التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يعتبر السلطان أحمد الثالث من الشخصيات المهمة في التاريخ العثماني. حيث أسهم في عدة أمور كان لها آثار مستديمة في الدولة العثمانية.
استلم السلطان أحمد الثالث الحكم في 22 أغسطس عام 1703م[1]، وهو في الثلاثين من عمره[2]. يعتبر هذا السلطان من الشخصيات المهمة في التاريخ العثماني. أسهم في عدة أمور، على المستويين الداخلي والخارجي، كان لها آثار مستديمة في الدولة العثمانية. على الرغم من أنه أقل من أخيه المخلوع مصطفى الثاني في الكفاءة والخبرة فإنه كان متحمِّسًا للإصلاح، حريصًا على مصلحة الدولة.
لم يكن قائدًا عسكريًّا كأخيه، ولكنه لم يتردد في الأمر بالقتال عندما كانت تقتضي الضرورة. حققت الدولة في زمانه انتصارات مهمة، لكنها هُزِمَت كذلك. اكتسب أراضٍ جديدة، وفقد غيرها، وهذه هي طبيعة قرون الثبات. أهم ما يميزه عن أقرانه من السلاطين العثمانيين في هذه الحقبة هو اهتمامه -إلى جوار السياسة والحروب- بالفنون، والآداب، والعلوم، ومظاهر الحضارة الأخرى. في الواقع كان الاهتمام بهذا النوع من المجالات أمرًا نادرًا في الدولة العثمانية عمومًا، وباستثناء الفاتح والقانوني، يمكن اعتبار أحمد الثالث أكثر السلاطين اهتمامًا بالحضارة منذ نشأة الدولة العثمانية. امتد حكمه لفترة سبعةٍ وعشرين عامًا، وهي من الفترات الناجحة في التاريخ العثماني، ويمكنني تقسيمها إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى والمرحلة المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة، وتتميز كل واحدة منها بسمات خاصة: وسوف نتكلم في هذا المقال على المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: الحرب مع روسيا، والبندقية، والنمسا (1710- 1718م)
كانت الهدنة بعد كارلوڤيتز تقضي بوقف القتال لمدَّة خمسٍ وعشرين سنةً من سنة التوقيع (1699م) مع دول النمسا، والبندقية، وبولندا، أما معاهدة إسطنبول فكانت تعطي هدنة حرب مع الروس لمدة ثلاثين سنة بدءًا من عام 1700م. في خلال السنوات من 1699 إلى 1709م لم يحدث خرقٌ للهدنة من أي طرف من الأطراف، ولكن حدث تطوُّر مفاجئ في عام 1709م دفع إلى الحرب!
الحرب الروسية العثمانية (1710-1711م):
في عام 1700م بدأت حرب الشمال العظمى بين إمبراطورية السويد العملاقة من جهة، وبين روسيا، وحلفائها؛ الدنمارك، والنرويج، وبروسيا الألمانية، من جهةٍ أخرى. حقَّقت السويد انتصارات كبرى في السنوات الست الأولى، ممَّا شجَّع إمبراطورها شارل الثاني عشر Charles XII على عبور البلطيق، ودخول بولندا، والسعي لاقتحام روسيا نفسها، بل التخطيط للوصول إلى موسكو! بدأ الإمبراطور السويدي حركته من ساكسوني عام 1707م، وحقق انتصارات على حلفاء الروس، وانتهى به الأمر إلى الصدام المباشر مع الجيش الروسي بقيادة القيصر بطرس الأكبر عند مدينة بولتاڤا Poltava[3] الأوكرانية في 8 يوليو 1709م[4].
في هذه الموقعة المفصلية في الحرب كلها تعرَّض الجيش السويدي، وهو من أقدر الجيوش العالمية آنذاك، لهزيمة قاسية من الجيش الروسي[5]، واضطر الإمبراطور شارل الثاني عشر إلى النجاة بنفسه عن طريق الهرب في الاتجاه الجنوبي الشرقي لمسافة تقترب من خمسمائة كيلو متر، ليعبر في النهاية نهر الدنيبر Dnieper River، ويدخل في حدود الدولة العثمانية عند مدينة بيندري Bendery[6] البغدانية (في مولدوڤا الآن)، طالبًا اللجوء السياسي من العثمانيين، الذين قبلوا ذلك دون تردد[7].
طلب القيصر الروسي بطرس الأكبر من الدولة العثمانية تسليم الإمبراطور السويدي، وقوبل الطلب بالرفض القاطع مرات عديدة. في النهاية، وبعد أكثر من عام، ركب الغرورُ القيصرَ، ودفعه إلى اقتحام الأراضي العثمانية ليطارد الإمبراطور شارل الثاني عشر[8]، فأعلنت الدولة العثمانية الحرب فورًا على روسيا في 20 نوفمبر 1710م[9]. تواصل القيصر الروسي مع أمير البغدان ديميتري كانتيمير Dimitrie Cantemir التابع للدولة العثمانية، وأغراه بالتبعية له، فوافق الأمير البغداني، ووقَّع اتفاقية مع الروس في 13 أبريل 1711م تقضي بمشاركته معهم في الحرب ضد الدولة العثمانية، وهي المعروفة بمعاهدة لوتسك Treaty of Lutsk[10]!
اتَّحد الجيش الروسي مع البغداني في شمال البغدان العثمانية ثم اتَّجها جنوبًا بمحاذاة نهر بروت Prut River (يُكتب كذلك بروث Pruth)، وهو النهر الفاصل الآن بين حدود رومانيا ومولدوڤا، بهدف اختراق الدانوب، وغزو البلقان. أخرجت الدولة العثمانية جيشًا عملاقًا، تصل به بعض التقديرات إلى مائتي ألف مقاتل[11][12]، بقيادة الصدر الأعظم محمد بلطجي باشا Baltacı Mehmet Pasha[13].
التقى الجيشان عند مدينة ستانيليشتي Stănilești (في رومانيا الآن على بعد حوالي ثلاثمائة كيلو متر شمال شرق بوخارست) في 18 يوليو 1711م. دارت معركة شرسة على مدار أربعة أيام متصلة، وانتهى الأمر بنصر ساحق للجيش العثماني، وإحاطة كاملة بالمعسكر الروسي[14]، وأعلن القيصر بطرس الأكبر الاستسلام، وطلب الدخول في المفاوضات[15].
ارتكب الصدر الأعظم محمد بلطجي باشا واحدًا من أفدح الأخطاء في التاريخ عندما وافق على إطلاق سراح القيصر الروسي بطرس الأكبر وجيشه في مقابل إعادة الروس لميناء آزوڤ للعثمانيين، والوعد بعدم التدخُّل في شئون بولندا، مع إفساح الطريق للإمبراطور السويدي للعودة إلى بلاده سالمـًا[16]! وُقِّعَت بذلك اتفاقية في 21 يوليو 1711م عُرِفَت بمعاهدة بروت[17] نسبةً إلى النهر الذي وُقِّعَت على ضفافه، وتُعْرَف -أيضًا- بمعاهدة فلكزن Falksen نسبة إلى القرية التي تمَّت فيها[18].
يُجْمِع المؤرخون على أن العثمانيين لو احتفظوا بالقيصر الروسي كأسير حرب لتغير وجه التاريخ! تتحدث مصادر كثيرة عن رشوة باهظة من المجوهرات والأموال أخذها الصدر الأعظم من القيصر الروسي للموافقة على هذه المعاهدة التافهة[19][20] [21][22].
مصادر أخرى تشير إلى أن مستشاري الصدر الأعظم هم الذين أخذوا الرشوة[23] ليؤثِّروا على الصدر الأعظم، فيقبل بالثمن الزهيد الذي عرضه القيصر ليتخلَّص من الأسر، ومع ذلك فهناك مصادر تنفي الرشوة من الأساس[24]. أيًّا ما كان الأمر فقد نجا القيصر من الأسر وعاد بسلام إلى بلاده!
رجع ميناء آزوڤ بذلك إلى الدولة العثمانية، لكنها خسرت فرصة ذهبية لفتح روسيا، بل والوصول بلا مبالغة إلى موسكو، خاصةً إذا توصَّلت إلى اتفاق شراكة مع إمبراطورية السويد. المشكلة الأكبر أن الأسير لم يكن قيصرًا عاديًّا؛ إنما هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية الروسية، ولو انتهى دوره في التاريخ عند هذه المرحلة لخسرت روسيا خسارة لا يمكن تعويضها، ولكان من الصعب عليها أن تهدم الدولة العثمانية مستقبلًا. نعم تأجلت مشاريع روسيا في الوصول للبحر الأسود لكنها لن تنتهي، بل سينجحون في ذلك لاحقًا، بفضل جهود بطرس الأكبر ومَنْ بعده.
كانت المعاهدة التي عُقِدَت قريبًا من أرض القتال، وبعيدًا عن إسطنبول، صادمةً للسلطان أحمد الثالث، وكذلك للإمبراطور السويدي[25]. اكتفى السلطان أحمد بعزل الصدر الأعظم ونفيه[26] لقيامه بهذا الخطأ التاريخي الشنيع، ولعل هذا العقاب اليسير نسبيًّا ينفي شكَّ السلطان في مسألة الرشوة؛ وإلا كان العقاب المتوقع هو الإعدام بلا شك.
تلكأت روسيا في تسليم ميناء آزوڤ، وفي الانسحاب من بولندا، فأعلن السلطان أحمد الثالث عليها الحرب مرتين؛ واحدة في عام 1712م وتم تدارك الأمر عبر الدبلوماسية الروسية[27]، والثانية في عام 1713م، وفيها رضخت روسيا، ونفذت المطالب العثمانية، ووُقِّعت بذلك معاهدة جديدة في إدرنة في 24 يونيو 1713م[28]، وبذلك أُغْلِق هذا الملف، على الأقل في هذه المرحلة. في العام التالي، 1714م، عاد الإمبراطور السويدي إلى بلاده بعد أكثر من خمسة أعوام من اللجوء للدولة العثمانية[29].
كشفت هذه الحرب السابقة عن جاهزية الدولة العثمانية في هذه الفترة للقتال المفاجئ، وكشفت كذلك عن الجهد الضخم الذي بذله السلطان أحمد الثالث وقادة الدولة من أجل إعادة الجيش العثماني إلى المستوى اللائق به، فحقق الانتصار على الجيش الروسي القوي بقيادة قيصر روسيا نفسه، كما كشفت عن صلابة السلطان أحمد الثالث في مسألة حماية الإمبراطور السويدي، واهتمامه بعزة الدولة العثمانية، وعزمه على القتال مرة أخرى مع الروس عندما تلكأوا في تنفيذ معاهدة بروت. -أيضًا- كشفت المعاهدة عن أن الدولة العثمانية كانت لا تزال في هذه الفترة تتمتع بمكانة عالمية كبرى تسمح لها في الدخول في هذه الصراعات الضخمة دون وجل أو تردد.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذه الإيجابيات، فإن هذه الحرب كشفت عن بعض أوجه القصور المهمة في الدولة العثمانية في هذه المرحلة التاريخية؛ منها ولاية غير الأكفاء لبعض المناصب الكبرى في الدولة، ومنها وجود فساد يصل إلى رشوة بعض كبار رجال الدولة، سواء كان الصدر الأعظم أو المستشارين، ومنها عدم عمق الرؤية الاستراتيجية للدولة حيث لم تكتشف مبكِّرًا (منذ أواخر القرن السابع عشر) قيمة الإمبراطورية السويدية وأهميتها، ولو كان لدي العثمانيين الاطلاع الكامل والواعي على موازين القوى لكان التحالف مع السويديين أمرًا ضروريًّا لمواجهة الروس لاحقًا، لكن هذا لم يحدث. هذا هو الخطأ نفسه الذي ذكرناه سابقًا عند حديثنا عن الحرب العثمانية البولندية حين قلنا: إنه كان ينبغي للدولة العثمانية السعي إلى التحالف مع البولنديين ضد الروس بدلًا من حرب الاثنين معًا، وها هي الآن روسيا تجتاح بولندا، وتنتصر على السويد، وتنفرد بكل قوة من قوى المنطقة على حدة! ستنتهي حرب الشمال العظمى بانتصار كاسح للروس، وبداية الاضمحلال للإمبراطورية السويدية، وسيطرة الروس على بحر البلطيق، ومن ثم على بولندا وأوكرانيا، وبتضخم مرعب للإمبراطورية الروسية سيكون له آثار مدمرة على الدولة العثمانية، والفضل في ذلك يعود إلى محمد بلطجي باشا!
تغيير نظام الإدارة والحكم في البغدان (1711م) والإفلاق (1716م):
مرَّ بنا نقض أمير البغدان لعهده مع الدولة العثمانية، وانضمامه إلى روسيا في حربها ضد العثمانيين. كان الحدث كبيرًا، ويُنْذِر بمستقبل مضطرب، خاصة أن الروس أرثوذكس كالبغدانيين، والتعاون بينهما محتمل جدًّا، بل قد يمتد الأمر إلى الإفلاق القريبة. لهذا أخذ السلطان أحمد عقب معاهدة بروت مباشرة القرار بتغيير نظام الحكم في البغدان.
عيَّن السلطان أحمد الثالث الحاكمَ على البغدان مِن قِبَله بشكل مباشر بدلًا من النظام القديم الذي كان ينتخب فيه نبلاء البلد مَنْ يحكمهم. اختار السلطان أن يكون الحاكم نصرانيًّا كأهل البلد لكنه قَصَرَ الاختيار على عائلات محدودة تنحدر كلها من أصول يونانية، وهي المعروفة بعائلات «يونان الفنار» Phanariote Greeks[30]. ترجع هذه التسمية إلى الحي الراقي؛ حي الفنار في إسطنبول، الذي كانت تسكن فيه هذه العائلات اليونانية النبيلة والثرية[31]، التي تنحدر من أصول بيزنطية في المعظم، منذ أيام محمد الفاتح[32]. كانت هذه العائلات تعمل في مجالات مهمة كثيرة؛ أشهرها الترجمة والتجارة.
كان العثمانيون -للأسف، ونتيجة لمفاهيم مغلوطة- لا يريدون تعلُّم اللغات الأجنبية بحجة أنها لغات قوم غير مسلمين! ولم تكن الحاجة إلى تعلُّم هذه اللغات ماسَّة في بدايات الدولة، حتى في زمان عظمة الدولة في القرن السادس عشر لم تكن الدولة تدخل في تفاصيل دبلوماسية كثيرة مع الدول الأوروبية[33]، فلم تظهر الحاجة إلى مترجمين محترفين. بداية من منتصف القرن السابع عشر تقريبًا ظهرت الحاجة الشديدة إلى هؤلاء المترجمين لكثرة المعاهدات، والحوارات الجدلية المعقدة التي تدور حولها. لم تجد الدولة مَنْ يسد هذه الثغرة من المسلمين فلجأت إلى اليونانيين من حي الفنار في إسطنبول[34].
كانت هذه الأسر على درجة عالية جدًّا من الثقافة والتأهيل العلمي، وكانت معتادة على تعليم أولادها عدة لغات. صارت الدولة معتمدة تمامًا على هؤلاء في وظائف الترجمة والدبلوماسية، وكان يُعَيَّن منهم كبير المترجمين في الدولة، وكبير المترجمين في الأسطول البحري، وهذه وظائف عليا، وتقترب من درجات الوزراء. لم تكن مهمة هؤلاء المترجمين مقصورة على الترجمة الحرفية فقط؛ إنما كانوا يقومون بأدوار دبلوماسية كبيرة تصل إلى التفاوض مع الدول الأخرى، والتناقش في محتوى الرسائل، وهو ما يشبه أعمال السفراء، أو أحيانًا وزراء الخارجية[35].
أما تجارة يونان الفنار فكانت واسعة وممتدة، نظرًا إلى ثرائهم، وقدرتهم على التعامل مع تجار أوروبا من البنادقة، والچنويين، والفلورنسيين، والفرنسيين، بالإضافة إلى الروس وغيرهم[36]. هاجر بعض هؤلاء التجار الأثرياء، بهدف البحث عن أسواق أوسع، إلى البغدان والإفلاق العثمانيتين، وترسَّخت بعض العائلات منهم في هذه المناطق، مثل عائلات ماڤروكورداتوس Mavrocordatos، وجيكا Ghica، وروسيتي Rosetti[37]، ومع مرور الوقت صارت هذه العائلات اليونانية مندمجة في المجتمع وكأنها رومانية كالبغدانيين والإفلاقيين[38].
اختار السلطان أحمد الثالث في عام 1711م أن يكون والي البغدان من هذه العائلات اليونانية الأصل. قد يكون الهدف من ذلك هو تحجيم النفوذ الواسع للأمراء في الإقليم، لأن هذا النفوذ قد يدفعه إلى الاستقلال به، أو التفكير في التعاون مع عدوٍّ للدولة. من المؤكد أن هذا النظام لم يكن على هوى العائلات النبيلة الأخرى، لكنه لم يكن ضارًّا بعموم الشعب، الذي لم يكن يحتاج في هذه المرحلة التاريخية إلى عائلة معينة تحكمه، ولكن يحتاج في الأساس إلى استقرار وأمان، وهكذا كانت شعوب العالم كله.
في الواقع قَلَّ أن تجد في هذه القرون شعبًا يُحْكَم بنبيل أو ملك من نفس عرقه أو عنصره! هكذا كانت أوروبا، وهكذا كان العالم الإسلامي، وهكذا كانت المستعمرات الواسعة في أرجاء العالم لكافة الإمبراطوريات الكبرى، ولم يحدث أن رَغِبَت الشعوب في أن يحكمها رجلٌ من عرقها وقوميتها إلا في القرن التاسع عشر وبعده، كما سنتبيَّن في أحداث التاريخ. استقرت الأوضاع فعلًا في البغدان بعد هذا التغيير، وكان ولاء هؤلاء الفناريين للدولة العثمانية لا لغيرها، وكان السلطان يُكْثِر من تغييرهم لئلا يزداد نفوذهم مع الوقت فيتأثر ولاؤهم. كان أول الولاة الفناريين في البغدان هو چون ماڤروكورداتوس John Mavrocordatos، ثم أخوه نيكولاس ماڤروكورداتوس Nicholas Mavrocordatos بعده بشهور ثلاثة[39].
ما حدث في البغدان تكرَّر في الإفلاق بعد سنوات قليلة؛ إذ سعى السلطان أحمد الثالث في عام 1716م إلى تطبيق النظام نفسه هناك، وكان أول الولاة الفناريين في الإفلاق هو نيكولاس ماڤروكورداتوس، الذي كان واليًا على البغدان آنذاك، فتركها للإفلاق، وحلَّ محله في البغدان فناريٌّ آخر[40]، وكان من المعتاد في النظام العثماني أن يتبادل الولاة الفناريون على الإفلاق والبغدان أماكنهم[41]. استمر هذا النظام الذي وضعه السلطان أحمد الثالث إلى عام 1821م[42] (مائة وعشر سنين).
بداية ولاية العائلة القرمانلية في ليبيا (1711-1835م):
كان السلاطين العثمانيون في قرني الثبات والثبات النسبي، قادرين على بسط سيطرتهم على الأناضول، وعلى الأقاليم الأوروبية المجاورة لهم، وكذلك على الشام، وإلى حدٍّ ما على العراق ومصر، ولكن كانت تواجههم مشكلة دائمة مع الأقاليم العربية البعيدة، سواء في شمال إفريقيا، أو اليمن. مرَّ بنا انفصال اليمن عن الدولة العثمانية بشكل كامل في عام 1636م، ثم ظهور نظام الدايات في الجزائر عام 1671م، فأصبحت الجزائر شبه مستقلة، وإن لم تُعْلِن الانفصال الرسمي كاليمن. -أيضًا- مرَّ بنا ظهور الأسرة الحُسَينية في تونس عام 1705م (في عهد السلطان أحمد الثالث)، وتوارثها للحكم في صورة تشبه الاستقلال دون إعلان رسمي كذلك. الآن، في عام 1711م، يسيطر على الحكم في ليبيا أحمد القرمانلي، وهو ضابط تركي من قرمان[43]، وقد انقلب على الوالي العثماني، ولكنه لم يعلن الاستقلال عن الدولة. إزاء انشغال السلطان الشديد بالحرب مع روسيا قَبِلَ ولاية القرمانلي على مضض، واضطر أن يُعطيه لقب باشا أملًا في احتوائه لصالح الدولة، لكن هذا الاحتواء لم يحدث على أرض الواقع، وسيؤسس أحمد القرمانلي حكمًا وراثيًّا له في ليبيا (الدولة القرمانلية) سيستمر إلى عام 1835م[44][45].
بقراءة هذه الأحداث ندرك أن الوجود العثماني في إفريقيا بشكلٍ عامٍّ كان ظاهريًّا، بدايةً من منتصف القرن السابع عشر، ومرورًا بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وانتهاءً بالقرن العشرين، وهذا ما يفَسِّر السقوط المتتالي لهذه الأقطار لاحقًا في أيدي القوى الأوروبية. إن هذه الأقطار في الحقيقة -على أرض الواقع- لم تكن «ولايات» في الدولة العثمانية؛ إنما كانت «دولًا» تحمل كل دولة اسمها الخاص بها، وما قلناه عن الجزائر، وتونس، وليبيا، واليمن، سنقوله عن العراق، ومصر، والحجاز بعد قليل!
حرب البندقية، واسترداد المورة اليونانية، وجزر بحر إيجة (1714-1718م):
لم تكن الدولة العثمانية تغدر في عهودها، لكنها كانت تتحيَّن «الفرصة» القانونية والشرعية للتنصُّل من معاهدة ما إذا كانت لا ترغب في إتمامها. كانت الدول المتعاهدة مع الدولة العثمانية ترتكب مخالفات كثيرة للمعاهدات، فإذا كانت الدولة العثمانية غير راغبة في إنهاء المعاهدة فإنها تحتوي الأزمة دبلوماسيًّا، وتتغاضى عن النقض بإرادتها، أما إن كانت تريد التخلص من عبء المعاهدة لتغيُّر الظروف فإنها «تنتظر» الفرصة المواتية؛ وذلك عندما يرتكب الطرف الآخر مخالفة، وما أكثر المخالفات في هذا الزمان!
من الواضح أن الدولة العثمانية كانت تريد استرداد المورة عسكريًّا! لم يكن مقبولًا عند العثمانيين أن تسيطر دولة أجنبية على جنوب اليونان، أو على أي جزيرة تهدد مدخل الدردنيل. هذه مسألة تهدد الأمن القومي بقوة، وكانت الدولة العثمانية تعلم أن البندقية في أكبر مراحل اضمحلالها منذ نشأتها، وأنه لولا اتحادها مع التحالف الصليبي في الحرب الأخيرة (1683-1699م) لما أمكنها قط أخذ المورة، ولا أي جزيرة من جزر بحر إيجة، لذلك كان السلطان أحمد الثالث ينتظر الفرصة التي ينقض فيها على المورة، ويعلم أن القتال هناك لن يعدو أن يكون نزهة عسكرية! شُغِل السلطان في بداية عهده بتهدئة الاضطرابات، وبالبناء الداخلي، وبإعادة تنظيم الجيش، ثم شُغِل بعد ذلك بالحرب مع روسيا.
الآن، وبعد توقيع معاهدة إدرنة عام 1713م، واستلام آزوڤ، أُغْلِق الملف الروسي تمامًا، وحان الدور على البندقية. جاء النقض البندقي لمعاهدة كارلوڤيتز سريعًا! قام تمردٌ ضد الدولة العثمانية في منطقة الجبل الأسود[46] غرب البلقان بقيادة دانيلو الأول Danilo I[47]، وقد تَلقَّى هذا الأخير مساعدات من البندقية في تمرده[48]، وكانت البندقية تهدف إلى توسيع دائرة أملاكها في منطقة دالماسيا على حساب الدولة العثمانية. قد يكون هذا المتمرد على علاقة بالبندقية قبل ذلك، ولكن لم تكن الدولة العثمانية حينئذ جاهزة لحرب المورة، فكان التأجيل إلى أن تأتي الفرصة، بل أحسب أن الدولة العثمانية تغاضت «عمدًا» عن هذه المخالفات لتدفع البندقية إلى النقض بصورة أكبر، فيكون الردُّ العسكري العثماني بعد ذلك قانونيًّا بشكل أوضح، خاصة أن هناك أطرافًا أخرى في الصراع؛ كالنمسا، وبولندا، والبابا. -أيضًا- خالفت البندقية في هذه الفترة بالاستيلاء على سفينة تجارية عثمانية مملوكة لصدر أعظم سابق اسمه داماد حسن باشا[49]. هكذا صار كل شيء جاهزًا، فأعلنت الدولة الحرب على البندقية في 8 ديسمبر عام 1714م[50].
لا أدري ما هو سرُّ الإعلان المبكر للحرب على البندقية، فالجيوش في هذا الزمن لا تحارب في الشتاء، والإعلان المبكر قد يستتبعه إعداد بندقي للحرب، ولعل هذا مرتبط بزمن المخالفة البندقية التي بسببها أعلنت الدولة العثمانية الحرب، أو لشنِّ حرب نفسية على البنادقة قبل القتال، لكن على العموم كانت بداية المعارك في صيف عام 1715م. جهز العثمانيون جيشًا كبيرًا يقترب عدده من سبعين ألف جندي بقيادة الصدر الأعظم داماد علي باشا[51]، وكذلك جهزوا أسطولًا فخمًا مكوَّنًا من سبعين سفينة حربية[52]. بدأت العمليات العسكرية في آخر يونيو 1715م، وسرعان ما استرد الأسطول العثماني آخر جزيرتين للبنادقة في بحر إيجة، وهما جزيرتا تينوس Tinos، وأيچينا Aigina، وفي الوقت نفسه حاصر الجيش العثماني الكبير قلعة أكروكورينث Acrocorinth، وهي القلعة التي تسيطر على مدخل المورة، فأسقطها في 4 يوليو بعد عدة أيام فقط! انساح الجيش العثماني في المورة، وتهاوت القلاع في يده بشكل عجيب! في 19 يوليو سقطت نوبليا Nauplia، وفي 13 أغسطس ناڤارينو Navarino، وكوروني Koroni، وفي 21 أغسطس مودون Modon، وفي 4 سبتمبر مونيمڤاسيا Monemvasia، وفي 24 سبتمبر آخر ميناءين للبندقية في كريت، وهما اسبينالونجا Spinalonga، وسودا Souda![53][54]! هكذا سقطت كلُّ المورة وجزر بحر إيجة في يد الدولة العثمانية في أقل من مائة يوم[55]! لقد كانت نزهة عسكرية حقًّا!
لم تكن هناك فرصة لأوروبا لمنع هذه العملية العسكرية السريعة من الحدوث. دخل الصدر الأعظم داماد علي باشا إسطنبول في يوم 2 ديسمبر 1715م ليُستقبل استقبال الفاتحين[56]. أقيمت احتفالات النصر لفترة. كان النصر عظيمًا، وكان لا بد لأوروبا، وخاصة النمسا، من ردِّ فعل!
الحرب النمساوية العثمانية (1716-1718م):
في أثناء الحرب على البندقية في المورة قامت بعض القوات العثمانية في البوسنة بمهاجمة مدينة سيني Sinj التابعة للبندقية في منطقة دالماسيا[57]، وعلى الرغم من عدم نجاح الهجوم فإن هذا أثار مخاوف النمسا لكون هذه المناطق قريبة من كرواتيا التابعة لها. بالإضافة إلى ذلك استنجدت البندقية بالنمسا لمساعدتها في إعادة السيطرة على المورة، وفي الوقت نفسه أعلن البابا كليمنت الحادي عشر Clement XI عن دعمه المادي لأي عمليات عسكرية ضد الدولة العثمانية، بل قال: «لو تطلَّب الأمر سأبيع كل كئوس الكنائس في إيطاليا لدعم الحملة ضد الأتراك»[58]!. طالبت النمسا الدولةَ العثمانية بردِّ المورة كاملة للبندقية، وبالطبع قوبل الطلب بالرفض، فعقد الإمبراطور النمساوي اتفاقية تحالف مع البندقية في 13 أبريل 1716م[59]، فاعتبرت الدولةُ العثمانية أن هذا تعاون مع عدوٍّ للعثمانيين من أجل الحرب عليها، وهذا مخالف لمعاهدة كارلوڤيتز، وبالتالي أعلنت الحرب على النمسا رسميًّا[60]!
أعتقد أن قراءة العثمانيين للمشهد السياسي والعسكري لم تكن صائبة في هذا الموقف! كانت النمسا قد انتهت منذ عامين (منذ 1714م) من مشاركتها في حرب الخلافة الإسبانية، وقد خرجت منتصرة من الحرب حيث أضيفت إلى أملاكها الأراضي المنخفضة (بلچيكا، وأجزاء من هولندا)، بالإضافة إلى أراضٍ إيطالية مهمة مثل نابولي، وميلانو، وسردينيا. هذا أعطاها قوة كبيرة. لكن الأهم من ذلك أنها بانتهاء حرب الخلافة الإسبانية، وبعقدها معاهدة راستات Rastatt مع فرنسا عام 1714م[61]، قد أَمِنَت الجانب الفرنسي، وتستطيع الآن أن تُكثِّف جنودها في اتجاه الدولة العثمانية.
-أيضًا- أعتقد أن الدولة العثمانية قد بالغت في تصوُّر تفوُّق جيوشها على الجيوش الأخرى، ولعل هذا حدث بسبب انتصارها الكبير على الجيش الروسي عام 1711م، ثم على البندقية في عام 1715م، لكن لا ننسى أن هزيمة الروس في الحرب لم تكن بسبب قوة الجيش العثماني فقط؛ إنما كانت كذلك بسبب الغرور الروسي الذي دفعهم إلى التوغُّل جدًّا في الأراضي العثمانية بعيدًا عن أي مدد، فلما حوصروا حدثت الهزيمة المؤكدة، ولو كانت الظروف طبيعية لما كانت النتيجة على هذه الصورة. -أيضًا- كانت انتصارات المورة مهمة لكنها كانت أمام جمهورية منهارة، وبالتالي لا يمكن قياس النجاح فيها على أنه تفوق عام للجيش العثماني؛ إنما هو تفوُّقٌ نسبيٌّ بحسب قوَّة العدوِّ المواجه له، خاصة أن الجيوش الأوروبية قامت بتحديث شامل لسلاحها، وطرق تدريبها، وخططها العسكرية[62]، بينما لم يقم العثمانيون بتحديث جيوشهم بالمستوى نفسه. وعمومًا فإن معظم الجيوش الأوروبية آنذاك كانت أقوى من الجيش الروسي المهزوم من العثمانيين، فلا ينبغي التهاون في أخذ قرار الحرب ضدها. كان الأَوْلى تجنُّب القتال بالطرق الدبلوماسية، خاصة أن التصعيد النمساوي لم يكن كبيرًا، ولكن يبدو أن رغبة الدولة العثمانية في استرداد المجر كانت مسيطرة على حزب الحرب فيها، وكانت انتصارات الصدر الأعظم داماد علي باشا على البندقية في المورة دافعةً له لاستكمال حيازة الشرف بالانتصار على النمسا، أما السلطان أحمد الثالث فلم تكن عنده الرؤية العميقة التي توضِّح له هذه التفاصيل، فقَبِل فكرة الحرب دون تردد.
جهَّز العثمانيون جيشًا كبيرًا وصلت به بعض التقديرات إلى مائة وخمسين ألفًا من الجنود بقيادة الصدر الأعظم داماد علي باشا[63]. وصل الجيش بلجراد في 22 يوليو 1716م[64]، وانطلق منها شمالًا في اتجاه المجر لاختراق الحدود النمساوية. في المقابل كان جيش النمسا أقل في العدد حيث بلغ ستين ألف مقاتل، لكنه كان أفضل في التسليح[65]. كان جيش النمسا تحت قيادة القائد الشهير أوچين أمير ساڤوي Eugene of Savoy،[66]، وهو الذي حقَّق سابقًا النصرَ الحاسم على العثمانيين في موقعة زينتا عام 1697م (منذ تسعة عشر عامًا)، وهي الموقعة التي كانت سببًا مباشرًا في سعي الدولة العثمانية لإنهاء الحرب، وتوقيع معاهدة كارلوڤيتز.
بعد مناوشات سريعة التقى الجيشان الكبيران في 5 أغسطس 1716م عند مدينة بيتروڤارادين Petrovaradin[67]، على بعد خمسة وستين كيلو متر شمال غرب بلجراد بمحاذاة نهر الدانوب. كانت الموقعة صورة طبق الأصل من موقعة زينتا المؤسفة عام 1697م! بعد هجوم عثماني، وتقدُّم يوحي بالنصر، وقع الجيش المسلم في كمين خطر، ودارت الدائرة عليه، وحقق الأمير أوچين نصرًا حاسمًا! فقد العثمانيون في هذه الموقعة ثلاثين ألف شهيد[68]، كهؤلاء الذين فقدوهم في زينتا سابقًا، واستشهد الصدر الأعظم داماد علي باشا[69]، كما استشهد في زينتا الصدر الأعظم محمد ألمظ باشا، وفرَّ بقية الجنود إلى بلجراد كما فرُّوا في زينتا إلى المدينة نفسها[70]! وكما قادت موقعة زينتا العثمانيين إلى توقيع معاهدةِ تنازلٍ ستقود بيتروڤارادين العثمانيين إلى توقيع معاهدةٍ مشابهة! وحقًّا، إن التاريخ يعيد نفسه!
لم يُضَيِّع الأمير أوچين وقتًا بعد المعركة؛ إنما انطلق مباشرة إلى مدينة تيميشوار، وهي مركز الولاية المجرية الوحيدة التي يحكمها العثمانيون، وكان من الواضح أن أوچين يريد إنهاء الوجود العثماني شمال الدانوب. وصلت مقدمة جيش النمسا إلى تيميشوار (مائة وعشرين كيلو متر شرق بيتروڤارادين) في 14 أغسطس، بعد المعركة بتسعة أيام فقط، واكتمل الجيش على مدار الأسبوعين التاليين، وبدأ الحصار الفعلي للمدينة من يوم 31 أغسطس. قاومت الحامية العثمانية مقاومة بطولية على مدار ستة أسابيع كاملة، ثم في النهاية قبلت بالاستسلام في 16 أكتوبر[71]، بعد استشهاد ثلاثة آلاف، على أن تُعطى الأمان للتوجه إلى بلجراد[72]. أخليت المدينة تمامًا من المسلمين، وغَنِم النمساويون مدافع كثيرة للغاية، بالإضافة إلى مائتين وثمانين طنًّا من البارود[73]. في غضون أيام كان النمساويون قد سيطروا على ولاية تيميشوار بكاملها؛ ليكون ذلك التاريخ هو آخر عهد للدولة العثمانية بالمجر!
أقبل الشتاء، وتوقفت المعارك فترة، وعاد الجيش العثماني لتضميد جراحه، وأُعطي منصب الصدارة العظمى إلى حاكم بلجراد حاچي خليل باشا[74]، الذي لم يكن يملك من الكفاءة السياسية والعسكرية ما يؤهله لتدارك الأزمة قبل أن تتفاقم. استغل الأمير أوچين حالة الاضطراب التي أصابت الدولة العثمانية فقرَّر التصعيد الشديد في صيف العام التالي، 1717م، ومن ثم توجَّه بجيوشه لحصار أهم مدينة في وسط البلقان، بلجراد، وفي الوقت نفسه وجَّه الأسطول البندقي المتحالف معه إلى ضرب سواحل اليونان، بهدف سحب قسم من الجيش العثماني إلى هناك. وصل جيش النمسا البالغ مائة ألف جندي إلى بلجراد، التي تبلغ حاميتها العثمانية ثلاثين ألف مقاتل، في أوائل يوليو، ومن ثم بدأ الحصار في السادس عشر من الشهر نفسه[75].
لم يتمكن جيش الإنقاذ الذي قَدِم من إدرنة بقيادة الصدر الأعظم حاچي خليل من رفع الحصار، وانسحب بعد صدام مروع مع جيش النمسا فَقَدَ فيه عشرين ألف شهيد[76]. استمر الحصار شهرًا كاملًا، ثم استسلمت بلجراد في 17 أغسطس[77]، وغادرها المسلمون من أهلها في شكل قوافل كبيرة، تاركين سلاحهم بالكامل[78]، وهكذا وقعت بلجراد من جديد في يد النمسا بعد سبعةٍ وعشرين عامًا من استردادها على يد الشهيد فاضل مصطفى باشا كوبرولو عام 1690م! لم يقف النمساويون عند بلجراد ولكن احتلوا -أيضًا- أجزاء كبيرة من جنوب صربيا حتى وصلوا مدينة نيش، مما يعني ضمهم كذلك لمدينة سمندرية المهمة[79]، بل توسَّعوا أكثر فضموا مدينة ڤيدين البلغارية[80]. من الجدير بالذكر أن المصادر الأوروبية شهدت أن النمسا حوَّلت «كلَّ» مساجد بلجراد إلى كنائس[81]، على عكس ما كان يفعل العثمانيون، الذين كانوا يقومون بتحويل عدد محدود جدًّا من كنائس البلاد المفتوحة إلى مساجد، وبضدها تتميز الأشياء!
من الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي كانت تُحَاصر فيه بلجراد تمكنت البندقية من احتلال مدينتي بريڤيزا Preveza، وڤونيتسا Vonitsa على خليج أرتا Arta على الساحل الغربي لليونان[82]، وهذا بسبب توجه معظم الجيش العثماني إلى صربيا لمواجهة النمسا.
بعد هذه الخسائر الكبيرة سعت الدولة العثمانية للصلح، فكانت معاهدة باساروڤيتز!
معاهدة باساروڤيتز (1718م):
بعد الخسارة أمام النمسا عُزِل الصدر الأعظم حاچي خليل، وتولى نيشانجي محمد باشا، لكن الأمور لم تتغير، فتمَّ التغيير مجدَّدًا، ولكن في هذه المرة تولى الصدر الأعظم القدير داماد إبراهيم باشا، وذلك في 9 مايو عام 1718[83]، بعد تسعة شهور تقريبًا من سقوط بلجراد. رأى الصدر الأعظم، وكذلك السلطان أحمد الثالث، أن الظروف غير مواتية بالمرة لحرب جديدة، وأن إمكانات النمسا أفضل في هذه المرحلة، وأن خوض معارك جديدة لن يحمل إلا الخسارة، بل من المحتمل أن تَنْقُض روسيا عهدها وتفتح جبهة جديدة للقتال في الشرق، وعندها ستتضاعف المشكلات. هنا بدأت المراسلات الدبلوماسية، وتم التوصل في النهاية إلى توقيع اتفاقية في مدينة باساروڤيتز Passarowitz الصربية، وذلك في 21 يوليو 1718م، وبحضور الدولة العثمانية من جهة، والنمسا، والبندقية، من جهة أخرى[84]. كانت فلسفة المعاهدة هي الفلسفة نفسها التي اتُّبعت في معاهدة كارلوڤيتز: يبقى الوضع على ما هو عليه؛ أي يحتفظ كل طرف من المتعاهدِين تقريبًا بما يمتلكه ساعة التوقيع[85]، وعليه تكون نتائج المعاهدة كالتالي[86][87][88]:
أولًا: تحتفظ النمسا بإقليم تيميشوار بالكامل، لتكتمل معها المجر بذلك، بالإضافة إلى مدينة بلجراد عظيمة الأهمية، وشمال صربيا كله، ووسط صربيا إلى مدينة كروشيڤاك Kruševac، وهذا يشمل مدينة سمندرية المهمة، وكذلك تأخذ النمسا شريحة شمالية من البوسنة، ومنطقة أولتينيا Oltenia من غرب الإفلاق.
ثانيًا: تحتفظ الدولة العثمانية بالمورة اليونانية كلها باستثناء مدينتي بريڤيزا، وأرتا، وتحتفظ كذلك بكل جزر بحر إيجة، ويشمل ذلك جزيرتي تينوس، وأيچينا، اللتين أُخِذتا من البندقية عام 1715م.
ثالثًا: تأخذ البندقية مدينتي بريڤيزا وأرتا، بالإضافة إلى احتفاظها بكل جزر البحر الأيوني، ويشمل ذلك جزيرة كيثيرا Kythera، التي كانت مملوكة للعثمانيين قبل المعاهدة، و-أيضًا- تأخذ البندقية منطقتين في ساحل دالماسيا من العثمانيين، وهما إيموتسكي Imotski، وڤرجوراك Vrgorac.
هذه هي معاهدة الصلح الجديدة.
يُعَلِّق المؤرخ الإنجليزي چون ماريوت John Marriott على هذه المعاهدة بأنها أوصلت النمسا إلى قمة توسعاتها الشرقية في كل تاريخها[89]!
سيهدأ الجانب النمساوي بعد هذه المعاهدة لمدَّة تسع عشرة سنة (إلى 1737م)، أما البندقية فكانت الحرب الماضية هي آخر حروبها مع الدولة العثمانية، وستخرج عن الصورة تمامًا بعد ذلك إلى أن تبتلعها جيوش نابليون بونابرت عام 1797م[90]. لم تكن خسارة الدولة العثمانية بحجم خسارتها في كارلوڤيتز، خاصة مع اعتراف أوروبا بعودة المورة إليها، ومع ذلك فسقوط بلجراد، والأجزاء الصربية الواقعة جنوب الدانوب لم يكن مقبولًا، ولا شك أن الدولة ستجتهد لاحقًا في محاولة تعديل هذا الوضع.
هكذا هدأ الوضع على الجبهات الأوروبية، وهذا ما سيقود إلى المرحلة الثالثة من مراحل حكم السلطان أحمد الثالث، وهي المرحلة التي شهدت سمات مميزة جدًّا[91].
[1] مانتران، روبير: الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر: الضغط الأوروبي، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (ج). صفحة 1/414.
[2] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 218.
[3] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/616.
[4] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, pp. 700-708.
[5] بوغانوف: حياة بطرس الأكبر، دار التقدم، موسكو، 1990م.، 1990 صفحة 270.
[6] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م. صفحة 152.
[7] سرهنك، 1895 صفحة 1/616.
[8] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.، 2002 صفحة 412.
[9] Moss, Walter G.: A History of Russia: To 1917, Volume 1, Anthem Press, London, UK, 2005., vol. 1, p. 233.
[10] Brezianu, Andrei & Spânu, Vlad: Historical Dictionary of Moldova, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, Second Edition, 2007., p. 219.
[11] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م. صفحة 33/ 37.
[12] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 313.
[13] سرهنك، 1895 صفحة 1/616.
[14] Mikaberidze, Alexander (Editor): Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A)., vol. 2, p. 772.
[15] ديورانت، 1988 الصفحات 33/ 37، 38.
[16] سرهنك، 1895 صفحة 1/616.
[17] Mikaberidze, 2011 (A), vol. 2, p. 726.
[18] Voltaire: The History of Charles the Twelfth, King of Sweden, and Peter the Great, Emperor of Russia, Translated from the French: Tobias Smollett, Walker and Edwards, London, UK, 1817., p. 455.
[19] سرهنك، 1895 صفحة 1/616.
[20] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 523.
[21] كينروس، 2002 صفحة 413.
[22] Stone, Elizabeth (Sutherland Menzies): Turkey, Old and New: Historical, Geographical and Statistical, W. H. Allen & Co., London, UK, 1880., vol. 2, p. 8.
[23] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 340.
[24] بوغانوف، 1990 صفحة 295.
[25] ديورانت، 1988 صفحة 33/ 38.
[26] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 211.
[27] بوغانوف، 1990 الصفحات 303، 304.
[28] مانتران، 1993 (ج) صفحة 1/406.
[29] ديورانت، 1988 صفحة 33/ 38.
[30] Drace-Francis, Alex: The Making of Modern Romanian Culture: Literacy and the Development of National Identitym, I.B.Tauris, 2005, p. 26.
[31] محمد، 2018 صفحة 71.
[32] Mamboury, Ernest: The Tourists' Istanbul, Çituri Biraderler Basımevi, Istanbul, Turkey, 1953., p. 99.
[33] كينروس، 2002 صفحة 431.
[34] Hobsbawm, Eric: The Age of Revolutions, 1789-1848, Weidenfeld & Nicolson, London, UK, 1962., pp. 181-185.
[35] Svoronos, Nikos: The Ideology of the Organization and of the Survival of the Nation, The Greek Nation, Polis, 2004., p. 89.
[36] Runciman, Steven: The Great Church in Captivity: A Study of the Patriarchate of Constantinople from the Eve of the Turkish Conquest to the Greek War of Independence, Cambridge University Press, New York, USA, 1988., p. 197.
[37] Iordachi, Constantin: Liberalism, Constitutional Nationalism, and Minorities: The Making of Romanian Citizenship, c. 1750–1918, Brill, Leiden, Netherlands, 2019., pp. 66-69.
[38] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م. صفحة 156.
[39] Sturdza, Alexandre A.C.: L'Europe Orientale et le rôle historique des Maurocordato (1660-1830) [Eastern Europe and the historic role of the Mavrocordato], Librairie Plon Paris, Paris, France, 1913., pp. 119–126.
[40] Chisholm, Hugh & Garvin, James Louis: The Encyclopædia Britannica: A Dictionary of Arts, Sciences, Literature & General Information, Cambridge University Press, Cambridge, UK, Eleventh Edition, 1911., vol. 17, p. 917.
[41] شوجر، 1998 الصفحات 154-164.
[42] Bolovan, Ioan; Constantiniu, Florin; Michelson, Paul E.; Pop, Ioan Aurel; Popa, Christian; Popa, Marcel & Treptow, Kurt W.: A History of Romania, East European Monographs, Columbia University Press, 1996.., 1996, p. 204.
[43] Mungai, Njorge: The independent nations of Africa, Acme Press, London, UK, 1967., p. 166.
[44] شريف، محمد الهادي: الجزائر وتونس وليبيا: العثمانيون وورثتهم، ضمن كتاب: أوغوث، ب. أ.: تاريخ أفريقيا العام (أفريقيا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر)، اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ أفريقيا العام (اليونسكو)، 1997م. الصفحات 5/298-300.
[45] سرهنك، 1895 الصفحات 1/450-454.
[46] بروكلمان، 1968 صفحة 523.
[47] Samardžić, Nikola: The Peace of Passarowitz, 1718: An Introduction, In: Ingrao, Charles W.; Samardžić, Nikola & Pešalj, Jovan: The Peace of Passarowitz, 1718, Purdue University Press, West Lafayette, Indiana, USA, 2011 (A).p. 12.
[48] كولن، 2014 صفحة 220.
[49] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., pp. 426-427.
[50] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. li.
[51] Aksan, Virginia H.: Ottoman Wars, 1700-1870: An Empire Besieged, Routledge, New York, USA, 2013., p. 99.
[52] سرهنك، 1895 صفحة 1/618.
[53] Finlay, George: A History of Greece from its Conquest by the Romans to the Present Time, B. C. 146 to A. D. 1864, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1877., vol. 5, pp. 219-226.
[54] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/598، 599.
[55] Stavrianos, Leften Stavros: The Balkans Since 1453, C. Hurst & Co. Publishers, London, UK, 2000., p. 181.
[56] Aksan, 2013, p. 99.
[57] Hötte, Hans H.A.: Atlas of Southeast Europe: Geopolitics and History, Brill, Leiden, Netherlands, (Volume 1: 1521-1699, Edited by: 1699-1815, Edited by: Béla Vilmos Mihalik, 2017, vol. 2, p. 8.
[58] Darras, Joseph Epiphane: A General History of the Catholic Church: From the Commencement of the Christian Era Until the Present Time, P. O'Shea Publisher, New York, USA, 1869., vol. 4, p. 433.
[59] Roider, Karl A.: Austria's Eastern Question, 1700-1790, Princeton University Press, New Jersey, USA, 1982., p. 49.
[60] ديورانت، 1988 صفحة 41/12.
[61] ديورانت، 1988 صفحة 34/235.
[62] موسنيه، رولان: تاريخ الحضارات العام «القرنان السادس عشر والسابع عشر»، إشراف: موريس كروزيه، ترجمة: يوسف أسعد داغر، فريد م. داغر، منشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الثانية، 1987م.الصفحات 5/103-119.
[63] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[64] أوزتونا، 1988 صفحة 1/599.
[65] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[66] فريد، 1981 صفحة 316.
[67] Ágoston, Gábor: The Ottomans: From Frontier Principality to Empire, In: Gray, Colin S. & Olsen, John Andreas: The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present, Oxford University Press, 2011 (A).p. 104.
[68] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[69] فريد، 1981 صفحة 316.
[70] أوزتونا، 1988 صفحة 1/600.
[71] Ágoston, 2011 (A), p. 104.
[72] Tucker, 2010, vol. 2, p. 721.
[73] Hațegan, Ioan: Prin Timișoara de odinioară: I. De la începuturi până la 1716 (in Romanian), Ed. Banatul, Timișoara, 2006., p. 187.
[74] أوزتونا، 1988 صفحة 1/600.
[75] Vego, Milan N.: Joint Operational Warfare: Theory and Practice, Government Printing Office, Washington, DC, USA, 2009., p. 36.
[76] أوزتونا، 1988 صفحة 1/600.
[77] Somel, 2010, p. lii.
[78] أوزتونا، 1988 صفحة 1/601.
[79] Samardžić, 2011 (A), p. 15.
[80] Roider, 1982, p. 52.
[81] Norris, David A.: Belgrade: A Cultural History, Oxford University Press, New York, USA, 2009., p. 14.
[82] Setton, 1991, p. 455.
[83] أوزتونا، 1988 صفحة 1/601.
[84] Pelidija, Enes: The Influence of the Peace of Passarowitz on Bosnia, In: Ingrao, Charles W.; Samardžić, Nikola & Pešalj, Jovan: The Peace of Passarowitz, 1718, Purdue University Press, West Lafayette, Indiana, USA, 2011., p. 120.
[85] كينروس، 2002 صفحة 417.
[86] أوزتونا، 1988 صفحة 1/601.
[87] Pelidija, 2011, pp. 120-121.
[88] كينروس، 2002 صفحة 418.
[89] Pelidija, 2011, p. 121.
[90] Pezzolo, Luciano: The Venetian Economy, In: Dursteler, Eric R: A Companion to Venetian History, 1400-1797, Brill, Leiden, The Netherlands, 2013., p. 255.
[91] كتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 802- 818.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك