التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
حكم محمود الثاني إحدى وثلاثين سنة، تنقسم إلى ثلاث مراحل رئيسة، تتميز كل واحدة منها بسمات معينة.
السلطان محمود الثاني (1808-1839م)
ينبغي أن نتعامل مع قصَّة محمود الثاني على أنها قصَّة طبيبٍ ماهرٍ في الرعاية الحرجة يعالج مريضًا مُسِنًّا مشرفًا على الموت، فنجح في أن يكون سببًا في بقاء المريض حيًّا لفترةٍ أطول! إننا لا نتعامل هنا مع مريضٍ يُرجى شفاؤه التام من مرضه؛ فالشيخوخة لا علاج لها! يقول رسول الله ﷺ: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ»[1]. والأمم كالبشر، لها فترة شبابٍ وقوَّة، ثم تتَّجه بشكلٍ مؤكَّدٍ إلى الشيخوخة والضعف، ولقد اعتلى محمود الثاني عرش البلاد وهي في هذه المرحلة الأخيرة، ومِنْ ثَمَّ كان دوره هو السعي -فقط- لإطالة عمر الدولة مدَّةً أطول.
نقول هذا الكلام لأن جهد محمود الثاني كان كبيرًا وعظيمًا، مثل سلفه سليم الثالث وأشدُّ، وكان على الرغم من صغر سنه عند تسلُّمه الحكم -ثلاثة وعشرون عامًا[2]- فإنَّه كان فاهمًا لمهمَّته بشكلٍ عميق، وسعى للإصلاح بجدٍّ وهمَّة، وتميَّز عصره بإنجازاتٍ كان لها دورٌ في رسم شكل العقود التي تلت، بل يُعتبر عمله أحد أهمِّ الأمور التي رسمت شكل «تركيا الحديثة» بعد سقوط الدولة العثمانية لاحقًا.
ثم على الرغم من كلِّ هذا الجهد فإن الدولة خسرت في زمانه الكثير من الأرض والقوَّة، وهذا ليس لقصورٍ منه؛ ولكن لأنها كانت كما ذكرنا في فترة الشيخوخة منذ زمن. يُقارنه بعضهم بالقيصر الروسي الشهير بطرس الأكبر[3]؛ من حيث إن إصلاحاته أدَّت إلى تغيير أساسيَّاتٍ كثيرةٍ في الدولة، ولكن من منطلق شباب الدولة وشيخوختها الذي اعتمدناه فإن هذه المقارنة ظالمةٌ لمحمود الثاني؛ لأن بطرس الأكبر استلم حكم روسيا وهي في فترة شبابها، فكان لأعماله الأثر الممتد لفتراتٍ طويلةٍ (مثل السلطان محمد الفاتح في الدولة العثمانية)، بينما استلم محمود الثاني البلاد في فترة شيخوختها فكان من الطبيعي ألا تتحوَّل إلى دولةٍ شابَّةٍ قويَّة؛ لأن هذا في الواقع عكس السنن.
حكم محمود الثاني إحدى وثلاثين سنة، وحدثت في عهده عدَّة أمورٍ عظيمة، ولفهم هذه الفترة الطويلة سنقوم بتقسيمها إلى ثلاث مراحل رئيسة، تتميَّز كلُّ واحدةٍ منها بسماتٍ معيَّنة، ويغلب على كلِّ واحدةٍ حَدَثٌ أو أحداثٌ بعينها، وإن كان هناك دون شَكٍّ تداخلٌ بين الأحداث والمراحل. المرحلة الأولى تمتدُّ عشر سنوات، من 1808م إلى 1818م، وفيها غَرِقَت الدولة في ملفَّاتها القديمة المفتوحة منذ أيام سليم الثالث، وهي ملفَّاتٌ كثيرةٌ ومعقَّدة، وأهمُّها أربعة؛ تمرُّد الإنكشارية، وحرب روسيا، وانتفاضة الصرب، وحرب السعودية. أمَّا المرحلة الثانية فتمتدُّ عبر ثلاث عشرة سنة، من 1818م إلى 1831م، وفيها كان الملفُّ الأكبر هو ملفُّ ثورات اليونان وسعيها للاستقلال عن الدولة العثمانية، وتداعيَّات ذلك على الدولة داخليًّا وعالميًّا.
أخيرًا تأتي المرحلة الثالثة، وتمتدُّ ثماني سنوات، من 1831م إلى 1839م، وكان الشغل الشاغل للدولة فيها هو الصراع مع والي مصر محمد علي باشا. من المهمِّ أن نذكر أن إصلاحات محمود الثاني في المجالات المدنيَّة والعسكريَّة والقانونيَّة وغيرها، كانت في كلِّ هذه المراحل، ولم تكن محدودةً بسنواتٍ معيَّنة، وإن كانت وتيرتها قد زادت في النصف الأخير من عهده. وفي هذا المقال سوف نتحدث عن المرحلة الثانية:
المرحلة الثانية: ثورات اليونان واستقلالها وقضايا أخرى (1818-1831م)
بعد أن أُغلقت صفحات المرحلة الأولى، التي شملت تهدئةً للإنكشاريَّة عن طريق إلغاء النظام الجديد، وإنهاءً للحرب الروسيَّة، وشبه استقلالٍ لصربيا، واستعادةٍ للحجاز، فُرِضَ على الدولة العثمانية التعامل مع ملفَّاتٍ جديدة. هكذا تعيش البلاد في مراحل ضعفها بطريقة «ردِّ الفعل» لا «الفعل». نعم كان عند السلطان محمود الثاني أحلامٌ كثيرةٌ لتوجيه البلاد ناحية الأفضل، لكن ليس كلُّ ما يتمنَّاه المرء يُدركه! في هذه المرحلة الثانية من حكم محمود الثاني فَرَضَت اليونانُ نفسها عليه وعلى العالم. ستُصبح قضيَّتها هي الشغل الشاغل للدولة العثمانية، وللقوى العالميَّة المؤثِّرة، خاصَّةً بريطانيا، وفرنسا، وروسيا. -أيضًا- في هذه المرحلة ستظهر بعض القضايا الأخرى ولكن بصورةٍ أقل أهميَّة؛ مثل قضايا الحرب مع إيران، وتمرُّد علي اليانيني. ستشهد هذه المرحلة -أيضًا- مواجهةً خطرة عنيفة بين السلطان محمود الثاني والإنكشاريَّة.
إنهاء تمرُّد علي باشا اليانيني: (1820-1822م)
منذ أن استلم علي باشا حكم ولاية يانينا (الآن يوانينا Ioannina في غرب اليونان) في ألبانيا، وغرب اليونان، وشمال مقدونيا، وهو يسعى للانفصال غير الرسمي عن الدولة العثمانية. مرَّ بنا أنه كان يتصرَّف بطريقةٍ منفردة، ويُقيم علاقاتٍ دبلوماسيَّةً خاصَّةً بولايته، لكنَّه كان يستجيب للدولة في بعض الطلبات، ويُرسل إليها شيئًا من الخَرَاج والمال. تغيَّر هذا الوضع في السنوات الأخيرة، ويبدو أن استقلال صربيا الجزئي بدأ يُلقي بظلاله على البلقان؛ فقد قرَّر علي باشا اليانيني قطع الخراج، وعدم الاكتراث كلِّيَّةً بأوامر السلطان[4]. إزاء هذا التمرُّد الصريح خشي السلطان من تكرار الأمر هنا أو هناك، فأرسل جيشًا تحت قيادة خورشيد باشا، لاستعادة الولاية والتخلص من علي باشا اليانيني[5]. حاصر الجيش مركز الولاية يانينا بدايةً من أكتوبر 1820م وإلى يناير 1822م حين سقطت المدينة أخيرًا في يد الجيش العثماني[6]، وقُتِلَ علي باشا في 5 فبراير 1822م[7] وهو في الثامنة والسبعين من عمره[8]! وعادت هذه المناطق إلى الدولة العثمانية.
الحرب الإيرانيَّة العثمانيَّة: (1821-1823م)
قامت في إيران بعد سقوط دولتي الزند والإفشاريين دولةٌ أخرى شيعيَّة[9] هي الدولة القاچارية. والقاچار Qajar قبيلةٌ تركيَّةٌ[10] حكمت إيران من عام 1789م إلى عام 1925م[11]، ولم يكن لها احتكاكٌ بالعثمانيِّين سوى في هذه الحرب التي لا معنى لها بالنسبة إلى الطرفين! لقد قامت روسيا بدفع الدولة القاچارية إلى حرب الدولة العثمانية[12] لتصرف أنظارها عن اليونان، سعيًا لاستقلال الأخيرة. هكذا ابتُليت الأمَّة الإسلاميَّة بمثل هذه القيادات الغبيَّة التي لا تمانع في قتل نفسها وإخوانها في سبيل أعدائها! ممَّا يُرْثَى له أن روسيا كانت قد اقتطعت من إيران في عهد القاچاريين قبل ذلك مساحاتٍ شاسعةً في أذربيچان وچورچيا[13]، وكان من المفترض أن يفهم العقلاء -على الأقل من باب السياسة، إذا لم يكن من باب الدين الإسلامي، والعرق التركي- أن يتعاون القاچاريون مع العثمانيين ضدَّ العدوِّ المشترك روسيا، لكن هكذا جرت الأمور!
اقتحم القاچاريون الحدود العثمانية في صيف 1821م[14]. كان وليُّ عهد الشاه الأمير عباس ميرزا Abbas Mirza قد حدَّث -بالتعاون مع الإنجليز- الجيش الإيراني على النسق الأوروبي[15]، وأسماه «النظام الجديد»، تمامًا كما كان يريد السلطان سليم الثالث أن يفعل، وكما يريد أن يفعل الآن محمود الثاني ولكنَّه معاق -كما رأينا- بقوى الإنكشاريَّة المتخلِّفة. هذا التحديث أدَّى إلى تفوُّق الجيوش الإيرانيَّة على العثمانية في هذه الحرب. تمكَّن ثلاثون ألف جندي إيراني من إيقاع الهزيمة بخمسين ألف جندي عثماني في عمق أرضهم عند مدينة إرضروم Erzurum[16].
-أيضًا- اخترق القاچاريون العراق، وقصدوا بغداد لكنهم لم يصلوها بفعل الأوبئة وهجمات القبائل المحلِّيَّة[17]. يبدو لي من سياق الأحداث أن الدولة العثمانية كانت في غضون العقود الماضية قد تجاوزت حدودها المتَّفق عليها في المعاهدات السابقة، وذلك في منطقة جبال ذُهاب Zuhab الفاصلة بين الدولتين؛ لأن الطرفين -العثماني والقاچاري- توافقا على الجلوس -في معاهدة إرضروم عام 1823م- للتفاوض بعد الهزيمة العثمانيَّة ليتَّفقا على عودة الوضع إلى ما كان قد تصالح عليه الطرفان في معاهدة قصر شيرين عام 1639م[18]. فعاد الوضع إلى ما كان عليه كعادة الحروب العثمانيَّة الإيرانيَّة.
من حسنات هذه الحرب العابرة أنها لفتت نظر السلطان محمود وكبار رجال الدولة بشكلٍ عمليٍّ إلى أهميَّة تحديث الجيش العثماني، وإلى النتائج السلبيَّة الكبيرة لتصلُّب الإنكشاريَّة وإصرارهم على الإبقاء على تشكيلاتهم وتسليحهم بالطرق القديمة ذاتها. لقد صار الكثيرون الآن مقتنعين بوقوف الإنكشاريَّة عائقًا أمام تقدُّم الدولة، أو على الأقل ثباتها. -أيضًا- لفتت هذه الحرب النظر إلى الضعف الشديد الذي تعاني منه ولاية العراق في ظلِّ حكم المماليك المتدهور لها. إن انفصالها عن الدولة العثمانية بهذه الصورة سيجعلها عرضةً دومًا للاختراقات الإيرانيَّة، وإذا كان القاچاريون لم يفلحوا في هذه المرَّة في إسقاط بغداد فإن المستقبل قد يحمل غير ذلك، وهذا سيُحدث خللًا كبيرًا في توازن القوى بين العثمانيِّين وإيران.
لماذا تثور الشعوب على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر؟
هناك حقيقةٌ تاريخيَّةٌ لا بُدَّ من الاعتراف بها، وهي أن الدولة العثمانية فشلت في زرع الانتماء لها في كلِّ -أو معظم- البلاد التي ضمَّتها، باستثناء انتماء الأتراك لها! قد لا يكتشف هذه الحقيقة مَنْ ينظر بسطحيَّةٍ إلى القرون الأربعة الأولى من عمر الدولة، فيجد فيها الشعوب المندرجة تحت الدولة العثمانية راضيةً -بل وسعيدة- دون ثوراتٍ أو محاولات استقلال، في ظلِّ ما عُرِفَ «بالسِّلْم العثماني» Pax Ottomana[19].
إن هذا السِّلْم العثماني كان يعني الاستقرار الاقتصادي، والاجتماعي، والأمني، كما كان يعني حريَّة الأديان، وعدم التدخل في الشئون الداخليَّة لكلِّ شعب، وعدم قهره على تغيير لغة، أو عادة، أو عقيدة. هذه كلُّها أمورٌ رائعةٌ بلا شك، لكنَّها لم تدفع أيَّ بلغاري، أو صربي، أو يوناني، أو حتى بوسني مسلم، إلى الشعور بأنه «عثماني»، أي بانتمائه إلى هذه الدولة تحديدًا؛ إنما كانت الشعوب تعيش وهي تُدرك أنها «محتلَّة»، ولكنَّه احتلالٌ أفضل من غيره، فبمقارنة العثمانيين بالنمساويين، أو البولنديين، أو الروس، أو غيرهم، تكتشف الشعوب أن «الاحتلال» العثماني أفضل من الاحتلالات الأخرى، وهذا ما كان يدفعها للرضا، وقد يكون للسعادة!
السرُّ في عدم حدوث هذا الانتماء يكمن في أسبابٍ كثيرة، ولكن تبرز عندي ثلاثة أسباب رئيسة؛ الأول هو العزلة التي ضربها «الأتراك» على أنفسهم، ربَّما لطبيعتهم كعرق أو شعب، لا يقبل بالاختلاط مع غيره، إنما يشعر «بعُلْوِيَّةٍ» تجعله ربَّما «يأنف» من التمازج مع الشعوب الأخرى.
والسبب الثاني هو عدم ممارسة العثمانيِّين للدعوة إلى الله، وعدم حماستهم في تعليم الإسلام للشعوب المندرجة تحت دولتهم، وبذلك ظلَّت الشعوب النصرانية «تجهل» الإسلام على الرغم من وجود حكومةٍ إسلاميَّةٍ لعدَّة قرون. قد يعتبر بعضهم هذا دليلًا على التسامح الديني، وهو في الواقع كذلك، ولكنَّه في الوقت نفسه قصورٌ في فهم دور المسلم -كفردٍ أو دولة- في الحياة. قال تعالى موضِّحًا دور الأنبياء وأتباعهم الفاهمين: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 62].
لم يحدث «البلاغ»، أو «النصح»، أو «التعليم»، في التاريخ العثماني إلا في أُطُرٍ محدودةٍ للغاية، فظلَّت معظم الأقطار النصرانية على دينها الأول، بعكس الأقطار التي دخلت قديمًا تحت حكم الخلفاء الراشدين، أو الدولة الأموية، التي تحوَّلت إلى الإسلام، راغبةً غير مكرهة، نتيجة «البلاغ»، و«النصح»، و«التعليم».
السبب الثالث وراء عدم انتماء الشعوب للدولة العثمانية هو الشكل العسكري الذي حافظت عليه الدولة في كلِّ مراحل تاريخها. لم تَرَ الشعوب من العثمانيين إلا جيشًا محاصِرًا، أو حاميةً في قلعة، أو باشا يجمع الجزية أو الخراج في كلِّ عام. وهذا الشكل العسكري هو ما كانت تراه كافَّة الشعوب بما فيها الشعوب المسلمة، وكذلك العربيَّة، فرسَّخ ذلك كله في الأذهان مسألة «الاحتلال» لا الانتماء.
كانت الأمور تسير على هذه الصورة عدَّة قرون! «الأتراك» يحتلون الأقطار المختلفة في البلقان والبلاد العربية، والشعوب راضية؛ لأن الأمور الدينيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والأمنيَّة- طيِّبةٌ، وهم -أي الأتراك- أفضل من غيرهم على كلِّ حال. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبعده تغيَّرت هذه الصورة! أولًا: ضعفت الدولة العثمانيَّة جدًّا فصار توفيرها للحياة السعيدة للشعوب غير ممكن، لا اقتصاديًّا، ولا أمنيًّا، ولا غيره. ثانيًا: نتيجة فساد الإنكشارية والقوى المسلحة في الدولة من الأعيان وكبار الموظفين صار فرض القيود، والضرائب، والقوانين الجائرة، على الشعوب أمرًا متكرِّرًا.
ثالثًا: نشطت الدول الأوروبية وروسيا في دعم الأقطار العثمانيَّة على التحرُّر. رابعًا: انفتحت الشعوب البلقانيَّة والعربيَّة على العالم الغربي نتيجة سهولة المواصلات، وتطوُّر الصحافة، وكثرة نزول الأوروبيين للشرق، سواءٌ لأغراضٍ تجاريَّة أم عسكريَّة، فاكتشفوا البون الشاسع بين أوروبا وبينهم؛ في العلوم، والحضارة، والمدنيَّة، والحقوق، وأمورٍ أخرى كثيرة، فأدركوا -وهم محقُّون في ذلك- أن الدولة العثمانية وراء هذا التخلُّف الذي يُعانون منه، فعزموا على «التحرُّر». خامسًا: تنامي شعور القوميَّة عند الشعوب بعد الثورة الفرنسية، وانتشار أفكار الحرِّيَّة والمساواة، وصارت كلُّ أمَّةٍ تريد أن يحكمها أبناؤها بدلًا من أن تُحْكَم بالأجانب.
سادسًا: لم يعد الأمر نظريًّا، بل صارت هناك تجاربٌ ناجحةٌ على المستوى العالمي؛ فها هي أميركا تتحرَّر من بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، وتُعلن استقلالها في 1776م[20]، لتنهض قويَّةً مؤثِّرةً عالميًّا، وها هي دول أميركا اللاتينيَّة تتحرَّر الواحدة تلو الأخرى، وكانت البداية في هايتي التي ثارت في عام 1791م ضدَّ الاحتلال الفرنسي، وتحرَّرت بالفعل في 1804م، وتبعتها بقيَّة دول أميركا الوسطى واللاتينيَّة[21].
لقد صارت ثورة هايتي Haitian Revolution ملهِمةً لشعوب الأرض كلِّها، وليس لأميركا فقط؛ ولهذا ليس غريبًا أن تسعى الشعوب في البلقان في القرن التاسع عشر إلى تكرار تجربة شعب هايتي! سابعًا كانت الشرارة الحقيقيَّة في البلقان هي نجاح الصرب في حصولهم على شكل الحكم الذاتي في عام 1817م، فقد أثبت هذا إمكانيَّة الخروج «العملي» من الحكم العثماني. هذا النجاح كان سببًا من أسباب قيام الثورة اليونانية بعد قليل، وسيتبع ذلك ثوراتٌ أخرى في أماكن متعدِّدة. هذا التحليل السابق يُساعدنا على فهم الثورات الكثيرة المنفصلة التي رأيناها تنتشر في الدولة العثمانية على غير اتِّفاق في القرن التاسع عشر والعشرين، ومردُّها جميعًا في الأساس إلى ما ذكرناه أولًا من فشل الدولة العثمانية في زرع الانتماء إليها في نفوس الشعوب التابعة لها.
شعب اليونان وعلاقته بالدولة العثمانية:
كان من المتوقَّع دومًا لليونان أن تثور! وكان ينبغي للدولة العثمانية أن تأخذ احتياطها بشكلٍ أو آخر لتجنُّبِ انفجارٍ متوقَّعٍ في هذه المنطقة من أرضها. بل أحسبُ أن الثورة اليونانية تأخَّرت كثيًرا، وكنتُ أحسبها تسبق الثورة الصربية بعقودٍ أو قرون! الواقع أن شعب اليونان لم يَصْفُ يومًا للأتراك! ذلك يرجع لأربعة أسبابٍ رئيسة؛ أولها عظمة تاريخ الشعب اليوناني، وثانيها طول معاناته، وثالثها طرده الكامل من الأناضول، أمَّا رابعه فلأنه زعيم الأرثوذكسية في العالم!
يُعتبر الشعب اليوناني أكثر الشعوب الأوروبية اعتدادًا بنفسه؛ لا عن عنجهيَّة وعرقيَّة كباقي الشعوب، ولكن عن أصولٍ وحقائق تُعطيه هذا الشعور بالتفوُّق. إن تاريخ هذا البلد يُعطيه أفضليَّةً لا تتوفَّر لكثيرٍ من الشعوب؛ فهؤلاء هم أحفاد الإغريق صنَّاع الحضارة، وبلادهم هي مهد الحضارة الغربيَّة. هؤلاء هم أحفاد أفلاطون، وأرسطو، وسقراط، وأبقراط، وأرشميدس، والجالينوس، ومئاتٍ غيرهم من أعلام الفلسفة، والسياسة، والعلوم بشتَّى فروعها. لهؤلاء الإغريق الأيادي البيضاء على العالم أجمع! لم يكن الأحفاد في اليونان بعيدين تمامًا عن هذه الصورة! ظلَّ أهل اليونان يُحبُّون العلم، ويجتهدون في تحصيله، وقد مرَّ بنا الحديث عن اهتمامهم باللغات، والتربية، والفنون، وتعليم أبناءهم تعليمًا راقيًا، كما أن الكثير من العلماء يرون أن النهضة الأوروبية في العصر الحديث كانت بسبب هجرة العلماء اليونانيين إلى إيطاليا بعد فتح المسلمين للقسطنطينية[22][23].
يُضاف إلى هذا التاريخ الحضاري الراقي تاريخ سياسي عريق؛ حيث كانت اليونان مهد الإمبراطورية البيزنطية العظمى، أسياد أوروبا والعالم، التي ظلَّت لقرونٍ طويلةٍ تقتسم العالم مع إمبراطورية الفرس. كان على شعبٍ يحمل هذا التاريخ أن يأنف من حياته تابعًا لغيره، وأن يثور على وضعٍ صار فيه تحت الاحتلال بعد أن كانت جيوشه تُرهب جيوش العالم كلِّه.
السبب الثاني الذي ينبغي أن يدفع الشعب اليوناني إلى الثورة المبكرة هو معاناته أكثر من غيره! يُعتبر الشعبان اليوناني والمجري أكثر شعبين تعرَّضا للمعاناة -دون عمد- أثناء فترة حكم الدولة العثمانية! السبب في ذلك أن أرضهما كانتا مسرحًا للصراع بين الدولة العثمانية وأعدائها؛ فالصراع مع النمسا كان على أرض المجر، والصراع مع البندقية وچنوة كان على أرض اليونان! كان من قَدَرِ اليونانيين إذن أن يعيشوا صراعًا طويلًا على أرضهم لا ناقة لهم فيه ولا جمل! كانت سواحل اليونان، والمورة، ومعظم الجزر في بحري إيجة والأدرياتيكي، محتلَّةً من البندقية وچنوة، وفي ظلِّ التوسُّع العثماني في المنطقة دار الصراع بينهم والبنادقة والچنويين، وذلك في كلِّ بقعةٍ من بقاع اليونان. هذا أدَّى إلى معاناةٍ يونانيَّةٍ عظيمة؛ حيث بارت الأرض، وهُجِّر الناس، وتعطَّلت التجارة، وانعدم الأمن.
لا شَكَّ أن مثل هذا الوضع يُصيب الشعوب بالضجر الشديد الذي يدفع إلى الانفجار. هناك سببٌ ثالثٌ يجعل اليونانيين يرفضون نفسيًّا السلام مع العثمانيِّين بأيِّ صورةٍ من الصور، وهو أن العثمانيين -ومن قبلهم السلاجقة- أزاحوا اليونانيين من الأناضول بشكلٍ كاملٍ لا أمل في تعديله. كان اليونانيون يستوطنون الأناضول، منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة (القرن الخامس عشر قبل الميلاد[24])، ثم بدأ الغزو الإسلامي السلجوقي لهذا المناطق المهمَّة منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأزاحوا جانبًا من اليونانيين من شرق الأناضول[25]، ثم ورث العثمانيون السلاجقةَ، وأزاحوا اليونانيين من الأناضول كلِّه كما رأينا في سياق قصَّتهم. صار الأناضول مسلمًا تركيًّا بشكل حصري تقريبًا، ولا يبدو أن عودة اليونانيين إليه محتملة، وهذا أوغر صدور الشعب اليوناني، خاصَّةً إذا نظرنا إلى الأهميَّة الاستراتيجيَّة للأناضول، وتحكُّمه في المضايق البحريَّة التي تربط البحر الأسود بالأبيض.
السبب الرابع وراء كراهية اليونانيين للأتراك بشكلٍ عام، والعثمانيين بشكلٍ خاص، هو إسقاط العثمانيين للقسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ومركز الأرثوذكسية الرئيس في العالم. هذه القيادة الدينيَّة وضعت على أكتاف اليونانيين عبئًا ثقيلًا لا يمكن معه أن تتخلى عن عدائها مع العثمانيين. إنه ليس سهلًا أن تكون أحد أكبر كنائس الأرثوذكس في العالم وأهمِّها، وهي كنيسة القسطنطينية المسكونية Ecumenical Patriarchate of Constantinople، واقعة تحت حكم دولة مسلمة، خاصَّةً أن هذه الكنيسة هي أوَّل من قاد الأرثوذكس بعد انقسام النصارى إلى أرثوذكس وكاثوليك عام 1054م[26]. هذا يُعطي قداسةً للقسطنطينية عند الأرثوذكس، واحتلالها يوازي احتلال غير المسلمين لمكة مثلًا عند المسلمين، وهو أمرٌ شديد.
مع هذه الاعتبارات كلِّها إلا أن الدولة العثمانية لم تكترث بشكلٍ جدِّيٍّ لهذه الأمور، وتعاملت مع الأمور بسطحيَّةٍ في معظم مراحل تاريخها، ولم تقم بخطواتٍ ممنهجةٍ لتجنُّب الثورة المحتملة. هذا كلُّه من الناحية الفكريَّة والأيديولوجيَّة، أمَّا إذا أضفنا بعض الأمور الجيوسياسيَّة، والديموجرافيَّة، أدركنا أن تعامل الدولة العثمانية مع قضية اليونان كان لا يناسب خطورة المنطقة مطلقًا! يمكن أن نُشير في هذه المسالة إلى ثلاثة أمور: أوَّلًا تُعتبر اليونان من أصعب البقاع الجغرافيَّة التي يمكن أن تُسيطر عليها دولة، وذلك لكثرة عدد الجزر فيها، ولطبيعتها الجبليَّة القاسية؛ فالتغلُّب على ثورةٍ فيها أمرٌ شاقٌّ لا بُدَّ أن يُحسب له حساب، وثانيًا لأهميَّة اليونان الاستراتيجيَّة ستكون محطًّا لأنظار القوى العالميَّة، ويُتوقَّع أن تجلب هذه البقعة جيوشَ الأرض إليها، ولهذا فتثبيت الأقدام فيها أمرٌ لازم، وثالثًا هي قريبةٌ من إسطنبول والأناضول، المركز الأم للدولة العثمانية، وأيُّ قلاقل في منطقة اليونان ستُمثِّل خطورةً على الأمن القومي العثماني.
ثورة اليونان:
حمل التاريخ القريب في أثناء الحرب الروسيَّة العثمانيَّة (1768-1774م) ثورة يونانيَّة مدعومة من روسيا، ولكنها كانت محدودة، وانتهت بانتهاء الحرب، أمَّا الآن فالأمر أكثر وضوحًا وعمقًا، والعزم صريح في الاستقلال عن العثمانيين. بدأت الثورة بتأسيس منظَّمةٍ سرِّيَّةٍ في عام 1814م[27] اسمها «جمعيَّة الصداقة» Filiki Eteria، ومقرُّها الرئيس في أوديسا Odessa الروسيَّة آنذاك[28] (الآن في أوكرانيا)، ولها عدَّة فروع في اليونان وأوروبا. كان دور هذه الجمعيَّة هو بثُّ روح القوميَّة اليونانيَّة في نفوس اليونانيين، وهي القوميَّة المعروفة بالهيلينية Philhellenism[29]، بل وبدأت هذه الجمعيَّة في جذب أنصار أوروبيين غير يونانيين تعاطفًا مع أحفاد الإغريق الذين يريدون التحرُّر[30]، وكان بعض هؤلاء المتعاطفين أصحاب تأثيرٍ شعبيٍّ كبيرٍ على المستوى الأوروبي واليوناني، مثل اللورد الشاعر الإنجليزي بايرون[31] Lord Byron، والمؤرِّخ العسكري الإنجليزي توماس جوردون Thomas Gordon، والرسَّام الفرنسي أوچين ديلاكروا Eugène Delacroix[32]، ممَّا أسهم في انتشار أفكار الثورة بسرعة، كما ساعد على تأسيس جمعيَّات لجمع التبرُّعات لصالح الثورة مثل «لجنة لندن الهيلينية» London Philhellenic Committee[33].
اتَّفق الثوار على أن تبدأ الثورة في فبراير 1821م في ولايتي الدانوب؛ الإفلاق والبغدان، تزامنًا مع الثورة في اليونان. كانت الثورة بقيادة أليكساندر إبسيلانتيس Alexander Ypsilantis، وهو رئيس جمعية الصداقة[34]، وكان يصاحبه في حركته ثلاثة آلاف جندي[35]، وكان السرُّ في اختيار ولايتي الدانوب هو الكثافة اليونانية الكبيرة هناك، بالإضافة إلى قيادة الفناريين اليونانيين للولايتين، وكان الثوار يحتفظون بعلاقةٍ قويَّةٍ مع هذه القيادات. هذه البداية في الإفلاق والبغدان ستُخفِّف الضغط على الثوار الرئيسين في اليونان. حقَّقت الثورة شيئًا من النجاح في ولايتي الدانوب لكنها سرعان ما قُمِعت من الدولة العثمانية[36]، أمَّا الثورة في اليونان نفسها فكانت شديدة، ولم تقوَ الحاميات العثمانية على قمعها.
كانت الثورة مسلَّحةً تمامًا[37]، وكان ردُّ فعل الدولة العثمانية متوتِّرًا ومضطربًا. قامت الحكومة في إسطنبول في 22 أبريل 1821م بإعدام البطريرك الأرثوذكسي جريجوري الخامس Gregory V بدعوى دعمه للثورة[38]، وعلى اعتبار أنه يوناني يتزعَّم كلَّ اليونانيين. لم يكن القرار حكيمًا، وقد أدَّى إلى ردِّ فعلٍ عكسيٍّ تمامًا؛ حيث استغلَّ الثوار الحدث في إهاجة اليونانيين بشكلٍ أكبر، كما أدَّى انتشار الخبر في أوروبا إلى حالةٍ كبيرةٍ من التعاطف لم تتكرَّر مع ثوراتٍ أخرى[39]. بدأ جمع التبرُّعات، بل والجنود المتطوِّعين، في عدَّة دول مثل: بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، والدنمارك، والسويد، والبرتغال. على الرغم من تفاعل روسيا الإعلامي والسياسي فإنها ساعدت بالمال فقط ولم يشترك روسٌ في القتال[40]. وصل الصدى إلى أميركا، بل تجاوز إلى هايتي حيث أعلن رئيسها چين بيير بوير Jean-Pierre Boyer اعترافه بالثورة اليونانية[41].
كانت أشد مناطق اليونان ثورة هي شبه جزيرة المورة المعروفة بالبيلوبونيز Peloponnese، ومنها انتقلت الثورة إلى أماكن كثيرة في وسط اليونان، ومقدونيا، وكذلك في جزر كريت، وخيوس، وغيرها، ومِنْ ثَمَّ تصاعدت حدَّة الصراعات بين الحاميات العثمانيَّة والثوَّار[42]. في غضون عامٍ أو أقلَّ كان اليونانيون مسيطرين تمامًا على المورة، ومِنْ ثَمَّ قاموا بإعلان استقلال اليونان في 13 يناير 1822م[43]، وانتخبوا أليكساندر ماڤروكورداتوس Alexander Mavrokordatos رئيسًا لدولتهم[44]، وأعلنوا دستورهم الأول[45].
كانت الدولة العثمانية في هذا الوقت -كما مرَّ بنا- مشغولةً بحرب علي باشا اليانيني في ألبانيا (1820-1822م)، وكذلك بحرب إيران (1821-1823م). هذا أضعف قوَّتها العسكريَّة جدًّا[46]، وأعطى الثورة فرصة النجاح، لذا فأنا أعتقد أن الروس دفعوا الإيرانيين لحرب العثمانيين في هذا التوقيت ليدعموا الثورة اليونانية، ولا ننسى أن المركز الرئيس للثورة كان في مدينة أوديسا الروسيَّة. في شهر أبريل 1822 سيطر الثوار على أثينا[47]، ثم تعرَّض العثمانيون لهزيمتين كبيرتين؛ أحدهما في البحر عند جزيرة خيوس في 18 يونيو 1822م[48]، والأخرى في البرِّ عند مدينة ديرڤيناكيا Dervenakia بالمورة في أغسطس من السنة نفسها. كان الجيش العثماني في هذه الهزيمة الأخيرة تحت قيادة محمود درملي باشا، وقد قُتِلَ من الجيش قرابة العشرين ألف جندي[49]، ولذا تعرف هذه الموقعة في التاريخ «بكارثة درملي» Dramali's disaster[50]! بعدها لم يتمكن العثمانيون من إرسال جيشٍ كبيرٍ إلى المورة، وصار الأمر عبارة عن مناوشاتٍ من الطرفين.
كان من الممكن أن يحقق اليونانيون في ظلِّ هذه الظروف نصرًا أكثر حسمًا لولا قيام نزاعاتٍ شديدةِ بين الثوَّار أنفسهم، وانقسامهم إلى فرق[51]. حدثت -للأسف- في هذه المواجهات عدَّة مذابح. يتَّهم اليونانيون الدولة العثمانية بإجراء مذبحةٍ كبيرةٍ في خيوس في مارس 1822م[52]، ويردُّ الأتراك بأن هذا كان ردًّا على مذبحةٍ قام بها اليونانيون تجاه الأتراك في المورة[53]، والحق أن هذه المذابح تعكس حالة الاحتقان الشديدة بين الشعبين، وقد ذكرنا خلفيات هذا الاحتقان قبل ذلك. لم يحدث تطور ملموس في الوضع في خلال العامين التاليين، أي من 1822م إلى 1824م.
الجيش المصري في اليونان:
أدرك السلطان محمود الثاني أنه بإمكاناته العسكرية الضعيفة لن يتمكن من قمع الثورة اليونانية، خاصَّةً مع الدعم المالي واللوجيستي الأوروبي والروسي، لذلك لجأ إلى الحلِّ الذي كان لا يريده، وهو الاستعانة بمحمد علي باشا والي مصر القوي[54]! كان اسم محمد علي باشا قد صار معروفًا في العالم أجمع! لم يعد مجرَّد والٍ لولايةٍ عثمانيَّة؛ إنما صار قائدًا محنكًا، وسياسيًّا قديرًا، له علاقاتٌ على مستوى العالم، ويُحقِّق نجاحاتٍ لافتة للأنظار.
لقد رأينا خطواته الثابتة حين نجح أولًا في استعادة مصر للدولة العثمانية بشكلٍ دائمٍ من المماليك، ونجح في صدِّ الإنجليز في عام 1807م، ونجح في القضاء على المماليك نهائيًّا في 1811م، ونجح في استعادة الحجاز، بل وإسقاط الدولة السعودية الأولى (1811-1818م)، وأعاد ضمَّ السودان (1820-1824م) ، وكان قد انفصل عن الدولة العثمانية، بل مدَّ سلطانه إلى مدينتَي سواكن السودانية على ساحل البحر الأحمر، ومصوع بأريتريا، فربط بين مناطق حكمه في الجزيرة العربية والسودان عبر البحر الأحمر[55]، والأهم من ذلك أنه نقل مصر نقلة نوعية في كافة المجالات حتى صارت من الدول ذات الثقل في المنطقة.
إنه يمكن القول إن محمد علي باشا صار منافسًا للسلطان العثماني نفسه في الصيت والقوة! نعم هو لا يحكم الآن سوى مصر والسودان والحجاز، لكنه صاحب طموحات في الشام، وقد طلب حكمها قبل ذلك في عام 1813م من السلطان محمود الثاني بدعوى الاستعانة بأهلها على قتال السعوديين، لكن رفض السلطان حينها هذا الطلب[56]، وشعر أن القوة المتزايدة لمحمد علي باشا مقلقة، وقد تدفع إلى الانفصال عن الدولة.
شهدت الدولة العثمانية قبل ذلك مثل هذا النموذج أكثر من مرة؛ فولايات الشمال الإفريقي والعراق كلها الآن منفصلة، وقبل ذلك رأينا نماذج أحمد باشا الجزار، ومن قبله ظاهر العمر، في فلسطين، والشهابيين في جبل لبنان، وعلي باشا اليانيني في ألبانيا، بل وعلي بك الكبير في مصر ذاتها. الآن، باستعانة السلطان بمحمد علي باشا، تقع الدولة العثمانية بين نارين؛ نار هزيمة محمد علي في اليونان وضياع القطر البلقاني المهم، ونار انتصاره واحتمال ضياع القطر المصري المهم للغاية، وحيث إن فقدان اليونان صار «مؤكَّدًا» بينما فقدان مصر ما زال «محتملًا» فقط، طلب السلطان -مضطرًّا- المساعدة من محمد علي باشا.
صدر التكليف إلى محمد علي باشا في أول أبريل 1824م بالتوجُّه بأسطوله إلى المورة وكريت لقمع الثورة[57]. حمل التكليف مشاعر مختلطة عند الوالي المصري! إن رغبته في حكم مصر أبدًا لا تخفى على أحد، بل إن طموحاته تتجاوز القطر المصري بكثير! الآن، بعد هذا التكليف السلطاني بالتوجُّه إلى اليونان تتحرَّك الهواجس في عقل الوالي القوي! إنه قَلِقٌ أولًا من تدمير أسطوله في هذه المغامرة الخطرة، وقلقٌ ثانيًا من أن يكون التكليف استدراجًا سلطانيًّا له للخروج من مصر ثم القضاء عليه، وقلقٌ ثالثًا من مخالفة أمر السلطان فيعزله رسميًّا، وعندها إمَّا القبول بالعزل وضياع كلِّ شيء، أو الرفض والعصيان بكلِّ توابعه. هذه كلُّها مشاعر قلقٍ كبير، ومع ذلك كانت هناك -أيضًا- مشاعر طموحٍ وأمل؛ حيث يمكن أن يُحقِّق النصر في اليونان فتكون جائزته إقليم الشام كما كان يتمنَّى.
إزاء هذا الموقف المعقَّد قرَّر محمد علي باشا قبول المهمَّة، لكنه توسَّط في الأمر؛ فقد قرَّر ألا يخرج بنفسه، ولكنه أرسل جيشًا قويًّا يُحقِّق الغرض. لقد أخرج أسطولين قويَّين؛ الأول إلى جزيرة كريت بقيادة حسن باشا، والثاني تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، وهو موجَّهٌ إلى المورة. كان مجموع الجيشين يصل إلى سبعة عشر ألف جندي[58]. إنه يكون بذلك قد أطاع السلطان في مسألة المساعدة، وحقَّق الطموح في احتمال الحصول على الشام كجائزة، وفي الوقت نفسه أمَّن وضعه في مصر بعدم الخروج منها.
كان دخول القوَّات المصريَّة في المعادلة نقطة تحوُّل حقيقيَّةٍ في الثورة اليونانية! أبحرت السفن من الإسكندرية في 19 يوليو 1824م[59]. تمكن الجيش المصري من إخماد ثورة كريت تمامًا، وإن كان ذلك قد جاء على حساب حياة قائدهم حسن باشا[60]، بينما واجه إبراهيم باشا صعوبات في المورة، لكن كان أداء الجيش المصري شديد التميُّز. توجَّه الأسطول المصري إلى ميناء كورون جنوب المورة، وكان العثمانيون محصورين فيه منذ شهور، فأمدَّهم إبراهيم باشا بالمؤن والذخائر، وحارب معهم إلى أن سُيطِر على الميناء في 23 مارس 1825م.
بعدها أنزل إبراهيم باشا قوَّاته البرِّيَّة في المورة لينساح فيها شرقًا وغربًا محقِّقًا انتصاراتٍ عجيبة! استُردَّت مدينة ناڤارين Navarino المهمَّة بعد حصارٍ شديد في 16 مايو 1825، وبعدها بقليلٍ استردَّ الجيش المصري مدينة كالاماتا Kalamata، ثم مدينة تريبولتسا Tripolitsa في 23 مايو[61]، فمدينة أرجوس Argos في 25 يونيو[62]. بعد هذه الفتوحات السريعة توجه إبراهيم باشا لمساعدة الجيش العثماني في استرداد مدينة ميسولونجي Missolonghi الساحليَّة. كانت المدينة شديدة الحصانة، ويأتيها المدد من البحر، وكان بها القوَّة الرئيسة للثوَّار[63]، وقد بدأ حصارها في 15 أبريل 1825م، وطال حصارها حتى اقترب من عام[64]! قلقت بريطانيا بشدَّة، وكذلك روسيا، واجتمع الطرفان في العاصمة الروسيَّة سان بطرسبرج[65]، واتفقا على دفع الدولة العثمانية إلى إعطاء حكمٍ ذاتيٍّ لليونانيِّين، مع تبعيَّة اسميَّة للعثمانيِّين.
صدرت بهذا الاتفاق في 4 أبريل 1826م قرارات عُرِفَت ببروتوكول سان بطرسبرج Protocol of St Petersburg[66]، وقد انضمَّت فرنسا إلى البروتوكول بعد قليل. كان من الواضح أن الدول الثلاث تتمنَّى الانكسار للعثمانيين، ولكن كلٌّ بطريقته! وصلت إلى إسطنبول تحذيراتٌ شديدةٌ من روسيا بناءً على هذا البروتوكول بأنها ستتدخل لحماية الأرثوذكس، كذلك وصلت تحذيرات من بريطانيا، وكان الطلب الرئيس للقُوى الأوروبية هو إعطاء حكم ذاتي لليونان، لكن السلطان لم يستجب لهذه التحذيرات لكيلا يُوقِف مسيرة النجاح التي حقَّقها إبراهيم باشا[67].
توالى وصول الإمدادات من مصر لجيشها في المورة ممَّا زاد من إحكامها للسيطرة على الوضع. بعد عامٍ كاملٍ من حصار ميسولونجي سقطت المدينة في أيدي الجيشين العثماني والمصري في 22 أبريل 1826م[68]. أثار هذا السقوطُ الفزعَ في اليونان كلِّها، بل في أوروبا[69]. هكذا حتى هذه اللحظة صارت المورة كلُّها تقريبًا في يد الجيش المصري باستثناء عاصمة الثوار نافبليو Nafplio[70]. بينما أنظار العالم متَّجهةً إلى المورة وكريت لرؤية إنجازات الجيش المصري إذا بها تتحوَّل فجأةً إلى إسطنبول لمتابعة حدثٍ عجيب، وهو تدمير فرقة الإنكشارية العثمانية!
تدمير الإنكشارية: (1826م)
كان السلطان محمود الثاني في موقفٍ لا يُحْسَد عليه! لم يقدر على استرداد مكة والْمَدِينَة إلا بمساعدة محمد علي باشا. ضاعت منه صربيا منذ تسع سنين. كانت السودان خارج أحلام الدولة في ذلك الوقت فاستردَّها الجيش المصري. الآن لم يقدر بجيوش الأناضول والروملي، وكذلك بالأسطول، على مقاومة الثورة اليونانية، ولم تتغيَّر المعادلة لصالح الدولة العثمانية إلا بظهور جيش محمد علي باشا من جديد. حاصر الجيش العثماني ميسولونجي وفشل في فتحها، وعندما جاء إبراهيم باشا بجيشه فُتِحَت المدينة!
ما تفسير هذه الظواهر اللافتة؟!
تفسيرها الوحيد هو أن الجيش المصري هو الجيش الذي كان يحلم به محمود الثاني، ومن قبله سليم الثالث رحمه الله. إنه جيش النظام الجديد! لا أكثر ولا أقل! لقد أسَّس محمد علي باشا جيشًا مصريًّا قويًّا يعتمد على أهل البلد لأول مرَّةٍ منذ قرون، وذلك عن طريق التجنيد الإجباري؛ فقد كان المعتاد في القرون السابقة الاعتماد على المرتزقة، أو المماليك المجلوبين من الشتات، وهؤلاء كانوا يعملون من أجل المال أو السلطة، وليس لديهم أيُّ انتماءٍ للدولة، ومِنْ ثَمَّ فحميَّتهم للقتال ضعيفةٌ للغاية، بعكس أهل البلد الذين يمكن تحميسهم للقتال بطرقٍ كثيرة، كما أن الاعتماد على أهل البلد يُوفِّر أعدادًا كبيرةً من الجنود بعكس نظام المماليك أو المرتزقة، ولقد بلغ هذا الجيش النظامي في إحصاء عام 1833م مائةً وتسعةً وستِّين ألف جندي، وارتفع في إحصاء 1839م إلى مائتين وستَّةٍ وثلاثين ألف جندي[71].
هذه هي الخاصيَّة الأولى لهذا الجيش، وهي خاصيَّةٌ جديدةٌ على هذا الزمن. أمَّا الخاصيَّة الثانية المميِّزة لهذا الجيش فهي التأسيس على النظم الحديثة من حيث التسليح، وفنون القتال، وطرق التدريب، وقد أسَّس محمد علي باشا جيشه على النظام الفرنسي، الذي يُعتبر في هذا الوقت أحدث ما وصل إليه العلم والفن العسكري؛ حيث كانت جيوش نابليون هي الأقوى في العالم، وقد استعان محمد علي بضابط فرنسي متقاعد من جيش نابليون، وهو چوزيف أنتيلمي سيڤ Joseph Anthelme Sève، وقد أسلم هذا الضابط وعاش في مصر، وتسمَّى بسليمان، فعُرِف بسليمان الفرنساوي، ومُنح لقب باشا[72][73]، وإليه يرجع الفضل في الوصول بالجيش المصري إلى هذه الصورة المتفوِّقة. وبالطبع هناك تفصيلاتٌ كثيرةٌ في القوانين التي أُعدَّت لتنظيم هذا الجيش وتحديثه لا يتَّسع المقام لشرحها، ولكن خلاصة الأمر أن الجيش كان مُعدًّا على أحدث الطرق التي يُعِدُّ الأوروبيون بها جيوشهم.
ما الذي يمنع الدولة العثمانية الكبرى من أن يكون عندها جيشٌ بهذه الصورة وأفضل، ومَنْ الذي يُكَبِّل خطوات محمود الثاني من أجل استعادة وضع الدولة العسكري؟ إن الإجابة في كلمةٍ واحدة: الإنكشاريَّة! هنا، ونتيجة الامتهان الشديد الذي تعرَّضت له الدولة في العقود الثلاثة الأخيرة، سواءٌ في أيام الحملة الفرنسية على مصر والشام، أم في حروب السعودية، وصربيا، وروسيا، وإيران، واليونان، أخذ السلطان قرارًا في غاية الجرأة، وهو التخلُّص من العائق الذي يمنع الدولة من التقدُّم! عقد السلطان اجتماعًا موسَّعًا في 25 مايو 1826م[74] شرح فيه الوضع الذي آلت إليه الدولة، وتناول فيه الخسائر التي مُنِيَ بها الجيش في الآونة الأخيرة، وأعلن عن قراره بتكوين جيشٍ نظاميٍّ جديد[75]، واستصدر فتوى من شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي بمعاقبة كل مَنْ يقف أمام هذا الإصلاح. في خلال الأسبوعين التاليين للاجتماع رتَّب السلطان عدَّة لقاءات مع بعض كبار رجال الجيش والبحريَّة الذين يطمئن إلى ولائهم له، وأمرهم بالاستعداد لمواجهة الإنكشاريَّة في حال تمرُّدهم[76].
لم يخِبْ ظنُّ السلطان، وتمرَّد الإنكشاريَّة في يوم 14 يونيو، وهذا ما كان يريده محمود الثاني! في 15 يونيو 1826م[77] قامت قوَّات المدفعيَّة الموالية للسلطان بقصف ثكنات الإنكشاريَّة بكلِّ ضراوةٍ ليَصُبَّ السلطان جام غضبه المكبوت منذ ولايته من ثمانية عشر عامًا! في هذه العمليَّة قُتِل من الإنكشارية ستة آلاف، واقتحمت القوات العثمانية ثكناتهم ليقودوا عشرين ألفًا آخرين إلى النفي، بينما سُرِّح البقيَّة[78]، وألغى السلطان تشكيلات الإنكشارية من الجيش العثماني تمامًا، مع أنها كانت قد وصلت في عام 1826م إلى مائةٍ وخمسةٍ وثلاثين ألف جندي[79]، كما أغلق مراكز جماعة البكتاشيَّة الصوفيَّة الداعمة للإنكشارية[80]، وجَرَّم الانضمام إليها بالقانون، وأُغلقت بذلك هذه الصفحة المؤلمة من التاريخ العثماني!
لا جدال في أن هذا الحدث من الأمور المحيِّرة في التاريخ؛ فبعضهم يمكن أن يرى أن الدولة كان من الممكن أن تتريَّث مع هذه الفرقة، وتسعى لإصلاحها، خاصَّةً بالنظر إلى تاريخها القديم، وإنجازاتها المجيدة، وبالنظر كذلك إلى احتياج الدولة العثمانية إلى الجنود، وبعضهم الآخر -وأنا منهم- يرى أن الفرقة وصلت إلى درجةٍ من الفساد لا يُرجى معها إصلاح، وأن الحديد لا يَفِلُّه إلا الحديد، وأن تأجيل هذه الخطوة لن يعني إلا مزيدًا من الخسائر. واقع الأمر أنني أرى أن هذه الخطوة متأخِّرةٌ عدَّة عقود، بل عدَّة قرون! إن الإنكشارية كانوا شوكةً في حلق كلِّ سلطانٍ حَكَمَ الدولة العثمانية منذ أيَّام سليم الثاني (1566-1574م)، وكانوا ضدَّ كلِّ إصلاح، وتفاقم خطرهم بالقيام المتكرِّر بقتل الصدور العظام والسلاطين، وكذلك بفرضهم الإتاوات وأمور البلطجة على الشعوب، ولن تُراجع تاريخ إقليم من الأقاليم العثمانية إلا ستجد معاناةً للشعوب من جرائم الإنكشارية؛ في الجزائر، وتونس، وليبيا، والعراق، واليمن، وصربيا، وغيرها، وما انفلات هذه الأقاليم من الدولة العثمانية إلا نتيجة لفساد هذه الفرقة المؤذية.
إننا في الواقع لا نتحدَّث عن فرقةٍ من الجيش؛ إنما نتحدَّث عن مجموعاتٍ مسلَّحةٍ خارجةٍ عن القانون، وهي تفرض بسلاحها على الشعب والحكومة ما تُمليه عليها رغباتها، فصاروا مستحقِّين حقَّ الحرابة، وعقابه في الإسلام يشمل القتل. إذا نظرنا إلى الأمور من هذا المنظور أدركنا الصواب، ولو قام سلطانٌ جريءٌ آخر بهذا العمل منذ قرنٍ أو قرنين لكان أسهل، ولكانت الخسائر أقل، ولكن هذه الجرأة لم تكن متوفِّرة؛ لأن فشل العمليَّة لن يكون له ثمنٌ إلا حياة السلطان، حتى أتى السلطان محمود الثاني فتحمَّل الأمر على عاتقه!
تُعْرَف هذه الواقعة في التاريخ العثماني بالواقعة الخيرية The Auspicious Incident[81]؛ لأنها خلَّصت الدولة من الطغمة الفاسدة التي أعاقت الإصلاح طويلًا، والجدير بالذكر أنها لم تترك أيَّ ردِّ فعلٍ سلبيٍّ عند الجماهير العريضة من الشعب، بل تفاءل الناس بها، وبدأ السلطان بعدها في إعداد الجيش الجديد، وأطلق عليه اسم «العساكر المنصورة المحمديَّة»[82]، وكانت البداية باثني عشر ألف مقاتل، وفي عام 1837م وصل عدده إلى مائةٍ وستين ألفًا[83]. على الرغم من تأثُّر السلطان محمود الثاني بالتجربة المصريَّة فإنه لم يكن لديه الطاقم الأوروبي المساعد الذي وفَّره محمد علي باشا في مصر، ولم يستقدم السلطانُ عسكريِّين أوروبِّيِّين لتدريب الجيش اللهمَّ إلا من بروسيا، وهذا أثَّر إلى حدٍّ كبيرٍ على قدرات الجيش بالمقارنة بالجيش المصري، أو بالجيوش الأوروبية[84]؛ لأن القفزة التي قفزتها الجيوش الحديثة في خلال المائة سنة السابقة كانت قفزةً واسعةً جدًّا، ومع ذلك فالتطوُّر الإيجابي في الجيش العثماني كان ملموسًا، وفي كلِّ الأحوال كان أفضل بكثيرٍ من حالته السابقة قبل الواقعة الخيرية.
يعتبر بعض المؤرِّخين أن هذه الواقعة هي بداية عهد الإصلاح في الطور الأخير من أطوار الدولة العثمانية، حيث صارت مقاومةُ الإصلاح أقلَّ جدًّا ممَّا سبق، ولهذا تعرف الخمسين سنة القادمة من تاريخ الدولة بعهد «التنظيمات» The Tanzimât (1826-1876م)[85]، أي الإجراءات التي اتُّخِذت لتنظيم الدولة وَفق النظم الحديثة، وإن كان بعضهم يعتبر أن البداية الحقيقيَّة لهذا العهد كانت في عام 1839م عند أصدر السلطان محمود الثاني نفسه القوانين الأولى للتنظيمات[86]، لكن هذا الإصدار لم يكن ليتمَّ لولا الواقعة الخيرية عام 1826م.
وعودة إلى أحداث الثورة اليونانية!
التدخل الروسي والإنجليزي والفرنسي في الثورة اليونانية:
لم تكن حادثة تدمير الإنكشارية مؤثِّرةً بشكلٍ كبيرٍ في سير الأحداث لأن الذي كان يتولى العبء الأكبر في القضيَّة كان الجيش المصري، ولذلك استُكمِلت أحداث القتال بشكلٍ طبيعي. لم يكتفِ الجيشان المصري والعثماني بإسقاط ميسولونجي؛ إنما أتبعوا ذلك بحصار أثينا بدايةً من آخر يونيو 1826م، فتركها أهلها إلى قلعة المدينة الشهيرة المعروفة بالأكروبوليس Acropolis للتحصُّن فيها، واستمر الحصار[87]. زاد حنق القوى الأوروبية، وخاصَّةً روسيا، فبدأت بالتحرُّش المباشر بالدولة العثمانية، وهدَّدت بالحرب العسكريَّة إن لم يصل الطرفان -الروسي والعثماني- إلى اتفاق[88]. هذا التحرُّش نتج عنه عقد مؤتمر بين الدولتين في 7 أكتوبر 1826م في مدينة أكرمان Akkerman[89] (في أوكرانيا الآن)، واتُّفِق فيه على أمورٍ لم تكن لها علاقةٌ مباشرةٌ بالثورة اليونانية؛ إنما أحسب أن الروس أرادوا استفزاز العثمانيِّين للدخول في حربٍ معهم، سواءٌ الآن أم لاحقًا، خاصَّةً أن القيصر الروسي الجديد -وهو نيكولاس الأول Nicholas I، الذي تولى في أول ديسمبر 1825م- كان من أشدِّ القياصرة المعادين للدولة العثمانية، ومن الراغبين في حلِّ المسألة الشرقيَّة -وهي مسألة تقسيم الدولة العثمانية- بأسرع وقت، وبأعنف وسيلة[90].
في هذا المؤتمر اتَّفق الطرفان على إعطاء ولايتي الإفلاق والبغدان الحقَّ في اختيار الحاكم، على أن يُوافَق عليه من قِبَل الدولة العثمانية وروسيا معًا، كما اتَّفقا على أن تسحب الدولة العثمانية جيوشها من الولايتين، وكانت جيوش الدولة العثمانية فيهما منذ بداية الثورة اليونانية عام 1821م، و-أيضًا- أقرَّت الدولة العثمانية بتسليم قيادة بعض الحصون والمدن المهمَّة للإفلاقيين، وهي چورچيو Giurgiu، وبرايلا Brăila، وتورنو Turnu. -أيضًا- طُرحت في هذا المؤتمر مسائل خاصَّة بصربيا، مثل التأكيد على حكمهم الذاتي، وتحديد وجود الحاميات العثمانية في بلجراد وثلاث قلاعٍ أخرى، وإعادة بعض الأراضي للصرب، والسماح لهم بالحركة الحرَّة في الدولة العثمانية. يمكن الرجوع لتفاصيل هذه المعاهدة عند المؤرخ محمد فريد في تاريخه[91].
الواقع أنني أرى أن المعاهدة تُمثِّل لونًا من ألوان البلطجة العالميَّة! فروسيا أرادت أن تستغلَّ الموقف الضعيف الذي تمرُّ به الدولة العثمانية في أثناء الثورة اليونانية، بالإضافة إلى مشاكلها الداخليَّة التي تمَّ فيها تدمير الإنكشاريَّة، فضغطت على العثمانيين لتحصيل أيِّ منفعةٍ من الحدث متناسيةً معاهدة بوخارست المنعقدة عام 1812م التي أقرَّت السلم بين الطرفين. على كلِّ حالٍ لن تتغيَّر الروح العدائيَّة بين الدولتين؛ العثمانيَّة والروسيَّة، إلى آخر عهد العثمانيين.
كرَّرت الدول الأوروبية طلبها بإعطاء اليونان حكمًا ذاتيًّا، ولكن الدولة العثمانية رفضت وظلَّت على حصارها لقلعة أثينا[92]. على إثر هذا الرفض أرسلت بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، أساطيلهم الحربيَّة فورًا إلى بحر إيجة، بل صعَّدت بريطانيا ضغطها في مارس 1827م بإرسال جنرال إنجليزي اسمه ريتشارد تشيرش Richard Church لقيادة قوَّات الثوار اليونانيين[93]. اتَّجه تشيرش في أبريل بالقوَّات اليونانيَّة مباشرةً إلى أثينا، لكن لحقت به وبالثوَّار عدَّة هزائم[94]، ثم أخيرًا أسقط الجيشان المصري والعثماني المدينة في 5 يونيو 1827م[95].
هزَّ سقوط أثينا أوروبا، واجتمع الحلفاء؛ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، في لندن في 6 يوليو 1827م، بعد سقوط أثينا بشهر، واتَّفقوا على إرسال تحذيرٍ أخيرٍ للدولة العثمانية، يطلبون فيه التوسُّط بينهم وبين اليونانيين، وإعطاء اليونان حكمًا ذاتيًّا، وإلا فسيتدخلون عسكريًّا لحسم الأمر[96]. رفض السلطان هذا التهديد في 29 أغسطس بشكلٍ رسميٍّ معتبرًا الأمر شأنًا داخليًّا لا يخصُّ القوى الأوروبية[97]. كان التصعيد الأوروبي عنيفًا للغاية!
موقعة ناڤارين البحرية وتدمير الأسطولين المصري والعثماني:
في يوم 20 أكتوبر 1827م[98] هاجمت أساطيل بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، على حين غرة، ودون إعلان حرب، الأسطولين المصري والعثماني المتواجدين في ميناء ناڤارين Navarino[99]. لم تكن معركةً عاديَّةً إنما كانت كارثةً بحريَّةً بكلِّ المقاييس. دُمِّر الأسطولان الإسلاميَّان تمامًا[100]. قُتِل من المسلمين في هذا اليوم فقط ما يزيد عن أربعة آلاف جندي[101]، ويصل بعضهم في تقديرات القتلى إلى ستة آلاف[102]، بل ارتفع به أوزتونا إلى تسعة آلاف[103]! يُقدِّر بعض المؤرِّخين شهداء المصريِّين منذ قدموا إلى اليونان بثلاثين ألفًا[104]، وإن كنت أعتقد أن الرقم مبالغٌ فيه. لم تكن المشكلة فقط هي فَقْد الجنود، ولكن -أيضًا- انقطاع المدد، وعدم القدرة على الانسحاب إذا تطلَّب الأمر لغياب الأسطول. تُعتبر موقعة ناڤارين إحدى اللحظات الفارقة في حرب اليونان، ولقد كان البون شاسعًا بين قوَّة الأسطولين المصري والعثماني وأيٍّ من الأساطيل الأوروبية الثلاثة التي حاربتهما في ناڤارين، فكيف باجتماع الأساطيل الثلاثة؟!
من هذه اللحظة ستنفصل السياسة المصريَّة عن العثمانيَّة! ستتعامل القوى الأوروبية مع محمد علي باشا، والسلطان محمود الثاني، كقادةٍ لدولتين محاربتين منفصلتين، وليس لدولةٍ واحدةٍ بجيوشٍ متعدِّدة. هكذا ستكون التعاملات الدبلوماسيَّة في الفترة القادمة. أمَّا محمد علي باشا فسيُعيد حساباته، وينظر في مستقبل «بلده» بعد هذه الكارثة.
بعد الموقعة بأقلَّ من شهرين، ونتيجة رفض السلطان لطلبات القوى العظمى، بل ومطالبته إيَّاها بدفع تعويضاتٍ عن الأسطولين المدمَّرين[105]، قامت القوى الثلاث؛ بريطانيا وفرنسا وروسيا، في 8 ديسمبر 1827م، بسحب سفرائها من إسطنبول، وقطع العلاقات مع الدولة العثمانية[106]. ردَّ السلطان على ذلك بمنشورٍ شعبيٍّ أدان فيه القوى الثلاث، ووضَّح أنهم يتدخلون في شئون البلد[107]، وبالتالي فهو يستحثُّ المسلمين في الدولة على القتال في سبيل الله، والجهاد ضدَّ المعتدين. كانت القوَّات العثمانيَّة والمصريَّة ما زالت موجودةً في اليونان، وإن كانت العمليَّات العسكريَّة متوقِّفة من الطرفين لقدوم الشتاء. عندما أقبل ربيع 1828 قام الروس بتصعيدٍ كبيرٍ لتحريك المسألة!
الحرب الروسية العثمانية (1828-1829م):
في 28 أبريل 1828م أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية[108]، وفورًا، ودون مقدِّماتٍ كثيرةٍ اقتحم مائة ألف مقاتل روسي[109] بقيادة الإمبراطور نيكولاس الأول نفسه الحدودَ العثمانية في البغدان[110]. في الوقت نفسه كانت جيوشٌ روسيَّةٌ أخرى تقتحم القوقاز لتُهاجم الأناضول من الشرق. حقَّق الروس في الجبهتين نجاحًا كبيرًا. في الجبهة البغدانيَّة، وبعد أيَّامٍ قليلةٍ من الغزو، احتلَّ الروس ياسي العاصمة، ثم تقدَّموا جنوبًا فاقتحموا الإفلاق، وسقطت بوخارست في أيديهم، وفي 16 يونيو 1828م كانت الإفلاق كلُّها في أيديهم، بل لم تقف الجيوش الروسيَّة عند هذا الحد فعبرت الدانوب إلى بلغاريا[111]! في الجبهة الشرقيَّة تمكَّن الروس من احتلال قارص Kars شرق الأناضول، وبعدها سقطت أكالكالاكي Akhalkalaki، ثم أكالتسيكي Akhaltsikhe (كلاهما في چورچيا الآن)[112]! ينبغي لفت النظر إلى الفارق المهول في التسليح وأعداد الجنود بين الطرفين الروسي والعثماني، وينبغي لفت النظر كذلك إلى أن الجيش الذي كان يقاوم الروس هو الجيش الوليد الذي أسَّسه محمود الثاني عقب إنهاء الإنكشاريَّة في صيف 1826م، أي منذ عامين فقط، وقد كانت مقاومته شرسةً لولا فارق العدَّة والعتاد، ولقد شهد سفير روسيا في فرنسا بوتزو دي بورجو Pozzo di Borgo بأن الجنود الروس لاقوا من الجيش العثماني الجديد ما لم يلاقوه قبل ذلك من الإنكشاريَّة، وأنه لو تأخَّرت روسيا في إعلان الحرب عامًا واحدًا لما أمكنها تحقيق هذه النجاحات[113].
في ظلِّ هذا الاكتساح جلست القوى الأوروبية مع محمد علي باشا لتُقنعه بعدم جدوى القتال في اليونان. لم يكن الوالي المصري يحتاج إلى مفاوضاتٍ طويلة؛ لأنه كان يُدرك بحاسَّته العسكريَّة أن القضيَّة محسومةٌ لصالح الأوروبيين، وأن الحكمة السياسية تقتضي الخروج بأقلِّ الخسائر، خاصَّةً مع ورود الأنباء باكتساح الروس للدولة العثمانية شرقًا وغربًا. وافق محمد علي باشا على الانسحاب[114]، وأرسل إلى ابنه إبراهيم باشا -الذي مرَّ عليه قرابة عام في المورة بعد كارثة ناڤارين- وأمره بالعودة. تردَّد إبراهيم باشا الذي كان يرى الوضع في المورة هادئًا، لكنه في الواقع لم يكن يرى الصورة الكاملة التي يراها أبوه. وضحت الصورة لإبراهيم باشا عندما فوجئ في 29 أغسطس 1828م بوصول قوَّات التدخل السريع الفرنسيَّة تستحثه على مغادرة المورة. بالنظر إلى فارق القوَّتين أيقن إبراهيم باشا أن الحرب خاسرةٌ حتمًا، فبدأ في الانسحاب في 7 سبتمبر[115]، لينتهي الوجود المصري في اليونان.
على الناحية الأخرى، وعلى الرغم من انسحاب الجيش المصري، ثم سقوط ڤيدين Vidin في 20 سبتمبر 1828م، وڤارنا Varna في 11 أكتوبر 1828م (كلاهما في بلغاريا جنوب الدانوب)، في أيدي الروس، وغلق الأسطول الروسي للدردنيل في 15 أكتوبر 1828م[116]، فإن السلطان محمودًا الثاني كان لا يزال مصرًّا على استكمال المقاومة، ويرفض الاعتراف بالحكم الذاتي لليونان كما تريد القوى العظمى. كانت هذه شجاعةً منه لكنَّها لم تكن رؤيةً عميقة. ينبغي للقائد أن يملك القدرة على تقدير موازين القوى ليخرج بأقلِّ الخسائر، ولئن خسرت الدولةُ اليونانَ فقط فهذا أفضل لها من خسارة اليونان والإفلاق والبغدان معًا، ولئن أنهت الدولةُ الحربَ وقتلى المسلمين عشرة آلاف فهذا أفضل من أن يكونوا خمسين ألف مثلًا، ولا ننسى أن طريق الدولة العثمانية مفتوحٌ الآن لإعداد جيشٍ جديدٍ دون إعاقةٍ من الإنكشاريَّة، فلو أتاح السلطان لنفسه فرصةً للبناء لكان جيشه أقوى بعد سنواتٍ قليلة، أمَّا لو قاوم وجيشه ما زال ضعيفًا فإنه سيهلك قبل أن يتمكَّن من القيام على أقدامه! إن الروس استفزُّوا السلطان للإسراع بقبول القتال، وكان ينبغي له أن يُجَنِّب العاطفة، ويُحَكِّم العقل، ويختار أهون الضررين.
كان من الواضح في هذه المحطَّة من التاريخ العثماني أن محمد علي باشا قد انفصل بمصر عن الدولة العثمانية؛ فقد أخذ قرار الانسحاب من المورة دون الرجوع إلى السلطان، وعلى العكس من رغبته، بل سيتطوَّر الأمر إلى صراعٍ بينهما لاحقًا، ولهذا الأمر مبرِّراتٌ سنأتي لها في حينها.
في 21 ديسمبر 1828م عَقَدَت القوى الثلاث مؤتمرًا في جزيرة بوروس Poros اليونانيَّة، وفيه رسموا حدود الدولة اليونانيَّة التي يريدونها، وكانت تضمُّ المورة، وأجزاء من اليونان الوسطى، أي شمال المورة، و-أيضًا- أكثر من مجموعةٍ من مجموعات جزر بحر إيجة، أهمها جزر السيكلايدس Cyclades، والسبورادس Sporades، وساموس Samos، وكريتCrete. أرسلت القوى الثلاث هذا المرسوم إلى السلطان محمود الثاني طالبين موافقته على حكمٍ ذاتيٍّ لليونانيين في هذه المناطق. كان ردُّ السلطان على هذا البيان هو الرفض القاطع[117]. اجتمعت القوى الثلاث مرَّةً أخرى في لندن في 22 مارس 1829م، ورسموا حدودًا جديدة أقلَّ من السابقة، حيث لم يضموا وسط اليونان، وكذلك كريت[118]، ولكن السلطان رفض كذلك، والحقُّ أنه كان ينبغي أن يقبل؛ لأن المستقبل سيكون أصعب، والحكم الذاتي بتبعيَّةٍ عثمانيَّةٍ أفضل من الاستقلال التامِّ دون تبعيَّة، خاصَّةً أن هذا الاستقلال سيخلق دولةً معادية، وليس مجرَّد دولةٍ مجاورة، ولا ننسى أن هذه المفاوضات تدور والقوَّات الروسيَّة محتلةً للبغدان، والإفلاق، وأجزاء من بلغاريا، وچورچيا، وشرق الأناضول!
إزاء هذا الرفض العثماني استأنف الروس الحرب في ربيع 1829م. في 17 مايو، و17 يونيو، تعرَّض العثمانيون لهزيمتين حول ڤارنا وهم يحاولون تحريرها من الروس، وكان الضحايا ثمانية آلاف، وفي 30 يونيو سقطت سيلسترا Silistra الحصينة جنوب الدانوب، بعد استسلام حاميتها العثمانيَّة المكوَّنة من ثمانية آلاف جندي[119]، وفي الجبهة الشرقيَّة سقطت إرضروم Erzerum في شهر يوليو من السنة نفسها[120]، وصار الطريق مفتوحًا إلى طرابزون وشمال الأناضول.
تضاعفت الكارثة في 22 أغسطس 1829م باحتلال الروس لإدرنة[121]، العاصمة الثانية للدولة العثمانية، وهي في عمق البلقان الشرقي، وكان السكان المسلمون قد أخلوها قبل الاحتلال[122]، وتجاوزها الروس إلى الشرق في طريق إسطنبول، وانخلعت قلوب العثمانيِّين! هنا انتفضت بريطانيا وفرنسا؛ فهما لا يقبلان بإسقاط الروس للدولة العثمانية كلِّها وإسطنبول لصالحها، فهذا يُغيِّر من موازين القوى تمامًا، لذلك سارعوا بالضغط على روسيا لتُوقِف القتال، وراسلوا السلطان محمود الثاني الذي قَبِل بالتفاوض مع الروس بوساطة بروسيا، فكانت معاهدة إدرنة[123][124].
معاهدة إدرنة (1829م):
أصعب شيءٍ أن يجلس مهزومٌ مع منتصرٍ للتفاوض! المحاورات تدور بين الطرفين في إدرنة، وجيوش روسيا تُحيط بالمدينة، وتحتلُّ الإفلاق، والبغدان، وبلغاريا، وچورچيا، وأجزاء من الأناضول! فوق هذا كان الثوار اليونانيون يخوضون حربًا في وسط اليونان ليوسِّعوا من مساحات سيطرتهم؛ لأنهم يعلمون أن التفاوض قد يقرُّ الوضع الجديد الذي وصلوا إليه، وقد حقَّقوا بالفعل انتصارًا على الجيش العثماني في موقعة بيترا Petra في 12 سبتمبر 1829م قبل معاهدة إدرنة بيومين فقط[125]! ماذا يمكن أن يُنْتَظَر من هذا الاتفاق؟!
لم يكن الاتفاق -الذي تمَّ في إدرنة في 14 سبتمبر 1829م[126]- إلا قائمة مطوَّلة من الطلبات الروسيَّة بتفصيلاتٍ دقيقة، وهذه القائمة كلُّها واجبة التنفيذ وإلا تستكمل روسيا حربها! وافقت الدولة العثمانية في هذه المعاهدة على إعطاء روسيا السواحل الشرقيَّة للبحر الأسود، بالإضافة إلى مصبِّ نهر الدانوب في البحر نفسه[127] (خريطة رقم 36)، وهذه المساحات صغيرةٌ في الواقع، ولا توازي الاحتلال الروسي الرهيب الذي تمَّ في هاتين السنتين السابقتين، ولكنها مساحاتٌ مهمَّةٌ في السيطرة على البحر الأسود، وغنيٌّ عن البيان أن روسيا لم تقنع بهذه المساحات إلا بسبب الضغط الإنجليزي، والفرنسي، والبروسي، بالإضافة إلى أن روسيا حقَّقت منافع أخرى من المعاهدة؛ منها أن لها حقَّ الملاحة في المضايق العثمانية البوسفور والدردنيل[128]، ومنها تعويض الدولة العثمانية لتجَّار روسيا بمبلغ قدره ستة عشر مليون فرنك تقريبًا[129]، ومنها إعطاء حريَّاتٍ أكبر لولايتي الإفلاق والبغدان جاء تفصيلها في ملحقٍ خاص[130]، ومنها التأكيد على الحكم الذاتي لصربيا[131]، ومنها -وهو ما يخصُّ قضيَّة اليونان- قبول الدولة العثمانية بالحكم الذاتي لليونان[132]، ومنها اعتراف الدولة العثمانية بامتلاك روسيا لكامل چورچيا[133]، ومنها أن تدفع الدولة العثمانية غرامةً حربيَّةً إلى روسيا (الدولة العثمانية هي التي تدفع!)، قَدْرُها مائةٌ وخمسةٌ وعشرون مليون فرنك -وهو مبلغٌ ضخمٌ للغاية- على عشرة أقساطٍ سنويَّةٍ متساوية، وسيكون انسحاب روسيا من الدولة العثمانية مقترنًا بدفع الأقساط؛ فتنسحب من إدرنة بعد دفع القسط الأوَّل، وتنسحب إلى ما وراء جبال البلقان بعد دفع الثاني، وتنسحب شمال الدانوب بعد دفع الثالث، ثم لا يتمُّ انسحابها من ولايتي الإفلاق والبغدان إلَّا بعد دفع الأقساط العشرة كلِّها، أي بعد عشر سنين، كما أقرَّت الدولة العثمانية في المعاهدة على ترحيل كافَّة المسلمين في ولايتي الإفلاق والبغدان في غضون سنةٍ ونصف، وعلى أن يقوموا ببيع كلِّ ما يمتلكون من أرضٍ أو عقارٍ قبل أن يُغادروا الولايتين[134].
نعم لم تأخذ روسيا أرضًا كثيرةً في هذه المعاهدة، ولكنها تركت الدولة العثمانية مكبَّلةً بالغرامات التي تعيق أيَّ حركة إصلاح أو بناءٍ للجيش أو الأسطول، وتركت الجيوش الروسيَّة في البلاد لسنواتٍ قادمةٍ إلى أن تُدفَع الغرامات، ومهَّدت للاستقلال التامِّ للإفلاق والبغدان، وضمنت استقلال صربيا واليونان، وتمتَّعت بحرِّيَّة الملاحة في البحرين الأسود والأبيض.
لقد كانت معاهدةٌ مؤسفةٌ ومجحفةٌ حقًّا!
استقلال اليونان التام:
قبلت الدولة العثمانية بالحكم الذاتي لليونان، لكنَّ اليونانيين لم يقبلوا! لقد ارتفع سقف طموحهم بعد رؤية الضعف العثماني، وبعد رؤية الدعم الأوروبي الكبير، فتركوا فكرة «الحكم الذاتي» الذي يكونون فيه تابعين للدولة العثمانية، مع دفع جزيةٍ سنويَّة، إلى فكرة «الاستقلال التام» دون أيِّ تبعيَّةٍ للعثمانيين. على الفور اجتمع سفراء بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، في لندن، وأصدروا في 3 فبراير 1830م بروتوكولًا بهذا الأمر مع تقليل مساحة الدولة الجديدة نسبيًّا لتسهيل قبول الوضع على الدولة العثمانية، كما قرَّر السفراء في هذا الاجتماع أن يكون الحكم ملكيًّا في اليونان بدلًا من الحكم الجمهوري[135]، وهذا على خلاف ما كان يريده اليونانيون، خاصَّةً أن القوى العظمى قرَّرت أن تختار بنفسها الملك الذي يحكم البلاد، مع العلم أنه لن يكون من عائلة يونانيَّة!! نعم اختارت القوى العظمى في البداية أميرًا ألمانيًّا هو ليوبولد أمير ولاية ساكسي-كوبرج Leopold of Saxe-Coburg، وهو الذي سيُصبح لاحقًا ملك بلچيكا، لكنه رفض، فاختاروا ملكًا ألمانيًّا آخر، هو الأمير أوتو Otto من أمراء باڤاريا فوافق[136]! العجيب أن اليونانيين وافقوا على هذه القيادات على الرغم من كونها غير يونانيَّة؛ لأنهم يعلمون أن القوَّة كلَّها في الحقيقة بيد الدول العظمى! هكذا كانت تتحكَّم هذه القوى في حياة الشعوب وإدارتها!
قبلت الدولة العثمانية باستقلال اليونان مبدئيًّا في 30 مايو 1830م[137]، ومع ذلك ونتيجة تغييراتٍ في الحكومة الإنجليزيَّة، واضطراباتٍ في فرنسا، تأجَّل لقاء تحديد الحدود للدولة الجديدة إلى أن تفرغ القوى العظمى من مشاكلها الداخليَّة، وأخيرًا عُقِد لقاءٌ نهائيٌّ في إسطنبول في 21 يوليو 1832م، ووقَّع السلطان محمود الثاني على استقلال اليونان التام دون أيِّ تبعيَّةٍ للدولة العثمانية، وعلى أن يكون الحكم ملكيًّا في اليونان، وعلى أن القوى العظمى هي التي ستختار هذا الملك، وسوف تدفع اليونان إلى الدولة العثمانية مبلغ 12 مليون فرنك كتعويضٍ عن ترك الدولة العثمانية لها[138]. جديرٌ بالذكر أن مملكة اليونان التي تأسَّست في ذلك الوقت كانت على شبه جزيرة المورة، وأجزاء من وسط اليونان تشمل أثينا، وجزيرة نيجروبونتي، وجزر السيكلاديس[139]، وهي مساحاتٌ تُماثل ربع اليونان الحاليَّة تقريبًا، وسوف تتوسَّع اليونان مع مرور الوقت لتصل إلى حدودها الحاليَّة.
هكذا انفصلت اليونان! ولم تكن هي آخر الأحزان، فبعد موافقة السلطان المبدئيَّة على استقلال اليونان في 30 مايو 1830، كما أسلفنا، وصلت الأخبار باحتلال فرنسا للجزائر!
احتلال فرنسا للجزائر (1830م):
كانت فرنسا تريد منذ زمن الحصول على مركز ثابت في البحر المتوسط لتنافس به البحريَّة العسكريَّة الإنجليزيَّة، خاصَّةً بعد احتلال بريطانيا لجبل طارق في إسبانيا عام 1713م[140]، ولجزيرة مالطة عام 1813م[141]. -أيضًا- كانت فرنسا تريد تأمين تجارتها في البحر المتوسط، ولن يكون ذلك إلا بالسيطرة على الأماكن القويَّة التي تخرج منها هجماتٌ عدوانيَّةٌ على السفن، ومن أشهرها دول الشمال الإفريقي، وأقواها الجزائر. من الممكن -أيضًا- الربط بين ما رأته فرنسا في حرب اليونان الماضية، ومن قبلها في الحملة الفرنسية على مصر والشام، من ضعفٍ شديدٍ للدولة العثمانية، ممَّا يؤكِّد أنها لن يكون لها ردُّ فعلٍ إذا قامت فرنسا باحتلال الجزائر الآن، خاصَّةً مع بُعْد الجزائر عن إسطنبول، ومع انفصال الجزائر الفعلي عن العثمانيِّين منذ 1671م. أمَّا إذا انتظرت فرنسا عدَّة سنواتٍ فلعلَّ الإصلاحات التي يريد محمود الثاني أن يقوم بها في الجيش والأسطول، والدولة بشكلٍ عام، تؤدِّي إلى تغييرٍ يُقَلِّل من فرص نجاح الاحتلال.
افتعلت فرنسا حجَّةً لا تُؤدِّي في العادة إلى حروب، وهي مشادَّةٌ حدثت بين حاكم الجزائر حسين داي وسفير فرنسا لديها بيير دوڤال Pierre Deval حول تأخُّر فرنسا في دفع ديون بعض التجار الجزائريِّين، فأساء السفير الأدب أمام جمعٍ من السفراء، والوزراء، فضرب حاكمُ الجزائر السفيرَ بمنشَّة ذبابٍ في يده[142]! اهتاجت فرنسا لهذا الحدث، والحقُّ أنَّه تصرُّفٌ غير لائق، ولكن ليس من المعتاد أن يكون الردُّ عليه بالجيوش والاحتلال الدائم، خاصَّةً أن أصل المشكلة هو تأخُّر فرنسيٍّ عن أداء مديونيَّاتٍ جزائريَّةٍ وليس العكس. عُرِفَت هذه الحادثة في التاريخ بحادثة منشة الذباب fly whisk incident، أو حادثة المروحة، ومع أنها حدثت في 29 أبريل 1827م، إلا أن فرنسا استخدمتها كحُجَّةٍ للاحتلال في 1830م[143]!
أرسلت فرنسا أسطولًا كبيرًا من ستمائة سفينة[144]، يحمل أربعةً وثلاثين ألف مقاتل من الجيوش البحريَّة والبرِّيَّة، وقاموا بإنزالٍ عسكريٍّ في سيدي فروخ[145]، على بعد سبعةٍ وعشرين كيلو مترًا غرب مدينة الجزائر في 14 يونيو 1830م[146]، ودار القتال بينهم وبين الجيش الجزائري في 19 يونيو، وانتصر الفرنسيون، ثم احتلوا قلعة «سلطانية قلعة سي» أمام مدينة الجزائر في 5 يوليو، ومِنْ ثَمَّ خرج حسين داي من المدينة، فدخلها الفرنسيون، واحتلُّوها[147].
كانت العمليَّة سريعة، وظهر فيها الفارق الضخم بين إمكانات الجيوش الحديثة وغيرها ممَّن يُقاتل بأسلحةٍ وأنظمةٍ قديمة، كما ظهر أثر الفُرقة التي عانى منها المسلمون في هذه المرحلة التاريخيَّة الصعبة؛ حيث لم تأتِ نجدةٌ للجزائر من أيِّ قُطرٍ مسلم -باستثناء المغرب[148]- ولا من الدولة العثمانية ذاتها[149]. هذا هو الخروج «الرسمي» للجزائر من حكم العثمانيين، حيث سيستمر احتلالها إلى 1962م.
بهذا الاحتلال المحزن انتهت المرحلة الثانية من حياة السلطان محمود الثاني، والتي شهدت مواجهات سافرة مع القوى الأوروبية المختلفة، وستبدأ مرحلته الثالثة والأخيرة التي سيكوِّنها حدثها الأكبر هو الصراع بين محمد علي باشا والسلطان، كما ستشهد هذه المرحلة إصلاحاتٍ جذريَّةً يقوم بها هذا السلطان المبتلى[150].
[1] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855) عن أسامة بن شريك t، والترمذي (2038)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، والحاكم (8206)، وقال: حديث صحيح. ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2930).
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 398.
[3] Georgeon, François: Ottomans and Drinkers: the Consumption of Alcohol in Istanbul in the Nineteenth Century, In: Rogan, Eugene L.: Outside In: Marginality in the Modern Middle East, I.B.Tauris, London, UK, 2002., p. 15.
[4] Mead, Karen: Tepelene, Ali Pasha (1744–1822), In: Hall, Richard C.: War in the Balkans: An Encyclopedic History from the Fall of the Ottoman Empire to the Breakup of Yugoslavia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014., p. 304.
[5] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م صفحة 410.
[6] Brooks, Allan: Castles of Northwest Greece: From the early Byzantine Period to the eve of the First World War, Aetos Press, Huddersfield, UK, 2013, p. 11.
[7] Davenport, Richard Alfred: The Life of Ali Pasha, of Tepeleni, Vizier of Epirus: Surnamed Aslan, Or the Lion, Thomas Tegg and Son, London, UK, 1837., p. 416.
[8] Mead, 2014, p. 303-304.
[9] Hiro, Dilip: Iran under the Ayatollahs, Routledge, New York, USA, 2011., p. 15.
[10] الدنبلي، عبد الرزاق بيك: المآثر السلطانية (تاريخ إيران وحروبها مع روسيا) في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي، مراجعة وتقديم: عبد الحفيظ يعقوب حجاب، ترجمة: محمد سيد أبو زيد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005م، 2005 الصفحات 32، 33.
[11] Amanat, Abbas: The Pivot of the Universe: Nasir Al-Din Shah Qajar and the Iranian Monarchy, 1831–1896, I. B. Tauris, 2008., pp 2–3.
[12] لونگريك، ستيفن هيمسلي: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، مكتبة اليقظة العربية، الطبعة السادسة، 1985م، 1985 صفحة 293.
[13] إقبال، عباس: تاريخ إيران بعد الإسلام من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، راجعه: السباعي محمد السباعي، نقله عن الفارسية وقدم له وعلق عليه: محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م. الصفحات 770، 771.
[14] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 3, p. 1140.
[15] الدنبلي، 2005 الصفحات 168–171.
[16] Tucker, 2010, vol. 3, p. 1140.
[17] لونگريك، 1985 الصفحات 294، 295.
[18] الدنبلي، 2005 الصفحات 409–415.
[19] Forbes, Nevill: Bulgaria and Serbia, In: Forbes, Nevill; Hogarth, David George; Mitrany, David & Toynbee, Arnold J.: The Balkans: A History of Bulgaria, Serbia, Greece, Rumania, Turkey, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1915., p. 47.
[20] Tucker, 2010, vol. 3, p. 920.
[21] Dupuy, Alex: Haitian Revolution of Independence (1791-1804), In: Goldstone, Jack A.: The Encyclopedia of Political Revolutions, Routledge, New York, USA, 2014., pp. 218-219.
[22] Kaloudis, George: Modern Greece and the Diaspora Greeks in the United States, Lexington Books, Lanham, Maryland, USA, 2018., p. 5.
[23] Cox, John K.: Interpretive Essay, In: Thackeray, Frank W. & Findling, John E.: Events That Formed the Modern World: From The European Renaissance to the War on Terror, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2012., vol. 1, p. 201.
[24] Dillon, Matthew & Garland, Lynda: Ancient Greece: Social and Historical Documents from Archaic Times to the Death of Alexander the Great, Routledge, Abingdon-on-Thames, UK, 2010., p. 48.
[25] Duiker, William J. & Spielvogel, Jackson J.: The Essential World History, Thomson Higher Education, Belmont, USA, Third Edition, 2008., p. 153.
[26] Flinn, Frank K.: Encyclopedia of Catholicism, Infobase Publishing, New York, USA, 2007., p. 185.
[27] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م.صفحة 1/93.
[28] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.الصفحات 499، 500.
[29] Leerssen, Joep Theodoor: National Thought in Europe: A Cultural History, Amsterdam University Press, Amsterdam, Netherlands, 2006., p. 132.
[30] شاروبيم، ميخائيل: الكافي في تاريخ مصر الحديث والقديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1425هـ=2004م. صفحة 4/62.
[31] فريد، 1981 صفحة 415.
[32] Tucker, 2010, vol. 3, p. 1140.
[33] Wynne, William Harris: State Insolvency and Foreign Bondholders: Selected Case Histories of Governmental Foreign Bond Defaults and Debt Readjustments, Volume 2, Beard Books, Washington, D.C., USA, 2000., vol. 2, p. 283-284.
[34] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د). الصفحات 2/36، 37.
[35] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول،1988م، صفحة 1/674.
[36] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 500.
[37] مكارثي، جستن: الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين (1821 - 1922م)، ترجمة: فريد الغزي، دار قدمس للنشر والتوزيع، (دون سنة طبع). الصفحات 33، 34.
[38] أوزتونا، 1988 صفحة 1/673.
[39] Clogg, Richard: A Concise History of Greece, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1992., p. 36.
[40] Brewer, David: The Greek War of Independence: The Struggle for Freedom from Ottoman Oppression, Overlook Duckworth, London, UK, 2011., pp. 142-144.
[41] Sideris, E. G. & konsta, A. A.: A Letter from Jean-Pierre Boyer to Greek revolutionaries, Journal of Haitian Studies, Haitian Studies Association, No. 1, Vol. 11, University of California, Santa Barbara, California, USA, 2005., pp. 167-171.
[42] Tucker, Spencer C.: The Roots and Consequences of Independence Wars: Conflicts that Changed World History, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2018., p. 141.
[43] Hall, Richard C.: The Modern Balkans: A History, Reaktion Books, London, UK, 2011 (A).p. 133.
[44] أوزتونا، 1988 صفحة 1/674.
[45] كينروس، 2002 صفحة 503.
[46] ييلافيتش، تشارلز؛ وييلافيتش، بربارا: تفكيك أوروبا العثمانية (إنشاء دول البلقان القومية) 1804 – 1920، إشراف: بيتر شوجر، دونالد تريد جولد، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار العالم الثالث، القاهرة، 2007م، 2007 صفحة 57.
[47] Brewer, David: The Greek War of Independence: The Struggle for Freedom from Ottoman Oppression, Overlook Duckworth, London, UK, 2011., p. 169.
[48] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 191.
[49] Dakin, Douglas: The Greek Struggle for Independence, 1821–1833, University of California Press, California, USA, 1973, pp. 96-99.
[50] Bostock, Andrew: Greece: The Peloponnese, Bradt Travel Guides, Chesham, UK, 2010., p. 57.
[51] ييلافيتش، وييلافيتش، 2007 صفحة 58.
[52] Brewer, 2011, p. 165.
[53] أوزتونا، 1988 صفحة 1/674.
[54] شاروبيم، 2004 صفحة 4/62.
[55] Nwaubani, Ebere: Egypt: Muhammad Ali, 1805-1849: Imperial Expansion, In: Shillington, Kevin: Encyclopedia of African History, Taylor & Francis Group, New York, USA, 2005., vol., 1, p. 455.
[56] الرافعي، عبد الرحمن: عصر محمد علي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 2001م. صفحة 219.
[57] أوزتونا، 1988م، صفحة 1/675.
[58] فريد، 1981 صفحة 414.
[59] McGregor, Andrew James: A Military History of Modern Egypt: From the Ottoman Conquest to the Ramadan War, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2006., p. 91.
[60] الرافعي، 2001 صفحة 193.
[61] فريد، 1981 صفحة 415.
[62] Tennent, Sir James Emerson; Pecchio, Giuseppe & Humphreys, William Henry: A Picture of Greece in 1825: As Exhibited in the Personal Narratives of James Emerson, Count Pecchio, and W.H. Humphreys; Comprising a Detailed Account of the Events of the Late Campaign, and Sketches of the Principal Military, Naval, and Political Chiefs, Henry Colburn, London, UK, 1826., p. 244.
[63] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م.صفحة 120.
[64] Charles, Victoria & Tzu, Sun: Art of War, Parkstone Press International, New York, USA, 2012., p. 198.
[65] لوتسكي، 1985 صفحة 121.
[66] Brewer, 2011, p. 256.
[67] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م.صفحة 77.
[68] لوتسكي، 1985 الصفحات 120، 121.
[69] Brewer, 2011, p. 286.
[70] Howarth, David Armine: The Greek Adventure: Lord Byron and Other Eccentrics in the War of Independence, Atheneum, New York, USA, 1976., p. 189.
[71] الرافعي، 2001 الصفحات 353-362.
[72] طوسون، عمر: الجيش المصري البري والبحري، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1416هـ=1996م (أ). صفحة 12.
[73] فهمي، خالد: كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ=2001م. الصفحات 115، 116.
[74] أوزتونا، 1988 صفحة 1/676.
[75] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م.الصفحات 266–268.
[76] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/676، 677.
[77] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lx.
[78] أوزتونا، 1988 صفحة 1/678.
[79] Nafziger, George F.: Historical Dictionary of the Napoleonic Era, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, 2002., pp. 153–54.
[80] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 1/679.
[81] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 386.
[82] أوزتونا، 1988 صفحة 1/678.
[83] Yıldız, Gültekin: Neferin Adı Yok: Zorunlu Askerliğe Geçis, Sürecinde Osmanlı Devleti'nde Siyaset, Ordu ve Toplum (1826-1839) (in Turkish), Kitabevi Yayınları, Istanbul, Turkey, 2009., p. 475.
[84] Aksan, Virginia H.: The Ottoman Army, In: Schneid, Frederick C.: European Armies of the French Revolution, 1789–1802, University of Oklahoma Press, Norman, Oklahoma, USA, 2015., p. 266.
[85] Stoianovich, Traian: A Study in Balkan Civilization, Knopf, New York, USA, 1967., p. 192.
[86] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 402.
[87] Brewer, 2011, p. 310.
[88] شاروبيم، 2004 صفحة 4/63.
[89] بكديللي، 1999 صفحة 1/94.
[90] Rendall, Matthew: Restraint or Self-Restraint of Russia: Nicholas I, the Treaty of Unkiar Skelessi, and the Vienna System, 1832–1841, The International History Review, Taylor & Francis (Routledge), No. 1, Vol. 24, 2002., p. 38.
[91] فريد، 1981 الصفحات 417-426.
[92] سرهنك، 1895 صفحة 1/679.
[93] Brewer, 2011, p. 300.
[94] Tucker, 2018, p. 143.
[95] لوتسكي، 1985 صفحة 121.
[96] Dakin, 1973, pp. 182-183.
[97] Howarth, 1976, p. 231.
[98] Somel, 2010, p. lx.
[99] فريد، 1981 صفحة 427.
[100] شاروبيم، 2004 صفحة 4/64.
[101] Tucker, 2018, p. 145.
[102] جوان، إدوارد: مصر في القرن التاسع عشر، تعريب: محمد مسعود، القاهرة، الطبعة الأولى، 1340هـ=1921م. صفحة 750.
[103] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1990 صفحة 2/10.
[104] لوتسكي، 1985 صفحة 123.
[105] فريد، 2005 صفحة 132.
[106] أوزتونا، 1990 صفحة 2/11.
[107] سرهنك، 1895 صفحة 1/682.
[108] Somel, 2010, p. lx.
[109] Robarts, Andrew: Russo-Ottoman Wars (1787–1878), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009., p. 496.
[110] كينروس، 2002 صفحة 509.
[111] Robarts, 2009, p. 496.
[112] Tucker, 2010, vol. 3, pp. 1152-1153.
[113] فريد، 1981 صفحة 432.
[114] الرافعي، 2001 الصفحات 213، 214.
[115] فريد، 1981 صفحة 428.
[116] Clare, Israel Smith: The Unrivaled History of the World: Nineteenth century, Volume 5, The Werner Company, Chicago, USA, 1893., vol. 5, p. 1542.
[117] Brewer, 2011, pp. 344-345.
[118] Özkan, Dilek: The Final Phase of the Greek Revolution: Delimitation, Determination and Demarcation of the First Greek Borders in Ottoman Sources, In: Stamatopoulos, Dimitris: European Revolutions and the Ottoman Balkans: Nationalism, Violence and Empire in the Long Nineteenth-Century, Bloomsbury Publishing, London, UK, 2019., p. 115.
[119] Clare, 1893, vol. 5, p. 1542.
[120] مانتران، 1993 (د) صفحة 2/43.
[121] Somel, 2010, p. lx.
[122] Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1991., vol. 2, p. 684.
[123] فريد، 1981 صفحة 433.
[124] كينروس، 2002 صفحة 510.
[125] Gyalistras, Sergios A.: Hellas and Cyprus, Translated from Greek: G. A. Tripanis, Athens, Greece, 1955., p. 37.
[126] Tucker, 2019, vol. 1, p. 37.
[127] سرهنك، 1895 صفحة 1/684.
[128] مانتران، 1993 (د) صفحة 2/42.
[129] فريد، 1981 صفحة 444.
[130] أوزتونا، 1990 صفحة 2/11.
[131] كينروس، 2002 صفحة 511.
[132] Tucker, 2019, vol. 1, p. 37.
[133] أوزتونا، 1990 صفحة 2/11.
[134] سرهنك، 1895 صفحة 1/684.
[135] Dakin, 1973, pp. 280-283.
[136] Clogg, 1992, p. 45.
[137] فريد، 1981 صفحة 445.
[138] Cooke, William Smith: The Ottoman Empire and Its Tributary States-excepting Egypt, with a Sketch of Greece, W. Clowes & Son, London, UK, 1876., p. 183
[139] سرهنك، 1895 صفحة 1/685.
[140] Tucker, 2010, vol. 2, p. 716.
[141] Wragg, David W.: Malta, the Last Great Siege, Casemate Publishers, 2003., p. 27.
[142] Steele, Murray: Algeria: Algiers and Its Capture, 1815-1830, In: Shillington, Kevin: Encyclopedia of African History, Taylor & Francis Group, New York, USA, 2005., vol., 1, p. 48.
[143] كوران، آرجمنت: السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر، ترجمة: عبد الجليل التميمي، منشورات الجامعة التونسية، تونس، 1970م. صفحة 34.
[144] بروكلمان، 1968 صفحة 621.
[145] Ruedy, John Douglas: Modern Algeria: The Origins and Development of a Nation, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, Second Edition, 2005., p. 48.
[146] التر، عزيز سامح: الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية، ترجمة: محمود علي عامر، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ=1989م. صفحة 644.
[147] Ruedy, 2005, p. 49.
[148] Pennell, C. R.: Morocco Since 1830: A History, C. Hurst & Co. Publishers, London, UK, 2000., p. 42.
[149] أوزتونا، 1990 صفحة 2/14.
[150] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 996- 1026.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك