التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في عام 1444م تنازل السلطان العثماني مراد الثاني عن الحكم لابنه الأمير محمد، وكان عمره آنذاك اثني عشر عامًا ونصف فعرف بالسلطان الصغير.
السلطان الصغير!
كان القرار الذي أخذه السلطان مراد الثاني في أغسطس 1444م بعد معاهدات السلام التي عقدها مع القوى الصليبية وإمارة قرمان هو التنازل عن الحكم لابنه الأمير محمد وليِّ العهد، وهو البالغ من عمره آنذاك اثني عشر عامًا ونصف[1][2][3]!!
كان القرار صادمًا لكلِّ رجال الدولة، ومفاجِئًا لكلِّ المتابعين للأحداث، خاصَّةً أنَّ السلطان مرادًا الثاني لم يبقَ في العاصمة أدرنة بعد قرار التنازل؛ إنَّما انسحب إلى مانيسا بعد أن أعطى العرش لابنه الصغير[4].
والحقُّ أنَّ القرار عجيبٌ من أكثر من وجه..
الوجه الأوَّل: أنَّ السلطان مرادًا الثاني -المتنازل عن العرش- كان يبلغ من العمر حين تنازل إحدى وأربعين سنةً فقط[5]، أي في عنفوان شبابه، ولم يكن مريضًا أو مصابًا كما يدلُّ على ذلك سياق الأحداث.
الوجه الثاني: أنَّ المتنازَل له -وهو الأمير محمد- لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره!
الوجه الثالث: أنَّ الظروف السياسيَّة والعسكريَّة التي تمرُّ بها الدولة العثمانيَّة في غاية الصعوبة؛ فهناك كتلةٌ كاثوليكيَّةٌ كبرى قد تكوَّنت في شمالها، وهي اتِّحاد المجر وبولندا تحت قيادة ڤلاديسلاڤ الثالث، وهي كتلةٌ تُمثِّل تهديدًا خطرًا للدولة العثمانية، خاصَّةً مع وجود بابا متحفِّز للحروب الصليبيَّة كالبابا أوچين الرابع، ناهيك عن خطورة استقلال إمارة صربيا، ورغبة الدولة البيزنطيَّة في الاستعانة بالكاثوليك، وتمرُّد قرمان المتكرِّر.
الوجه الرابع: هو توقيت التنازل؛ فالمعاهدة مع المجر وبولندا لم يمضِ عليها أيَّام، ولا يُستبْعَد أن يغدروا في عهدهم عند تبدُّل الظروف في الدولة العثمانيَّة، وحتى في حال عدم غدرهم فإنَّ التطوُّرات المستقبليَّة في المنطقة غير معلومة، خاصَّةً مع اضطرابات ألبانيا، بالإضافة إلى الاضطرابات الداخليَّة في الجيش العثماني.
الوجه الخامس والأخير في هذا التحليل: هو أنَّ العائلة العثمانيَّة صغيرةٌ للغاية؛ فليس هناك إلى جوار الأمير محمد أعمامٌ أو أولاد أعمامٍ يُمكن أن يقفوا معه في هذه المهمَّة؛ إنَّما أوكل الأمر إلى رجال الدولة المختلفين، وكلهم من عائلاتٍ تركيَّةٍ غير عثمانيَّة، وكان على رأسهم الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي Çandarli Halil Pasha، وهو من عائلة جاندرلي التركيَّة المرموقة، وكان قد تولَّى رئاسة الوزراء منذ عام 1439م[6]، ومع كونه شخصيَّةً مأمونة، إلَّا أنَّ عائلة جاندرلي عائلةٌ كبيرة، بل لعلَّها أكبر من العائلة العثمانيَّة نفسها، وقد تولَّى أفرادها رئاسة الوزراء في الدولة العثمانيَّة عدَّة مرَّات بدايةً من سنة 1380م[7]؛ أي قبل هذه الأحداث بأكثر من ستِّين سنة، وهذا كلُّه قد يُنذر بحدوث فتنةٍ في داخل الدولة العثمانيَّة إذا ما فكَّر أفراد هذه العائلة في الانفراد بالحكم، وذلك في ظلِّ وجود طفلٍ صغيرٍ على العرش.
هذه كلُّها وجوهٌ تدعو للعجب من هذا القرار المفاجئ؛ فالأمر كان متعلِّقًا بأمن دولةٍ كبيرةٍ واستقرارها، ولهذا تحيَّر المؤرِّخون في هذا القرار وأسبابه، خاصَّةً أنَّ مرادًا الثاني لم يُعلن بنفسه تفسيرًا واضحًا لهذا الفعل؛ إنَّما ترك الأمر لتكهُّنات المؤرِّخين!!
والذي يبدو لي أنَّ سبب هذا القرار لم يكن أمرًا واحدًا كما يفترض بعض المؤرِّخين؛ إنَّما هو تفاعل مجموعةٍ من الأسباب، التي يُمكن أن تُفسِّر حدوثَ مثل هذه المفاجأة، ويدخل في هذه الأسباب ما يلي:
أوَّلًا: أشارت بعض المصادر إلى شعور مراد الثاني بالتعب[8]، ولم تُفسِّر نوع التعب الذي شعر به، ويُمكن أن يكون قد غلب على ظنِّه أنَّ هذا التعب قد يُفْضِي إلى الموت المفاجئ، خاصَّةً أنَّ حوادث موت أفراد العائلة العثمانيَّة في شبابهم متكرِّرة، فكما مرَّ بنا مات السلطان محمد چلبي والد السلطان مراد الثاني في التاسعة والثلاثين من عمره، وأيضًا مات السلطان بايزيد الأوَّل جدُّ السلطان مراد الثاني في الرابعة والأربعين من عمره[9]، ولا ننسى موت ابنين من أبناء مراد الثاني نفسه في سنِّ الثامنة عشرة، فهذا كلُّه يجعل مرادًا الثاني متوقِّعًا للموت، خاصَّةً إذا ما كان تعبه هذا كبيرًا، فلعلَّه أراد استخلاف ابنه محمد قبل أن يموت، حتى لا تتجه الأمور إلى غير ما يُريد، فكان وكأنَّه يُسابق الزمن في هذا التنازل.
ثانيًا: أعتقد أنَّ السلطان مرادًا الثاني كان يُعاني في هذه الفترة من حالةٍ من حالات «الاكتئاب النفسي»، وهي حالةٌ مَرَضِيَّةٌ وليست مجرَّد حالة حزن، ومن أهمِّ علاماتها فَقْدُ الرغبة في العمل، وحبُّ الانعزال عن الناس، وهي درجات، وقد عُدْتُ إلى التقسيم الذي قام به العالِم النفسي الإنجليزي الشهير مارك ويليامز Mark Williams لدرجات الاكتئاب وعلاقتها بالرغبة في العمل، فوجدتُ أنَّ مرادًا الثاني كان يُعاني على الأقلِّ من الدرجة الثانية في الاكتئاب، أو قد يكون في الدرجة الثالثة، والفرق بينهما أنَّ المكتئب في الدرجة الثانية يفقد الرغبة في العمل وإن كان قادرًا على القيام بالمهامِّ الموكلة إليه، أمَّا الدرجة الثالثة فهو يفقد القدرة على العمل إلى جوار فقده للرغبة[10]، ولو كان هذا التشخيص سليمًا فهذا يُفسِّر كلَّ شيء؛ فالسلطان فَقَدَ «الرغبة» في إكمال عمله كقائدٍ للدولة، وقد يكون فَقَدَ «القدرة» على ذلك، ومِنْ ثَمَّ كان انسحابُه حادًّا، ومفاجئًا، وسريعًا، وبلا تمهيدات، وصَاحَبَ ذلك انعزالٌ عن المجتمع بالذهاب إلى مانيسا دون النظر إلى عواقب هذا الانعزال. وهذا الاكتئاب يأتي أحيانًا في صورةٍ مؤقَّتةٍ ثم يتعافى منه المريض، وأعتقد أنَّ هذا الوضع المؤقَّت هو الذي كان عليه مراد الثاني؛ لأنَّنا رأيناه بعد هذا الانعزال بأسابيع أو شهور يعود إلى شبه طبيعته، فيعمل من جديد، ولكن ليس بنفس حماسته الأولى.
أمَّا أسباب هذا الاكتئاب فكثيرة، ويأتي في مقدِّمتها فقدان أشخاص محبوبين للإنسان، وقد فَقَد مراد الثاني ولدين من أبنائه تتابعًا، وفي ظروفٍ صعبة؛ حيث كان الولدان وَلِيين للعهد، وكانا يُساعدانه على مهامِّه الجسام، وفجأةً وَجَد نفسه وحيدًا في هذه الأزمات، كما أنَّ الظروف التي مرَّت بها الدولة العثمانيَّة في هذه الفترة كانت استثنائيَّة، وفقدت الدولة في غضون ثلاث سنوات ما اجتهدت في فتحه خلال عشرات السنين، وأُجْبِر السلطان على عقد معاهدةٍ مُذِلَّةٍ نسبيًّا لم تعقد الدولة العثمانيَّة مثلها قبل ذلك، فكلُّ هذه الأمور تقود إلى الاكتئاب، خاصَّةً لو كان هناك استعدادٌ نفسيٌّ عند الإنسان؛ كأن تكون شخصيَّته انعزاليَّةً في الأساس، أو اعتاد الزهد في مُتع الدنيا بشكلٍ عامٍّ.
إنَّ افتراض مثل هذا التشخيص للوضع يُوضِّح أنَّ مرادًا الثاني يُمكن أن يكون معذورًا في هذا القرار؛ حيث إن قدراته النفسيَّة والبدنيَّة في هذه الحالة لا تُمكِّنه من إكمال المسيرة كسلطانٍ للدولة.
ثالثًا: لا يُستبعد أن تكون التربية الصوفية الروحيَّة لها أثرٌ في هذا القرار؛ فقد يتملَّك الفرد حينئذٍ رغبة في الانعزال عن الحياة بكلِّ لذَّاتها ومُتَعِها، وقد يترك مسئوليَّاتٍ جسامًا ملقاةً على كتفيه لزهده في الدنيا برمَّتها، وبالطبع ليس هذا سلوكًا سليمًا، خاصَّةً إذا كان تركه للدنيا سيُوقع مجتمَعَه وأمَّته في أزمة، بل ينبغي له أن يُرتِّب الأمور بشكلٍ جيِّدٍ قبل أن ينعزل، وقد كان رسول الله ﷺ أعظم الزاهدين في الدنيا ولكنَّه كان يقوم بكامل أعماله تجاه نفسه، وأسرته، وأصحابه، وأمَّته، دون تقصيرٍ أو إهمال، ومِنْ ثَمَّ فزهْدُ السلطان مراد الثاني ليس مسوِّغًا بمفرده في منح العذر له، وإن كان يؤخذ في الاعتبار إلى جوار الأسباب الأخرى.
رابعًا: أمَّا السبب الرابع فهو مهمٌّ جدًّا، ويكمن في إحساس مراد الثاني بأنَّ مستقبل الدولة العثمانيَّة صار في خطرٍ كبيرٍ بعد فَقْد وليِّ العهد الثاني، فلم يبقَ إلَّا الأمير محمد، فلو مات مراد الثاني لأيِّ سببٍ عارضٍ فإنَّ انهيار الدولة سيكون متوقَّعًا جدًّا، ولذلك من الممكن أن يكون تنازل مراد الثاني للأمير الصغير هو نوعٌ من دعم استقرار الدولة مستقبلًا، على أساس أنَّه يفعل ذلك في حياته، فحتى لو انسحب إلى مانيسا فهو يراقب الأمر من بعيد، وسيكون جاهزًا للظهور في أيِّ لحظةٍ تحتاجها الدولة، وسيقف إلى جوار ابنه إذا ما تطلَّب الأمر ذلك، وعلى ما أعتقد أنَّ مرادًا الثاني كان يرغب في القيام بهذه الخطوة منذ أكثر من عام عندما مات علي علاء الدين وليُّ العهد، ولكن ظروف الدولة العسكريَّة والسياسيَّة لم تكن تسمح بذلك، فلمَّا عقد السلطان معاهدتين مع المجر وقرمان، حان وقت تنفيذ الرغبة المؤجَّلة، ولهذا كان الأمر سريعًا بهذه الصورة، ممَّا قد يعني أنَّ الترتيب له كان معدًّا من قبل، وليس مستبعدًا أن يكون الأمر مرتَّبًا من قبل مع الصدر الأعظم خليل جاندرلي ، أو مع بعض القادة في الجيش.
إنَّ مراجعة تاريخ مراد الثاني يُؤكِّد أنَّ هذا السبب الرابع له مكانٌ في قصَّتنا؛ لأنَّه مرَّ بصراعاتٍ كثيرةٍ عندما تسلَّم الحكم عام 1421م، ولولا توفيق الله عز وجل له ما وصل إليه الحكم قط، ولولا لطف الله بالدولة العثمانيَّة لانقسمت في هذه الصراعات عدَّة أقسام، فأراد مراد الثاني أن يُجَنِّب دولته مثل هذا المصير بالاطمئنان على مستقبلها تحت قيادة وليِّ العهد، ويُؤخَذ في الاعتبار أيضًا أنَّ مرادًا الثاني أدار الدولة بكفاءةٍ من أوَّل يومٍ تسلَّم فيه الحكم، وقد كان حينئذٍ في السابعة عشرة من عمره، ولم يكن أبوه السلطان محمد چلبي إلى جواره لموته المفاجئ، أمَّا الوضع الآن فأفضل؛ إذ إنَّ أمارات النجابة والذكاء عند الأمير محمد أعلى منها عند السلطان مراد الثاني يوم أن تولَّى الإمارة، والتربية التي تلقَّاها هذا الأمير الصغير أفضل من التربية التي تلقَّاها مراد الثاني في طفولته، بالإضافة إلى أنَّ السلطان نفسه سيكون موجودًا إلى جوار ولده إذا احتاج إليه، بينما كان مراد الثاني وحيدًا حين تولَّى العرش. كل هذه عوامل شجعت مرادًا الثاني على الإقدام على أخذ هذا القرار الجريء في وقتٍ سريع.
هل كان هذا القرار صائبًا إِذَنْ؟!
لا يُمكن الجزم بذلك! بل إنَّني أميل -على الرغم من كلِّ هذه المسوِّغات- إلى قول: إنَّ هذا القرار كان متسرِّعًا، ولم يكن سليمًا فيما أعتقد، وكان الأَولى أن يستمرَّ الأب في قيادة الدولة مع إعطاء مساحةٍ أكبر للأمير محمد، كأن يأتي به من مانيسا إلى أدرنة ليكون إلى جواره، وكأن يُوكِل إليه بعض مهامِّ الدولة الكبرى تحت إشرافه، فيكون الأمر متدرِّجًا بشكلٍ طبيعي؛ وذلك منعًا لحدوث فتنة، ولقطع رغبات الطامعين في الدولة، الذين يُمكن أن يسعوا لإصابة الدولة في مقتلٍ عند رؤية طفلٍ صغيرٍ يعتلي عرش البلاد في هذه الظروف الاستثنائيَّة.
أيًّا ما كان الأمر فإنَّ الأمير محمدًا صار سلطان البلاد، ومن هذا اليوم عُرِف «بمحمد الثاني»؛ لأنَّ محمدًا الأوَّل هو جدُّه محمد چلبي، الذي حكم من عام 1413م إلى عام 1421م[11]، وهذا هو اللقب الذي اشتهر في المراجع الأجنبيَّة (Mehmed II)، ويُكتب كذلك (Mehmet II)، وهو الذي سيُعرَف لاحقًا بعد فتحه للقسطنطينيَّة بمحمد الفاتح (The Conqueror)، فهذه كلُّها ألقابٌ للشخص نفسه.
هل مرَّ الأمر بسلام؟!
على المستوى الداخلي لم يحدث ما يُزْعِج، ممَّا يُوحِي أنَّ الأمر كان معدًّا له في الخفاء، ولم يُعلَن إلَّا في هذه اللحظة.
لكن على المستوى الخارجي كان تطوُّر الأحداث نتيجة هذا الخبر أكبر من كلِّ التوقُّعات!
لقد أثلج الخبر صدور المجريِّين والبولنديِّين والبابا في روما، وتحرَّك مبعوث البابا چوليانو سيزاريني لإقناع ڤلاديسلاڤ الثالث ملك بولندا والمجر، وكذلك چون هونيادي الزعيم المجري الكبير، لقطع المعاهدة مع الدولة العثمانيَّة، وتحريك حربٍ صليبيَّةٍ كبرى لإخراجهم من البلقان[12]، وأكَّد لهم سيزاريني أنَّه يجوز الحنث باليمين إذا كان مع الكفَّار «Infidels»، خاصَّةً إذا لم يكن مؤكَّدًا من البابا[13]، وجاء التأكيد من البابا أوچين الرابع بأنَّه لم يكن موافقًا على السلام مع المسلمين[14]!
هكذا يفعلون بالوعود!
هكذا يفعلون بالمواثيق التي أقسموا عليها بالأيمان!
هكذا هي دبلوماسيَّتهم!
نذكر هذا الموقف للأوروبِّيِّين، وإلى جواره نذكر شهادة المؤرِّخ الأميركي ذي الأصول المجريَّة بيتر شوجر Peter Sugar وهو يقول في حقِّ العثمانيِّين: «ومن الملاحظ أنَّ العثمانيِّين تمسَّكوا بما عقدوا من مواثيق واتفاقيَّات طالما حَفِظَ الأمراء الأوروبِّيُّون تلك المواثيق»[15]!
وهذه شهادةٌ تأتي في موضعها التاريخي المهم؛ حيث إنَّها أتت من عالِمٍ ذي أصولٍ مجريَّة، أي ينتمي إلى تلك الدولة التي حاربت العثمانيِّين طويلًا، وغدرت بهم في هذه المعاهدة.
لم يأخذ الأوروبِّيُّون وقتًا كبيرًا في التفكير. يذكر المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton أنَّ الجيوش الأوروبِّيَّة عبرت الدانوب بالقرب من بلجراد في الفترة ما بين 18 و22 سبتمبر 1444م[16]، فمعنى هذا أنَّ قرار نقض المعاهدة لم يأخذ إلَّا أيَّامًا قليلة بعد وصول خبر تنازل مراد الثاني عن العرش لابنه محمد الثاني.
اتَّحدت في هذه المعركة جيوش المجر وبولندا، مع فِرَق عسكريَّة من الإفلاق (جنوب رومانيا)، وكذلك مع بعض المتمرِّدين من بلغاريا[17] مع العلم أنَّ الإفلاق وبلغاريا كانتا تابعتين للدولة العثمانيَّة، ممَّا يعني أنَّ هذا انشقاق داخلي في الدولة. انضمَّت إلى هذه القوَّات مجموعة من السفن البحريَّة التابعة لغرب أوروبَّا على النحو التالي: ثمانية سفن باباوية، وثمانية أخرى من البندقيَّة، مع أربع سفنٍ من بورجاندي Burgundy الفرنسيَّة، وكذلك سفينتان من جمهوريَّة راجوزا Ragusa الإيطاليَّة، وانضمَّت إلى هذه القوَّات البحريَّة سفن الدولة البيزنطيَّة، وكان غرض هذه القوَّة البحريَّة هو غلق مضيق الدردنيل لمنع قوَّات الدولة العثمانيَّة من العبور من الأناضول إلى البلقان؛ وذلك لإعطاء الجيوش الأوروبِّيَّة الفرصة للتقدُّم السريع نحو العاصمة العثمانيَّة أدرنة، بغية استئصال الوجود العثماني من أوروبا بالكلِّيَّة[18].
تتفاوت المصادر بشدَّة في تحديد عدد الجيوش الصليبيَّة؛ تذكر المصادر التركيَّة أنَّ الجيوش الصليبيَّة تجاوزت المائة ألف مقاتل[19]، بينما تُؤكِّد المصادر الأوروبِّيَّة أنَّ العدد كان من عشرين ألفًا إلى ثلاثة وعشرين ألف مقاتلٍ[20][21]، وعادةً ما يكون هناك مبالغاتٌ بالزيادة والنقصان من كلِّ طرف، وقد تكون حقيقة الأعداد بينهما!
اختارت الجيوش الأوروبِّيَّة أن تتَّجه مباشرةً إلى ساحل البحر الأسود الغربي لتتجاوز القلاع العثمانيَّة في بلغاريا، وبذلك ستسير جنوبًا حتى تصل إلى أدرنة العاصمة، وستكون المباغتة بذلك كبيرة جدًّا للدولة العثمانيَّة؛ إذ سينتقل القتال إلى عقر دارها.
وصلت الأنباء المفزعة إلى السلطان الجديد محمد في أدرنة!
لم تكن الأمور أصلًا مستقرَّةً في قصر الحكم في أدرنة؛ فقد كانت هناك عداواتٌ بين رجال الدولة في القصر الحاكم. كان الصدر الأعظم خليل جاندرلي يُمثِّل حزبًا من كبار الشخصيَّات، بينما يُمثِّل زاجانوس باشا وشهاب الدين باشا حزبًا آخر، وهذان الأخيران كانا من المربِّين الشخصيِّين للأمير الصغير[22]. كان هذا الصراع الداخلي متوقَّعًا في ظلِّ غياب السلطان الكبير مراد الثاني، وإذا كان كلُّ حزبٍ من الحزبين يُريد فرض هيمنته فهذا هو الوقت المناسب!
في الحقيقة لم تكن الدولة العثمانيَّة بحاجةٍ لكلِّ هذه التداعيات في هذا التوقيت، ولكن هكذا سارت الأمور، نتيجة تنازل السلطان مراد الثاني لابنه الصغير محمد.
من ناحيةٍ عمليَّةٍ وَجَد السلطان الجديد نفسه أمام أزمةٍ قد تعصف بالدولة كلِّها.
لم يكن هناك بُدٌّ من الاستعانة بالسلطان المتقاعد مراد الثاني! رفض مراد الثاني القدوم أوَّل الأمر لكي لا يكسر ابنه، لكنَّ ابنه أرسل إليه رسالةً ذكيَّةً لم تجعل هناك خياراتٍ كثيرةً أمام السلطان صاحب الخبرة. قال محمد الثاني في أوَّل رسالةٍ يكتبها كسلطان: «إنْ كنَّا نحن البادشاه -أي السلطان بالتركيَّة- فإنَّنا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم، وإن كنتم أنتم فتعالوا دافعوا عن دولتكم»[23]!.
جاء السلطان مراد الثاني على رأس جيشٍ كبيرٍ من الأناضول، ولكنَّه فوجئ بالقوَّات البحريَّة الأوروبِّيَّة تقطع عليه طريق الدردنيل، ومع ذلك فقد وُفِّق لعبور المضايق عن طريق التعاون مع بعض سفن چنوة[24]، وچنوة كانت معادية دومًا للبندقيَّة، وحيث إنَّ البندقيَّة كانت في الحلف الصليبي وقفت چنوة إلى جوار مراد الثاني مع كونه مسلمًا!
كانت الجيوش الصليبيَّة قد اقتربت من مدينة ڤارنا Varna البلغاريَّة على ساحل البحر الأسود الغربي، فأسرع مراد الثاني بجيشه بعد عبوره المضايق، ومرَّ على أدرنة العاصمة، والتقى مع ولده في لقاءٍ سريع، ثم تركه في القصر الحاكم، وانطلق مسرعًا ليُقابل الجيوش الصليبيَّة قبل أن تتوغَّل أكثر في الأراضي العثمانية، ووصل بالفعل إلى جنوب ڤارنا في 7 نوفمبر 1444م، وضرب معسكره هناك[25].
في يوم (10 نوفمبر 1444م الموافق 28 رجب 848هـ) دارت موقعة ڤارنا، وهي واحدةٌ من أهمِّ المعارك في التاريخ الأوروبي كلِّه[26][27][28][29].
مع أنَّها كانت معركة يومٍ واحدٍ فإنَّ نتائجها كانت حاسمةً للغاية؛ في هذه المعركة قُتِل ملكُ بولندا والمجر ڤلاديسلاڤ الثالث، وقُتِل كذلك الكاردينال چوليانو سيزاريني، ومُزِّق الجيش الصليبي، وصار بين قتيلٍ وأسير، وهرب چون هونيادي القائد المجري الشهير بصعوبة[30].
هناك تفاصيل كثيرةٌ ذُكِرت عن هذه الموقعة الكبيرة؛ كتب عنها المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون خمسًا وعشرين صفحةً في كتابه عن الباباوات وحروبهم في الشرق[31]، وكتب عنها المؤرِّخ البولندي چون چيفرسون John Jefferson أكثر من ثمانين صفحةً في كتابه عن الحروب المقدَّسة بين الملك ڤلاديسلاڤ والسلطان مراد الثاني[32]، بينما كتب المؤرِّخ الإنجليزي كولن إمبر Colin Imber كتابًا كاملًا عن هذه المعركة[33]!
أجمع المؤرِّخون على فداحة الخسارة الأوروبِّيَّة في هذه المعركة، والأجمل هو أنَّ الكثير منهم ربط هذه الخسارة بالغدر الذي ارتكبه القادة الصليبيُّون في عهدهم مع الدولة العثمانيَّة!
يقول المؤرِّخ الألماني الشهير فرانز بابينجر Franz Babinger: «هكذا انتهت معركة ڤارنا، واحدة من أكثر الأحداث حسمًا، ليس في التاريخ العثماني فقط، ولكن في التاريخ الغربي كلِّه. لقد وُجِّهت ضربةٌ شديدةٌ للآمال النصرانيَّة في طرد العثمانيِّين من أوروبَّا. لمدَّة سنواتٍ قادمةٍ سيطر الإحباط على أوروبَّا النصرانيَّة. كان يُنْظَر لهزيمة الجيش الصليبي على أنَّها عقابٌ ربَّانيٌّ (Divine punishment) نتيجة الانتهاك لليمين المقدَّس الذي أقسمه الملك على الإنجيل في معاهدة سيجيد»[34]!
ويقول المؤرِّخ والقس التشيكي فرانسيس دڤورنيك Francis Dvornik: «عُوقِب الكاردينال سيزاريني على غدره بأنْ مُزِّق جيشه إلى قِطَع (Cut to pieces) في معركة ڤارنا عام 1444م، وفَقَدَ الملك ڤلاديسلاڤ، وممثِّل البابا (سيزاريني نفسه) حياتهما في ساحة القتال»[35]!
هكذا كان نصر ڤارنا العظيم!
إنَّه يومٌ من أيَّام الله حقًّا!
لقد تحقَّقت نتائج مهمَّة للغاية من هذه الموقعة كان لها آثارٌ مباشرةٌ وغير مباشرةٍ على مستقبل السلطان محمد الثاني، ومِنْ ثَمَّ يُفضَّل أن نقف وقفةً مع هذه الآثار..
الأثر الأوَّل: أحدثت المعركة دويًّا كبيرًا في أوروبَّا. يقول المؤرِّخ الألماني بابينجر: «أُصيبت الولايات الأوروبِّيَّة الملاصقة للدولة العثمانيَّة بالشلل من الخوف»[36]. ويتجاوز المؤرِّخ والقس الإنجليزي مانديل كريتون Mandell Creighton الولايات الأوروبِّيَّة المجاورة للدولة العثمانيَّة إلى أوروبَّا كلِّها فيقول: «ملأت أخبارُ هزيمة ڤارنا أوروبَّا بالذعر»[37]!
لقد أعطت هذه المعركة هيبةً كبيرةً للدولة العثمانيَّة، وسيكون لهذا أثرٌ مباشرٌ في حكم السلطان محمد الثاني.
الأثر الثاني: كانت هذه المعركة هي التي حدَّدت مستقبل الدولة البيزنطيَّة؛ فقد ظهر من خلال الأحداث أنَّ الدولة العريقة صارت غير قادرةٍ بالمرَّة على الدفاع عن نفسها، حتى صارت تستجدي العون من أعدائها الكاثوليك، فلمَّا هُزِم الكاثوليك في ڤارنا أدركت الدولة البيزنطيَّة أنَّ مصيرها صار محتومًا، وأنَّ سقوطها في يد العثمانيِّين صار مسألة وقت، ومع أنَّ الدولة البيزنطيَّة كانت متعاونةً مع الكاثوليك في معركة ڤارنا فإنَّ ردَّ فعل إمبراطورهم چون الثامن John VIII كان عجيبًا بعد المعركة! يقول المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي George Finlay، وهو يسخر من الإمبراطور البيزنطي: «لقد تأكَّد الإمبراطور البيزنطي چون الثامن من تهوُّر وعدم اتِّزان القوى الأوروبِّيَّة، ولذلك ففي اللحظة التي سمع فيها بالنصر العظيم للسلطان مراد الثاني في ڤارنا أرسل له سفارةً لتهنئته، ولتأكيد سيادته عليه، كما (استجداه) في طلب إعادة التحالف معه»[38]! ويقول المؤرِّخ الروسي ألكسندر ڤاسيليڤ Alexander Vasiliev، وهو يُعَدُّ أحد أهمِّ من كَتَبَ عن الدولة البيزنطية: «كانت معركة ڤارنا هي المحاولة الأخيرة لأوروبَّا الغربيَّة لمساعدة الدولة البيزنطيَّة؛ بعد هذه المعركة تُرِكَت القسطنطينيَّة لمصيرها»[39]!
هكذا إِذَنْ يُمكن اعتبار أنَّ معركة ڤارنا كانت مقدِّمة منطقيَّة لفتح القسطنطينيَّة بعد تسع سنوات، أي في عام 1453م.
الأثر الثالث: على العكس من الوضع المذري للدولة البيزنطيَّة في القسطنطينية، كان الحال في الجزء اليوناني التابع للدولة البيزنطيَّة، وهو مقاطعة المورة Despot of the Morea، وكان هذا الجزء تحت قيادة أخي چون الثامن، وهو الأمير قُسطنطين Constantine، الذي سيُصبح مستقبلًا إمبراطورًا للدولة البيزنطيَّة[40]. لقد كان لهذا الأمير طموحاتٌ كبيرة، بل إنَّه استغلَّ فترة تنازل مراد الثاني عن الحكم لابنه محمد في صيف 1444م -أي قبل معركة ڤارنا- وقام بضمِّ بعض المدن اليونانيَّة مثل مدينتي ثيفا Thebes، وأثينا Athens، وكانت الأخيرة تحت حكم أمير فلورنسي تابعٍ للدولة العثمانيَّة هو نيرو الثاني Neiro II، وقد أجبره قُسطنطين على دفع الجزية له[41]، وكان هذا تعدِّيًا صارخًا على الدولة العثمانيَّة. بعد موقعة ڤارنا ازداد قُسطنطين عنادًا، وظلَّ محتفظًا بما حصل عليه من أملاك. أدرك مراد الثاني، وكذلك محمد الثاني، أنَّ هذا الرجل سيكون معاديًا للدولة العثمانيَّة بدرجةٍ كبيرةٍ في الفترة القادمة، ولكن لم يؤخذ تجاهه موقف لانشغال الدولة العثمانيَّة بالقوى الأوروبِّيَّة الغربيَّة في هذه الفترة.
الأثر الرابع: أنهت معركة ڤارنا وموت الملك البولندي ڤلاديسلاڤ الثالث فكرةَ الاتِّحاد بين المجر وبولندا تمامًا[42]، وهذا بلا شَكٍّ كان في مصلحة الدولة العثمانيَّة؛ إذ إنَّ الاتِّحاد بين هاتين القوَّتين الكبيرتين كان يُمثِّل خطرًا داهمًا على الدولة، ولقد صار توجُّه المجر بعد هذه المعركة إلى الإمبراطوريَّة النمساويَّة بدلًا من بولندا، وهذا كان أهون في المرحلة التاريخيَّة المقبلة؛ لأنَّ النمسا لم يكن لها حدودٌ مع الدولة العثمانيَّة، بينما كانت بولندا تُمثِّل الحدود الشماليَّة للدولة العثمانيَّة، ومن هنا صار الانقسام بين بولندا والمجر مفيدًا من الناحية العسكريَّة للعثمانيِّين.
الأثر الخامس: كان الأثر في بولندا كبيرًا جدًّا! لقد كان هناك حزبان متعارضان في بولندا بخصوص مسألة الصدام مع الدولة العثمانيَّة. كان أحدهما يُشجِّع بقوَّة الدخول في حربٍ صليبيَّة، بينما كان الآخر يتحفَّظ بشدَّة. يقول المؤرِّخ البولندي أوسكار هاليكي Oscar Halecki: «بعد موقعة ڤارنا صارت اليد العليا في بولندا لأولئك الذين يُعارضون حربًا صليبيَّةً للدولة العثمانيَّة»[43]. وقد قال المؤرِّخ البولندي هذا الكلام مع أنَّ الذي حَكَمَ بولندا بعد قتل ڤلاديسلاڤ الثالث هو أخوه كازيمير الرابع Casimir IV، وهو كما يقول عنه المؤرِّخ السويسري الشهير چوهانس ڤون مولر Johannes von Müller: «هو واحدٌ من أعظم ملوك أوروبَّا في زمانه»[44]. ومع ذلك فصدمة ڤارنا جعلت هذا الملك العظيم يُقرِّر عدم الدخول مع الدولة العثمانيَّة في صدام، وهذا بلا شَكٍّ كان له مردوده الإيجابي على فترة حكم محمد الثاني.
الأثر السادس: دخلت المجر في حربٍ أهليَّةٍ بعد هذه المعركة نتيجة غياب الحكم البولندي، وعودة الصراع على كرسي الحكم بعد مقتل ڤلاديسلاڤ الثالث، وزهد أخيه كازيمير الرابع في عودة الاتِّحاد مع المجر، وتفاصيل هذه الحرب الأهليَّة كثيرة، ويُمكن الرجوع إليها في مصادر تاريخ المجر[45]، لكن الشاهد أنَّ هذه الحرب الأهليَّة الداخليَّة أمَّنت الحدود العثمانيَّة إلى حدٍّ ما فترةً من الزمان، على الرغم من وجود القائد العسكري الفذ چون هونيادي.
الأثر السابع: أدرك الأوروبِّيُّون مع موقعة ڤارنا أنَّ اقتلاع العثمانيِّين من البلقان صار أمرًا مستحيلًا، وهذا له أثره النفسي الكبير في كلِّ الأوروبِّيِّين، سواء الحكَّام منهم أو المحكومون. يقول المؤرِّخ السياسي الأميركي چاكوب جريچيل Jakub Grygiel: «كانت معركة ڤارنا من أشدِّ الهزائم الأوروبِّيَّة في كلِّ تاريخ العلاقات الأوروبِّيَّة العثمانيَّة. لقد أنهت هذه المعركة كلَّ المحاولات لطرد العثمانيِّين من أوروبَّا»[46]. ويُؤكِّد المؤرِّخ البولندي إدوارد بوتكوڤسكي Edward Potkowski على هذه الحقيقة فيقول: «أدَّى الذعر الناتج عن مذبحة ڤارنا إلى عدم رغبة ملوك المجر وألمانيا وبولندا في حرب الأتراك، ولمدَّة قرونٍ بعد المعركة»[47]! وقد انتقلت هذه الروح السلبيَّة بشكلٍ تلقائيٍّ إلى شعوب البلقان، بل كان المؤرِّخ والسياسي الإنجليزي بيري أندرسون Perry Anderson صريحًا للغاية عندما فسَّر عدم رغبة الشعوب البلقانيَّة في مقاومة العثمانيِّين، خاصَّةً بعد موقعتي نيكوبوليس عام 1396م، وڤارنا 1444م، بأنَّ ذلك نتيجة الظلم الشديد الذي أوقعه نبلاء أوروبَّا النصارى على شعوبهم قبل الفتح العثماني، ممَّا أدَّى إلى هشاشة البنيان الاجتماعي في هذه المنطقة، ومِنْ ثَمَّ قَبِلَت هذه الشعوب قَدَرَها الجديد، بل ذكر المؤرِّخ الإنجليزي أنَّ الحكم العثماني لهم كان مثل تحرير الفقراء «Liberation of the poor»[48].
من المؤكَّد أنَّ هذه النفسيَّة المتقبِّلة للوجود العثماني؛ سواءٌ عن اضطرارٍ عند الأمراء والملوك لذعرهم، أو عن رضا وسكون من الشعوب لراحتهم، قد ساعدت الدولة العثمانيَّة على الاستقرار، سواء في الفترة المتبقية في عهد مراد الثاني، أو في فترة محمد الثاني بعد ذلك.
الأثر الثامن: أدَّت الملابسات التي حدثت قبل، وأثناء، وبعد هذه المعركة إلى اكتساب خبراتٍ كثيرةٍ من الأحداث، وهذه كلها صبَّت في التكوين السياسي للسلطان الجديد محمد الثاني، وستكون مُعِينةً له على التعامل مع ظروفٍ مشابهةٍ في المستقبل، وأحسب أنَّ محمدًا الثاني كان يستحضر ذكريات ڤارنا -مع أنَّه لم يُشارك فيها بالحضور- في أكثر من موقفٍ في فترة سلطنته، ويُمكن أن نُحصي من هذه الخبرات ما يلي:
1. عرف محمد الثاني خطورة مركز البابا الكاثوليكي، وقدرته على تحريك الجيوش في اتِّجاهٍ واحد، على الرغم من وجود التنازع أحيانًا بين هذه الجيوش؛ فالقوَّة الروحيَّة والسلطة الدينيَّة عنده كانت تُحقِّق منافع ضخمة للمعسكر الأوروبِّي.
2. أدرك محمد الثاني خطورة جمهوريَّة البندقيَّة العملاقة، وهي صاحبة أقوى أسطولٍ بحريٍّ في العالم آنذاك، وتمتلك عدَّة موانئ في اليونان، وقد وقفت إلى جوار المجر وبولندا في حربهما للعثمانيِّين، وكادت بأسطولها أن تمنع مرادًا الثاني من العبور من آسيا الصغرى إلى البلقان، ولو أفلحت في ذلك لانهارت أدرنة أمام الجيوش الصليبية.
3. تعلَّم محمد الثاني في هذه الأحداث قيمة الاستفادة من الموازنات السياسيَّة بين القوى المتصارعة؛ فقد استغلَّ مراد الثاني تحقُّق العداء بين چنوة والبندقيَّة، واستخدم السفن الچنويَّة في العبور إلى البلقان، ومِنْ ثَمَّ تحقَّق له السبق وتغيَّر مسار الأحداث، وسوف تكون لمثل هذه الموازنات أدوارٌ كثيرةٌ في حياة السلطان محمد الثاني بعد ذلك.
4. عرف محمد الثاني طبيعة المعاهدات عند ملوك أوروبَّا وزعمائها الدينيِّين، فما أسهل نقض المعاهدات عند رؤية مصلحة معيَّنة، فأدرك عمليًّا أنَّ المعاهدات لا معنى لها بغير قوَّة، فما لم تكن لدى الدولة قوَّة لإجبار عدوِّها على احترام المعاهدة فإنَّ المعاهدة تنهار في أقرب فرصة، وللأسف فإنَّ المثاليَّات والأخلاقيَّات نادرةٌ في عالم السياسة!
5. يلحق بالنقطة السابقة خبرةٌ جديدةٌ تعلَّمها محمد الثاني، وهي أنَّ الدول تُغيِّر ولاءها بسهولةٍ تبعًا للمصلحة؛ فإمارة الإفلاق الرومانيَّة التابعة للدولة العثمانية باتِّفاقيَّاتٍ مسبقة، غيَّرت ولاءها في أثناء الإعداد لمعركة ڤارنا، بل اشتركت بجيشٍ يتراوح بين أربعة آلافٍ وسبعة آلاف جنديٍّ مع الجيوش الصليبيَّة ضدَّ الجيش العثماني[49]، وسوف تُغيِّر ولاءها من جديدٍ لصالح الدولة العثمانيَّة في عام 1446م عندما تتغيَّر المصالح آنذاك[50]!
6. يُضاف إلى هذه الخبرات خبرة السرعة والمباغتة؛ فالمحلِّلون لموقعة ڤارنا يُشيدون بسرعة مراد الثاني في انطلاقه نحو ڤارنا، ويُعلِّقون كذلك على تباطؤ الجيوش الصليبيَّة في حركتها نحو ڤارنا، أو إغلاقها للمضايق البحريَّة عند الدردنيل[51]، وهذا الإدراك لعامل سرعة القرار وأهميَّة الوقت، سيكون له دورٌ كبيرٌ في حياة السلطان الجديد محمد الثاني.
الأثر التاسع: استغلَّ مراد الثاني الانتصار في ڤارنا لتدعيم العلاقات مع العالم الإسلامي؛ فأرسل رسائل ببشريات النصر إلى القاهرة عاصمة دولة المماليك، وقد أحسن السلطان چقمق سلطان المماليك استقبال السفارة، وأقام الاحتفالات بالقاهرة[52]، وكانت هذه بادرةً طيِّبةً ساعدت على تدعيم العلاقات بين الدولتين الإسلاميَّتين الكبيرتين، وهذا الأسلوب من الرسائل الودِّيَّة المتبادلة سيستعمله بعد ذلك السلطان محمد الثاني، ممَّا سيُخفِّف من التوتُّر بينه والمماليك.
هذه بعض الآثار التي رأيناها لهذه الموقعة الكبيرة في هذا التحليل السريع، وبعد قراءة هذه الآثار يُمكن أن نفهم كلمة المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون حين قال: «ڤارنا نقطة تحوُّلٍ Turning point في تاريخ شرق أوروبَّا»[53].
***
على الرغم من أنَّ مرادًا الثاني رأى الأثر المباشر لتنازله لابنه الصغير محمد الثاني عن العرش، وتحرُّك الجيوش الصليبيَّة فورًا إلى دولته ناقضين للعهد، على الرغم من رؤيته هذا الأثر الخطر، فإنَّه قرَّر أن يعود بعد نصره العظيم في ڤارنا إلى عزلته من جديد في مانيسا، مُعْرِضًا عن نصيحة الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي، وقادة الإنكشاريَّة، بالبقاء في كرسي السلطنة منعًا لأيِّ تطوُّراتٍ أوروبِّيَّة[54].
والحقُّ أنَّني أرى في هذا التصرُّف من مراد الثاني خطأً شرعيًّا؛ فليس من المقبول أن يُسلَّم حكم الدولة إلى طفلٍ سيصل بصعوبة إلى الثالثة عشرة من عمره، مهما كان هذا الطفل ذكيًّا أو ماهرًا؛ لأنَّ هذا الوضع سيفتن القريب والبعيد على حدٍّ سواء، فها هم الأوروبِّيُّون قد نقضوا عهدهم نتيجة رؤيتهم لهذا الوضع، ومن المحتمل أن يقوم غيرهم بما قاموا به، أو تحدث فتنةٌ داخليَّةٌ في الدولة، ويطمع الطامعون في تسيير الأمور لصالحهم. نعم كان الوضع بعد انتصار ڤارنا أفضل، لكن غياب مراد الثاني عن الساحة قد يمنع من جني ثمار هذا النصر، وقد يُضيِّع على الدولة فرصًا في ظلِّ تجربة السلطان الجديد محمد الثاني لأمور الحكم.
استمرَّ حكم السلطان محمد الثاني للدولة العثمانيَّة من وقت تنازل مراد الثاني له في أغسطس 1444م إلى شهر سبتمبر 1446م -أي سنتين كاملتين- ومعظم المؤرِّخين يُؤكِّدون أنَّ حكم السلطان محمد الثاني كان متَّصلًا في هاتين السنتين[55][56][57]، بينما يرى آخرون أنَّ السلطان مرادًا الثاني عاد للحكم في أثناء هاتين السنتين لمدَّة أحد عشر شهرًا من يناير 1445م إلى ديسمبر 1445م؛ أي أنَّ حكم محمد الثاني لم يكن متَّصلًا في هاتين السنتين[58].
وبصرف النظر عن هذا أو ذاك فإنَّه من الواضح أنَّ الأمور لم تكن تسير بشكلٍ طبيعيٍّ في هذه الفترة، وكانت هناك بعض المشكلات الناجمة عن وجود طفلٍ صغيرٍ في كرسي الحكم، ويُمكن ملاحظة بعض هذه المشكلات على النحو التالي:
أوَّلًا: كان الوضع في شبه جزيرة المورة في اليونان مضطربًا؛ معظم اليونان في ذلك الوقت كان تابعًا للدولة البيزنطيَّة، وكانت تحت حكم قُسطنطين، وهو أخو چون الثامن إمبراطور الدولة البيزنطيَّة، وعلى عكس السلوك السلمي الذي اختاره چون الثامن بعد هزيمة ڤارنا اختار قُسطنطين التصعيد، واحتلَّ بعض المناطق التابعة للدولة العثمانيَّة، وفَرَضَ الجزية على بعض الأمراء الأوروبِّيِّين التابعين للعثمانيِّين، ومع هذا التطوُّر السلبي في سير الأمور في اليونان إلَّا أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تأخذ موقفًا إيجابيًّا، وظلَّ الوضع كما هو عليه.
ثانيًا: حدث تطوُّرٌ مؤسفٌ في الأحداث في المناطق الشماليَّة من الدولة العثمانيَّة والملاصقة لإمارة الإفلاق، وكانت إمارة الإفلاق تابعةً للدولة العثمانيَّة، ولكن اشترك جيشها بموافقة أميرها ڤلاد الثاني Vlad II الشهير بڤلاد دراكول Vlad Dracul، في معركة ڤارنا مع الجيش الصليبي ضدَّ العثمانيِّين، وبعد المعركة واصل ڤلاد الثاني أعماله العدائيَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة؛ فقد استغلَّ وجود أسطولٍ فرنسيٍّ في البحر الأسود كان قد هاجم أحد الأساطيل العثمانيَّة، وقام بالتعاون مع قائده -وهو واليراند أمير مقاطعة واڤرين الفرنسية Walerand of Wavrin- في تدمير قلعةٍ عثمانيَّةٍ عند مدينة توتراكان Tutrakan (أقصى شمال شرق بلغاريا)، ثم قاما بحصار مدينة سيليسترا Silistra البلغاريَّة، ولكنَّهما لم يُفلحا في إسقاطها، فقاما بحصار حصن چورچيو Giurgiu، ثم وافقت الحامية العثمانيَّة على ترك الحصن والرحيل في مقابل الأمان، فوافق ڤلاد الثاني، وعندما خرج العثمانيُّون باغتهم الرومانيُّون والفرنسيُّون، وقاموا -كما يعترف المؤرِّخ الروماني كاميل موريشانو Camil Mureșanu- باغتيالهم عن بكرة أبيهم[59]!
حدث هذا الغدر في شهر سبتمبر من عام 1445م، ولم تأخذ الدولة العثمانيَّة موقفًا يُوازي الحدث، ولولا لطف الله لتطوَّر الأمر أكثر من ذلك؛ فقد دخل الشتاء في هذا العام مبكِّرًا ممَّا منع الجيش الروماني والفرنسي من مواصلة التعدِّي على شمال الدولة العثمانيَّة.
ثالثًا: مع أنَّ الأمور لم تكن مستقرَّةً في المجر؛ إذ دارت فيها حربٌ أهليَّةٌ للوصول إلى كرسي الحكم، فإنَّ الأوضاع كانت تسير في اتِّجاه صعود چون هونيادي إلى منصبٍ مهم، مع أنَّه ليس من العائلة الملكيَّة الحاكمة، وقد تطوَّر الأمر لصالحه إلى درجة أنَّه بدأ يُراسل البابا وملوك أوروبَّا لشنِّ حملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ على الدولة العثمانيَّة[60]، ولكن يبدو أنَّ صدمة ڤارنا كانت مانعةً للجميع من التفاعل معه، ومع ذلك فقد كان وجوده بهذه القوَّة نذيرًا بالخطر للدولة العثمانيَّة، وقد انتهت الأمور لصالح چون هونيادي في المجر؛ حيث قرَّر مجلس الشيوخ المجري (الدايت Diet) في نهاية الأمر تولية أحد أطفال العائلة الحاكمة -وهو لاديسلاس Ladislaus- مُلْكَ المجر، وذلك تحت رعاية حاكمٍ عسكريٍّ هو چون هونيادي، مع إعطائه لقب «الحاكم Governor»، وهو لقبٌ جديدٌ في هذه الحقبة التاريخيَّة اقتضته الظروف التي تمرُّ بها الدولة[61]. كان هذا التطوُّر في شهر يونيو 1446م، وكان يُنذر بتدبير چون هونيادي لعملٍ عسكريٍّ على الدولة العثمانيَّة، التي لم تأخذ موقفًا عسكريًّا واضحًا تجاه المجر منذ نهاية أحداث موقعة ڤارنا عام 1444م.
رابعًا: كان الوضع في ألبانيا على الدرجة نفسها من السوء؛ فالمتمرِّد إسكندر بك يزداد قوَّة، بل يتوسَّع في الأراضي العثمانيَّة، وقد أخذت الدولة العثمانيَّة موقفًا عسكريًّا ضعيفًا تجاهه في هذه الفترة كانت له نتائج سلبيَّة كبيرة، وهذا الموقف كان إرسال جيشٍ من تسعة آلاف مقاتلٍ بقيادة فيروز باشا، وقد التقى الجيش مع قوَّات إسكندر بك عند جبل موكرا Mokra بمقدونيا شرق ألبانيا، وللأسف تعرَّض الجيش العثماني لهزيمةٍ كبيرةٍ في يوم 10 أكتوبر 1445م حيث قُتِل القائد العثماني فيروز باشا[62]، وتذكر المصادر الألبانيَّة المعاصرة أنَّ قتلى الجيش العثماني بلغوا ألفًا وخمسمائة قتيل[63]!
ومع فداحة المشكلة إلَّا أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تأخذ موقفًا حاسمًا يُوازي الحدث.
خامسًا: كانت البندقيَّة في مأزقٍ كبير؛ فهي دولةٌ تعتمد في حياتها على التجارة، والدولة العثمانيَّة بالنسبة إليها وسطٌ مناسبٌ جدًّا لذلك؛ فهي في حدِّ ذاتها دولةٌ واسعةٌ ذات قوَّةٍ شرائيَّةٍ كبيرة، بالإضافة إلى أنَّها دولةٌ وسيطةٌ بين الشرق والغرب، أو بين آسيا وأوروبَّا، وقد غامرت البندقيَّة بالدخول في الحرب الصليبيَّة للعثمانيِّين في ڤارنا على أمل إخراجهم تمامًا من البلقان، ومِنْ ثَمَّ ينفردون بالتجارة في شرق أوروبَّا، ولهذا نقضوا المعاهدة التي كانوا قد عقدوها قبل ذلك مع مراد الثاني عام 1430م، التي كانت تسمح لهم بالتجارة في الموانئ العثمانيَّة، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وهُزِمت الجيوش الصليبيَّة، وخسرت البندقيَّة عسكريًّا وسياسيًّا، والأهم من ذلك اقتصاديًّا.
الآن، كما يقول المؤرِّخ الأميركي چون فريلي John Freely، ستُحاول البندقيَّة استغلال حداثة سنِّ السلطان الجديد في تجديد المعاهدة السابقة، وكأنَّ شيئًا لم يكن[64]! وحيث إنَّ البابا كان يرفض أن تعود البندقيَّة لعلاقاتها التجاريَّة مع الدولة العثمانيَّة، فإنَّ مجلس الشيوخ البندقي كتب رسالةً إلى البابا يُوضِّح فيها الخسارة التي تُعانيها البندقيَّة، ويذكر أنَّ هناك إمارات وممالك أوروبِّيَّة أخرى تعقد سلامًا مع العثمانيِّين، ولذلك فهم يُريدون المعاملة بالمثل! ثم قام مجلس الشيوخ المكوَّن من خمسةٍ وتسعين فردًا بالتصويت على هذه الرسالة، فوافقت عليها الأغلبيَّة الساحقة بشكلٍ عجيب؛ حيث صوَّت بالموافقة واحدٌ وتسعون عضوًا، ورفض اثنان فقط، بينما امتنع عن التصويت اثنان كذلك[65]! إلى هذه الدرجة يُريد البنادقة العودة إلى السلام مع الدولة العثمانيَّة، وكانوا يُريدون الأمر بهذه السرعة قبل أن يعود مراد الثاني إلى الحكم في أيِّ ظرف، فعندها قد يضع شروطًا مذلَّةً عليهم لا يقدرون على تطبيقها.
والواقع أنَّه تمَّ للبنادقة ما أرادوا! ولقد عُقِدَت المعاهدة مع السلطان الجديد محمد الثاني في فبراير 1446م، وجُدِّدَت لهم المزايا التي كانوا يتمتَّعون بها في معاهدة 1430م[66]، ويُؤكِّد بابينجر على تشابه المعاهدتين[67]، وأحسبُ أنَّ الدولة العثمانيَّة لو كانت في حالتها الطبيعيَّة، ولو كان مراد الثاني في مقام السلطان، لأمكن للدولة العثمانيَّة أن تُحقِّق مكاسب أضخم من هذه المعاهدة، وقد ذكر بابينجر أنَّ مجلس الشيوخ البندقي أوصى المفاوضين البنادقة بمحاولة تجنُّب وضع بندٍ يفرض ضريبةً مُذِلَّةً (Humiliating) على جمهوريَّة البندقيَّة[68]، فمعنى ذلك أنَّ هذا الأمر كان متوقَّعًا لولا الظروف الاستثنائيَّة التي تمرُّ بها الدولة العثمانيَّة.
سادسًا: ظهرت للسلطان الجديد محمد الثاني رغبةٌ واضحة -تحت تأثير زاجانوس باشا وغيره من المربِّين الملازمين له- في حصار القسطنطينيَّة، بل فتحها، ومع أنَّ هذا الطموح مشروع، بل محمود، فإنَّه كان مبكِّرًا للغاية، ولم يكن له الإعداد الكافي الذي يكفل له النجاح، ومِنْ ثَمَّ فقد تكون خسارة الدولة العثمانيَّة كبيرةً إذا ما حاصرت القسطنطينيَّة في هذه الظروف، ولذلك فقد قام الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي بمراسلة السلطان المتقاعد مراد الثاني في مانيسا يُخبره بهذه النوايا المتسرِّعة للسلطان الطموح، ويُفسِّر ذلك العزم بأنَّه عدم نضوج[69]. والواقع أنَّ حكم الصدر الأعظم في هذه المرحلة كان سليمًا؛ لأنَّنا سنرى بعد ذلك أنَّ فتح القسطنطينيَّة كان يحتاج إعدادًا كبيرًا لشدَّة حصانتها، كما كشفت لنا هذه المراسلات أنَّ بلاط الحكم في أدرنة كان منقسمًا إلى معسكرين، وأنَّ هناك فريقًا مع السلطان الجديد، وفريقًا ضدَّه، وهذا الانقسام يحمل بوادر شرٍّ قد يعصف بالدولة العثمانيَّة. وهناك من المؤرِّخين مَنْ يرى أن حزب زاجانوس وشهاب الدين كان يدفع محمدًا الثاني في اتجاه حرب القسطنطينية؛ لكون خليل جاندرلي يدفع في اتجاه السلم مع البيزنطيين[70]، وهكذا لم تعد مصلحة الدولة هي الأساس الذي ينطلق منه المستشارون، إنما صارت مصلحة كل حزب.
سابعًا وأخيرًا: دعمًا للنقطة السابقة من وجود بوادر انقسامٍ في الدولة العثمانيَّة، نذكر أنَّه في شهر أبريل 1446م حدثت ثورةٌ من الجنود الإنكشاريَّة في أدرنة يُطالبون بزيادةٍ في أجورهم، وللضغط على السلطان الصغير قاموا بحرق بعض المنشآت التجاريَّة في العاصمة ممَّا أدَّى إلى رضوخ السلطان لطلبهم، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها في تاريخ الدولة العثمانيَّة[71].
هذا هو الوضع في هاتين السنتين العصيبتين في تاريخ الدولة العثمانيَّة.
وهذا هو ما دعا المؤرِّخ الچورچي ألكسندر ميكابريدز Alexander Mikaberidze إلى القول: «إنَّ محمدًا الثاني حكم سنتين حكمًا هشًّا إلى أن أسقطه الإنكشاريَّة بثورةٍ في عام 1446م»[72]. بل وصف المؤرِّخ الإنجليزي الأميركي چون ميدلتون John Middleton هذه الفترة من الحكم بأنَّها كانت فشلًا بعد فشل[73]!
والحقُّ أنَّني لا ألوم على محمد الثاني في ذلك في شيء!
فعدم خبرته وضعف قدرته على الحكم على الأمور أمرٌ طبيعيٌّ في هذه السنِّ المبكرة، خاصَّةً أنَّه يحكم دولةً ديناميكيَّةً فيها حركةٌ واسعة، ولها أعداء في أكثر من جبهة، والحسابات السياسيَّة لها معقَّدةٌ حتى على أعتى رجال السياسة، فما بالنا بطفلٍ صغيرٍ يصعد للمرَّة الأولى في عمره إلى مثل هذا المنصب، كما أنَّه من المتوقَّع ألَّا تقع الهيبة في قلوب العسكريِّين إذا ما رأوا هذا الطفل في كرسي الحكم؛ فإدارة العسكريِّين أصلًا تحتاج إلى قبضةٍ من حديد، وإلى قراراتٍ جريئةٍ قويَّة، وما لم يشعر الجنود بالرهبة من القائد فإنَّهم سينقلبون عليه حتمًا لشعورهم بقوَّتهم وقدرتهم على استخدام السلاح، ولهذا رفض رسول الله ﷺ إعطاء الإمارة لأبي ذرٍّ رضي الله عنه مع كونه من أتقى الناس وأورعهم، وعلَّل رفضه بكلماتٍ قليلةٍ موجزةٍ للغاية، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ...»[74]. فالضعف الظاهر على طفلٍ لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره أمرٌ واضحٌ لكلِّ الناس فضلًا عن العسكريِّين، وهو أمرٌ واضحٌ كذلك لكلِّ أعداء الدولة، سواءٌ في اليونان، أو ألبانيا، أو المجر، أو البندقيَّة، وهذا ما أفرز المواقف التي ذكرناها في هاتين السنتين.
إنَّني لا ألوم على محمد الثاني في هذه الأحداث، ولكن ألوم بشدَّةٍ على مراد الثاني الذي ارتكب خطأً فادحًا بتنازله عن العرش لابنه وهو في هذه السنِّ المبكرة، والأَولى شرعيًّا في مثل هذه الأمور إنْ لم يكن قادرًا بالمرَّة على إدارة البلاد -لإصابته بمرضٍ أو نحو ذلك- أن يُعطي الحكم لمن يقدر على إدارة الدولة بحكمة، ولو لم يكن من العائلة العثمانيَّة أصلًا، ومع ذلك فإنَّنا سنرى أنَّ مرادًا الثاني سيعود للحكم بعد هاتين السنتين السيِّئتين، وسيُعيد الأمور إلى نصابها، ممَّا يُؤكِّد أنَّه وإنْ كان مرهقًا أو راغبًا في العزلة، فما زالت لديه القدرة على الإدارة بحكمة، والقيادة بقوَّة، وهذا ما يُؤكِّد خطأه عند التنازل لابنه عن العرش.
أجبرت الأحداث المتلاحقة السلطان مرادًا الثاني على العودة في قرار التنازل لابنه محمد الثاني، وعاد إلى أدرنة ليتسلَّم الحكم من جديد في سبتمبر 1446م[75]، وهدأت الأمور فورًا في أدرنة العاصمة، وانسحب محمد الثاني إلى مانيسا مرَّةً ثانيةً ليتولَّى من جديد إدارة هذه الولاية، وكان حينئذٍ قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره بستَّة شهور[76].
ويبدو أنَّ الأحداث قد أثَّرت سلبًا في السلطان الصغير محمد الثاني، كما أثَّرت سلبًا في العلاقة بينه وبين الطاقم الحاكم المساعد له، والمكوَّن من الصدر الأعظم وكبار رجال الجيش والوزراء؛ لأنَّنا لم نسمع عن اسم محمد الثاني في الفترة الأولى من عودة مراد الثاني إلى الحكم -أي في أخريات عام 1446م، وعام 1447م- اللهمَّ إلَّا في مسألة زواج السلطان الصغير؛ إذ تزوَّج في آخر عام 1446م جلبهار خاتون Gülbahar Hatun، التي يُرجَّح أنَّها من أصولٍ ألبانيَّة[77]، ويبدو أنَّ هذا البعد عن الأحداث والانشغال بالزواج كان مقصودًا؛ ليستريح محمد الثاني من آلام هذه الفترة الصعبة، وينسى -أو يتناسى- ما كان بينه وبين الوزراء الكبار من مشكلاتٍ وخلافاتٍ وشقاقات، وذلك حتى يعود مرَّةً أخرى بنفسٍ مُقْبِلة، وروحٍ وثَّابة.
هل مرَّت هذه الفترة في حياة محمد الثاني دون فائدة؟!
على العكس من ذلك! لقد استفاد محمد الثاني عدَّة خبراتٍ في هذه الفترة، كان من أهمِّها معرفته بآليَّات الحكومة والإدارة، وممارسته للتعامل مع الوزراء وكبار رجال الدولة، كما أدرك فيها أهميَّة التعامل مع قادة الجيش بحزمٍ وصرامة، والجمع في قيادتهم بين الترغيب والترهيب، وكما تحقَّقت فائدةٌ مهمَّةٌ أخرى، وهي قبول الحكومة والشعب فكرة وجود محمد الثاني في كرسي العرش؛ لأنَّنا سنجد بعد عدَّة سنواتٍ عندما يعود محمد الثاني إلى حكم الدولة العثمانيَّة بعد وفاة أبيه أنَّ الأمور ستجري على ما يُرام، ولن يكون هناك من يُعكِّر صفو مسألة تولِّي العرش، وسنجد شابًّا صلبًا يستطيع أن يُدير الأمور بكفاءةٍ وحزم، ويأخذ عدَّة قراراتٍ حكيمة برؤيةٍ واضحة، وهذا كله من نتاج عوامل كثيرة، كان منها ولا شَكَّ الخبراتُ التي حصَّلها في فترة ولايته الأولى على البلاد[78].
[1] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية/ المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/125.
[2] Somel Selcuk Aksin Historical Dictionary of the Ottoman Empire [Book]. - Lanham, Maryland, USA : Scarecrow Press, 2003., p. 199.
[3] Emiralioglu Pinar Geographical Knowledge and Imperial Culture in the Early Modern Ottoman Empire [Book]. - Surrey, England : Ashgate publishing, Limited, 2014., p. 57.
[4] أوزتونا، 1988م صفحة 1/125.
[5] Somel, 2003, p. 199.
[6] Danişmend İsmail Hâmi Osmanlı Devlet Erkânı [Book]. - Istanbul : Türkiye Yayınevi, 1971, p. 10.
[7] Ágoston, et al., 2010, p. 236.
[8] أوزتونا، 1988م صفحة 1/125.
[9] Somel, 2003, p. 39.
[10] Williams J. Mark G. The Psychological Treatment of Depression [Book]. - Oxford, Uk : Routledge, 1995., p. 87.
[11] Berktay Halil, Koulouri Christina and Murgescu Bogdan Ottoman Empire [Book]. - Thessaloniki, Greece : Center for Democracy and Reconciliation in Southeast Europe, 2005., p. 28.
[12] Bisaha Nancy Creating East and West: Renaissance Humanists and the Ottoman Turks [Book]. - philadelaphia, Pennsylvania, USA : University of Pennsylvania Press, 2004., p. 24.
[13] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976., vol. 4, p. 273.
[14] Creighton Mandell A History of the Papacy During the Period of the Reformation [Book]. - London, Uk : Longmans, Green and Co, 1882., vol. 2, p. 249.
[15] بيتر شوجر: أوروبا العثمانية 1354 - 1804 / المترجمون عاصم الدسوقي. - القاهرة : دار الثقافة الجديدة، الأولى.، 1998م صفحة 31.
[16] Setton Kenneth Meyer, Hazard Harry W. and Zacour Norman P. A History of the Crusades [Book] / ed. Hazard Harry w. and Zacour Norman P.. - Madison, WI, USA : The University of Wisconsin Press, 1975., vol. 4, p. 273.
[17] Detrez Raymond Historical Dictionary of Bulgaria [Book]. - Lanham, Maryland, USA : Rowman & Littlefield, 2015., pp. 513-514.
[18] Setton, 1975, vol. 4, p. 274.
[19] أوزتونا، 1988م صفحة 1/127.
[20] Creighton, 1882, vol. 2, p. 249.
[21] Setton, 1975, vol. 4, pp. 273-274.
[22] Kia Mehrdad The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2017., vol. 1, p. 124.
[23] أوزتونا، 1988م صفحة 1/126.
[24] Bisaha, 2004, p. 24.
[25] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., pp. 37-38.
[26] Dvornik Francis The Slavs in European History and Civilization [Book]. - New Brunswick, NJ, USA : Rutgers University Press, 1962., p. 234.
[27] Detrez Raymond Historical Dictionary of Bulgaria [Book]. - Lanham, Maryland, USA : Rowman & Littlefield, 2015 , pp. 513-514.
[28] أوزتونا، 1988م الصفحات 126-127.
[29]محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية / المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م. - الطبعة الأولى، 1981م صفحة 158.
[30] Mikaberidze Alexander Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia [Book]. - California, USA : ABC-CLIO, 2011., vol. 1, p. 620.
[31] Setton, 1976, vol. 2, pp. 82-107.
[32] Jefferson John The Holy Wars of King Wladislas and Sultan Murad: The Ottoman-Christian Conflict from 1438-1444 [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2012., pp. 400-487.
[33]Imber Colin The Crusade of Varna, 1443-45 [Book]. - Hampshire, UK : Ashgate, 2006..
[34] Babinger, 1978, p. 40.
[35] Dvornik, 1962, p. 254.
[36] Babinger, 1978, p. 40.
[37] Creighton, 1882, vol. 2, p. 249.
[38] Finlay George A History of Greece: Mediaeval Greece and the empire of Trebizond, A.D. 1204 – 1461 [Book]. - [s.l.] : The Clarendon Press, Oxford, 1877., vol. 3, pp. 495-496.
[39] Vasiliev Alexander A. History of the Byzantine Empire, 324–1453 [Book]. - Wisconsin, USA : University of Wisconsin Press, 1958., vol. 2, p. 643.
[40] Nicol Donald M. The Last Centuries of Byzantium, 1261-1453 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1993., p. 346.
[41] Babinger, 1978, p. 48.
[42] أوزتونا، 1988م صفحة 1/127.
[43] Halecki Oskar From Florence to Brest 1439-1596 [Book]. - Rom, Italy : Sacrum Poloniae Millenium, 1958., pp. 75-76.
[44] Müller Johannes von The History of the World: from the Earliest Period to the Year of Our Lord 1783 [Book]. - Boston, USA : Thomas H. Webb and CO, 1842., vol. 3, p. 136.
[45] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001., p. 288.
[46] Grygiel Jakub J Great Powers and Geopolitical Change [Book]. - Baltimore, USA : The John Hopkins university press, 2006., p. 106.
[47] Potkowski Edward Warna 1444 (in Polish) [Book]. - Warsaw, Poland : Bellona, 2004., pp. 210-211.
[48] Anderson Perry Passages from Antiquity to Feudalism [Book]. - London, UK : Verso, 1974., pp. 292-293.
[49] Setton, 1975, vol. 4, p. 274.
[50] Treptow Kurt W. Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula [Book]. - [s.l.] : The Center of Romanian Studies, 2000., p. 52.
[51] Dvornik, 1962, p. 235.
[52] أوزتونا، 1988م صفحة 1/127.
[53] Setton, 1975, vol. 4, p. 274.
[54] Babinger, 1978, p. 41.
[55] Ágoston Gábor and Masters Bruce Alan Encyclopedia of the Ottoman Empire [Book]. - New York, USA : Infobase Publishing, 2010., p. 399.
[56] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009., p. 16.
[57] Middleton John World Monarchies and Dynasties [Book]. - New York, USA : Routledge, 2015., p. 598.
[58] أوزتونا، 1988م صفحة 1/127.
[59] Mureşanu Camil John Hunyadi: Defender of Christendom [Book]. - Iasi , Romanian : The Center for Romanian Studies, 2001., pp. 118-125.
[60] Teke Zsuzsa Hunyadi János és kora [John Hunyadi and his Times] (in Hungarian) [Book]. - Budapest : Gondolat, 1980., p. 154.
[61] Engel, 2001, p. 288.
[62] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999., p. 81.
[63] Tibbetts Jann 50 Great Military Leaders of All Time [Book]. - New Delhi, India : Vij Books, 2016., p. 567.
[64] Freely, 2009, p. 16.
[65] Babinger, 1978, p. 43.
[66] Ortega Stephen Negotiating Transcultural Relations in the Early Modern Mediterranean [Book]. - New York, USA : Routledge, 2016., p. 116.
[67] Babinger, 1978, p. 44.
[68] Babinger, 1978, p. 43.
[69] Freely, 2009, p. 17.
[70] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960., vol. 35, no. 3, p. 410.
[71] Imber Colin The Ottoman Empire 1300-1650 The Structure of Power [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 2009., p. 24.
[72] Mikaberidze Alexander Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia [Book]. - California, USA : ABC-CLIO, 2011., vol. 1, p. 620.
[73] Middleton John World Monarchies and Dynasties [Book]. - New York, USA : Routledge, 2015., p. 598.
[74] مسلم: باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825) واللفظ له، وأبو داود (2868)، والنسائي (3667).
[75] Freely, 2009, p. 16.
[76] Babinger, 1978, p. 47.
[77] Edmonds Anna G. Turkey's religious sites [Book]. - [s.l.] : Damko, Religious institutions, 1997., p. 211.
[78] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 76- 95.
التعليقات
إرسال تعليقك