التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
أهم ما يُميِّز السلطان سليمان القانوني عن غيره من السلاطين مسألة اهتمامه بالقوانين والتشريعات، وهذا هو السبب الذي من أجله عُرِفَ «بالقانوني».
من أبرز سمات فترة حكم السلطان سليمان القانوني أنه كان -كجدِّه الأعظم محمد الفاتح- مدرِكًا لمفهوم شموليَّة الدولة؛ فالدولة ليست جيشًا وانتصارات عسكريَّة وفتوحات فقط، إنما هي اقتصاد، وعلوم، وفنون، وعمران، وقانون، وغير ذلك من أمور الحياة، ولقد كانت إسهامات السلطان القانوني في هذه المجالات لا تقلُّ روعةً عن إسهاماته في مجال الحرب والسياسة، وسوف ألقي الضوء بإيجازٍ على بعض هذه الإنجازات، علمًا بأنها شملت عصره كلَّه، والممتد على مدار ستَّة وأربعين عامًا، وإن كانت وتيرة هذه الإنجازات زادت في هذه الحقبة الأخيرة من عمره، حين هدأت الجبهات العسكرية الساخنة التي شغلته في فترة حكمه الأولى، وسوف نُناقش في هذه النقطة بإيجاز بعض الإنجازات؛ وذلك تحت أربعة عناوين؛ هي القانون، والتعليم، والعمران، والاقتصاد.
القانون: أهم ما يُميِّز هذا السلطان عن غيره من السلاطين مسألة اهتمامه بالقوانين والتشريعات، وهذا هو السبب الذي من أجله عُرِفَ «بالقانوني» تحديدًا، مع أنه كان بارزًا في مجالاتٍ أخرى كثيرة. لم يكن السلطان سليمان هو أول من وضع القانون في الدولة العثمانية؛ بل سبقه إلى ذلك سلاطين وأمراء كثيرون، وأهمهم بلا شَكٍّ هو السلطان الجليل محمد الفاتح، الذي وضع الدستور الأشمل للدولة العثمانية عام 1477م، والمعروف بقانون نامة؛ ولكن ما يُميِّز القانون الذي وضعه السلطان سليمان هو أنه صار قانونًا لإمبراطوريَّةٍ كبرى يشمل كلَّ نواحي الحياة، وفيه من التفصيلات والتفريعات ما لم يكن موجودًا في قوانين الدنيا آنذاك، ولهذا فإن الكونجرس الأميركي عندما أراد أن يُزيِّن أبواب مقرِّه الرئيس في واشنطن (The United States Capitol) بالرموز العالمية التي كان لها دورٌ في صياغة القوانين، اختار ثلاثة وعشرين شخصيَّةً عالميَّةً من كلِّ أرجاء الدنيا، وكان من بينها السلطان سليمان القانوني، وقد نحت صورته البارزة الفنان الأميركي الشهير چوزيف كيسيليوسكي Joseph Kiselewski[1]، وكتبوا إلى جوار الصورة: «أصلح وحسَّن القوانين المدنيَّة والعسكريَّة، ووحَّد مقاطعات غير مستقرَّة في إمبراطوريَّة»[2]!
تميَّز قانون السلطان سليمان أساسًا بأنه مستمدٌّ من الشريعة الإسلاميَّة، ولا يتعارض معها في أيِّ بندٍ من بنودها[3][4]، وقد صاغه بالاشتراك مع شيخ الإسلام أبي السعود أفندي، وابن كمال باشا زاده[5]، وكان الجميع يعلم حرص السلطان على اتِّباع الشرع الحنيف؛ بل كان الغربيُّون أنفسهم يُدركون ذلك، ويفهمون أن السلطان لا يتبع هواه أبدًا في بندٍ من بنود قانونه، ولقد شهد بذلك السفير النمساوي أوچير غيسلين دي بوسبيك Ogier Ghiselin de Busbecq، والمعاصر لسليمان القانوني، فقال: «كان سليمان العظيم يحمي بشكلٍ صارمٍ دينَه وتقاليدَه، وليست رغبته في التمسُّك بإيمانه بأقلَّ من رغبته في توسيع مُلْكِه»[6]! إن هذا أمرٌ عظيمٌ حقًّا، فهو من بابٍ يوضِّح مدى حبِّ السلطان لدينه، وفهمه أن النجاة في الدنيا والآخرة باتِّباعه، وهو من بابٍ آخر يُمثِّل دعوةً عظيمةً للإسلام نفسه؛ لأن كلَّ الملاحظين لعظمة الدولة في عهد سليمان القانوني سيربطون ذلك بالإسلام الذي اتَّبعه لا بشخصه هو فقط، وهذه من أبلغ طرق الدعوة إلى الله.
كان القانون يهتمُّ بمسألة العدل والتخفيف على الرعيَّة، وكان لا يعطي لأيِّ والٍ الحق َّفي فرض ضرائب تفوق ما تقرَّر رسميًّا، وكان يمنع الولاة من فرض السخرة على الشعب، ويمنعهم من فرض غراماتٍ لم ينص عليها القانون، كما كان القانون يفتح المجال لكلِّ الرعيَّة بشكوى الولاة أو القضاة إذا وقع عليهم ظلم[7]، بل كان العامَّة يَصِلُون إلى مجلس السلطان نفسه لتبليغ شكوى من والٍ أو قاضٍ، وأحيانًا كانوا يُبلغونه شكواهم وهو في طريقه إلى المسجد[8]، وكان السلطان والقضاة يلتزمون في أمور الحدود بما جاء في التشريع الإسلامي، وكان القانون ينصُّ في الوقت ذاته على عقوباتٍ معيَّنةٍ محدَّدةٍ في الأمور التي تركها التشريع لتقدير ولاة الأمر[9].
شمل القانون أمورًا تفصيليَّةً عجيبة تُوضِّح مدى اهتمام الدولة بالعدل، ونشر الرخاء في ربوع الإمبراطورية، فحدَّد على سبيل المثال نسب الزبدة التي يضعها صنَّاع الحلويات في مأكولاتهم، وحدَّد دور الدولة في مراقبة أسعار الطعام وغيره من السلع، كما ناقش القانون مسائل كثيرة تتعلَّق بالبيئة، في زمنٍ لم يكن أحدٌ يُفكِّر في هذه المسائل مطلقًا، فألزم القانونُ الشعبَ بالمحافظة على نظافة المناطق المحيطة بالمساكن وبالدكاكين، وألزمهم بنظافة المحلات العامَّة كالحمَّامات والخانات، وألزم البقَّالين وأصحاب المهن الأخرى بنقل الفضلات والمياه غير النظيفة إلى خارج المدينة، وألزم التجار بعدم ترك العربات التي تجرُّها الحيوانات أمام البيوت والمحال لكي لا تتلوَّث الشوارع بروث الحيوانات، ومنع القانون الجزارين من غسل ملابسهم المتَّسخة بالدَّم في الشوارع[10]!
ومن المهمِّ أيضًا، ونحن بصدد الحديث عن القانون أن نُشير إلى أمرين مهمين؛ الأول هو سرعة تنفيذ الأحكام، وعدم تعطيلها في أروقة المحاكم[11]، والثاني هو أن القانون يُطَبَّق بكلِّ أمانةٍ على الجميع دون تفرقةٍ على أساس دينٍ أو عرق[12]. يقول المؤرخ الإنجليزي اللورد كينروس Lord Kinross: «زَوَّد السلطان سليمان الحكام المحليِّين في جميع أنحاء البلاد بتعليماتٍ واضحةٍ بعدم التفرقة في المعاملة بين المسلمين وغير المسلمين»[13]، ويقول المؤرخان النرويجيان رولف ستراندسكوچين Rolf Strandskogen وآسي بيريت Ase Berit: «عدَّل سليمان الأول من قوانين الضرائب ليرفع من وضع النصارى، وليزيد التسامح تجاههم، وبسبب عدله في تطبيق القانون أصبح سليمان معروفًا بالقانوني»[14]. لقد نقل اللورد كينروس شهادةً عجيبةً لكاتب أوروبي معاصر للقانوني قال فيها: «لقد شاهدتُ جماعات من المزارعين المجريِّين يُشعلون النيران في بيوتهم، ويهربون مع زوجاتهم، وأبنائهم، ومواشيهم، وآلاتهم الزراعية، إلى المناطق التركية، حينما علموا أنهم لن يتعرَّضوا لأيِّ ضغوط، أو لدفع أيِّ ضرائب، وأن ما يُؤدُّونه فقط هو العشور»، ويُضيف اللورد كينروس قائلًا: «وقد انتشر الشيء نفسه بين سكان المورة الذين فضَّلوا الحكم العثماني على حكم البنادقة»[15]!
وكان القانون مهتمًّا كذلك بالأمور الإداريَّة، فوضع الأحكام التي تكفل حركة الدولة في سلاسة، ودون تعقيدات، وصيغت هذه الأحكام بصورةٍ تُناسب المرحلة التاريخية، وكان فيها من المرونة ما سمح لها أن تظلَّ فاعلةً لثلاثة قرونٍ تالية[16]! ومنها أحكامٌ خاصَّةٌ بالجيش، مثل السماح للإنكشاريَّة بخوض الحروب دون خروج السلطان، ولم يكن هذا مسموحًا لهم قبل هذا القانون، ومثل تقسيم جيش الإنكشارية إلى ثلاثة أقسام تبعًا لسني خدمتهم[17]، ومنها أحكامٌ خاصَّةٌ برجال الدين وترتيب وظائفهم العلمية، و-أيضًا- ترتيب الديوان، وتحديد صلاحيات الصدر الأعظم والوزراء، وهياكلهم الوظيفية[18]، وهكذا، ويجدر الإشارة أن مبدأ المساواة بين الرعيَّة كان مُتَّبعًا بدقَّةٍ في زمان السلطان سليمان القانوني[19]؛ كما أبدع القانوني في مسألة «التفويض»، فكان يختار موظفيه بعنايةٍ شديدة، ثم يُعطيهم ثقته المطلقة كممثِّلين للسلطة[20]، ممَّا أدَّى إلى سلاسةٍ كبيرةٍ في العمل الإداري، وهذا يُؤكِّد أن السلطان كان سابقًا لعصره تمامًا، وهذا ما جعله يحوز، دون غيره من حكَّام العالم، على لقب «القانوني». يشهد المفكِّر الروسي ليونيد جرينين Leonid Grinin على تفوُّق الجوانب الإدارية في عهد سليمان القانوني بقوله: «كان مستوى التنظيم الإداري في عهد سليمان العظيم عاليًّا جدًّا بالمقارنة بالأنظمة المعاصِرة له»[21].
ومن أبرز سمات القانون في عهد السلطان سليمان الشمول الدقيق للجوانب الاقتصادية، والاهتمام بالتفاصيل، خاصَّةً في الأمور التي لم تكن مطروحةً في العهود السابقة. شمل ذلك قوانين حيازة الأراضي والملكيَّات، والأوقاف بأنواعها، وإدخال أوقاف الأموال السائلة وليست الأوقاف العينيَّة فقط، وتحديد المعاملات الربويَّة من غيرها، وتحديد صور وطرق مصادرة الأملاك للمخالفين[22].
ومن أروع ما يُعْرَف عن فترة سليمان القانوني هو غياب الوساطة، وعدم تدخُّل النسب أو العلاقات الخاصة في تطبيق القانون، أو في حيازة المناصب؛ ممَّا يعني ندرة الفساد، وارتفاع معدلات الشفافية، ونستفيد هنا مرَّةً ثانية بشهادة السفير النمساوي أوچير غيسلين دي بوسبيك المعاصر لسليمان القانوني؛ حيث قال في دقَّةٍ عجيبة: «لا يوجد رجلٌ يشغل منصبه في هذا المجتمع إلا بحكم فضائله الشخصيَّة وشجاعته، وليس هناك تفرقةٌ أو تمييزٌ بين شخصٍ وآخر بحكم المولد، وإنما التمييز يتوقَّف على طبيعة العمل والأعمال الرسميَّة المكلَّف بها هؤلاء الأشخاص. لا يوجد صراعٌ على المناصب لأن كلَّ شخصٍ يشغل وظيفةً محدَّدة، والسلطان شخصيًّا يُحدِّد واجبات الجميع وأعمالهم الرسميَّة، ولا يُلْتَفَت في ذلك إلى ثراء الشخص، أو أيِّ ادعاءاتٍ زائفة، أو القوَّة، أو النفوذ؛ إنما يهتمُّ فقط بالأهليَّة، والكفاءة، وقوَّة الشخصيَّة، والاستعداد الشخصي. وهكذا يُثاب كلُّ شخصٍ وَفق فضائله. وامتلأت الوظائف بالرجال الأكفاء القادرين على الاضطلاع بأعبائها»[23]![24].
[1] Architect of the Capitol, United States, Washington, 1952, p. 21.
[2] شاهد الصورة والتعليق على الرابط الرسمي للكابيتول الأميركي:
www.flickr.com/photos/uscapitol/6240607011
[3] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. الصفحات 242-244.
[4] Greenblatt, Miriam: Süleyman the Magnificent and the Ottoman Empire, Benchmark Books, New York, USA, 2003., p. 218.
[5] جانبولات، أورهان صادق: شيخ الإسلام ابن كمال باشا، ضمن كتاب: جالودي، عليان: التحولات الفكرية في العالم الإسلامي: أعلام، وكتب، وحركات، وأفكار من القرن العاشر إلى الثاني عشر الهجري، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان–الأردن، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 99.
[6] Duiker, William J. & Spielvogel, Jackson J.: World History, Wadsworth Cengage Learning, Boston, USA, Seventh Edition, 2012., p. 455.
[7] Clot, André: Suleiman the Magnificent: The Man, His Life, His Epoch, Editor: Jana Gough, Translated: Matthew J. Reisz, Saqi Books, London, 1992., p. 74.
[8] ڤاينشتاين، چيل: الامبراطورية في عظمتها: (القرن السادس عشر)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (أ).صفحة 1/252.
[9] إينالچيك، خليل: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناءوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م. صفحة 117.
[10] كوندز، أحمد آق: القوانين العثمانية وتحليلها قانونيا، إسطنبول، الطبعة الأولى، 1991-1996م.الصفحات 6/540-543.
[11] Çırakman, Aslı: From the «Terror of the World» to the «Sick Man of Europe": European Images of Ottoman Empire and Society from the Sixteenth Century to the Nineteenth, Peter Lang Publishing, New York, USA, 2002., p. 67.
[12] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/355.
[13] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.صفحة 230.
[14] Berit, Ase & Strandskogen, Rolf: Suleiman I, the Magnificent, In: Farah, Mounir A.: Lifelines in World History, Volume 3: The Early Modern World, Routledge, 2015., p. 336.
[15] كينروس، 2002 صفحة 231.
[16] Greenblatt, 2003, p. 21.
[17] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 251.
[18] ڤاينشتاين، چيل: الامبراطورية في عظمتها: (القرن السادس عشر)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (أ). الصفحات 1/276-282.
[19] أوزتونا، 1988م صفحة 1/355.
[20] كينروس، 2002 صفحة 285.
[21] Grinin, Leonid: Macrohistory and Globalization, Uchitel Publishing House, Volgograd, Russia, 2012., p. 115.
[22] Kuran, Timur: Islamic statecraft and the Middle East’s delayed modernization: Comments, In: Bernholz, Peter & Vaubel, Roland: Political Competition, Innovation and Growth in the History of Asian Civilizations, Edward Elgar Publishing, Cheltenham, UK, 2004., p. 176.
[23] كينروس، 2002 صفحة 225.
[24] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 494- 498.
التعليقات
إرسال تعليقك