التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تُعتبر حملة سليمان باشا على اليمن والهند من الحملات التي اختلف المؤرِّخون في تقييم نتائجها؛ وقد حقَّقت الحملة نجاحًا عسكريًّا.
جبهات اشتعلت مؤقَّتًا أثناء الحروب البحرية مع البندقية: (1538م)
بينما كانت الحرب محتدمة مع الحلف النصراني المقدَّس في البحر الأدرياتيكي، والبحر المتوسط، وبحر إيجة، كانت هناك جبهاتٌ أخرى مشتعلةٌ بشكلٍ مؤقَّتٍ على الساحات العثمانية العريضة التي تشمل ثلاث قارَّاتٍ كاملة. هذه الجبهات شملت ما يلي:
جبهة البغدان، والحملة الهمايونية الثامنة: (1538م)
في شهر يوليو 1538م، وفي وقتٍ متزامنٍ مع خروج خير الدين بربروسا لحرب الحلف النصراني المقدَّس في موقعة بريڤيزا، خرج السلطان سليمان القانوني بحملته الهمايونيَّة الثامنة إلى البغدان. كان أمير الولاية بيترو الرابع Petru IV، التابع أصلًا للدولة العثمانية، قد اقتحم الحدود البولندية بناءً على تحريضٍ من إمبراطورية النمسا.
كانت هذه مخالفةً كبيرةً يمكن أن يكون لها تبعاتٌ مهمَّة؛ أوَّلًا؛ لأن بولندا كانت في سِلْمٍ مع الدولة العثمانية، وقد قدَّم السفير البولندي شكوى إلى السلطان[1]، وهذا تصعيدٌ سيوَتِّر العلاقة مع بولندا بلا داعٍ، وثانيًا؛ لأن المحرِّض، النمسا، قد يُدبِّر أزمةً دبلوماسيَّةً وعسكريَّة للدولة العثمانية بغية الترتيب لخطوة قادمة مباشرة للصدام مع الجيش العثماني، وثالثًا؛ لأن هذا التصرُّف الأحمق من أمير البغدان قد يُسْفِر لاحقًا عن خروج البغدان المهمَّة استراتيجيًّا من تبعيَّة الدولة العثمانية.
جعل السلطان سليمان القانوني وجهته إلى مدينة سوسيڤا Suceava العاصمة. كانت الحملة سريعة، وحاسمة، وناجحة إلى حدٍّ كبير. وصل السلطان إلى المدينة في 15 سبتمبر 1538م، وهرب منها أميرها بيترو الرابع. وضع السلطان سليمان القانوني على رأس الإمارة ستيفن الخامس Stephen V بدلًا منه كتابعٍ صريحٍ له[2]، وضمَّت جيوشه المنطقة الواقعة بين نهري دنيستر Dniester وبروت Prut إلى الدولة العثمانية لتُحْكَم بشكلٍ مباشر[3]، وهي المنطقة المعروفة باسم بيسارابيا Bessarabia، وهي منطقةٌ ذات أهميَّةٍ استراتيجيَّةٍ كبرى؛ لقربها من مصبِّ الدانوب في البحر الأسود، ولسيطرتها على الطرق القادمة من الشمال (بولندا وروسيا) إلى إدرنة وإسطنبول، وستدور حولها صراعاتٌ كبرى في مستقبل الدولة العثمانية. انتهت هذه العمليات العسكرية والإدارية قبل منتصف أكتوبر من السنة نفسها، واستقبل السلطان في سوسيڤا حسن باشا ابن خير الدين بربروسا يُبشِّره بنصر بريڤيزا الكبير[4].
حملة اليمن ثم الهند: (1538م) (خريطة رقم 26)
كان البرتغاليون يُمثِّلون خطرًا كبيرًا على المسلمين بشكلٍ عام. لقد كانت أطماعهم الاستعمارية والتجارية دافعةً لهم للسيطرة على الموانئ التي تحمي خطوط الملاحة الخاصَّة بتجارتهم، وعندما اكتشفوا رأس الرجاء الصالح صارت هناك أهميَّةٌ كبيرةٌ عندهم لكلِّ سواحل إفريقيا، وكذلك الموانئ الآسيويَّة المطلَّة على خليج عدن، والمحيط الهندي. هذه كلُّها موانئ تُسيطر على الملاحة من البرتغال إلى الهند وجنوب شرق آسيا.
من هذه المناطق يأتون بالتوابل التي يبيعونها في أوروبا بأكثر من عشرين ضعفًا من كلفتها[5]! هذا غير الحرير، والبارود، والنباتات الطبية، وغير ذلك من ألوان التجارة. هذا دفع البرتغال إلى السيطرة على الموانئ المتحكِّمة في طرق النقل لهذه البضائع النفيسة، وكثيرٌ من هذه الموانئ تابعٌ للمسلمين؛ في الساحل الشرقي لإفريقيا، وفي اليمن وعُمان، وفي الخليج العربي.
من هذه المناطق يأتون بالتوابل التي يبيعونها في أوروبا بأكثر من عشرين ضعفًا من كلفتها[5]! هذا غير الحرير، والبارود، والنباتات الطبية، وغير ذلك من ألوان التجارة. هذا دفع البرتغال إلى السيطرة على الموانئ المتحكِّمة في طرق النقل لهذه البضائع النفيسة، وكثيرٌ من هذه الموانئ تابعٌ للمسلمين؛ في الساحل الشرقي لإفريقيا، وفي اليمن وعُمان، وفي الخليج العربي.
وكذلك في غرب الهند المسلم، فضلًا عن موانئ ماليزيا وإندونيسيا المسلمتين كذلك. لقد كانت إمبراطوريَّةً عجيبةً أشبه ما تكون بجمهوريَّتي البندقية وچنوة الإيطاليتين! وجه العجب فيها هو أن وطنها الأم صغيرٌ للغاية، وسكَّانه قليلون كذلك؛ ومع ذلك كانوا يُسيطرون على أماكن في أقصى شرق العالم، وفي أقصى غربه، وبينهما! كان أحد الأسرار وراء تضخُّمهم كثرة أموالهم، والتي كانوا يُوظِّفونها في شراء المرتزقة المحترفين الذين يُحقِّقون لهم هذه الأمجاد.
-أيضًا- كانوا يُتابعون تحديث سلاحهم وعلومهم بشكلٍ دوري. كذلك كانوا واقعيين في احتلالهم للبلاد التي يرغبون في حيازة موانيها؛ فلم يُفكِّروا -إلا قليلًا- في احتلال كامل البلد مهما كان ثريًّا، إنما كانوا يُسيطرون فقط على الميناء، ويتركون قيادة البلد الداخلي لأهله بعد أن يتواصلوا مع أميره في مقابل ضريبةٍ قد لا تكون كبيرة. هذا كفل لهم قبولًا عند كثيرٍ من القادة المحليِّين في المناطق التي احتلُّوها.
كانت الآثار العسكرية والاقتصادية على كثيرٍ من بلاد العالم متعدِّدة. لم تنجُ الدولة العثمانية من الآثار السلبية لهذا التمدُّد الرهيب. أخطر الآثار كان من الناحية الاقتصادية؛ فسيطرة البرتغال على منافذ البحر الأحمر عن طريق احتلال ساحل اليمن، ومنافذ الخليج العربي عن طريق احتلال عمان وهرمز والبحرين، تحرم الدولة العثمانية من تجارة الشرق.
هذا لن يُؤثِّر فقط على خزينة الدولة؛ ولكنَّه سيُؤثِّر كذلك على استقرار الولايات العثمانية الجديدة: مصر، والشام، والحجاز، والعراق؛ فهذه كلُّها مناطق تعيش على الضرائب التي تُحصِّلها من التجار الوسطاء الذين يحملون البضائع منها إلى أوروبا. الآن تقوم البرتغال بهذا الدور عبر رأس الرجاء الصالح، وقد حُرِمَت هذه المناطق الوسيطة من عصب حياتها. أضف إلى ما سبق تعاون البرتغاليين مع الدولة الصفوية؛ ممَّا يُمثِّل تحالفًا خطرًا ضدَّ العثمانيين. كان على الدولة العثمانية أن تأخذ دورًا إيجابيًّا في هذه المسألة، وقد جاءتها الفرصة في عام 1538!
نتيجة خلافات محلِّيَّة في مملكة الكُچَرات Gujarat المسلمة[6] والموجودة في ساحل الهند الغربي، ونتيجة تدخُّل البرتغال بقوَّة في هذه المناطق حرصًا على وجود قواعد تحمي تجارتها، وحرصًا على وجود علاقات دبلوماسيَّة مع بعض أمراء المنطقة من المسلمين، نتيجة هذا وذاك دارت صراعاتٌ بين القوى المحلِّيَّة، وكذلك بينهم وبين البرتغاليين. استغاث أحد هؤلاء الأمراء، واسمه بهادر شاه Bahadur Shah، بالسلطان العثماني سليمان القانوني ليُرسل قوَّةً عسكريَّةً تواجه البرتغاليِّين[7].
مع انشغال الدولة العثمانية في هذه الفترة بمواجهة الحلف النصراني المقدَّس في بحار المتوسِّط، والأدرياتيكي، وإيجة؛ ومع اضطرابات البغدان التي فصَّلنا فيها منذ قليل؛ ومع الوضع غير المستقر في تونس والجزائر، إلا أن السلطان القانوني وجدها فرصةً لمواجهة القوَّة المتنامية للبرتغال، ولتوفير فرصةٍ لحماية التجارة العثمانية، وفي الوقت نفسه تلبيةً لاستغاثة المسلمين في هذه المناطق الضعيفة، والحقُّ أن هذا الدور الأخير لم يكن مهملًا في تاريخ الدولة العثمانية؛ بل كثيرًا ما كانت -من منطلق حميَّة إسلاميَّة، وعاطفة دينيَّة- ما تُلبِّي النداء عند الاستغاثة بها، وكانت كقوَّةٍ إسلاميَّةٍ أولى في العالم تشعر بروح مسئوليَّةٍ ورعايةٍ للمسلمين في مناطق الدنيا المختلفة، وهذه من الحسنات الكبرى لهذه الدولة العريقة.
أرسل السلطان القانوني رسالةً إلى واليه على مصر سليمان باشا يأمره بأخذ قوَّةٍ عسكريَّةٍ مناسبةٍ للقيام بهذه المهمَّة الصعبة. إن المهمَّة ستكون ضدَّ إمبراطوريَّة البرتغال القويَّة، وستكون في أراضٍ بعيدةٍ عن القواعد العثمانية، وهي في ميدانٍ جديدٍ لم تُبْحِر فيه البحرية العثمانية إلا قليلًا، فضلًا عن أن ولاءات الأمراء المسلمين في الموانئ التي تقع على طول الطريق من مصر إلى الهند هي ولاءاتٌ مضطربةٌ لا تربطها في الأغلب إلا رابطة «المصلحة»! والتي يمكن أن تكون مع البرتغال وليست مع المسلمين؛ ممَّا يُصَعِّب المهمَّة بشكلٍ واضح.
ومن الجميل أن نطَّلع على جانبٍ من رسالة السلطان سليمان القانوني إلى والي مصر سليمان باشا، فإن فيها إشاراتٍ كثيرةً لمنطلقات الدولة العثمانية في هذه المرحلة. قال القانوني: «عليك يا بيك البكوات إعداد العدَّة في السويس للجهاد في سبيل الله، حتى إذا تهيَّأ لك إعداد أسطول، وتزويده بالعتاد، والميرة، والذخيرة، وجمع جيشٍ كافٍ، فعليك أن تخرج إلى الهند، وتستولي وتحافظ على تلك الأجزاء، فإنك إذا قطعت الطريق، وحاصرت السبيل المؤدِّية إلى مكة والمدينة، تجنَّبت سوء ما فعل البرتغاليون، وأزلت رايتهم من البحر»[8][9]. إن الجهاد في سبيل الله، والحفاظ على مكة والمدينة، ومقاومة البرتغاليين، والتواجد في أرض الهند؛ كلها أسباب لهذه الحملة، كما هو واضحٌ في الرسالة، ومع وضوح الأمر في كلام السلطان سليمان القانوني إلا أن الحملة -لظروفٍ سنتعرَّض لها- أخذت في بعض مراحلها على أرض الواقع منحًى آخر غير الذي خرجت له!
تحرَّك سليمان باشا والي مصر بأسطولٍ عثمانيٍّ من ثمانين سفينة، ويحمل حوالي أربعين ألف مقاتل، ومزوَّد بالمدفعية والبنادق[10]. وصل الأسطول إلى ميناء عدن في اليمن، وكان من أهمِّ الموانئ في المنطقة. كانت اليمن تعيش فوضى سياسيَّة كبيرة في العقود الأخيرة من عمرها. تنازع الحكم فيها قوًى كثيرةٌ محلِّيَّة؛ أهمُّها بقايا الدولة الطاهرية الشافعيَّة، والدولة الزيدية الشيعيَّة، بالإضافة إلى بقايا مملوكيَّة، مع تدخُّلٍ متفاوتٍ من البرتغاليِّين.
كان الطاهريُّون في مراحلهم الأخيرة، وكان مركزهم الرئيس في عدن؛ بينما كان الزيديُّون يُسيطرون على المناطق الشماليَّة في اليمن، وكان الطاهريون والزيديون على خلافٍ دائم[11]. وصل الأسطول العثماني على ميناء عدن في 27 يوليو 1538م، وتواصل مع أمير عدن الطاهري، وهو عامر بن داود الثالث.
كان عامر من الأمراء المحبوبين الذين اشتهروا بالكرم وحبِّ العلماء. تذكر المصادر العثمانية أنه قد جاءت إلى القائد العثماني سليمان رسائل من الزيديِّين تكشف علاقة موالاة بين الطاهريِّين في عدن والبرتغاليِّين[12][13]. على العكس من ذلك تذكر المصادر اليمنيَّة والهنديَّة أن هذه الرسائل كيديَّة، أو أنها ليست موجودةً من الأساس، وأنه لا حقيقة لتعاون الطاهريِّين مع البرتغاليِّين[14].
تتَّفق المصادر بعد ذلك على أن سليمان باشا استدرج الأمير عامر إلى سفينته ثم «غدر به»، وشنقه معلِّقًا إيَّاه على صاري السفينة! لم يكن هذا سلوكًا معتادًا للقادة العثمانيِّين! هذه من الحوادث النادرة في التاريخ العثماني؛ حيث اشتُهر قادتها العسكريون، وكذلك الساسة والدبلوماسيون، بالوفاء والأمانة. سيطر الجيش العثماني على عدن بعد هذه الحادثة، وحصَّنها بالمدافع، وعيَّن عليها قائدًا تركيًّا اسمه بهرام بك. تركت حادثة الغدر هذه ظلالًا سلبيةً كبيرةً على الشعب ورموزه؛ بل إن الأخبار السيِّئة انتشرت من اليمن إلى عُمان، وكذلك إلى الهند البعيدة!
يمكن أن نتوقَّف هنا مع كلمات المؤرخ قطب الدين النهروالي، وهو معاصرٌ للحدث، وكلامه له أهميَّةُ قصوى؛ حيث يُعتبر المؤرِّخ «الرسمي» للدولة العثمانية، وهو – كما يقول الشوكاني- عالمٌ كبيرٌ كان عظيم الجاه عند الأتراك[15]، فالمتوقَّع أن يميل إلى صفِّهم؛ ومع ذلك نجده يصف فعلة سليمان باشا في اليمن بكلماتٍ عجيبةٍ في كتابه «البرق اليماني في الفتح العثماني»، وهو الكتاب الذي أهداه للدولة العثمانية ليُحْفَظ في أرشيفها؛ لنُدرك مدى فداحة الجرم، وأثره! يقول النهروالي: «لما توجَّه سليمان باشا من جدة، قصد المرور بعدن، وكان صاحبها يومئذٍ عامر بن داود، بقية من بني طاهر ملوك اليمن سابقًا، ولم يبقَ في يده من مملكة أسلافه بني طاهر إلا قلعة عدن من سائر ممالك اليمن، وكان شابًّا كريمًا، جوادًا حليمًا، محسنًا إلى الناس، باسطًا لهم وجه اللطف والإيناس، يُعظِّم الشرع الشريف ولا يخرج عن حكمه، ويُوقِّر مَنْ وفد إليه من العلماء ويُكرمه لعلمه، إلى غير ذلك من الخصال الجميلة، والخصال الحسنة الجليلة، الشاهدة له بكرم أصله، وجودة فضله ووصله، فلمَّا بلغه وصول سليمان باشا للغزو في سبيل الله، وقطع جادرة[16] الإفرنج عن الإضرار بعباد الله، فتح له باب عدن، وأمر أن تُزَيَّن، وجمع له من البلاد ما أراد من الأزواد، وتوجَّه هو ووزيره للسلام عليه إلى الغراب (نوع من المراكب) الذي هو فيه، فبمجرَّد أن رأى سليمان باشا باب عدن قد فُتِحَ أمر عسكره بدخول عدن وأخذها، فلمَّا وصل إليه عامر ألبسه ومن معه خلعًا، ثم أمر بصلبهم على الصاري في الغراب الذي هو فيه، ونهب العسكرُ داره، ثم شرعوا في نهب البلد... وشاع غدرُه بصاحب عدن في أطراف البلاد، وأكناف العباد، وسبقه خبرُ هذا الغدر إلى بنادر الهند، ونفرت خواطر الناس منه، ولما بلغ أهل الهند فعلُه بعامر، زاد نفورهم منه، وكان ذلك سببًا لعدم مساعدتهم له على الفرتقال (البرتغال)، وكتب على باب عدن أنه افتتح هذه البلاد في سنة خمسة وأربعين وتسعمائة...»[17].
هذه في الواقع حادثةٌ مؤسفةٌ في التاريخ العثماني!
أكمل الأسطول العثماني رحلته الطويلة إلى ساحل الهند. تواصل سليمان باشا مع القادة المسلمين هناك، ولم يلقَ الدعمَ الكافي؛ بسبب وصول أنباء الغدر بحاكم عدن؛ كما بيَّن النهروالي، وخوف الأمراء من ضمِّ الدولة العثمانية لممالك المسلمين في الهند إلى الدولة العثمانية. فتح سليمان باشا عدَّة قلاعٍ برتغاليَّة، ثم حاصر في النهاية، بداية من 4 سبتمبر 1538م، المركز الرئيس لهم في ديو Diu. ظلَّ الحصار لمدَّة ثلاثة أسابيع متَّصلة؛ لكنَّه لم يُفلح في إسقاطه. اضطرَّ القائد العثماني إلى سحب جيشه والعودة إلى اليمن، خاصَّةً بعد ورود أنباء بقرب قدوم أسطولٍ برتغاليٍّ كبير[18].
لم تكن نتيجة هذا الصراع غريبةً في سلسلة الصراعات البرتغاليَّة العثمانيَّة؛ حيث كانت في معظمها لصالح البرتغاليِّين! ويبدو أن السبب في الهيمنة البرتغاليَّة على هذه الصراعات هو بعدها الدائم عن مراكز الدولة العثمانية، وحدوثها في أماكن سيطرة البرتغاليِّين، وكذلك للتفوُّق البرتغالي الملحوظ في جانب القتال البحري، وحين يحدث القتال بالجيوش البرِّيَّة، ستكون الغلبة للعثمانيِّين.
عمومًا لا يمكن إغفال حادثة الغدر التي ارتكبها سليمان باشا ضدَّ حاكم اليمن؛ لأنها بالإضافة إلى إضعاف حميَّة الأمراء المسلمين الهنود في مساعدة الجيش العثماني فإنها أفقدت العثمانيِّين الدعم الربَّاني الذي يُرافقهم في حربهم مع أعدائهم، والله يقول في كتابه: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58]، فإذا كان هذا في حقِّ الأعداء المحاربين من غير المسلمين، فكيف بالتعامل مع المسالمين من المسلمين؟! في الواقع إنه على الرغم من كون الحادثة عابرةً في التاريخ العثماني، فإنها كانت كافيةً لاستمرار رفض القبائل العربية اليمنية للحكم العثماني، والذي سيُولِّد صراعاتٍ كبيرةً بين الطرفين لعدَّة قرون!
عاد سليمان باشا إلى اليمن في فبراير 1539م، ووسَّع من دائرة سيطرته على الجنوب اليمني، وجعل له عدَّة قواعد على خليج عدن، خاصَّةً في مدينتي عدن والمخا، وكذلك في المناطق الداخلية مثل مدينة زبيد المهمَّة غرب اليمن، وهذه كانت نواة تأسيس ولايةٍ عثمانيَّةٍ جديدة هي ولاية اليمن[19].
لم تكن هذه الولاية تشمل شمال اليمن الذي كان تحت سيطرة أئمَّة الزيديَّة؛ ومع ذلك كان التواجد العثماني على السواحل الجنوبيَّة مهمًّا من الناحية الاستراتيجيَّة، والسياسيَّة، والاقتصاديَّة؛ ممَّا سيجعل هذه المناطق بؤرة اهتمام الدولة العثمانية في المراحل القادمة، على الرغم من الأثمان الغالية التي ستُدفع في سبيل السيطرة على اليمن صاحب القوى الكثيرة المتنازعة. كان الوجود العثماني في اليمن سببًا في سلسلةٍ من الصراعات مع إمبراطوريَّة البرتغال؛ حيث كانت البرتغال تُسيطر في هذا الوقت على ميناء مسقط المهمِّ في عُمان، فضلًا عن التواجد القوي في الخليج العربي، وبالطبع في سواحل الهند. هذا الصراع العثماني البرتغالي سيستمر في هذه المرحلة لما يقرب من عشرين عامًا.
تُعتبر حملة سليمان باشا على اليمن والهند من الحملات التي اختلف المؤرِّخون في تقييم نتائجها؛ فالهدف الرئيس لها لم يتحقَّق، وهو هزيمة البرتغال في سواحل الهند؛ بل لم تُقَمْ علاقاتٌ جيِّدةٌ مع مسلمي الهند تكفل النجاح لحملاتٍ أخرى؛ ومع ذلك فقد حقَّقت الحملة نجاحًا عسكريًّا في اليمن. هذا النجاح الأخير لم يكن خالصًا؛ لأن الطريقة المخادعة التي سلكها سليمان باشا من أجل السيطرة على اليمن، ووجود قوى كثيرة متعارضة في اليمن، ثم الإدارة المتعسِّفة للبلد بعد ضمِّه للدولة العثمانية؛ كلُّ ذلك جعل البلد مضطربًا إلى حدٍّ كبير، ولن تكون القيادة العثمانية لهذا القطر آمنةً على مدار القرون القادمة.
كانت السنوات التالية لهذا التواجد العثماني في اليمن كبيسةً على الدولة العثمانية! يصف دفتردار مصر أحمد حلبي حجم المأساة، وهو يخاطب داود باشا، والي مصر بعد سليمان باشا، فيقول: «ما رأينا مسبكًا (فرنًا يستخدم لصهر المعادن) مثل اليمن لعسكرنا! كلَّما جهَّزنا إليه عسكرًا ذاب ذوبان الملح، ولا يعود منه إلا الفرد النادر، ولقد راجعنا الدفاتر في ديوان مصر من زمن إبراهيم باشا إلى الآن (1546م)، فرأينا أنه قد جُهِّز من مصر إلى اليمن في هذه المدَّة ثمانون ألفًا من العسكر، لم يبقَ منهم في اليمن ما يكمل سبعة آلاف نفر[20]! ولا شَكَّ أن هذه العشرات من الآلاف من قتلى العثمانيِّين لم يكونوا بلا مقابلٍ من الطرف اليمني؛ بل المؤكَّد أن قتلى اليمنيِّين أكثر؛ لكون الأتراك أقوى تسليحًا، وأوفر عدَّةً، ولقد كانوا يستعملون البنادق في وقتٍ لم يعرف فيه أهل اليمن البارود.
هذا كلُّه يجعلني أميل إلى اعتبار الحملة من الحملات غير الموفَّقة في التاريخ العثماني، كما أن تعامل السلطان مع نتائج الحملة لم يكن مناسبًا كذلك؛ حيث لم يُجْرِ التحقيق بشكلٍ جدِّيٍّ في المسألة، ولم يُعاقب سليمان باشا على إخفاقاته، ولا على أسلوبه المغاير لطبيعة المعارك العثمانية؛ بل على العكس وجدناه يترقَّى في المناصب حتى صار الصدر الأعظم للدولة من 1541 إلى 1544م[21]! نعم قد يكون السبب في عدم تعامل السلطان مع الأمر بالصورة الجيِّدة انشغاله بملفاتٍ كبرى في هذا التوقيت مع البندقية، والمجر، والنمسا، والڤاتيكان؛ لكن هذا بطبيعة الحال لا يعفيه من المسئوليَّة، ولعلَّ هذه المظالم، والأخطاء الشرعيَّة، هي السِّرُّ الأكبر وراء تعثُّر الخطوات العثمانيَّة في اليمن.
عمومًا كان من الواضح أن مبرِّرات الحكم العثماني لليمن غير مقنعةٍ تمامًا، لا من الناحية الشرعية، ولا من الناحية السياسية، ولم يكن ما يعتذر به المدافعون عن الدولة العثمانية من أنها تسعى لتوحيد المسلمين تحت رايةٍ واحدةٍ بحكم أنها دولة الخلافة تفسيرًا صحيحًا للوقائع؛ بل لم تستخدم الدولة العثمانية هذه الحُجَّة عند نزولها العسكري في اليمن، ولم يكن سليمان القانوني يتكلَّم بصفته خليفةً للمسلمين إنما بصفته حاكمًا قويًّا له جيوشٌ قاهرة.
كذلك لم تكن حجَّة قتال البرتغاليِّين كافيةً للجيش العثماني لاحتلال اليمن عسكريًّا، فإن الصحيح أن يُقاتل العثمانيُّون البرتغاليِّين في أيِّ مكانٍ دون اعتداءٍ على مسلمي اليمن، أو يقوم العثمانيُّون بدعم اليمنيِّين في حربهم للبرتغاليِّين؛ لكن السيطرة عسكريًّا على موانئ بلدٍ آخر بحجَّة قتال بلدٍ ثالثٍ أمرٌ غير مقبولٍ شرعًا ولا سياسةً، وهذا ما أورث الضغائن في الشعب اليمني تجاه الحكم العثماني على مدى العقود والقرون المتتالية. ولقد كانت رسالة القانوني إلى سليمان باشا والي مصر تأمره بقتال البرتغاليِّين في الهند، فلم يكن هناك داعٍ لتغيير المسار بقتال المسلمين في اليمن.
أضف إلى هذا أن هذه البدايات السلبية؛ سواءٌ من ناحية غياب الحجَّة الشرعية أو السياسية، أم من ناحية الغدر الذي تمَّت به السيطرة على البلد، أدَّت إلى تنامي روح المقاومة عند اليمنيِّين ضدَّ العثمانيِّين، وهذا خَلَّف ضحايا من الطرفين، وكثرة الضحايا أدَّت إلى نموِّ دوائر الانتقام، وهكذا توارث الطرفان عداوةً ضدَّ بعضهما البعض تنامت مع السنين وما هدأت قط، ومعظم النار من مستصغر الشرر! وما نقوله الآن عن اليمن قلناه قبل ذلك عن الحكم العثماني للشام، ثم مصر، فالحجة الشرعية لسليم الأول في حكم البلدين لم تكن مقنعة، ولم تكن الطريقة شرعيَّة كذلك، ولا ينبغي توحيد بلاد الإسلام عن طريق سفك دماء المسلمين.
هذا بالنسبة إلى اليمن، والشام، ومصر، أما بالنسبة إلى الجزائر، وتونس، والعراق فالحجَّة الشرعية والأسلوب الذي استُخدم في حكم البلاد، كلاهما صحيح؛ فالجزائر وتونس طلبتا الدخول في تبعيَّة الدولة العثمانية لتحميهما من الإسبان، والعراق -أيضًا- طلبت الدخول في تبعيَّة العثمانيِّين ليحموها من الصفويِّين، فليس هناك لومٌ على الدولة العثمانية في هذا الإجراء؛ بل على العكس ينبغي أن تُحْمَد؛ لأنَّ تواجدها حَفِظ دماء المسلمين وممتلكاتهم، على عكس ما حدث في الشام، ومصر، واليمن، والله أعلم.
أيضًا من النتائج السلبية للحملة غير الناجحة على الهند هو زيادة الجرأة البرتغالية على الدولة العثمانية، والتي وصلت إلى محاولة غزو ميناء السويس المصري في عمق الأراضي العثمانية! فقد قام القائد البرتغالي إيستيڤاو دي جاما Estêvão da Gama (ابن القائد البرتغالي الشهير فاسكو دي جاما) برحلةٍ عسكريَّةٍ طويلةٍ من الهند إلى عدن، ثم إلى مصوع بالحبشة، مرورًا بمدينة سواكن التابعة للعثمانيين في شمال شرق السودان، وبعد تدمير المدينة اخترق البحر الأحمر كلَّه حتى وصل على السويس بغية تدمير الأسطول العثماني هناك! استطاع الجيش العثماني أن يردَّ البرتغاليِّين عن السويس؛ ولكن أثناء عودة الأسطول البرتغالي دمَّر ميناء الطور المصري على ساحل سيناء[22]. كانت هذه جرأةً برتغاليَّةً غير مسبوقة، وهي من الآثار المباشرة لفشل حملة سليمان باشا على الهند.
أخيرًا، وقبل مغادرة نقطة تواجد الأسطول العثماني في المحيط الهندي، ينبغي لفت النظر إلى ضخامة الجهد العثماني في هذه المرحلة التاريخيَّة العجيبة؛ فقد شهد النصف الثاني من عام 1538م ثلاثة جيوشٍ عثمانيَّةٍ كبرى تُجاهد ضدَّ أعداء أقوياء في جهاتٍ مختلفة بعيدة عن بعضها البعض بشكلٍ لافت! فهناك جيشٌ يخرج في اتجاه الغرب يحارب الحلف المقدَّس للبابا، مع البندقية، وإسبانيا، وچنوة، وفرسان القديس يوحنا، وينتصر في موقعة بريڤيزا الخالدة، وهناك جيشٌ ثانٍ يخرج في اتجاه الشمال لاجتياح البغدان، وفتح أراضٍ جديدة، وتغيير قيادة الإمارة، ثم هناك جيشٌ ثالثٌ يتَّجه إلى أقصى الجنوب في اليمن؛ بل يتَّجه أبعد من ذلك إلى شرق العالم في الهند لمحاربة إمبراطورية البرتغال العاتية. هذه الممارسات الحربية واسعة النطاق تُعطينا فكرةً عن قوَّة الدولة العثمانية في هذه المرحلة المهمَّة من تاريخ الأمَّة الإسلامية[23].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/278.
[2] Hitchins, Keith: The Romanians, 1774-1866, Oxford University Press, New York, USA, 1996., p. 6.
[3] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 235.
[4] أوزتونا، 1988 صفحة 1/278.
[5] Paton, James: Oriental Spices, The Pharmaceutical Journal and Transactions, J. & A. Churchill & Sons, London, UK, Vol. 1, 1871., p. 988.
[6] مملكة مسلمة ثرية للغاية نشأت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي (1391)، على الساحل الغربي للهند في أقصى شماله، وظلت قائمةً إلى عام 1571 عندما سقطت في يد دولة المغول المسلمة، وقد سيطر البرتغاليون على أجزاءٍ منها، وكانت تُمثِّل جانبًا كبيرًا جدًّا من تجارتهم.
[7] Faroqhi, Suraiya; McGowan, Bruce & Pamuk, Sevket Faroqhi, Suraiya, Bruce McGowan, Sevket Pamuk: An Economic and Social History of the Ottoman Empire, Edited: Halil Inalcik, Donald Quataert, Cambridge University Press, New York, USA, 1997., vol. 1, p. 324.
[8] المليباري، أحمد زين الدين المعبري: تحفة المجاهدين في أحوال البرتغاليين، قدم له وحققه وعلق عليه: محمد سعيد الطريحي، مؤسسة الوفاء، بيروت، (دون سنة طبع)، (دون سنة طبع) صفحة 176.
[9] الثقفي، يوسف بن علي: موقف أوروبا من الدولة العثمانية، الطبعة الأولى، 1996م، 1996 الصفحات 39، 40.
[10] Serjeant, Robert Bertram: The Portuguese off the South Arabian Coast: Ḥaḍramī Chronicles, with Yemeni and European Accounts of Dutch Pirates Off Mocha in the Seventeenth Century, Oxford University Press (Clarendon Press), 1963., p. 79.
[11] Newton, Lynne S.: A Landscape of Pilgrimage and Trade in Wadi Masila, Yemen: Al-Qisha and Qabr Hud in the Islamic Period, University of Minnesota, USA, 2007., p. 172.
[12] Faroqhi, et al., 1997, vol. 1, p. 326.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/327.
[14] الحداد، محمد يحيى: التاريخ العام لليمن (اليمن الحديث)، وزارة الثقافة، صنعاء–الجمهورية اليمنية، 1431هـ=2010م.الصفحات 3/40، 41.
[15] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، حققه وعلق عليه وضبط نصه وصنع فهارسه: محمد حسن حلاق، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1427هـ=2006م، صفحة 611.
[16] الجادرة: الأصل، أي إنهاء الخطر الأوروبي من أصله، أو أساسه.
[17] النهروالي، قطب الدين: البرق اليماني في الفتح العثماني، منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1387هـ=1967م، 1967 الصفحات 80، 81.
[18] Corrêa, Gaspar: Lendas da Índia (in Portuguese), Typographia da Academia Real das Sciencias, Lisboa, Portugal, 1864.vol. 4, pp. 868-870.
[19] Faroqhi, et al., 1997, vol. 1, pp. 324-326.
[20] النهروالي، 1967 الصفحات 91، 92.
[21] أوزتونا، 1988 صفحة 1/349.
[22] Newitt, Malyn: A History of Portuguese Overseas Expansion 1400–1668, Routledge, New York, USA, 2004., p. 111.
[23] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 457- 468.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك