة مقدِّمةً لحملاتٍ أخرى. خافت أن يكون هناك تغيُّرٌ في الاستراتيجيَّة العثمانيَّة، وبدلًا من القناعة بالسيطرة على الشرق الأرثوذكسي سيكون هناك في المستقبل تطلُّعٌ للغرب الكاثوليكي، خاصَّةً مع السمت الإسلامي الواضح للسلطان سليمان القانوني، فعندها قد لا تقف المسألة عند حدِّ التفوُّق والسيادة؛ بل قد تتحوَّل إلى مسألة وجود؛ بمعنى وجودٌ إسلاميٌّ لا يقبل بآخر نصراني في أوروبا.
هذا الشعور دفع البابا كليمنت السابع Clement VII إلى بثِّ حالةٍ من الرعب في إيطاليا، وفَرَض ضرائب كبيرةً على الشعب؛ بل على الكرادلة أنفسهم، والهدف جمع أموالٍ كثيرةٍ لزيادة تحصينات الثغور التي من الممكن أن يدخل منها سليمان القانوني إلى إيطاليا[10]! -أيضًا- حسم البابا مسألة الخلاف الذي كان دائرًا بين الإمبراطور شارل الخامس إمبراطور النمسا وإسبانيا مع فرانسوا الأول ملك فرنسا حول زعامة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة؛ وذلك لصالح شارل الخامس بتتويجه على الإمبراطورية في 24 فبراير 1530م[11]، وبهذا يكون هو المتلقِّي الأكبر للدعم البابوي، وهذا ليُقوِّي جانبه في حربه لسليمان القانوني، ولكون فرنسوا الأوَّل متحالفًا مع العثمانيين.
وعلى المستوى العسكري انشغل فرديناند بزيادة تحصينات ڤيينا بشكلٍ خاص، والنمسا بشكلٍ عام، مع إصلاح ما أفسدته الحملة العثمانية السابقة في البلد أثناء انسحابها بعد حصار ڤيينا؛ ومع ذلك فقد سعى الأمير النمساوي إلى مباحثاتٍ دبلوماسيَّةٍ مع السلطان العثماني؛ لكنها باءت بالفشل[12].
كان سليمان القانوني منزعجًا من فشله في فتح ڤيينا ويريد بشكلٍ أو آخر إعادة الكَرَّة. قرَّر السلطان الخروج بحملةٍ جديدةٍ إلى ڤيينا؛ ولكن هذه الحملة تأخَّرت ثلاثة أعوام كاملة! لماذا كلُّ هذا التأخير في الخروج؟ لعل السبب هو الاضطراب المفاجئ للجبهة الشرقية للدولة العثمانية في عام 1530م؛ عندما احتلَّت القوات الصفوية مدينة بيتليس Bitlis شرق الأناضول، وكانت تابعةً للدولة العثمانية، ثم زاد الأمر باحتلال بغداد الموالية للعثمانيين؛ لتُعيد السيطرة الشيعيَّة عليها[13].
هذا تطوُّرٌ خطرٌ من الشاه الصغير طهماسب الأول قد يُعيد به تاريخ أبيه العدواني، وإن احتلال العراق وتشييعها يُمثِّل خطرًا استراتيجيًّا، واقتصاديًّا، وفكريًّا كبيرًا، وهو في الوقت ذاته يعني إعلان الحرب على الدولة العثمانية؛ ومع ذلك فالدولة لا تستطيع أن تفتح جبهتين كبيرتين للقتال، وخاصَّةً إذا كانت إحداها في أقصى الشرق ضدَّ إيران، والأخرى في أقصى الغرب ضدَّ النمسا، فلا بُدَّ من تسكين واحدةٍ قبل الصدام مع الثانية. كان على سليمان القانوني إذن أن ينتظر مدَّةً مناسبةً ليعلم إلى أيِّ الجبهتين سيتَّجه. هدأت الجبهة الصفوية في عامي 1530، و1531م بعد احتلال بغداد؛ ومِنْ ثَمَّ كان قرار القانوني بالخروج إلى النمسا -الأشدِّ خطورةً- بحملته الهمايونيَّة الخامسة.
كانت الحملة العثمانية كبيرةً كسابقتها. يتجاوز عدد الجنود في الحملة مائة ألف مقاتل[14]، وتصل بهم بعض التقديرات إلى مائتي ألف مقاتل[15]، وهي أرقامٌ لا مبالغة فيها نظرًا إلى أهميَّة الحملة. كان التسليح متميِّزًا؛ حيث شمل إلى جوار البنادق والخيول أربعمائة مدفعٍ كبير. كانت القيادة على أعلى مستوى؛ فإلى جانب السلطان كان الصدر الأعظم إبراهيم باشا[16]، وبقيَّة قادة الجيش الكبار.
خرجت الحملة في 25 أبريل 1532م، واتجهت عبر بلغاريا إلى صربيا. جاءت سفارةٌ من فرديناند إلى السلطان في نيش بصربيا تعرض عليه مباحثات سلام؛ لكنَّه رفض[17]. بدأ النمساويُّون في إعداد جيشٍ كبيرٍ لحماية ڤيينا. أكمل السلطان سيره إلى بلجراد، وهناك استقبل مبعوثًا من حليفه الفرنسي فرنسوا الأول يعرض عليه تغيير المسار العسكري للحملة؛ حيث أراده أن يضرب الإمبراطور النمساوي شارل الخامس في إيطاليا بدلًا من ڤيينا ليشتركا سويًّا في قتاله؛ ولكن السلطان قرَّر القيام بالأمرين معًا؛ فأكمل زحفه في اتجاه ڤيينا، وفي الوقت نفسه قرَّر إرسال الأسطول العثماني لقصف السواحل الإيطالية بغية تشتيت الإمبراطور النمساوي هناك[18].
أكملت الحملة طريقها شمالًا، واخترقت الحدود الصربية المجرية. كان الجيش العثماني ينقسم أحيانًا، ويتحرَّك في مساراتٍ متوازيةٍ ليُسقط القلاع المختلفة في طريقه حتى لا يترك وراءه نقاطًا نمساويَّةً حصينة. في أقصى الشمال الغربي للمجر توجَّهت فرقةٌ كبيرةٌ من الجيش بقيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا لإسقاط قلعةٍ حصينةٍ في مدينة جونز Guns المجرية[19] (الآن كوزيج Koszeg). كانت هذه، وما زالت، مدينةً صغيرةً للغاية، ولم يكن يُتوقَّع منها أيُّ مقاومة؛ ولكن قَصَدها الجيش العثماني من باب أخذ الحيطة الكاملة.
كانت المدينة في موقعٍ متوسِّطٍ بين بودا وڤيينا (مائة وثمانون كيلو مترًا من بودا، وأقل من مائة كيلو مترٍ من ڤيينا)، ولعله من هنا أخذت أهميَّتها الاستراتيجيَّة. كانت المدينة تابعةً للنمسا آنذاك، وكان على حمايتها قائدٌ كرواتي اسمه نيكولا چوريشيتش Nikola Jurišić، وكان يقود فرقةً صغيرةً للغاية من الجنود الكروات[20]، بالإضافة إلى بعض الفلاحين المجريِّين، ولم يكن مجموعهم يزيد على ثمانمائة فرد[21]! ضرب إبراهيم باشا الحصار على المدينة في 5 أغسطس 1532م، وبعد رفض الاستسلام بدأ القصف.
كان الهجوم العثماني عنيفًا ومع ذلك صمدت المدينة بشكلٍ مفاجئ! حاول الجيش العثماني تسع عشرة مرَّةً أن يخترق الأسوار؛ لكنه فشل في كلِّ محاولاته! استمر الحصار إلى يوم 30 أغسطس 1532م[22]. جاء السلطان إلى المدينة، وشاهد الأزمة بنفسه. لم تكن المشكلة الأكبر في هذه الحامية الصغيرة؛ فقد كان من الممكن أن يُبْقيها العثمانيون محاصَرةً ثم يُكملون طريقهم إلى ڤيينا؛ ولكن كانت المشكلة الحقيقيَّة في الوقت الذي ضاع في محاصرة المدينة، فنحن الآن على أبواب سبتمبر، وسيأتي الشتاء بمطره وثلجه، وتتكرَّر مأساة الحصار السابق لڤيينا. -أيضًا- وصلت الأخبار بأن فرديناند قد أكمل جمع جيشٍ ملكيٍّ كبير، وهو يتَّجه به إلى ڤيينا الآن.
تذكر بعض الروايات أن قائد المدينة اتَّفق في النهاية مع السلطان العثماني على تسليم القلعة بشرط عدم دخول العثمانيين للمدينة ذاتها[23]، وتذكر رواياتٌ أخرى عدم استسلام الفرقة الكرواتية[24]، وأيًّا ما كان الأمر فإن السلطان أعلن في 31 أغسطس انسحاب الجيش من حول الأسوار؛ بل أعلن قرارًا مفاجئًا بإنهاء الحملة كلِّها، والعودة إلى إسطنبول[25]! لقد كانت حساباته تُشير إلى أن حصار ڤيينا سيئول للنتيجة السابقة نفسها!
هكذا فشلت هذه الحملة أيضًا، وما زال حصار مدينة جونز الصغيرة يُمَثِّل لُغزًا للمؤرِّخين، وما زال أهل المجر يتذكَّرون هذه الملحمة، وما زالت كنيسة المدينة تدقُّ أجراسها يوميًّا في الحادية عشرة صباحًا، وهي ساعة انسحاب الجيش العثماني، لتُذكِّر شعبها بهذا الحصار[26]! عمومًا، وبصرف النظر عن السبب التقني الذي أدَّى إلى فشل الحملة، فإن النتيجة منطقيَّة ومتوقَّعة؛ فقوَّة الدولة العثمانية في هذه الفترة متناسبةٌ وموازيةٌ مع قوَّة الإمبراطورية النمساوية، وقد تجاورت القوَّتان، وسوف ينتج عن هذا التجاور حروبٌ كثيرة، وعلى الأغلب لن تكون هناك غلبةٌ واضحةٌ لطرفٍ على الآخر، وهذه طبيعة الأمور عند تجاور القوى العظمى المتماثلة، ويكون الحلُّ العقلاني الأمثل في مثل هذه الأجواء هو الهدنة، أو الصلح المؤقت، خاصَّةً إذا تدخَّلت عوامل أخرى تدفع في اتجاه التهدئة الاضطرارية، وهذا ما حدث في هذه المرحلة!
الهدنة مع النمسا: (1533م)
تلاقت الرغبتان العثمانية والنمساوية في عقد الهدنة. واجه العثمانيون أثناء انشغالهم بحملات النمسا عدَّة مشكلات كبرى؛ كان أبرزها احتلال الصفويِّين لبغداد مع مشاريع تشييع كبيرة في شرق الأناضول[27]، وكان منها -أيضًا- احتلال الچنويِّين لمينائي كورون وباتراس في المورة اليونانية العثمانية لصالح الإمبراطور شارل الخامس[28]، وكان منها كذلك ورود أنباء بتعاون باي تونس الحسن الحفصي مع الإسبان ضدَّ الدولة العثمانية؛ بل عقد معاهدةً مع فرسان القديس يوحنا[29] الذين يقطنون في جزيرة مالطة القريبة من تونس منذ 1530م، وفي هذا خطورةٌ كبيرةٌ على ولاية الجزائر العثمانية، فضلًا عن المخاطر على البحرية العثمانية بشكلٍ عام.
بالإضافة إلى كلِّ ما سبق فإن هناك مشكلاتٍ أخرى بدأت تظهر على السطح؛ في اليمن، والبغدان؛ ومع البندقية، والبرتغال. هذا كلُّه دفع الجانب العثماني إلى قبول فكرة الهدنة للتفرُّغ لحلِّ هذه المشكلات. أمَّا الجانب النمساوي فكان يريد هو الآخر التفرُّغ لمشكلة البروتستانت المتفاقمة، كما أن صراعات الإمبراطورية مع فرنسا ما زالت مشتعلة، فضلًا عن حالة الإرهاق التي عانت منها الدولة في السنوات الأخيرة بعد الضغط العثماني الشديد عليها وعلى المجر.
أرسل فرديناند يعرض الصلح على السلطان سليمان القانوني فوافق[30]، وجرت مباحثات مطوَّلة انتهت بتوقيع معاهدة إسطنبول[31]، المعروفة في المصادر الأوروبية بمعاهدة القسطنطينية؛ وذلك في 22 يونيو 1533[32]. كانت المعاهدة في المجمل في صالح الدولة العثمانية؛ ممَّا يؤكِّد أنه على الرغم من خسائر الدولة في الحملتين السابقتين، وعلى الرغم من الفشل في فتح ڤيينا، فإن خسائر النمسا كانت أكبر؛ ممَّا دفعها إلى قبول المعاهدة على هذه الصورة.
كانت البنود تتضمَّن وقف الحرب، ولم تذكر المصادر مدَّة معيَّنة، وتثبيت الحدود بين الدولة العثمانية والنمسا على الحدود نفسها المتعارف عليها الآن بين المجر والنمسا[33]؛ ممَّا يعني اعتراف النمسا بتبعيَّة المجر للعثمانيِّين، والاعتراف بچون زابوليا ملكًا على المجر تابعًا للدولة العثمانية، ودفع النمسا لثلاثين ألف دوقيَّة ذهبيَّة إلى الدولة العثمانية كجزيةٍ سنويَّة[34]، واعتبار الأمير فرديناند في المكاتبات الرسميَّة بين الدولتين موازيًا للصدر الأعظم العثماني، مع اعتراف فرديناند بأن السلطان العثماني في مكانة الوالد والسيد له[35]، وتسليم مفاتيح قلعة چيور Gyor المجريَّة الاستراتيجيَّة إلى الدولة العثمانية[36]، وهي قلعةٌ تبعد حوالي مائة كيلو متر جنوب شرق ڤيينا؛ ممَّا يُتيح للدولة العثمانية التوجُّه لڤيينا متى أرادت.
إنها شروطٌ قاسيةٌ على النمسا، وهي في مقابل أن تعترف الدولة العثمانية بفرديناند ملكًا على بوهيميا[37]، وكذلك على الشمال الغربي للمجر (فيما كان يُعْرف بالمجر الملكيَّة Royal Hungary)، مع وقف الحرب العثمانية على النمسا[38]. يُلاحَظ أن المعاهدة عُقِدَت مع فرديناند أمير النمسا، ولم تُعْقَد مع الإمبراطور شارل الخامس[39]؛ وهذا يعني قانونيًّا أن بنود المعاهدة مطبَّقة على النمسا دون إسبانيا، وهذا يُتيح للدولة العثمانية القيام بممارساتٍ عسكريَّةٍ ضدَّ إسبانيا في الشمال الإفريقي وغرب البحر المتوسط، دون إخلالٍ بالمعاهدة.
هكذا عُقِدت المعاهدة، وتفرَّغ السلطان القانوني للجبهة الشرقيَّة وبقيَّة المشكلات[40].
[1] Agnew, Hugh LeCaine: The Czechs and the Lands of the Bohemian Crown, Hoover Institution Press, Stanford University, Stanford, California, USA, 2013, p. 59.
[2] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The Sixteenth Century to the Reign of Julius III, 1984), vol. 3, p. 314.
[3] Setton, 1984, vol. 3, p. 324.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/272.
[5] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 216.
[6] كلو، أندري: سليمان القانوني، ترجمة: البشير بن سلامة، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1991م.صفحة 119.
[7] Spielman, John Philip: The City and the Crown: Vienna and the Imperial Court 1600-1740, Purdue University Press, Indiana, USA, 1993., p. 22.
[8] Setton, 1984, vol. 3, p. 329.
[9] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/273، 274.
[10] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.صفحة 26/104.
[11] Rady, Martyn: The Emperor Charles V, Routledge, UK, 2014., p. 49.
[12] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م.صفحة 192.
[13] إيڤانوڤ، 1988 صفحة 88.
[14] Watts, Tim J.: Austro-Ottoman Wars, In: Mikaberidze, Alexander: Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A).), vol. 1, p. 151.
[15] فريد، 1981 صفحة 217.
[16] Wheatcroft, Andrew: The Enemy at the Gate: Habsburgs, Ottomans, and the Battle for Europe, Pimlico, London, UK, 2009.p. 59.
[17] فريد، 1981 صفحة 217.
[18] خوري، اميل؛ وإسماعيل، عادل: السياسة الدولية في الشرق العربي، دار النشر للسياسة والتاريخ، بيروت، الجزء الأول (1990م)، والجزء الثاني (1960م) .الصفحات 1/5، 6.
[19] Wheatcroft, 2009, p. 59.
[20] Setton, 1984, vol. 3, p. 365.
[21] Turnbull, Stephen R.: The Ottoman Empire, 1326-1699, Osprey Publishing Ltd, New York, USA, 2003., p. 51.
[22] Wheatcroft, 2009, p. 59.
[23] Turnbull, 2003, p. 51.
[24] Thompson, Bard: Humanists and Reformers: A History of the Renaissance and Reformation, William. B. Eerdmans Publishing Company, Grand Rapids, Michigan, USA, 1996., p. 442.
[25] Vámbéry, Ármin: Hungary in Ancient, Mediaeval, and Modern Times, T. Fisher Unwin, London, UK, Seventh Edition, 1886., p. 298.
[26] Schreiber, Thomas: Hungary, Nagel Publishers, 1974., p. 156
[27] رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516 – 1916م، دمشق، الطبعة الأولى، 1974م.صفحة 66.
[28] فريد، 1981 الصفحات 218، 219.
[29] إيڤانوڤ، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516 – 1574، راجعه وقدم له: مسعود ضاهر، نقله إلى العربية: يوسف عطا الله، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م.صفحة 187.
[30] فريد، 1981 صفحة 219.
[31] أوزتونا، 1988 صفحة 1/275.
[32] Turnbull, 2003, pp. 51-52.
[33] أوزتونا، 1988 صفحة 1/275.
[34] محمود، سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية (النشأة - الازدهار) وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ=2007م.صفحة 262.
[35] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 94.
[36] أوزتونا، 1988 الصفحات 275، 276.
[37] أوزتونا، 1988 صفحة 1/276.
[38] Shaw, 1976, vol. 1, p. 94.
[39] ديورانت، 1988 صفحة 26/107.
[40] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 437- 445.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك