التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
صعد السلطان محمد الرابع إلى عرش الدولة العثمانية، ليستمر في الجلوس عليه لمدة تسعٍ وثلاثين سنة؛ ليُصبح ثاني أطول السلاطين حكمًا بعد سليمان القانوني.
السلطان محمد الرابع (1648-1687م)
صعد الأمير الطفل محمد إلى عرش الدولة العثمانية، ليستمر في الجلوس عليه لمدَّة تسعٍ وثلاثين سنة؛ ليُصبح ثاني أطول السلاطين حكمًا بعد العظيم سليمان القانوني (حَكَمَ 46 سنة)، مع الفارق الكبير في المستوى والظروف بين السلطانين. استلم السلطان محمد الرابع البلادَ وهي في حالة فوضى، وحَكَمَ طويلًا، وتحسَّنت الأمور في عهده كثيرًا لعوامل لم يكن له دخلٌ كبيرٌ فيها، ثم في نهاية فترة حكمه حدثت بعض الاضطرابات التي ما لبثت أن تطوَّرت إلى الأسوأ؛ لتضع بذلك نهايةً للحقبة التاريخيَّة الطويلة التي أسميناها «قرن الثبات»، وعليه فيمكن تقسيم فترة حكمه إلى ثلاث مراحل متباينة؛ الأولى هي الفترة المظلمة التي بدأت من يوم استلامه في عام 1648م إلى عام 1656م، والثانية هي فترة الاستقرار الجيِّدة، والتي استمرَّت عشرين عامًا، وهي فترة ولاية آل كوبرولو للصدارة العظمى، التي عُرِفَت في التاريخ «بالحقبة الكوبروليَّة»، وانتهت في عام 1676م، ثم المرحلة الثالثة والأخيرة، التي يُلْحِقها بعضهم بالحقبة الكوبروليَّة، والتي حدثت فيها بعض الاضطرابات النسبيَّة، فأرهقت الدولة بشكلٍ أسلمها لنهاية قرن الثبات، وبداية مرحلةٍ تاريخيَّةٍ جديدة، وهذه الفترة الأخيرة تبدأ من 1676م وتنتهي في 1683م.
الفترة المظلمة (1648-1656م)
عادت السلطانة قُسِم للحكم بشكلٍ رسميٍّ -كما بيَّنَّا- كنائبةٍ للسلطنة من وراء حفيدها السلطان الطفل محمد الرابع. لم تكن هذه العودة سلسة. كانت مراكز القوى قد كوَّنت عدَّة أحزابٍ متعارضة، وكلها يعمل في تدبير المكائد للأطراف الأخرى، كما يعمل كذلك على نهب ما يستطيع من ثروات البلد قبل أن تتغيَّر الظروف. كان العدوُّ الرئيس للسلطانة قُسِم هي السلطانة الشابَّة خديجة تورهان والدة السلطان محمد الرابع، التي تمَّ تجاوزها عنوةً في مركز نائبة السلطنة، ولم يكن سهلًا أن تُفَرِّط في هذا المنصب؛ ولذلك تلقَّت الدعم من المعارضين للسلطانة قُسِم[1]، وعاشت البلاد حربًا أهليَّةً شبه حقيقيَّة!
كانت السلطانة قُسِم مدعومةً في الأساس بأغوات (قادة) الإنكشارية؛ ولذلك تُعْرَف السنوات الثلاث التي حكمتها قُسِم -من 1648م إلى 1651م- «بسلطة الأغوات»[2]. كانت هذه السلطة كارثيَّة على الدولة؛ إذ إن وجود القرار في أيدي أولئك المسلحين الذين لا يهدفون إلا لمصلحتهم المادِّيَّة والسلطويَّة كان يعني أن البلاد ستتجه للخراب لا محالة. تأثَّر الاقتصاد جدًّا في هذه المرحلة، وانخفضت قيمة العملة بشكلٍ أكبر، وارتفعت الأسعار، وضجَّ الناس[3]! حدثت عدَّة تمرُّدات في الدولة بدوافع مختلفة[4]. كانت تمرُّدات الأناضول تأخذ الطابع الاجتماعي الذي يبحث عن الاستقرار المادِّي، والهدوء الأمني؛ بينما كانت تمرُّدات الشام ذات طابعٍ سياسي، وأحيانًا ديني، أمَّا تمرُّدات مصر فكانت من أجل السيطرة على الميزانيَّة التي تدرُّ في العادة أموالًا طائلة.
في ظلِّ هذه الأجواء ظهر مطالبون بدم السلطان إبراهيم[5]! كان من الواضح أن هذه مجرَّد واجهة فقط لرغباتٍ سياسيَّةٍ انقلابيَّة؛ لأن السلطان إبراهيم لم يكن محبوبًا في حياته. تطوَّر الأمر إلى صراعٍ مسلَّحٍ بين الإنكشاريَّة والسباهيَّة (سلاح الفرسان)[6]، وكاد الأمر ينتهي بكارثة. تفاقمت الأزمة الاقتصاديَّة واضطرَّت الحكومة للقيام ببعض المصادرات للأملاك كي تتمكَّن من دفع أجور الجنود والموظفين، كما سعت الحكومة لفرض ضرائب جديدة على التجار والفلاحين. في ظلِّ هذه الظروف تجمَّد الموقف في كريت، وهدَّدت البندقية مضيق الدردنيل[7].
وَلَّد هذا الضغط انفجارًا شعبيًّا مخيفًا دعمته السلطانة خديجة تورهان وحزبها من الوزراء، والعلماء، والقادة. كانت ثورة حقيقيَّة أرعبت السلطانة قُسِم! أخذت هذه الأخيرة القرار بعزل حفيدها السلطان الطفل محمد الرابع[8]، وفي رواياتٍ أنها قرَّرت قتله، ووضع أخيه وليِّ العهد الأمير سليمان على العرش[9]؛ لأنه من أمٍّ أخرى غير خديجة، فتُقصي بذلك خديجة وحزبها عن الحكم! اكتُشِفت مؤامرة قُسِم، وعلى إثر هذا الاكتشاف تحرَّكت قوى الحزب المعادي إلى قصرها، مدعومة بثورةٍ شعبيَّة، وأُعدِمت فورًا في يوم 2 سبتمبر عام 1651[10]. تم الإعدام بصورةٍ بشعة حاولت فيها السلطانةُ الهربَ لكنَّها لم تُفْلِح، وعلى الرغم من توسُّلاتها تمَّ خنقها بعد ضربها[11]! لم يتمكَّن الإنكشارية الداعمون لها من إنقاذها من هذا المصير المشئوم[12]!
كانت هذه نهايةً مأسويَّةً لأقوى امرأةٍ في التاريخ العثماني! كان طموحها في الحكم كبيرًا، ودفعها هذا الطموح إلى التضحية بكلِّ شيءٍ من أجل الاستقرار على كرسي العرش. كان من جملة الذين ضحَّت بهم أولادها الخمسة الذين قُتِلوا جميعًا، باستثناء مراد الرابع، في صراعاتٍ على الحكم، كان من الممكن أن تمنعها لو أرادت؛ لكنها كانت دومًا خَصْمًا، ولم تكن مُصْلِحةً قط، حتى اللحظة الأخيرة من حياتها لم يكن عندها مانعٌ من التضحية بحفيدها الصغير في سبيل إكمال مسيرة الحكم!
صعدت السلطانة خديجة تورهان إلى منصب نائبة السلطنة، وانتهت سلطة الأغوات؛ لكن هذا لم يُغيِّر من الأمر شيئًا؛ بل زادت الاضطرابات والكوارث؛ لأن السلطانة الجديدة بلا خبرة، وتخبَّطت الدولة بين الصدور العظام الذين يُعَيَّنون على سبيل «التجربة»! لقد أحصيتُ عددَ مَنْ تولوا منصب الصدر الأعظم في الفترة من سبتمبر 1651م (عندما قُتِلت قُسِم) إلى سبتمبر 1656م فوجدتُهم أحد عشر رجلًا! هذا يُعطي متوسِّط ولاية أقلَّ من خمسة شهورٍ ونصف! فكيف يمكن في هذه الفترة الوجيزة أن تُحقِّق أيُّ حكومةٍ نجاحًا؟! إن هذا التخبُّط كان دلالةً على أن ولاة الأمر لا يفقهون في السياسة شيئًا. تفاقم الأمر عندما استغلَّت البندقية هذه الاضطرابات فقامت بحملةٍ بحريَّةٍ ناجحةٍ على بحر إيجة، واستطاعت في شهور يونيو، ويوليو، وأغسطس، من عام 1656م أن توقِع عدَّة هزائم مهينة للأسطول العثماني، وكانت النتيجة سقوط عدَّة جزرٍ استراتيجيَّةٍ في يد البنادقة؛ كان منها تينيدوس، وكان العثمانيون قد استردُّوها قبل ذلك، وساموتراس، وليمنوس[13]. أغلقت البندقية مضيق الدردنيل، وأدَّى هذا إلى نقص الطعام بشدَّة في إسطنبول، مع موجة غلاءٍ عنيفة[14]، وكان هذا كلُّه دافعًا إلى ثورةٍ شعبيَّةٍ جديدةٍ ضدَّ الحكومة الهشَّة.
كان من الممكن أن تكون هذه اللحظات هي الأخيرة في عمر الدولة العثمانية كدولةٍ واحدةٍ تحكم ملايين الكيلومترات المربعة، وكان من الممكن أن ينفرط العقد تمامًا فنراها تُقَسَّم إلى عشرات الأقاليم المستقلَّة، أو يتقاسمها أعداؤها الكثر. ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن أوروبا كانت قد انتهت من حرب الثلاثين عامًا منذ ثماني سنوات؛ أي منذ عام 1648م، وحالها الآن يتَّجه للقوَّة، وفيها بعض الدول التي تسعى للتأثير العالمي؛ في مقدِّمتهم فرنسا، وبعدها إنجلترا، وهولندا، ثم إسبانيا، والبرتغال، والسويد، وبولندا، هذا فضلًا عن روسيا التي بدأت تتعافى من أزماتها السياسيَّة والاقتصاديَّة في ظلِّ الحكم المستقر لآل رومانوف. كان من الممكن أن تكون نهاية الثورة الشعبيَّة كارثيَّة لولا أن أشار أحد مستشاري السلطانة خديجة تورهان -وهو رئيس الكتبة محمد أفندي- عليها بمقابلة رجلٍ غير مشهور، هو محمد كوبرولو باشا، وتسليمه منصب الصدارة العظمى[15]! كان محمد كوبرولو باشا رجلًا مُسِنًّا يقترب عمره من الثمانين عامًا[16]، ومتقاعدًا في بيته منذ أربع سنوات[17]! كانت النصيحة غريبة؛ لكنها كانت أمينة! بعد تردُّدٍ وافقت السلطانة على مقابلة الرجل، فكان هذا سببًا في الدخول في مرحلةٍ تاريخيَّةٍ جديدةٍ لها سماتها الخاصَّة جدًّا![18].
[1] Isom-Verhaaren, Christine & Schull, Kent F: Living in the Ottoman Realm: Empire and Identity, 13th to 20th Centuries, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2016., p. 199.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/496.
[3] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. xlv.
[4] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م صفحة 289، 290.
[5] أوزتونا، 1988 صفحة 1/496.
[6] Somel, Selçuk Akşin: Historical Dictionary of the Ottoman Empire, Lanham, Maryland, USA, Scarecrow Press, 2003., p. 181.
[7] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., p. 159.
[8] Peirce, Leslie Penn: The Imperial Harem: Women and Sovereignty in the Ottoman Empire, Oxford University Press, New York, USA, 1993., p. 252.
[9] أوزتونا، 1988 صفحة 1/497.
[10] Peirce, 1993, p. 252.
[11] Görgün-Baran, Aylin: A Woman Leader in Ottoman History: Kösem Sultan (1589–1651), In: Erçetin, Şefika Şule: Women Leaders in Chaotic Environments: Examinations of Leadership Using Complexity Theory, Springer International Publishing, Cham, Switzerland, 2016., p. 82.
[12] Isom-Verhaaren & Schull, 2016, pp. 200-201.
[13] Setton, 1991, pp. 182-185.
[14] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2006., pp. 251-252.
[15] Watts, Tim J.: Koprulu, Mehmed Pasha (1575-1661), In: Mikaberidze, Alexander: Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (C)., vol. 1, p. 487.
[16] أوزتونا، 1988 صفحة 1/505.
[17] Tucker, Spencer C. (Editor): Middle East Conflicts from Ancient Egypt to the 21st Century: An Encyclopedia and Document Collection, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2019., vol. 2, p. 714.
[18] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 667- 670.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك