التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
صعد عبد الحميد الأول لحكم الدولة العثمانية قبل الخمسين بشهور، وكان محبًّا للسلام، ورغباته في الإصلاح كثيرة غير أنه ابتُلي في فترة حكمه بعدَّة حروب.
السلطان عبد الحميد الأول (1773-1789م)
صعد الأمير عبد الحميد ابن السلطان الراحل أحمد الثالث إلى الحكم قبل أن يبلغ الخمسين بشهور[1]، ليتسمَّى بعبد الحميد الأول. قضى السلطان حياته السابقة كلَّها -للأسف- في سجنه الملكي[2]، ممَّا جعل حظوظه في السياسة قليلة، وإن كانت رغباته في الإصلاح كثيرة. كان السلطان محبًّا للسلام، ومع ذلك ابتُلي في فترة حكمه بعدَّة حروب، كان أولها تلك الحرب الروسيَّة التي لم تنتهِ منذ عهد سلفه مصطفى الثالث.
استئناف الحرب الروسية:
أخرج العثمانيون جيشًا يقدَّر بأربعين ألف جنديٍّ في اتِّجاه الإفلاق في أول صيف 1774م. تجاوز الجيش ڤارنا في بلغاريا، ولكنه فوجئ في 20 يونيو بجيشٍ روسيٍّ يُقدَّر بثمانية آلاف جنديٍّ فقط عند قرية كوزلوجا Kozludzha[3] على بعد عشرين كيلو متر فقط غرب ڤارنا (الآن سوڤوروڤو Suvorovo في بلغاريا).
كانت المفاجأة محبطةً للجيش العثماني؛ لأن هذه أول مرَّة يعبر فيها الجيش الروسي نهر الدانوب إلى بلغاريا، وهذا يحمل جرأةً كبيرة، ونيَّاتٍ واضحةً للوصول إلى إسطنبول. وقعت الهزيمة في الجيش العثماني بسرعة[4]، وقُتِل منه ثلاثة آلاف، بينما لم يفقد الروس سوى مائتين وتسعة جنود[5]، واستولى الجيش الروسي على كلِّ مدفعيَّة الجيش العثماني الذي لاذ بالفرار غربًا إلى مدينة شومين Shumen على بعد خمسين كيلو مترًا من أرض الموقعة.
لحق الجيش الروسي بالعثمانيين الذين فقدوا مدفعيَّتهم ومعنويَّاتهم، وضرب حولهم الحصار[6]. أعلن الجيش العثماني الاستسلام والقبول للجلوس للتفاوض عارضين الموافقة على الشروط الروسيَّة السابقة غير المقبولة في مفاوضات عام 1772م[7]. بعد مراسلاتٍ سريعةٍ للحكومتين، اتُّفِق على التفاوض، واجتمعوا لذلك في قريةٍ صغيرةٍ شمال شرق بلغاريا اسمها كوتشوك قينارجي Kuchuk-Kainarji[8] (الآن Kaynardzha)، لتُعقد هناك واحدةٌ من أهمِّ المعاهدات في التاريخ العثماني، والروسي، والأوروبي، معًا!
معاهدة كوتشوك قينارجي (21 يوليو 1774م)
توصَّل الطرفان الروسي والعثماني، إلى اتِّفاقٍ نهائيٍّ لفضِّ النزاع، وإقرار السلام بين الدولتين، ولأن الاتفاق بين غالبٍ ومغلوبٍ كان لا بُدَّ للشروط أن تكون مجحفةً للعثمانيين! شملت الاتفاقيَّة ثمانيةً وعشرين بندًا بتفصيلاتٍ دقيقة، وكُتِبَت بثلاث لغات؛ التركية، والروسية، والإيطالية[9][10]، ووقَّع الطرف التركي على المعاهدة في 17 يوليو، بينما أجَّل الطرف الروسي توقيعه إلى 21 يوليو ليتوافق مع ذكرى مرور ثلاثة وستِّين عامًا على معاهدة بروت Prut[11]، التي كانت لصالح العثمانيين على حساب الروس، وهو بذلك يريد أن يمحو هذا التاريخ السيِّء من الذاكرة الروسيَّة.
سنذكر الآن بإيجاز ملخَّص ما جاء في هذه المعاهدة، أمَّا نصُّها الكامل فأورده جودت باشا في تاريخه[12]، وأكَّدته مصادر أوروبية كثيرة[13][14]، ولنا عليها بعد ذلك بعض التعليقات المهمَّة:
1. تتوقَّف الحرب تمامًا بين الطرفين، ويحل السلام.
2. يُعفَى عن جرائم وأخطاء رعايا الدولتين أثناء الحرب (هذا بندٌ مهمٌّ بالنسبة إلى الروس، وذلك لكيلا تُعاقِب الدولةُ العثمانيةُ المتمرِّدين النصارى في اليونان، أو المسلمين في مصر ولبنان ممَّن تعاونوا مع الروس، وبذلك يحتفظ الروس بولائهم لهم).
3. تتنازل الدولة العثمانية لروسيا عن عدَّة أقاليم ومدن تشمل الآتي (خريطة رقم 34)
a. ميناء آزوڤ، ومضيق كيرش المؤدِّي إلى البحر الأسود، والمناطق المحيطة.
b. الأراضي الواقعة بين نهري الدنيبر Dnieper، وبوج Bug، ويشمل هذا ميناء خيرسون Kherson الواقع على مصب الدنيبر في البحر الأسود، كما يشمل قلعة كينبورن Castle of Kinburn، ويعتبر بذلك نهر بوج هو الحدُّ الفاصل بين الدولتين.
c. مقاطعة كابارديا Kabardiaفي شمال القوقاز (شمال شرق البحر الأسود، وفي روسيا الآن).
4. تعود الأقاليم التالية إلى الدولة العثمانية (وكانت روسيا قد احتلتها خلال السنوات الست السابقة):
a. البغدان
b. الإفلاق
c. إقليم بسارابيا Bessarabia، وهو الواقع بين نهري دنيستر Dniester شرقًا، وبروت Prut غربًا، وهو الآن في مولدوڤا وأوكرانيا.
d. الأجزاء المحتلة من بلغاريا.
e. چورچيا.
f. جزر إيجة المحتلَّة من روسيا.
5. تخرج بلاد القرم كلُّها من التبعيَّة العثمانية، ويعترف الطرفان الروسي والعثماني باستقلالها التام، وتنسحب منها جيوش الدولتين.
6. تُمنح روسيا حقَّ الملاحة التجاريَّة في البحر الأسود، كما يحقُّ لسفنها التجاريَّة أن تعبر المضايق إلى البحر المتوسط بحريَّةٍ تامَّة.
7. يمنح القيصر الروسي لقب البادشاه (الإمبراطور) في المراسلات الرسميَّة للدولة العثمانية.
8. يحقُّ لروسيا بناء كنيسةٍ في إسطنبول، ويحقُّ لها متابعة الأمور الكنسيَّة إذا اقتضت الحاجة. هذا البند ستُفسِّره الحكومة الروسيَّة لاحقًا على أنه حقُّ حماية حقوق الأرثوذكس في الدولة العثمانية كلِّها.
9. يحقُّ لروسيا بناء القنصليَّات في المدن العثمانية التي تراها مناسبة؛ وذلك لرعاية حقوق التجَّار والرعايا الروس.
10. تتعهَّد الدولة العثمانية بإعفاء مواطني البغدان والإفلاق من الضريبة لمدَّة عامين، وتتعهَّد بمعاملتهم معاملةً كريمة، وإعطائهم حقَّ الهجرة إذا أرادوا، مع كامل ممتلكاتهم، والكلام نفسه على مواطني اليونان (على الرغم من تمرُّدهم السابق، الذي أُخْمِد في عام 1771م).
11. تتعهد الدولة العثمانية بدفع غرامةٍ حربيَّةٍ قدرها خمسة عشر ألف كيس في مدَّة ثلاث سنوات. (قَدَّرها أوزتونا بسبعمائةٍ وخمسين مليون آقجة فضيَّة، وهي عملة الدولة العثمانية آنذاك[15]، وقدَّرها الروس بأربعة ملايين ونصف مليون روبل[16]).
وهناك بنودٌ أخرى كثيرةٌ تتعلَّق بأمور تبادل الأسرى، وتعيين السفراء، واللاجئين إلى الدولتين، وبناء القلاع، وزيارة الأماكن النصرانية في القدس، والعلاقات التجاريَّة، وبناء الكنائس، وغير ذلك من أمور.
هذه هي أسوأ معاهدةٍ في التاريخ العثماني حتى هذه اللحظة، ويمكن أن نرصد بعض الملاحظات عليها من خلال هذه البنود:
أولًا: أكبر الخسائر التي أصابت الدولة العثمانية في هذه المعاهدة -في رأيي- هي «سقوط الهيبة»، فهذه هي المرَّة الأولى التي تستطيع دولةٌ أوروبية أن تنتصر عليها بمفردها دون تحالف، وهذه هي المرَّة الأولى التي تدفع فيها الدولة غراماتٍ حربيَّة، وهذه هي المرَّة الأولى التي تسمح فيها الدولة لدولةٍ أجنبيَّةٍ أن ترعى شئون طائفةٍ من طوائف الشعب (الأرثوذكس)، كما أن هذه هي المرَّة الأولى التي تعترف فيها الدولة العثمانية بخروج تبعيَّةِ إقليمٍ جلُّ سكانه من المسلمين (القرم)، فهذا السقوط للهيبة هو أعظم بكثيرٍ من سقوط القلاع والحصون، وفقد الأراضي والأموال؛ لأنه يفتح الطريق أمام كلِّ الطامعين -وما أكثرهم- ليأخذوا شيئًا من الكيان الكبير. علَّق وزير خارجيَّة النمسا آنذاك وينزيل أنتونWenzel Anton ، الشهير بكونيتز Kaunitz، على هذه المعاهدة بقوله: «لقد لقى الأتراك المصير الذي يستحقونه، ويمكن الآن لجيشٍ صغيرٍ جيِّدٍ أن يطردهم بالكلِّيَّة من أوروبا كلِّها»[17]!
ثانيًا: أكَّدت هذه المعاهدة على عالميَّة الإمبراطوريَّة الروسيَّة، وأنها صارت تقريبًا الدولة الثالثة في العالم من ناحية القوَّة، بعد بريطانيا وفرنسا، خاصَّةً أنها لم تنتصر فقط على الدولة العثمانية، بل أخذت النصيب الأكبر من أرض بولندا أثناء عمليَّة تقسيمها في عام 1772م[18]، وإذا كانت الدولة العثمانية تتَّجه للأفول، وهي في مرحلة شيخوختها الآن، فإن نجم الروس الصاعد يبدو في حيويَّةٍ ظاهرة. ستُصبح روسيا من الآن فصاعدًا العدوَّ الأوَّل للدولة العثمانية.
ثالثًا: من أكبر المكاسب الروسَّية حريَّةُ التجارة في البحرين الأسود والمتوسط، والسماح باختراق السفن التجاريَّة للمضايق المارَّة عبر إسطنبول العاصمة، كما أن المعاهدة لم تمنع بناء الترسانات العسكرية في الموانئ الروسية على البحر الأسود، ممَّا يعني إمكانية وجود سفن حربية روسيَّة في البحر الأسود. نعم لا تسمح المعاهدة بمرور هذه السفن في المضايق، ولكن مجرَّد وجودها في البحر الأسود يُمثِّل خطورةً حقيقيَّةً على الدولة العثمانية.
رابعًا: استقلال القرم في الحقيقة يعني احتلاله من قِبَل الروس لاحقًا! هذا الإقليم المعتمد على طرق القرون الوسطى في القتال لن يقوى على مقاومة الجيوش الروسيَّة النظاميَّة الحديثة. هذا يعني أن الدولة العثمانية قَبِلت ضمنًا بتسليم هذا القُطْر صاحب الأغلبيَّة المسلمة الكاسحة إلى دولةٍ نصرانيَّة. هذه كانت نقطة تحوُّلٍ في التاريخ العثماني، وسيكون لها آثارٌ على العالم الإسلامي ككل؛ حيث سيُدرك الجميع أن الدولة لم تعد قادرةً على القيام بدورها الأبوي ناحية المسلمين في العالم، وهذا الإدراك سيكون له تطبيقاتٌ سياسيَّة، واجتماعيَّة، ودينيَّة، مهمَّة.
خامسًا: النقاط المبهمة المتعلِّقة بحقوق النصارى في الدولة العثمانية، وبناء الكنائس، وزيارة القدس، صارت تبدو كأنها تعني رعاية روسيا لحقوق الأرثوذكس في الدولة العثمانية. هذا سيكون له أكبر الأثر في التدخل الفعلي للروس في الشئون الداخليَّة للعثمانيين. اعتبر المؤرخ الأميركي بيتر شوجر Peter Sugar أن البنود المتعلقة بحماية الأرثوذكس في الدولة العثمانية هي أفضل ما حقَّقه الروس في المعاهدة[19]؛ لأنها ستُعطيهم في المستقبل حقوقًا ستُسهم في إسقاط الدولة العثمانية، وبسبب هذه البنود المتعلِّقة بالأرثوذكس يرى المؤرخ الأميركي رودريك ديڤيسون Roderic Davison أن المعاهدة كانت دليلًا على مهارة الروس وسذاجة الأتراك[20]!
سادسًا: مع كل هذه الخسائر العثمانية في المعاهدة إلا إنني أقول إنها أقلُّ جدًّا من المتوقَّع! فالروس تركوا للدولة العثمانية عدَّة أقاليم كبرى كانوا يحتلونها عسكريًّا بالفعل، كالإفلاق، والبغدان، والقرم، وچورچيا، وجزر بحر إيجة، كما أنهم أوقفوا القتال على الرغم من قدرتهم على إكماله واجتياح بلغاريا بكاملها. هذا القبول الروسي بالمكاسب المحدودة نسبيًّا لم يكن بسبب قوة الدولة العثمانية أو هيبتها، ولكن كان -في رأيي- بسبب الضغط الأوروبي، وخاصَّةً من النمسا وبروسيا؛ لأنهما يَعْتَبِران روسيا عدوًّا أساسيًّا في المرحلة القادمة، ويؤكِّد ذلك قبول روسيا بإعطاء النمسا وبروسيا أجزاءً مهمَّةً وحيويَّةً في بولندا أثناء عمليَّة التقسيم، مع أن روسيا كانت تُسيطر فعليًّا على الدولة كلِّها. هذه الوقفة الأوروبية هي التي قلَّصت من مكاسب الروس، وقديمًا -في عصور الثبات- كنا نتحدَّث عن أن الدولة العثمانية حُفِظَت بانشغال الأوروبيين «عنها» بحروبهم الداخليَّة، والآن نتحدث عن أن الدولة العثمانية صارت محفوظةً بانشغال الأوروبيين «بها» خوفًا من سقوطها بالكامل في يد الروس!
سابعًا وأخيرًا: أنا أعتبر أن السقوط الفعلي «للإمبراطورية» العثمانية كان في عام 1768م، وهو العام الذي بدأ فيه الصدام العسكري مع الروس. هذه هي البداية الموثَّقة التي شهدت «تفكيك» الإمبراطوريَّة. الآن تخرج القرم، وبعض المقاطعات الصغيرة معها، وغدًا تخرج مقاطعات أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك خروج معظم الدول العربيَّة عن السيطرة الفعليَّة للدولة أدركنا أن عمليَّة التفكيك صارت أمرًا واقعًا. أخطر ما في الأمر هو قناعة الدولة العثمانية في هذا الوقت أنها صارت غير قادرةٍ من الناحية العمليَّة على الدفاع عن نفسها بمفردها، وحيث إنها بلا أصدقاء حقيقيِّين، فإنها ستعتمد في الفترة المقبلة على بعض أعدائها في الدفاع عنها! وهذه أوضاعٌ مقلوبة، وسياساتٌ منحرفة؛ لأن العدوَّ لن يكون مخلصًا أبدًا، وستخرج الدولة من أزمةٍ إلى أخرى، وسيُوقعها أعداؤها -وهم في ثوب الأصدقاء- في الفخِّ تلو الفخِّ.
إنها تراكمات سنين، ونهاياتٌ حتميَّةٌ لكلِّ الإمبراطوريَّات. قال تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68]. الآن -بعد هذه المعاهدة- سيطرح الأوروبيون سؤالهم الشهير: ماذا سيحدث لموازين القوى في أوروبا والعالم عند انهيار هذا الكيان العثماني الكبير؟ هذا السؤال هو ما عُرِفَ «بالمسألة الشرقية» Eastern Question، وهو السؤال الذي صار حديث العالم في القرن التاسع عشر كلِّه[21]!
الأوضاع الداخلية في مصر، ولبنان، وفلسطين:
بعد المعاهدة المؤسفة هدأت الجبهات الخارجية، والتفت السلطان عبد الحميد الأول إلى الأوضاع الداخلية المضطربة في مصر، ولبنان، وفلسطين.
في مصر صار المتحكِّم في الأمور هو زعيم المماليك الجديد محمد بك أبو الذهب، وحيث إنه صار مواليًا للعثمانيين بعد انقلابه على علي بك الكبير فإن السلطان ائتمنه على إنهاء فتنة الشام. كلَّف السلطان هذا الرجل بقمع تمرُّد ظاهر العمر[22]، واسترداد فلسطين وجنوب لبنان منه. تحرَّك محمد أبو الذهب بجيشه المملوكي إلى فلسطين في صيف 1775م.
في الوقت نفسه تحرك الأسطول العثماني بقيادة حسن باشا الجزايرلي للمساعدة في المهمِّة نفسها[23]. تمكن أبو الذهب من استرداد يافا أولًا في 19 مايو[24]، وبعدها توجَّه بنفسه إلى عكا[25]، بينما توجهت فرقةٌ من جيشه لاسترداد صيدا[26]. تمكَّن أبو الذهب من دخول عكا، لكنه مَرِضَ فجأةً بعد فتح المدينة، ثم مات في 30 مايو[27]! انسحب الجيش المصري من عكا بعد وفاة قائده، فدخلها ظاهر العمر بعد يومين من الانسحاب[28]، ومع ذلك تمكَّن الجيش المصري من استخلاص صيدا[29][30].
لم تمنع هذه التطورات الأسطول العثماني من استكمال مهمَّة قمع تمرُّد ظاهر العمر، فوصل إلى شواطئ فلسطين في أوائل أغسطس، وضمَّ يافا[31]، وكان أبناء ظاهر العمر قد أخذوها بعد وفاة أبي الذهب، ثم حاصر عكا وبها ظاهر العمر. أجرى حسن باشا مفاوضات مع ظاهر العمر لكنها فشلت، ومِنْ ثَمَّ بدأ قصف المدينة[32]. حاول ظاهر العمر الفرار من عكا لكنه قُتِل برصاصةٍ أسقطته من على صهوة جواده! تتَّفق معظم المصادر على أنه قُتِل بطلقةٍ خائنةٍ من قائد جيشه الدنكزلي[33][34][35]. من الجدير بالذكر أن نعرف أنه مات وهو في الخامسة والثمانين من عمره[36]! في 16 أغسطس دخل حسن باشا مدينة عكا، وأعاد ضمها للدولة العثمانية[37]. في خلال سنةٍ تقريبًا عادت فلسطين كلُّها لسيطرة العثمانيين[38].
في لبنان عفا السلطان عن يوسف الشهابي أمير الجبل، وأقرَّه على ولاية البقاع، والشوف، والجبيل، وبيروت[39]، ويبدو أن ذلك العفو بسبب عدم قدرة السلطان الفعليَّة على اقتحام الجبل، وإلا فالعقاب كان ينبغي أن يكون كبيرًا لتعاونه مع القوَّات الروسيَّة أثناء حربها للدولة العثمانية، لكن عمومًا تقلَّص حكم الشهابي كثيرًا بعد هذه الأحداث.
في سبتمبر 1775م أعطى السلطان ولاية عكا إلى أحمد باشا الجزار، وفي مارس 1776م أعطاه ولاية صيدا مع عكا[40]. جَنَّد الجزار فرقة عسكرية من المرتزقة المغاربة، والبوسنيين، والألبان، والأكراد[41]، وصارت له قوة وهيبة، بالإضافة إلى مَلَكاته القياديَّة الظاهرة، وعنفه الشديد. هذه الإمكانات رفعت من سقف طموحاته، فلم يقنع بعكا وصيدا، وبدأ يتوسَّع في المناطق المحيطة في لبنان، وكذلك في فلسطين، بل وضمَّ بيروت بالقوَّة من يد الشهابي[42]، ممَّا اضطر الأسطول العثماني إلى إخراجه من المدينة بالقوَّة[43]، ومع ذلك ظلَّ السلطان مُبْقِيًا عليه في ولاية صيدا، بل سيسكت عن توسُّعاته في السنوات المقبلة[44]، وواضحٌ أن هذا بسبب قناعة السلطان بأن السيطرة العثمانية الكاملة على هذه المنطقة ذات الصعوبات الجغرافيَّة، والتنوُّعات العرقيَّة والدينيَّة، أمرٌ صعب للغاية، ولذلك قَبِلَ من الجزار القوي الولاءَ الظاهري، فهذا أفضل من تكرار تجربة ظاهر العمر الذي انشقَّ بالإقليم وحارب الدولة!
بهذا تكون الأوضاع قد استقرَّت نسبيًّا في الشام، أما مصر فقد عاد إليها الجيش المملوكي بعد أن فَقَد قائده الموهوب أبا الذهب. تولى قيادة الجيش ومِنْ ثَمَّ مصر، قائدان مملوكيَّان كانا على رأس جيش أبي الذهب؛ وهما مراد بك، وإبراهيم بك[45]. كان مراد بك من المماليك المتخصِّصين في الأمور العسكريَّة، بينما تخصَّص إبراهيم بك في الأمور الإداريَّة[46]. اشترك الاثنان في حكم مصر فعليًّا، بينما أرسل السلطان أحد الباشوات ليُمثِّل الحكومة العثمانية ظاهريًّا[47]. لن يلبث هذان المملوكيَّان أن يستقلَّا بمصر، ويُعيدا تجربة علي بك الكبير!
الحرب العثمانية الإيرانية الزندية (1775-1779م):
كانت أخبار الهزيمة العثمانية من الروس قد انتشرت في الدنيا تاركةً ظلالًا مريرة في كلِّ مكان! فكَّر كريم خان شاه دولة الزند الناشئة في إيران في غزو العراق، مستغلًّا حالة فقد التوازن التي تُعاني منها الدولة العثمانية، ومستغلًّا كذلك الانفصال غير الرسمي للعراق عن العثمانيين، وحُكْمَها بواسطة المماليك، بالإضافة إلى إدراكه أن السلطان المعاصر -عبد الحميد الأول- ذو إمكاناتٍ ضعيفة، ولن يقوى على مجابهة جيوشه.
اختار كريم خان أن يوجِّه ضربته إلى البصرة، لكونها أضعف، و-أيضًا- لأهميَّتها التجاريَّة على الخليج العربي، خاصة مع وجود فرع الشركة الشرقية الهندية البريطانية بها[48]. حاصر الجيش الإيراني بقيادة صادق خان، وهو أخو الشاه كريم خان، البصرة في أبريل 1775م، ولم يتمكن العثمانيون من إرسال سوى قوَّاتٍ محدودةٍ وصلت إلى بغداد، ولم تُكمل طريقها إلى البصرة لحدوث خلافاتٍ بين قادتها[49][50]. لم يكن الجيش العثماني منكسرًا فقط من جرَّاء هزائمه من الروس، ولكنه كان منشغلًا كذلك باضطرابات فلسطين ولبنان، التي ذكرناها منذ قليل، ممَّا أفقده القدرة على متابعة مسئوليَّته في العراق.
ظلَّ الحصار مدَّة عامٍ كاملٍ دون استجابةٍ عثمانية، ثم سقطت المدينة في يد الإيرانيين في 16 أبريل 1776م[51]. حَكَمَ الإيرانيون البصرة لمدَّة ثلاث سنواتٍ دون معارضةٍ كبيرةٍ من المماليك، ودون أيِّ ردِّ فعلٍ من الدولة العثمانية[52]، وكان من الممكن أن يتطوَّر الأمر إلى احتلال العراق بكامله لولا موت شاه الزند كريم خان في 2 مارس 1779م[53]. قامت بعد موت الزعيم الإيراني عدَّة فتن للتصارع على الحكم، واضطر صادق خان إلى ترك البصرة للمشاركة في التنافس على الحكم، وحُرِّرت بذلك البصرة، وتولى صادق خان حكم الدولة الزندية بعد صراعاتٍ مريرة بدايةً من 22 أغسطس 1779م[54].
كشفت هذه الحرب عن مدى الضعف الذي وصلت إليه الدولة العثمانية؛ حيث لم تقدر على مواجهة جيوشٍ هزيلةٍ كتلك التي يقودها الزنديون في هذه المرحلة التاريخيَّة!
احتلال روسيا للقرم (1783):
كما كان متوقَّعًا بعد معاهدة كيتشوك قينارجي عام 1774م، وتَرْكِ العثمانيين للقرم، سيسعى الروس إلى احتلال هذا الإقليم المهم بعد فقده للدعم العثماني. حدثت اضطراباتٌ كثيرةٌ في الإقليم، وتدخلت فيه روسيا بقوَّة[55]، وفي ظلِّ تردُّد الدولة العثمانية قَوِيَ الأثرُ الروسي، وذلك بمساعدة بعض الموالين من التتار. في نهاية المطاف قرَّرت روسيا في 9 يوليو 1783م[56] غزو شبه الجزيرة بشكلٍ صريح. لم يجد الروس مقاومةً تُذْكَر من التتار، واحتُلَّ الإقليم بكامله[57].
كانت هذه مخالفةً واضحةً لمعاهدة كيتشوك قينارجي، وكان من المتوقَّع أن تعلن الدولة العثمانية الحرب على روسيا، لكن فرنسا أقنعت العثمانيين بالعدول عن هذه الفكرة للفارق الكبير بين الجيشين في هذه المرحلة، وبالإضافة إلى ذلك ترامت الأخبار بحدوث اتِّفاقٍ سريٍّ بين الروس والنمساويين يقضي باشتراكهما في حرب الدولة العثمانية لاقتسامها فيما بينهما، فخشيت الدولة من دخول مغامرةٍ عسكريَّةٍ غير محسوبة، وقَبِلت بالتالي أن تسكت عن هذا الاحتلال[58]، بل زادت أن اعترفت رسميًّا في 8 يناير 1784م بحيازة روسيا لبلاد القرم كلها[59]! وهكذا دخلت القرم في الدولة الروسيَّة، وهو الأمر الذي سيستمر إلى عام 1991م، إلى أن تتحوَّل إلى تبعيَّة أوكرانيا بعد تحلُّل الاتحاد السوفيتي[60].
الأوضاع المتقلبة في مصر:
منذ عام 1775م، وبعد وفاة محمد بك أبي الذهب، ومصر تحت الحكم الفعلي لمراد بك وإبراهيم بك سويًّا، ومع ذلك كان السلطان عبد الحميد الأول يرسل من طرفه باشا عثماني ممثِّلًا عن الحكومة. لم يستمر هذا الوضع طويلًا حيث سعى المملوكيَّان مراد وإبراهيم إلى الانفراد التامِّ بالسلطة، وقاما بخلع الباشا الذي أرسله السلطان. إزاء هذا الوضع أرسل السلطان عبد الحميد الأول قائده المحنَّك حسن باشا الجزايرلي للتخلُّص من هذين المتمرِّدين. نجح حسن باشا في مهمَّته في عام 1786م، وفرَّ المملوكيَّان إلى الصعيد[61] [62]، وعاد الحكم نسبيًّا إلى الدولة العثمانية. سيستمر هذا الحكم الضعيف للعثمانيين إلى عام 1791م[63].
اشتعال الحرب مع روسيا والنمسا (1787-1792م):
لم يهدأ غليان روسيا قط. لم تكن الدولة قانعةً بما أخذته في معاهدة كيتشوك قينارجي، ولذا فقد صارت دائمة الاستفزاز للعثمانيين كي يدخلوا حربًا جديدة. كان احتلالها لشبه جزيرة القرم المسلمة في 1783 أحد هذه الاستفزازات. عملت روسيا في أثناء هذه الفترة -أيضًا- على إثارة النصارى في الدولة العثمانية، وخاصَّةً اليونانيين، ودفعهم للثورة على العثمانيين[64].
-أيضًا- وصلت إلى عِلْمِ الدولة العثمانية أخبار مراسلات تمَّت بين كاترين الثانية إمبراطورة روسيا وچوزيف الثاني Joseph II إمبراطور النمسا تعرض فيها كاترين خطة متكاملة لتقسيم الدولة العثمانية بينهما، مع إعادة إقامة دولة بيزنطيَّة تحكم إسطنبول تحت رعاية روسيا[65]، فيما عُرِف آنذاك بالمشروع اليونانيGreek Project [66]. دعمت الإمبراطورة هذه الخطة عن طريق كثرة الحديث في إعلامها عن أحلامها في إعادة الإمبراطورية البيزنطية، وبدأت في إطلاق الأسماء البيزنطية على المدن الجديدة التي أخذتها من الدولة العثمانية في الحرب الأخيرة. من المؤكد أن روسيا لا يعنيها البيزنطيين في شيء ولكنها تريد إقامة دولة صوريَّة لهم تكون تحت حمايتها، وبذلك يكبر نصيبها في التقسيم مع النمسا! -أيضًا- قامت كاترين الثانية بتأسيس مقاطعةٍ كبيرةٍ في شمال القرم أطلقت عليها اسم «روسيا الجديدة» New Russia (Novorossiya)، وقامت بتشجيع العائلات الأرثوذكسية العثمانية على الهجرة من الدولة العثمانية إلى هذه المناطق، وقد قدَّرت بعض المصادر عدد الذين هاجروا إلى روسيا بربع مليون إنسان[67].
هذا دون شَكٍّ يُمثِّل تهديدًا حقيقيًّا للأمن القومي العثماني، حيث سيتحوَّل هؤلاء المهاجرون من عثمانيِّين إلى روس، وسيُمثِّلون خط دفاع أول عن روسيا في مواجهة العثمانيين. أخيرًا قامت الإمبراطورة بزيارةٍ طويلة إلى القرم لمدَّة ستة شهور من يناير إلى يوليو 1787م، وصحبها في هذه الزيارة الإمبراطور النمساوي چوزيف الثاني[68]، وأقامت هناك احتفالات كبرى تحت عنوان «طريق بيزنطة»[69]، كما قامت ببناء ترسانة عسكرية ضخمة في ميناء سيڤاستوبول Sevastopol على البحر الأسود بالقرب من الحدود العثمانية[70]. تزامن هذا مع موت فردريك الثاني إمبراطور بروسيا في 1786م[71] ممَّا حرم المنطقة من شخصيَّةٍ قويَّةٍ كانت تقف نسبيًّا مع الدولة العثمانية ضدَّ أطماع الروس.
اضطر السلطان عبد الحميد الأول -مدفوعًا ببريطانيا وبروسيا المنزعجتين من الأطماع الروسية[72]، ومدفوعًا كذلك بحالة الغضب الشعبي المتزايدة نتيجة ضياع القرم[73]- إلى تقديم مذكرة احتجاج إلى روسيا، يعلن فيها عن رفضه لهذه الممارسات الاستفزازية، ويعلن مخالفتها للمعاهدة بين البلدين، ويطالب بسحب القوات الروسية من القرم، كما يطالب بعدَّة أمورٍ أخرى كان من الصعب على روسيا أن تقبلها؛ مثل تسليم أمير الإفلاق اللاجئ إلى روسيا، وتنازل روسيا عن حماية چورچيا، وعزل بعض القناصل الروس، والموافقة على تفتيش السفن الروسية عند عبورها المضايق العثمانية[74].
كان تقديم مثل هذه المطالب يعني الدعوة إلى الحرب؛ لأن روسيا سترفض دون جدال، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ رفضت روسيا الاستجابة لأيٍّ من هذه المطالب، فاضطرَّت الدولة العثمانية إلى إعلان الحرب عليها في 24 أغسطس 1787م، وردَّت روسيا بإعلان الحرب في 13 سبتمبر 1787م[75]! كان من الممكن أن يكون هذا ترتيبًا قانونيًّا ذكيًّا من الدولة العثمانية لإشعال حربٍ تهدف إلى استرداد القرم، وتغيير معادلة موازين القوى لصالحها، لو كان الإعداد العسكري العثماني يناسب الحدث، ولكن واقع الأمر أن الجيش العثماني لم يكن جاهزًا للحرب[76] مع روسيا القوية، ولم تستغل الدولة الفترة الطويلة التي مرَّت منذ توقيع المعاهدة مع الروس عام 1774م لتحديث الجيش أو تقويته. هكذا مرَّت ثلاثة عشر سنةً كاملةً دون أن تشهد محاولاتٍ جادَّةً لتحسين لوضع، وكان ركون السلطان عبد الحميد الأول للسلام دافعًا له إلى الاهتمام بالجوانب الأخرى في الدولة دون الجيش، واعْتَقَدَ -واهمًا- أن المعاهدة مع الروس كفلت السلام الأبدي للمنطقة، ولم يكن يدرك أن السلام الحقيقي لا يتحقَّق إلا إذا كان للدولة قوَّةٌ تحمي هذا السلام، وأنه لو ترك روسيا دون حربٍ فلن تتركه هي أبدًا، ولم يأخذ احتلال القرم عام 1783م كنذير خطر يُنَبِّه إلى معارك كبرى قادمة! هكذا صار إعلان الحرب في هذه الظروف تهوُّرًا وليس شجاعة، ولم يكن مناسبًا للسلطان أن ينصاع لنصائح الإنجليز أو البروسيين، ولا أن يتصرَّف بتهوُّرٍ تحت ضغط العامَّة الذين لا يدركون شيئًا عن استعدادات الجيش أو إمكاناته، كما لا يدركون شيئًا عن التحالفات العالميَّة التي تهدف إلى تدمير الدولة، خاصَّةً أن هذه الفترة تشهد تعاونًا خطرًا بين روسيا والنمسا، وكلاهما حريصٌ على إقصاء العثمانيين من أوروبا كلِّها. أيًّا كان الأمر قامت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا!
بدأ الجيش العثماني الحرب بمهاجمة قلعتين عند مدينة كينبورن Kinburn الأوكرانية في سبتمبر وأكتوبر من عام 1787م، ولكن تمكن الجيش الروسي من صدِّ الهجوم في المرَّتين[77]. كانت هذه خطوةً سيِّئةً من الدولة العثمانية لسببين؛ الأول هو عدم الاستعداد الكافي لها ممَّا أدَّى إلى فشل الهجوم على الرغم من مفاجأة روسيا، وهذا رفع معنويَّات الروس على حساب العثمانيين، والثاني أنه كان سببًا في تسويغ الحرب الروسيَّة ضدَّ الدولة العثمانية في المجتمعات الأوروبية، وهذا أعاق الجهود الدبلوماسيَّة الفرنسيَّة إلى حدٍّ كبير، فلم تتمكَّن من وقف القتال حينما تبيَّن ضعف العثمانيين[78].
اضطرَّت النمسا -نتيجة اتفاقيَّتها مع روسيا، وخوفًا من إغضاب الإمبراطورة القويَّة كاترين الثانية، ورغبة في التوسع في البلقان- إلى إعلان الحرب على الدولة العثمانية في 10 فبراير 1788م[79]، على الرغم من انشغال النمسا في توتُّراتٍ على جبهاتها الشماليَّة مع بروسيا، والغربيَّة مع فرنسا[80]. هكذا صار على الدولة العثمانية أن تقاتل في جبهتين؛ الجبهة الشماليَّة الشرقيَّة في البغدان مع الروس، والجبهة الشماليَّة الغربيَّة في المجر، وصربيا، والبوسنة، مع النمسا، ولا يخفى على أحد صعوبة الموقف!
كانت سنة 1788م صعبةً على العثمانيين!
في 31 مايو ضرب الروس الحصار على مدينة أوتشاكوڤ Ochakov البُغدانيَّة[81] (في أوكرانيا الآن). في الوقت نفسه كانت الحشود النمساوية تنزل إلى جنوب المجر استعدادًا لعبور الدانوب إلى صربيا العثمانية، وكذلك تحرَّك جيشٌ نمساويٌّ لمساعدة الروس في البغدان. استجابت الدولة العثمانية بإخراج جيشين؛ أحدهما إلى البغدان لفكِّ الحصار عن أوتشاكوڤ، والثاني إلى المجر لردع الجيش النمساوي. في يوليو عبر الجيش العثماني نهر الدانوب إلى منطقة تيميشوار[82]، ولكنَّه جُوبِه بمقاومةٍ من جيش النمسا بالإضافة إلى قوَّاتٍ صربيَّةٍ تألَّفت بسرعةٍ لمساعدة النمسا ضدَّ العثمانيين. هذه المقاومة دفعت الجيش العثماني إلى التراجع جنوب الدانوب[83]. على الجبهة الروسيَّة فشل الجيش العثماني في رفع الحصار عن أوتشاكوڤ، ووسَّع الروس نشاطهم بحصار مدينة خوتين Khotyn، وهي مدينة أوكرانية تُمثِّل أقصى الحدود الشماليَّة للدولة العثمانية، وذلك بداية من 2 يوليو 1788م، واشتركت في هذا الحصار قوَّاتٌ نمساويَّة. تزامنت مع هذه الأحداث ثورة في اليونان استنزفت مزيدًا من القوَّات العثمانية! وفي 19 سبتمبر سقطت خوتين في يد الروس، الذين سلموها للنمساويين[84].
لم يُوقف الروس قتالهم على الرغم من دخول الشتاء، ولم يَحُلْ البرد الشديد والثلوج من إكمال عمليَّتهم في أوتشاكوڤ المحاصَرة منذ 31 مايو 1788م. في 6 ديسمبر من السنة نفسها، وبعد حصار ستَّة شهور، سقطت المدينة في يد الجيش الروسي، وبأمرٍ من القائد الأمير جريجوري بوتيمكين Grigory Potemkin -كما يقول المؤرخ الأميركي سبنسر تاكر Spencer Tucker- ذُبِح كلُّ السكان المدنيِّين المسلمين في أوتشاكوڤ[85]! وصل عدد القتلى في هذه المجزرة في التقديرات الأوروبية إلى عشرين ألفًا من العسكريِّين والمدنييِّن[86]، وفي التقديرات التركيَّة إلى أكثر من خمسةٍ وعشرين ألفًا[87]!
كانت هذه الموقعة من أكثر المواقع حسمًا في هذه الحرب الدمويَّة. وهكذا أُغلق عام 1788م بهذه الصفحة الحزينة!
موت السلطان عبد الحميد الأول:
أُصيب السلطان عبد الحميد الأول بنزيفٍ في المخ! تذكر بعض الروايات أن هذا كان بعد علمه بمذبحة أوتشاكوڤ[88]. ظلَّ السلطان مريضًا عدَّة أشهر ثم مات في 7 أبريل 1789م[89]، ليتولى الحكم من بعده ابن أخيه، ووليُّ العهد، الأمير سليم، والذي سيُعْرَف بسليم الثالث[90].[91].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/633.
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 341.
[3] Weller, Grant T.: Kozludzha (Kuludzha), Battle of (June 20, 1774), In: Dowling, Timothy C.: Russia at War: From the Mongol Conquest to Afghanistan, Chechnya, and Beyond, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014., vol. 1, p. 436.
[4] فريد، 1981 صفحة 341.
[5] Weller, 2014, vol. 1, p. 437.
[6] Uyar, Mesut & Erickson, Edward J.: A Military History of the Ottomans: From Osman to Atatürk, ABC CLIO, Santa Barbra, USA, 2009., p. 118.
[7] فريد، 1981 صفحة 341.
[8] Davison, Roderic H.: Essays in Ottoman and Turkish History, 1774-1923: The Impact of the West, University of Texas Press, Austin, Texas, USA, 1990., p. 29.
[9] جودت، أحمد: تاريخ جودت، تحقيق: عبد اللطيف بن محمد الحميد، تعريب: عبد القادر أفندي الدنا، مؤسسة الرسالة، 1999م. صفحة 516.
[10] Davison, 1990, p. 33.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/628.
[12] جودت، 1999 الصفحات 501–516.
[13] Davison, 1990, pp. 29-33.
[14] Mikaberidze, Alexander: Kuchuk-Kainardji, Treaty of (1774), In: Mikaberidze, Alexander: Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (B).vol. 1, p. 492.
[15] أوزتونا، 1988 صفحة 1/629.
[16] Mikaberidze, Alexander: Kuchuk-Kainardji, Treaty of (1774), In: Dowling, Timothy C.: Russia at War: From the Mongol Conquest to Afghanistan, Chechnya, and Beyond, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014 (A).vol. 1, p. 444.
[17] Roider, Karl A.: Austria's Eastern Question, 1700-1790, Princeton University Press, New Jersey, USA, 1982., pp. 151-152.
[18] Brookes, Richard: The General Gazetteer, Or, Compendious Geographical Dictionary, in Miniature, Containing a Description of the Empires, Kingdoms, States, Provinces, Cities, Towns, Ports, Seas, Harbours, Rivers, Mountains, Lakes, &c. in the Known World with the Government, Customs, Manners, and Religion of Its Inhabitants, G. and W. B. Whittaker, London, UK, Fourth Edition, 1823., p. 272.
[19] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م. صفحة 162.
[20] Davison, 1990, p. 29.
[21] كواترت، دونالد: الدولة العثمانية 1700-1922، ترجمة: أيمن الأرمنازي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 2004م. الصفحات 116، 118.
[22] الشهابي، حيدر: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، عني بضبطه ونشره وتعليق حواشيه ووضع مقدمته وفهارسه: أسد رستم، فؤاد افرام البستاني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1933م. صفحة 1/110.
[23] الصباغ، مخائيل نقولا: تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني: حاكم عكا وبلاد صفد، عني بنشره وتعليق حواشيه: الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، شركة نوابغ الفكر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431هـ=2010م. صفحة 115.
[24] فولني، س . ف .: ثلاثة أعوام في مصر وبر الشام، ترجمة: إدوار البستاني، منشورات وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة، بيروت، الطبعة الأولى، 1949م. صفحة 1/101.
[25] الصباغ، 2010 صفحة 107.
[26] Philipp, Thomas: Acre: The Rise and Fall of a Palestinian City, 1730-1831, Columbia University Press, New York, USA, 2001., p. 43.
[27] الصباغ، 2010 صفحة 108.
[28] Philipp, 2001, p. 44.
[29] الشهابي، 1933 صفحة 1/110.
[30] الصباغ، 1999 (ب) صفحة 100.
[31] الشهابي، 1933 صفحة 1/113.
[32] Joudah, Ahmad Hasan: Revolt in Palestine in the Eighteenth Century: The Era of Shaykh Zahir Al-ʻUmar, Kingston Press, 1987., p. 114.
[33] الصباغ، 2010 صفحة 117.
[34] بريك، الخوري مخائيل: تاريخ الشام (1720-1782)، عني بتعليق حواشيه: الخوري قسطنطين الباشا المخلصي، مطبعة القديس بولس، حريصا، لبنان، 1930م. صفحة 104.
[35] الشهابي، 1933 صفحة 1/113.
[36] Bidwell, Robin Leonard: Dictionary of Modern Arab History: An A to Z of Over 2,000 Entries from 1798 to the Present Day, Routledge, New York, USA, 1998., p. 423.
[37] الصباغ، 2010 الصفحات 117، 118.
[38] Joudah, Ahmad Hasan: Revolt in Palestine in the Eighteenth Century: The Era of Shaykh Zahir Al-ʻUmar, Kingston Press, 1987., pp. 116-117.
[39] Leeuwen, Richard Van.: Notables and Clergy in Mount Lebanon: The Khāzin Sheikhs and the Maronite Church, 1736–1840, Brill, Leiden, Netherlands, 1994., p. 55.
[40] Joudah, Ahmad Hasan: Revolt in Palestine in the Eighteenth Century: The Era of Shaykh Zahir Al-ʻUmar, Kingston Press, 1987., p. 116.
[41] Philipp, 2001, p. 141.
[42] الشدياق، طنوس يوسف: أخبار الأعيان في جبل لبنان، مكتبة العرفان، بيروت، 1954م. صفحة 2/55.
[43] Leeuwen, 1994, p. 55.
[44] Philipp, 2001, pp. 65-71.
[45] الشهابي، 1933 صفحة 1/111.
[46] Pawly, Ronald: Napoleon's Mamelukes, Osprey Publishing, Oxford, UK, 2012., pp. 5-6.
[47] الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، (دون سنة طبع).الصفحات 1/485، 486.
[48] إقبال، عباس: تاريخ إيران بعد الإسلام من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، راجعه: السباعي محمد السباعي، نقله عن الفارسية وقدم له وعلق عليه: محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م. صفحة 732.
[49] الكركوكلي، (دون سنة طبع) الصفحات 150-155.
[50] لوريمر، (دون سنة طبع) صفحة (القسم التاريخي) 1/236.
[51] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007., vol. 1, p. 113.
[52] Sykes, 2004, vol. 2, p. 281.
[53] براون، إدوارد: تاريخ الأدب في إيران، ترجمة: محمد علاء الدين منصور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م. الصفحات 4/133، 134.
[54] Farrokh, Kaveh: Iran at War: 1500-1988, Bloomsbury Publishing, 2011., pp. 159-160.
[55] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/636، 637.
[56] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lvi.
[57] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/635.
[58] فريد، 1981 الصفحات 359، 360.
[59] Somel, 2010, p. lvi.
[60] Prazauskas, Algimantas: The Influence of Ethnicity on the Foreign Policies of the Western Littoral States, In: Szporluk, Roman: National Identity and Ethnicity in Russia and the New States of Eurasia, M.E. Sharpe, New York, USA, 1994., vol. 2, p. 174.
[61] الجبرتي، (دون سنة طبع) الصفحات 1/631-636.
[62] شاروبيم، ميخائيل: الكافي في تاريخ مصر الحديث والقديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1425هـ=2004م. الصفحات 3/249، 252.
[63] الجبرتي، (دون سنة طبع) الصفحات 2/101، 102.
[64] فريد، 1981 صفحة 361.
[65] Rozakis, Christos L. & Stagos, Petros N.: The Turkish Straits, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987., p. 21.
[66] Mikaberidze, 2014 (B), vol. 2, p. 744.
[67] Beaton, Roderick: Greece: Biography of a Modern Nation, University of Chicago Press, Chicago, USA, 2019, p. 21.
[68] Hassall, Arthur: A Handbook of European History 476-1871: Chronologically Arranged, Macmillan and Company, London, UK, 1897., p. 252.
[69] فريد، 1981 صفحة 361.
[70] Rozakis, Christos L. & Stagos, Petros N.: The Turkish Straits, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987., p. 21.
[71] موسنيه، رولان؛ ولابروس، أرنست: تاريخ الحضارات العام «القرن الثامن عشر»، إشراف: موريس كروزيه، ترجمة: يوسف أسعد داغر، فريد م. داغر، منشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الثانية، 1987م.صفحة 5/239.
[72] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د). صفحة 2/11.
[73] Aksan, Virginia H.: Ottoman Military Power in the Eighteenth Century, In: Davies, Brian J.: Warfare in Eastern Europe, 1500-1800, Brill, Leiden, Netherlands, 2012., p. 339.
[74] سرهنك، 1895 الصفحات 1/228، 229.
[75] Mahan, Alfred Thayer: The Influence of Sea Power Upon the French Revolution and Empire, 1793-1812, Little, Brown, and Company, Boston, USA, 1895., vol. 1, p. 19.
[76] Mikaberidze, 2014 (B), vol. 2, p. 744.
[77] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 863.
[78] Hochedlinger, Michael: Austria's Wars of Emergence: War, State and Society in the Habsburg Monarchy, 1683-1797, Routledge, Milton Park, Oxfordshire, UK, 2003., p. 382.
[79] Mahan, 1895, vol. 1, p. 19.
[80] Hochedlinger, Michael: Austria's Wars of Emergence: War, State and Society in the Habsburg Monarchy, 1683-1797, Routledge, Milton Park, Oxfordshire, UK, 2003., p. 382.
[81]Anderson, R. C.: Naval Wars in the Levant 1559–1853, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 1952., p. 323.
[82] Aksan, 2013, p. 163.
[83] Schroeder, Paul W.: The Transformation of European Politics, 1763-1848, Oxford University Press, New York, USA, 1994., pp. 58-59.
[84] Jaques, 2007, vol. 2, p. 528.
[85] Tucker, 2010, vol. 3, pp. 959-960.
[86] Jaques, 2007, vol. 2, p. 746.
[87] أوزتونا، 1988 صفحة 1/640.
[88] أوزتونا، 1988 صفحة 1/643.
[89] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 250.
[90] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م.صفحة 234.
[91] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 910- 926.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك