التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان مصطفى الرابع في الثامنة والعشرين من عمره عند ولايته حكم الدولة العثمانية، ولم يكن له من الأمر شيء؛ إنما كان ألعوبة في يد المتآمرين على الإصلاحات.
السلطان مصطفى الرابع (1807-1808م)
على الرغم من تلطُّف السلطان سليم الثالث الشديد في التعامل مع أبناء عمِّه الأميرين مصطفى ومحمود، وعدم حبسهما في القصور الملكيَّة كما قضت العادة العثمانية، فإن الأمير مصطفى غدر به، واتَّفق مع المتآمرين عليه، وشارك في خلعه، ثم سجنه، وصعد بذلك إلى الحكم حيث كان أكبر من أخيه محمود، وصار بذلك «مصطفى الرابع».
كان السلطان مصطفى الرابع في الثامنة والعشرين من عمره عند ولايته[1]، ولم يكن له من الأمر شيء؛ إنما كان ألعوبةً في يد المتآمرين على الإصلاحات[2]. استقبل ولايته المشئومة بعدَّة هزائم من الروس؛ في الإفلاق في 2 يونيو 1807م في موقعة أوبيليستي Obilesti، وفي أرمينيا في 18 يونيو في موقعة أرباتشاي Arpachai[3]، ثم في بحر إيجة أمام الأسطول الروسي في 30 يونيو في موقعة آثوس Athos البحرية، وفيها دُمِّر الأسطول العثماني بشكلٍ شبه كامل[4]!
كان من الممكن أن تسير الأمور في الحرب الروسيَّة إلى الأسوأ لولا معاهدات تيلسيت Treaties of Tilsit التي أوقفت الحرب بشكل فجائي! عُقِدت هذه المعاهدات في مدينة تيلسيت الألمانيَّة بين فرنسا وروسيا في 7 يوليو 1807م، وبين فرنسا وبروسيا في 9 يوليو بعد الأولى بيومين[5]. كانت هذه المعاهدات بعد انتصار نابليون الكبير على الروس في موقعة فريدلاند Friedland في 14 يونيو 1807م[6]، لينهي بها التحالف الذي كان بين روسيا وبروسيا ضدَّه، وليفرض عليهما شروطًا قاسية. في المعاهدة الفرنسيَّة الروسيَّة اتَّفق نابليون وإمبراطور روسيا ألكسندر الأول Alexander I على أن تساعد فرنسا الروسَ في حربهم ضدَّ الدولة العثمانية في مقابل أن تتحوَّل روسيا من التحالف مع بريطانيا والسويد إلى حربهما[7].
يذكر المؤرِّخون كذلك أن بعض البنود السرِّيَّة في هذه المعاهدة كانت تقضي بتقسيم الدولة العثمانية بين روسيا وفرنسا لاحقًا[8][9]! اشترط نابليون كذلك -لضمان التفات روسيا إلى حرب الإنجليز والسويديين- أن تُوقَف الحرب الروسيَّة العثمانيَّة، وأن تنسحب الجيوش الروسيَّة من البغدان والإفلاق حاليًّا[10]. توسَّطت فرنسا بين العثمانيين والروس لتوقيف الحرب[11]، فوقَّع الطرفان هدنةً في 24 أغسطس 1807م[12]، وتوقفت الحرب فعلًا لمدَّة عامين، وهذا هو الذي حدَّ من تقدُّم الروس. رأينا في معاهدة تيلسيت كيف عقدت فرنسا معاهدةَ تقسيمٍ للدولة العثمانية بينما هي تدَّعي الصداقة معها، وكيف تحوَّلت روسيا من صديقة لبريطانيا منذ شهور في حربها ضدَّ العثمانيين إلى عدوَّةٍ لها تحاربها بشكلٍ مباشر، وكيف يعقد نابليون معاهدةَ تحالفٍ مع الروس ضدَّ الإنجليز والسويديين، ثم (1812م) سنجده يغزو بجيوشه حليفته روسيا! إنها لوغاريتمات السياسة الأوروبية المادِّيَّة التي لا تفهم مطلقًا معنى الوفاء في العهود!
تلكأت روسيا في الخروج من الولايات العثمانية ممَّا أجَّل عَقْد صلحٍ نهائيٍّ بين الدولتين، لكن القتال توقَّف. هذا التوقُّف أعطى أحدَ القادة العسكريِّين العثمانيِّين البارزين -الموالي بقوَّة للسلطان المخلوع سليم الثالث، والمؤيِّد تمامًا لنظامه الجديد الذي خُلِعَ من أجله- الفرصةَ لجمع الأنصار للسعي لإعادة سليم الثالث إلى الحكم. هذا القائد هو علمدار مصطفى باشا Alemdar Mustafa والي روستچوك Rustchuk (الآن روسيه Roussé شمال شرق بلغاريا). جهَّز هذا القائد جيشًا يزيد على خمسة عشر ألف جندي[13]، وتواصل مع بعض القادة والوزراء في إسطنبول، واستعدَّ لعمليَّةٍ جريئةٍ تهدف لخلع مصطفى الرابع وإعادة سليم الثالث إلى العرش، وقد أوصاه أنصاره باعتقال السلطان مصطفى الرابع فورًا إلا أنه رفض، وآثر أن تسير الأمور بشكلٍ رسميٍّ يُصْدِر فيه المفتي قرارًا بعزل السلطان[14].
تحرَّك علمدار مصطفى باشا بجيشه من روستچوك في يونيو 1808م، وفي طريقه تمكَّن في 13 يوليو من قتل قباقچي مصطفى رأس المتمرِّدين على السلطان سليم الثالث[15]. في 18 يوليو، بعد عام وشهرين تقريبًا من ولاية مصطفى الرابع، دخل علمدار مصطفى باشا إسطنبول بجيشه[16]، وبعد عشرة أيام -في 28 يوليو- اقتحم مكتب الصدر الأعظم، وأخذ ختمه الهمايوني[17]، وصار بذلك في مرتبة الصدارة عنوة، ثم أرسل شيخ الإسلام إلى السلطان مصطفى الرابع يطلب منه التنازل عن العرش[18].
لم تكن هذه الطريقة «الرسميَّة» في دفع السلطان إلى التنازل مناسبةً للموقف؛ لأنها أعطت مصطفى الرابع الفرصة للتفكير في طريقة للمقاومة، والحقُّ أنه وصل في تفكيره إلى طريقةٍ شيطانيَّةٍ تُعطيه الفرصة للاستمرار في الحكم! لقد أصدر قراره بقتل اثنين؛ السلطان سليم الثالث، وأخيه محمود (أخي السلطان الحالي)، وبذلك لن يبقى من السلالة العثمانية إلا هو فقط، فعندئذٍ يتركه الانقلابيُّون في الحكم[19][20]!
في يوم 28 يوليو 1808م قامت فرقةٌ من خمسةٍ وعشرين رجلًا بقتل السلطان المصلح المظلوم سليم الثالث طعنًا بالسيوف والخناجر[21]، وكان يُصلِّي العصر، وقد طلب أن يمهلوه لأداء الفرض فرفضوا وأجهزوا عليه[22]! توجَّهت فرقةٌ أخرى لقتل الأمير محمود وليِّ العهد، ولكنه نجح في الفرار إلى علمدار مصطفى باشا، الذي بايعه على الفور[23]، وألقى القبض على السلطان مصطفى الرابع [24].
هكذا أُسْدِل الستار على هذه الصفحة الأليمة من تاريخ الأمَّة، ولعل الذي يُخَفِّف من وقع الكارثة على النفوس أنها أفضت إلى ولاية الأمير محمود، الذي صار محمودًا الثاني، وهو أحد أفضل حكام الدولة العثمانية بشكلٍ عام، والذي سيستكمل -قدر وسعه- مشاريع سليم الثالث الإصلاحيَّة، وبصورةٍ أعمق[25].
[1] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 270.
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 394.
[3] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 3, p. 1055.
[4] Buenviaje, Dino: Navy, Imperial Russian (ca. 1700– 1918), In: Dowling, Timothy C.: Russia at War: From the Mongol Conquest to Afghanistan, Chechnya, and Beyond, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014., vol. 2, p. 568.
[5] Osborne, Eric W.: Tilsit, Treaties of (July 7 and 9, 1807), In: Zabecki, David T.: Germany at War: 400 Years of Military History, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014., vol. 3, p. 1295-1296.
[6] Connelly, Owen: Blundering to Glory: Napoleon's Military Campaigns, Rowman & Littlefield Publishers, Lanham, Maryland, USA, 2006., pp. 111-114.
[7] Osborne, 2014, vol. 3, pp. 1295-1296.
[8] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/659.
[9] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م. صفحة 195.
[10] Osborne, 2014, vol. 3, pp. 1295-1296.
[11] سرهنك، 1895 صفحة 1/659.
[12] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lviii.
[13] حليم، 1905 صفحة 191.
[14] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 382.
[15] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/662.
[16] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د). صفحة 2/24.
[17] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 382.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/663.
[19] حليم، 1905 صفحة 191.
[20] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 489.
[21] حليم، 1905 الصفحات 191، 192.
[22] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 256.
[23] أوزتونا، 1988 صفحة 1/663.
[24] سرهنك، 1895 صفحة 1/660.
[25] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 978- 981.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك