التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ساعة الحقيقة هي التي سيتحدد فيها مصير القسطنطينية، هل ستُفْتَح؟ أم سيُرْفَع الحصار عنها؟
الثلاثاء: 29 مايو (20 جمادى الأولى 857 هجرية)
أعني بها الساعة التي سيتحدَّد فيها مصير القسطنطينيَّة! هل ستُفْتَح؟ أم سيُرْفَع الحصار؟ هل ستبقى الدولة البيزنطية العريقة؟ أم هذه لحظة الاندثار؟!
إنَّها الساعة التي بدأ فيها الهجوم النهائي على المدينة، وإذا لم ينجح فسيرفع الجيش العثماني -على الأغلب- يده عنها.
اختلف المؤرِّخون قليلًا في تحديد هذه الساعة. ذكر چون فريلي أنَّها الساعة الثانية من صباح يوم الثلاثاء 29 مايو[1]، وجعلها رنسيمان وكراولي قبل ذلك بنصف الساعة[2][3]، ومع ذلك فإنَّني عندما عدتُ إلى توقيت دخول الفجر في هذا اليوم من السنة، وتوقيت الشروق، وجدتُ أنَّ الهجوم النهائي بدأ على الأغلب عند منتصف الليل تمامًا؛ أي في أوَّل ساعةٍ من ساعات يوم الثلاثاء 29 مايو؛ لأنَّ الأحداث التي تمَّت في هذا اليوم تحتاج من ثلاث ساعاتٍ ونصف إلى أربع ساعات قبل الفجر، وفجر هذا اليوم يكون في الثالثة والنصف تقريبًا.
كانت طلقة المدفع هي علامة البدء! وكأنَّ القيامة قد قامت! تحوَّل الصمت الشامل الذي يلفُّ المكان إلى ضجيجٍ عنيف، وتحوَّل الظلام الدامس الذي كان يغرق فيه المعسكر العثماني إلى نورٍ ساطع! اختلطت أصوات التكبيرات والتهليل وصيحات القتال مع أصوات المدافع والبنادق ومروق السهام، مع خلفيَّة موسيقى عسكريَّة لا تهدأ، وأُضيئت المشاعل التي حوَّلت الليل إلى نهار في لحظةٍ واحدة!
لقد بدأ الجيش العثماني في تنفيذ خطَّة الاقتحام!
كان الهدف النهائي للجيش العثماني هو إقحام عددٍ من الجنود عبر الأسوار إلى داخل المدينة، ولو تحقَّق هذا فإنَّ النصر محقَّقٌ عندئذٍ؛ لأنَّ الجيش العثماني كبيرٌ جدًّا بالقياس إلى الحامية البيزنطيَّة والجنود الإيطاليِّين، ولو حدث قتالٌ مباشرٌ فإنَّ النتيجة محسومةٌ لصالح المسلمين، وكانت هناك فرصةٌ جيِّدةٌ للجيش العثماني في هذه الليلة لاقتحام المدينة؛ والسبب أنَّ المدافع نجحت في خلال اليومين السابقين في إحداث تسع ثغرات في منطقة الميزوتيكيون، ولمـَّا كان ترميم مثل هذه الثغرات مستحيلًا نتيجة القصف المستمرِّ الذي انتهجه العثمانيُّون في الأيَّام السابقة، فإنَّ چوستينياني قد ابتكر وسيلة دفاعٍ جيِّدةٍ تؤدِّي الغرض من الأسوار نسبيًّا، وهي صناعة حائطٍ شائكٍ كبيرٍ في مكان الثغرات «Stockade»، وهو مركَّبٌ من شبكةٍ معقدةٍ من الأخشاب والأغصان ومملوءة بالحجارة المنهارة من الأسوار، وبالأتربة، وأشياء أخرى كثيرة تجعله صلبًا في مقاومة المدافع، وكان يضع فوقه براميل كبرى مملوءة بالأتربة يُمكن أن يُقاتل من وراءها الجنود[4].
كانت فرصة الجيش العثماني في هذه الليلة أفضل من قبل ذلك؛ لأنَّ هذا الحائط المبتكر كان في كلِّ الأحوال أضعف من الأسوار الأصليَّة للمدينة، ومِنْ ثَمَّ كانت فرصة تدميره واختراقه أكبر، ومع ذلك كان السلطان محمد الثاني حريصًا على توفير أكبر فرصٍ لنجاح عمليَّة الاقتحام، ولهذا قرَّر أن ينتهج أسلوبين جديدين لم يتبعهما قبل ذلك في المحاولات الثلاث السابقة لاقتحام المدينة أيَّام 18 أبريل، و7 مايو، و12 مايو.
أمَّا الأسلوب الأوَّل فهو تنفيذ الهجوم الشامل من كلِّ الأماكن المتاحة في الأسوار، بمعنى أنَّ الهجوم لن يكون في منطقة الميزوتيكيون الضعيفة فقط؛ إنَّما سيكون في كلِّ نقاط الأسوار تقريبًا، ويشمل ذلك الأسوار البحريَّة عند القرن الذهبي وبحر مرمرة، وليس غرض هذه المحاولات الاقتحام؛ لأنَّ الاقتحام من المناطق التي لم تُقصَف بكثافةٍ يُعَدُّ مهمَّةً مستحيلةً لمتانة الأسوار، ولكن كان الغرض هو سحب المدافعين البيزنطيِّين والإيطاليِّين إلى نقاطٍ متعدِّدةٍ في الأسوار، واستنزاف قوَّات الاحتياط في هذه النقاط كذلك، وبذلك يُمكن أن يُؤدِّي الضغط على المدافعين في منطقة الميزوتيكيون إلى نتيجة.
وأمَّا الأسلوب الثاني فهو ترتيب الهجوم على منطقة الميزوتيكيون، وخاصَّةً منطقة الحائط الشائك الضعيف، في صورة موجات متتالية، وتحديدًا ثلاث موجات رئيسة، وليس واحدة فقط كما حدث في المرَّات السابقة. لقد قرَّر السلطان محمد الثاني أن يستخدم الجيش كلَّه في موجاتٍ متتابعة: تهجم الموجة الأولى، وتُقاتل لمدَّة معيَّنة، ثم تنسحب وتهجم الموجة الثانية، ثم تنسحب وتهجم الثالثة والأخيرة، وعليه فإنَّ الهدف من الموجتين الأولى والثانية ليس «الاقتحام» على وجه الحقيقة، وإن كان ذلك سيكون جيِّدًا جدًّا لو حدث، ولكن الهدف منها هو «الإنهاك» للمدافعين، والحفاظ عليهم في حالة قتالٍ دائم، ودون مساعدةٍ من القوَّات الاحتياطيَّة أو الإضافيَّة لأنَّها ستكون مشغولةً بمحاولات الاقتحام من الأماكن المتعدِّدة في الأسوار، وعند وصول المدافعين إلى حالة الإنهاك الكامل ستأتي الموجة الثالثة والأخيرة، التي يُنْتَظَر منها أن تُحقِّق النجاح في الاختراق.
بهذه الاستراتيجيَّة الرائعة نتوقَّع أن يحتفظ السلطان محمد الثاني بأفضل قوَّاته للقيام بالموجة الثالثة، وهذا ما حدث تمامًا، فقد أوكل مهمَّة الموجة الأولى لمجموعة الباشي بازوك، وجعل مهمَّة الموجة الثانية من نصيب قوَّات الأناضول، أمَّا الموجة الثالثة فقد أوكلها للإنكشاريَّة المحترفين، وجعل قيادتها لنفسه بشكلٍ مباشر.
اختار السلطان أن يكون منتصف الليل هو البداية لتأخذ الموجتان الأولى والثانية مدى الليل كلِّه، ثم عند الفجر تتحرَّك الموجة الثالثة لتُقاتل كما اعتادت في أنوار الصباح، وعندها ستكون الحامية البيزنطيَّة المرهَقة قد قضت الليل كلَّه تُحارب وتُدافع، فيُصبح قتالها على الإنكشاريَّة أيسر.
هذه هي الخطَّة العثمانيَّة في الهجوم الأخير!
بدأت الموجة الأولى في منتصف الليل تقريبًا. أقبل جنود الباشي بازوك بحميَّةٍ عظيمة، وهم يصيحون صيحاتٍ عالية، ويدقُّون الطبول بعنف[5]. كانت فرقة الباشي بازوك فرقةً غير نظاميَّة في الجيش العثماني، وبالتالي فإنَّها كانت أقلَّهم احترافيَّة، وأضعفهم من الناحية التدريبيَّة[6]، ومع ذلك فإنَّ الروح العالية التي كانت عندهم جعلتهم يُقْبِلون على الأسوار في محاولةٍ جادَّةٍ للتسلُّق. كان ردُّ فعل المدافعين عنيفًا؛ فقد بدؤوا في إلقاء الزيت المغلي والأحجار الكبيرة على المتسلِّقين للأسوار، كذلك أمطروهم بالسِّهام والبنادق، ومع ذلك، ومع سقوط عددٍ كبيرٍ من الشهداء، إلَّا أنَّ البقيَّة أكملوا الصعود، ونجح بعضهم في الوصول لأعلى الأسوار، وخاصَّةً عند منطقة الحائط الشائك؛ حيث دار صراعٌ كبيرٌ مع القوَّة المدافعة عن المدينة[7].
مع أنَّ فرقة الباشي بازوك عنيفةٌ جدًّا في قتالها، ومشهورةٌ بالشجاعة النادرة، فإنَّ السلطان محمدًا الثاني لم يكن مطمئنًّا تمامًا لهم، ولا يرجع عدم اطمئنانه إلى عدم كفاءتهم العسكريَّة، ولكن لكونهم من المرتزقة المأجورين، الذين يُجْمَـعون وقت القتال، ثم يعودون إلى حياتهم الطبيعيَّة ووظائفهم الأخرى بعد انتهاء المعارك، ولذا فالدَّافع الرئيس من وراء التحاقهم بالجيش هو المال والغنيمة، ولذلك فعند تعرُّض بعضهم لاحتمال الموت فإنَّه من الممكن أن ينسحب، وهذا الانسحاب -خاصَّةً في مثل ظرف هذا الهجوم النهائي- أمرٌ غير مقبولٍ بالمرَّة، ومن الممكن أن يُعرِّض الخطَّة كلَّها للفشل، ولذلك فقد صرَّح السلطان محمد الثاني لقوَّات الباشي بازوك أنَّ الانسحاب ليس اختيارًا، ولا يُمكن أن يحدث إلَّا بأمرٍ من القيادة، وأنَّه لن يترك الأمر لضمائرهم؛ إنَّما سيضع خلفهم قوَّاتٍ من الشرطة العسكريَّة العثمانيَّة مكلَّفةً بقتل مَنْ يفرُّ من أرض القتال، ومَنْ يتراجع عن محاولة الاقتحام، ومِن وراء الشرطة العسكريَّة ستكون الإنكشاريَّة، فمن أفلت من الشرطة فلن يُفلِت من الإنكشاريَّة[8][9]. كان هذا إجراءً احترازيًّا من السلطان يكشف عن مدى صرامته وجدِّيَّته في الأمر.
أدَّى الباشي بازوك دورهم بنجاح، ومع أنَّ تركيز هجومهم كان على منطقة الحائط الشائك، فإنَّهم انتشروا على مساحاتٍ واسعةٍ من الأسوار لتشتيت المدافعين[10]، وبعد ساعتين من القتال المستمرِّ أصدر السلطان أوامره بانسحاب قوَّات الباشي بازوك لتنتهي بذلك الموجة الأولى من الهجوم النهائي[11].
لم تخترق قوَّات الباشي بازوك الأسوار، ولم تُحطِّم الحائط الشائك، وسقط منهم الكثير من الضحايا، ولكنَّهم حقَّقوا المراد من حملتهم! إنَّ الغرض هو إنهاك المدافعين إلى أقصى درجة، وقد حدث هذا بشكلٍ كبير.
كان البيزنطيُّون والإيطاليُّون يعتقدون عند انسحاب الباشي بازوك أنَّ الهجوم العثماني قد انتهى هذه الليلة؛ لأنَّ خبرتهم بالمحاولات الثلاث السابقة التي حدثت أثناء أيَّام الحصار الأولى كانت تقضي بذلك، ولذلك تنفَّسوا الصعداء بعد انسحاب الجيش العثماني، واتَّجهوا من فورهم لإصلاح ما تهدَّم من الحائط الشائك، ولإعادة تقويم الموقف، ولكنَّهم فوجئوا بالصيحات تتعالى من جديد، وبدقَّات الطبول تأتي من كلِّ مكان، وبالصخب يزداد ويزداد! لقد بدأت الموجة الثانية مباشرةً فور انتهاء الموجة الأولى!
كانت قوَّات الأناضول بقيادة إسحاق باشا هي المكلَّفة بمهمَّة الموجة الثانية، وقد اتَّجه إليهم السلطان يُخاطبهم خطابًا أبويًّا مع أنَّه دون الثانية والعشرين من عمره! فقال لهم: «تقدَّموا أصدقائي وأبنائي.. هذه هي اللحظة التي تُثبتون فيها أنَّكم رجالٌ بحق»[12]!
كانت قوَّات الأناضول مختلفةً تمامًا عن قوَّات الباشي بازوك؛ فعلى قدر عشوائيَّة فرق الباشي بازوك كانت قوَّات الأناضول في غاية التنظيم. لقد أقبلوا كتلةً واحدةً رائعة التسليح، يتحرَّكون في خطواتٍ مدروسةٍ ومفهومة، وغايتهم الوصول إلى الحائط الشائك الذي يسدُّ ثغرات الأسوار عند الميزوتيكيون، ولم يكن هناك شيءٌ يُمكن أن يُفرِّق صفَّهم، حتى كانت طلقات بنادق البيزنطيِّين وسهامهم لا تستطيع أن تفكَّ هذه الكتلة العسكريَّة من بعضها البعض[13][14].
لم تكن الموجة الثانية من الهجوم الأخير معتمدةً فقط على قوَّات الأناضول، وإن كانت هي التي تتكفَّل بالجزء المهمِّ من الخطَّة، وهو اقتحام منطقة الحائط الشائك؛ وإنَّما شاركت كذلك معظم القوَّات العثمانيَّة؛ فقد هجمت قوَّات الروملي بقيادة قرة چه باشا Karadja Pasha على الأسوار الغربيَّة من ناحية الشمال، وهجمت قوَّات زاجانوس باشا على آخر الأسوار الغربيَّة بالإضافة إلى جانبٍ من أسوار القرن الذهبي، وهجمت القوَّات البحريَّة على أسوار القرن الذهبي وبحر مرمرة[15].
كان اختبارًا عسيرًا للقوَّات العثمانيَّة الأناضوليَّة! لقد تعرَّضوا لأخطارٍ مميتةٍ بعد عبورهم الخندق، لكنَّ هذا لم يُشتِّت كتلتهم؛ بل ظلُّوا يتقدَّمون بحماسةٍ عجيبةٍ راغبين في تحقيق شرف اختراق المدينة لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ المسلمين. قابلهم البيزنطيُّون والإيطاليُّون بكلِّ أنواع الهلاك، ولكنَّ حركتهم للأمام لم تتوقَّف! يقول قس خيوس الچنوي ليوناردو: «ما زالوا يتحرَّكون نحونا يستخدمون الدروع لحماية أنفسهم من الصخور والطلقات يُحاولون إقحام أنفسهم نحو الحائط الشائك. قُتِل منهم عددٌ مذهل. قذفنا عليهم طلقاتٍ مميتةً وسهامًا على كتلتهم المتحرِّكة، لكنَّهم ما زالوا يتقدَّمون»[16]!
لقد كان منظرًا باهرًا حقًّا!
ولقد انبهر به الجرَّاح البندقي باربارو فكتب واصفًا المشهد: «أقبلت المجموعة الثانية من الجنود كالأسود الجامحة نحو الجدران... هذه المجموعة كلُّها كانت من الرجال الشجعان»[17]!
وعلى الرغم من المقاومة العنيفة أصرَّ الجيش الأناضولي على تسلُّق الجدران، ولقد كان بعضهم يصعد فوق ظهر الآخرين من زملائه لكي يتمكَّن من تثبيت السلالم في أعلى الأسوار[18]، وهكذا نجح عددٌ كبيرٌ منهم في الصعود إلى المنصَّة الفاصلة بين الطبقة الخارجيَّة للأسوار والطبقة الداخليَّة لها، وكان المدافعون قد تمركزوا في هذه المنصَّة وأغلقوا خلفهم بوَّابات الطبقة الداخليَّة، ومِنْ ثَمَّ لا يحدث اختراقٌ للمدينة حتى لو هُزِمت المجموعة المقاتِلة خارج الأسوار الداخليَّة. دار القتال عنيفًا في هذه المنصَّة التي كانت لا تسمح بتدفُّق عددٍ كبيرٍ من العثمانيِّين فوقها، وسقط من الجانبين عددٌ كبير[19].
لقد فاقت الضوضاء كلَّ تصوُّرٍ!
لنتخيَّل هذا المزيج العجيب من الأصوات!
انفجارات المدافع تُزلزل الأرض.. أجراس الكنائس تُنادي المدافعين.. سهامٌ تمرق في ظلام الليل لا تعرف من أين أُطْلِقَت.. سيوفٌ تُقارع سيوفًا، وأخرى ترتطم بالدروع.. طلقات رصاص.. ضربات عصى وسياط.. موسيقى عسكريَّة صاخبة كأنَّه قد أصابها الجنون.. وبين هذا الخليط المزعج تسمع أصواتًا آدميَّة مرعبة! صيحات.. لعنات.. أوامر وتنبيهات.. وأكثر من كلِّ ذلك تأوُّهات مؤلمة للمجروحين والمحروقين، والمسحوقين تحت أقدام المقاتلين!
ما أشدَّ قسوة الحروب!
قبل الفجر بساعةٍ تقريبًا[20] خضعت كلُّ هذه الأصوات لصوتٍ أعلى منها جميعًا! طلقة من مدفع أوربان الكبير أصابت الحائط الشائك وأحدثت به ثقبًا في وسطه يكفي لاختراق الرجال! كانت فرصةً ثمينة لدخول المدينة! في لحظاتٍ تسلَّل ثلاثمائةٌ من قوَّات الأناضول إلى داخل المدينة. هذه هي المرَّة الأولى التي تطأ فيها أقدام العثمانيِّين هذا المكان. سادت الفوضى في المدينة، وتجمَّع البيزنطيُّون والإيطاليُّون تحت قيادة الإمبراطور نفسه وچوستينياني. اضطرب المدافعون للحظاتٍ ثم تماسكوا.. أسرع فريقٌ منهم لغلق الثغرة بالرجال المقاتلين ثم إلقاء الحجارة والأخشاب لرأب الصدع. في لحظاتٍ قليلةٍ وجد العثمانيُّون أنفسهم محصورين في داخل المدينة وقد انقطعوا عن كتائبهم في الخارج! دار صراع الموت بين ثلاثمائة مسلم وجموع المدافعين. كانت النتيجة مؤلمة! لقد استشهد معظمهم[21]، أو على الأغلب كلُّهم[22]!
كان وقت الفجر قد دخل، وصدرت الأوامر بالانسحاب الكامل لقوَّات الأناضول[23]، وهكذا انتهت الموجة الثانية من موجات الهجوم النهائي!
لقد كانت الآمال تُراوِد السلطان محمدًا الثاني وقوَّات الأناضول، أن يكون اختراق المدينة على أيدي هؤلاء الرجال. لقد كان أداؤهم مشرِّفًا، وقتالهم باهرًا، وكادوا يُحقِّقون المراد، ولكن لم يأذن الله بعد بفتح المدينة.
صلَّى السلطان والجيش الصبح وامتطى جواده فورًا[24]. لقد حان وقت تنفيذ الموجة الثالثة، والحاسمة، والأخيرة في هذا الهجوم!
كان السلطان يعرف أنَّ نجاح الحصار برمَّته متوقِّفٌ على هذه الموجة الأخيرة، وأنَّه في حال فشل هذه الموجة فإنَّ الجيوش العثمانيَّة ستنسحب كلُّها على الأغلب، وسنعود بذلك إلى نقطة الصفر، وقد يضطرُّ السلطان عندئذٍ أن يرفع الحصار كلَّه على الرغم من كلِّ التضحيَّات التي بُذِلَت خلال الشهرين الماضيين.
هذا الإحساس بخطورة الموقف دفع السلطان إلى أن يذهب بنفسه إلى رجال الإنكشارية فخاطبهم بقلبه وعقله قائلًا: «أيُّها الأصدقاء! لقد امتلكنا المدينة! المدينة مدينتنا! إنَّهم بالفعل يهربون منَّا. إنَّهم لا يستطيعون الثبات أكثر من ذلك. لقد صارت الأسوار خاليةً من المدافعين. إنَّ الأمر يحتاج إلى قليلٍ من الجهد وسوف تُؤْخَذ المدينة. لا تضعفوا، ولكن اعملوا بكلِّ طاقتكم. كونوا رجالًا، وأنا سأكون معكم»[25]!
الله أكبر! ما أروع هذه الكلمات!
تأكيدٌ واثقٌ أنَّ النصر متحقَّق: المدينة مدينتنا..
تبريرٌ عقليٌّ أنَّ القضيَّة محسومة: لا يستطيعون الثبات أكثر من ذلك..
استنهاضٌ كاملٌ للهمم: كونوا رجالًا..
ومشاركةٌ تُلهِب حماس الرجال: أنا سأكون معكم!
تحرَّكت الموجة الثالثة فورًا في اتِّجاه الأسوار يقودهم السلطان بنفسه حتى الخندق[26]. كانت حركة الإنكشارية مختلفةً عن حركة الجيوش العثمانيَّة السابقة؛ لقد كانوا يتقدَّمون بهدوءٍ عجيب، وبصفوفٍ غاية في النظام، وبصيحاتٍ واثقةٍ ثابتة[27]. يصف باربارو إقبال الإنكشاريَّة بقوله: «لم تُهاجِم هذه المجموعة كالأتراك ولكن كالأسود، مع هذه الصيحات وأصوات الموسيقى التي تبدو كأنَّها ليست من عالمنا! لقد كان صوت صياحهم يُسْمَع في الأناضول (عبر بحر مرمرة) لمسافة اثني عشر ميلًا من المعسكر. لقد كانوا جميعًا من المقاتلين الرائعين»[28]!
هؤلاء هم الإنكشاريَّة!
سُمْعَتُهم معروفةٌ في أوروبَّا، وصِيتُهم ذائعٌ في كلِّ مكان! يقول المؤرِّخ الأميركي توماس مادين Thomas Madden: «لأسبابٍ جيِّدةٍ لم يكن ينظر نصارى أوروبَّا إلى الإنكشاريَّة إلَّا بكامل الرُّعب والفزع»[29]!
عند الخندق أمر السلطان بإطلاق عددٍ لا نهائي من السهام نحو الحائط الشائك. لقد كانت عاصفة من السهام جعلت رؤية السماء مستحيلةً من خلالها[30]! يقول كريتوبولوس وهو يصف هذه السهام: «كان تساقط السهام على المدافعين كأنَّه تساقط الجليد»[31]!
هجم الإنكشاريَّة بضراوةٍ على الأسوار دون أيِّ تردُّد، وكان هجومهم على مساحةٍ واسعةٍ منها لتشتيت المدافعين، وإن كان التركيز الأكبر على الحائط الشائك، وكانوا يتحرَّكون وقد وضعوا الدروع فوق رءوسهم تجنُّبًا للإصابة بالصخور والطلقات والزيت المغلي المـُلْقَى عليهم، وسرعان ما ثبَّتوا سلالمهم على الأسوار، وبدؤوا في الوصول إلى المنصَّة الفاصلة بين الأسوار الداخليَّة والخارجيَّة، وعلى الرغم من سقوط الصف الأوَّل من الإنكشاريَّة صريعًا إلَّا أنَّ الصفوف التالية تقدَّمت دون تردُّد[32].
مع بزوغ النهار كان ثلاثمائةٌ من الإنكشاريَّة قد وصلوا إلى المنصَّة، ودار قتالٌ عنيفٌ بينهم وبين الحامية البيزنطيَّة والإيطاليَّة، التي كانت تحت قيادة الإمبراطور وچوستينياني[33]، وكان القتال يسير سجالًا، بل كان يبدو أنَّ المدافعين عن المدينة قادرون على منع الإنكشاريَّة من اختراق الأسوار[34]. كان من الممكن أن يكون مصير المعركة كتلك التي حدثت مع كتيبة الأناضول منذ ساعتين تقريبًا. نعم المدافعين يُقاتلون منذ نصف الليل، والإنكشاريَّة مستريحون بالقياس لهم، لكنَّ المساحة الضيِّقة التي كانوا يُقاتلون فيها، وعدم قدرة الإنكشاريَّة على الصعود بأعدادٍ كبيرةٍ إلى المنصَّة، جعلت الأمر صعبًا إلى حدٍّ كبير. كان من الممكن أن يستمرَّ الحال كذلك لولا أنَّ أمرين حدثا في وقتٍ متزامنٍ غيَّرا مجريات الأحداث بشكلٍ لافت! وإنَّ هذا التزامن الذي حدث بين الأمرين لدليلٌ على أنَّ الله عز وجل أراد للمدينة أن تُفتح في هذه اللحظات على أيدي المسلمين!
أمَّا الأمر الأوَّل فقد حدث عند بوَّابة صغيرة اسمها بوابة كيركوبورتا Kerkoporta إلى الجنوب من بوابة كاليجاريا Kaligaria[35]، والأخيرة تُسمَّى -أيضًا- بوَّابة كارسياس Charsias، وهي إحدى البوَّابات تُجَاه قصر بلاكيرني Blachernae، إلى الشمال مِن بوَّابة سان رومانوس التي يحتدم عندها القتال. كانت هذه البوَّابة مهجورةً منذ سنين، ولكن فَتَحَها بعضُ الجنود أثناء الحصار للقيام ببعض الحملات المـُفاجِئة على الجنود العثمانيِّين، ثم العودة بسرعةٍ إلى داخل الأسوار، وقد حدث أن «نَسِيَ»[36] أو «فَشِلَ»[37] أحدُ الجنود في إغلاقها في وَقتٍ قريبٍ من أحداث القتال.
لاحظ بعض الجنود العثمانيِّين البوَّابة المفتوحة، وسرعان ما تسلَّل خمسون جُنديًّا من خلال البوَّابة غير المحميَّة، وصعدوا على سلالم البُرج حتى وصلوا إلى أعلى الأسوار[38]! فوجئ الجنود النصارى بالفرقة المـُسلِمة، ودار قتالٌ بينهما، وسرعان ما تمكَّن البيزنطيُّون من حَصْر الجنود العثمانيِّين فوق السور قبل أن تَصل إليهم إمدادات[39]. على الرغم من الموقف الصعب فإنَّ ثلاثين من هذه المجموعة بقيادة ضابطٍ شابٍّ صغيرٍ اسمه حسن الألوباطلي استطاعوا اختراق الجنود البيزنطيِّين، والصعود إلى أعلى البرج، ونُزِعَت الأعلام البيزنطيَّة، ورُفِعَ العَلمُ العثماني لأوَّل مرَّةٍ فوق أسوار القسطنطينيَّة[40]. لم تمضِ إلَّا ثوانٍ معدوداتٌ حتى أُطْلِقَت السِّهام البيزنطيَّة على رافعي العَلَم، فسقط حسن الألوباطلي شهيدًا ومعه سبعة عشر جنديًّا من فرقته، لكنَّ العَلَم لم يسقط قط[41]!
كانت إحدى اللحظات الفارقة في الحصار!
ترجَّل السلطان محمد الثاني عند رؤية العَلَم وسجد لله شكرًا[42]، ولا شَكَّ أنَّ معنويَّات الإمبراطور وجنوده صارت في الحضيض!
رأى الإنكشاريَّة الراية وهم يُقاتلون، فصاحوا بأصواتٍ عالية: «لقد أخذنا المدينة»[43]! وازدادت ضراوة القتال، وعندها حدث الأمرُ الثاني في وقتٍ قريبٍ جدًّا من رَفْعِ رايةِ العثمانيِّين!
لقد أُصيب القائد الچنويُّ شديدُ الأهميَّة چوستينياني
اختلف المؤرِّخون في وصف الطريقة التي أُصيب بها چوستينياني، وذكر كراولي في كتابه سبعة احتمالات لطريقة إصابته[44]، ولكن اتَّفق كلُّ هؤلاء المؤرِّخين على أنَّ إصابته كانت نقطة تحوُّلٍ في المعركة[45][46][47][48][49]، بل يذكر بعضهم أنَّ إصابة چوستينياني كان لها من الأثر ما هو أكبر من أثر مدفع أوربان نفسه[50]!
كان جُرْحُ هذا القائد الچنويِّ الكبير من النوع الذي يبدو أثره الخارجي صغيرًا لكنَّه يُحْدِث أثرًا داخليًّا كبيرًا، ولهذا عندما رأى الإمبراطور الإصابة هوَّن الأمر على چوستينياني وطالبه بالثَّبات في أرض المعركة، لكنَّ چوستينياني كان يتألم بشدَّة، وأصرَّ على مغادرة الساحة؛ بل طلب من رفقته أن يحملوه إلى إحدى السفن الچنويَّة في الميناء لتلقِّي العِلاج هناك[51][52].
لم يكن چوستينياني مجرَّد قائدٍ من قادة المدافعين، ولم يكن مجرَّد مقاتلٍ محترفٍ يعرف فنون القتال وأساليبه؛ إنَّما كان مُلهِمًا لكلِّ المدافعين، ورافعًا لمعنويَّاتهم، ومُطْلِقًا لكلِّ طاقاتهم الحماسيَّة، ولهذا كان انسحابه من أرض المعركة نقطة تحوُّلٍ كبيرة. يكفي أنَّ جنود چنوة السبعمائة الذين كانوا تحت قيادته تركوا أرض المعركة فور مغادرته لها، على الرغم من توسُّلات قُسطنطين الحادي عشر لهم[53]!
يُحاول الطبيب البندقي باربارو الطعن في شجاعة چوستينياني وأمانته، فذكر أنَّه قرَّر الهروب دون أن يُشير إلى إصابته، ورماه بالكذب؛ حيث شجَّع المـُدافعين على ترك أماكنهم بدعوى أنَّ الأتراك دخلوا المدينة، ولم يكن الأمر كذلك[54]، ولكن في الحقيقة أرى أنَّ باربارو متحاملٌ على چوستينياني بشدَّة؛ لأنَّه من الچنويِّين أعداء البنادقة، ومن المؤكَّد أنَّ إصابة چوستينياني كانت خَطِرةً للغاية، ليس فقط لأنَّ شهود عيانٍ آخرين أكَّدوا ذلك؛ ولكن لأنَّه مات من هذه الإصابة بعد أيَّامٍ قليلةٍ فقط[55].
كانت إصابة چوستينياني على المنصَّة الفاصلة بين الأسوار الداخليَّة والخارجيَّة، وكانت بوَّابات الأسوار الداخليَّة مغلقة لمنع الأتراك من دخول المدينة، فلمَّا أُصيب چوستينياني طلب من الإمبراطور مفاتيح البوَّابة ليُحْمَل إلى داخل المدينة، ومنها إلى الميناء، وقد حاول الإمبراطور التلكُّؤ في فتح البوابة، ولكن أمام إصرار چوستينياني اضطرَّ إلى فتحها، وكان هذا قرارًا عسكريًّا خَطِرًا؛ لأنَّ العثمانيِّين قريبون جدًّا من الحدث، وقد حمل حرسُ چوستينياني الخاصُّ قائدَهم عبر البوَّابة، وشاهد الجنود الچنويُّون الأمر فظنُّوا أنَّ الموقعة قد انتهت، خاصَّةً مع رفرفة الأعلام العثمانيَّة أعلى الأسوار، فاندفعوا إلى البوَّابة ليلحقوا بقائدهم قبل أن تُغْلَق البوَّابة مرَّةً ثانية، تاركين بذلك الإمبراطور والبيزنطيِّين وحدهم على المنصَّة. تَدَافَع الچنويُّون نحو البوَّابة، وحدثت حالةٌ من الهرج والاضطراب في المدافعين، ورأى السلطان محمد الثاني كلَّ هذه الأحداث وهو على جواده تحت الأسوار، فنادى بأعلى صوته: «المدينة مدينتنا»، وأمر الإنكشاريَّة بالتقدُّم بسرعةٍ عبر البوَّابة المفتوحة[56][57][58].
أسرع رجال الإنكشاريَّة لاغتنام الفرصة، فاندفعوا بالآلاف نحو البوَّابة، ولم يجدوا مُقاوَمةً تُذكَر عند صعودهم الأسوار في ظلِّ هذا الاضطراب، وتراجع البيزنطيُّون أمام هذا الطوفان البشري، وحاولوا الوقوف أمام البوَّابة المفتوحة لمنع العثمانيِّين من التَقدُّم، لكنَّ ضغط الأعداد الكبيرة دفع البيزنطيِّين إلى الوراء، وسُحِق عددٌ منهم تحت الأقدام، وقُتِل عددٌ آخر، وتراجع قسمٌ ثالثٌ داخل المدينة، حتى أولئك الذين تراجعوا سقطوا في حُفَرٍ كبيرةٍ كان البيزنطيُّون قد حفروها خلف الأسوار داخل المدينة لكي يستخدموا ترابها في ترميم الأسوار المنهارة، وهكذا دخل الإنكشاريَّة مدينة القسطنطينيَّة فضلًا عن أولئك الذين بدؤوا يتسلَّلون من بوَّابة كيركوبورتا الصغيرة[59][60].
كان دخول العثمانيِّين إلى المدينة عند شروق الشمس مباشرةً[61]، وحدثت حالةٌ من الذعر الشديد؛ إذ انطلق الكثيرون يُنادون في الشوارع: «لقد أُخِذَت المدينة»[62]!
في هذه الحالة من الفزع أسرع الجنود العثمانيُّون ليفتحوا بقيَّة الأبواب لتنهمر جموع الجيش العثماني داخل المدينة[63]!
الله أكبر ولله الحمد!
فُتِحَت القسطنطينيَّة! وتحقَّقت النبوءة العظيمة لرسول الله ﷺ!
عن أبي قبيل المعافري، قال: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسُئِلَ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ، قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، قال: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا»[64].
صدقت يا رسولَ الله ﷺ!
لم يكن للزَّمن أثرٌ في نبوءتك؛ فقد حدث ما وَصَفْتَه لنا قبلَ ذلك بأكثر من ثمانية قرون، فلَّله المنَّة والفضل، والحمد لله رب العالمين.
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]
الجيش العثماني الآن في المدينة! ما ردود الفعل لنصارى المدينة، قيادةً، وجيشًا، وشعبًا؟!
أمَّا القوَّات الإيطاليَّة فقد أسرعت إلى الميناء حيث كانت السفن مستعدَّةً للرحيل تاركين البيزنطيِّين اليونانيِّين إلى مصيرهم[65]. صدقت كلمات زاجانوس باشا! الإيطاليون لن يموتوا من أجل مدينة لا يملكونها! اتَّجهت السفن الچنويَّة إلى جالاتا عبر القرن الذهبي، أمَّا السفن البندقيَّة فقد كانت محمَّلةً بعددٍ كبيرٍ من اللاجئين البيزنطيِّين بالإضافة إلى البنادقة، وعلى الفور تحرَّكت السفن في اتِّجاه السلسلة الحديديَّة[66]. عند السلسلة أمر قائد الأسطول البندقي ألڤيسو ديدو Alviso Diedo بعض جنوده بتحطيم المكان الذي تُربط فيه هذه السلسلة الحديديَّة العملاقة، ففعلوا ذلك في ظلِّ غياب الأسطول العثماني الذي كان يُشارك في محاولة تسلُّق الأسوار البحريَّة، وهكذا نجحت السفن البندقيَّة، والچنويَّة بعدها، في الخروج من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة، ومنه جنوبًا إلى بحر إيجة حيث النجاة إلى بلادهم[67].
ومثلما فعلت السفن الإيطاليَّة فعل كذلك بحَّارة كريت؛ حيث غادروا الميناء لاحقًا آمنين، ويذكر بعض المؤرِّخين أنَّ السلطان محمدًا الثاني كان قادرًا على الإمساك بهذه السفن الأخيرة؛ لأنَّها تحرَّكت لاحقًا بعد سيطرة الجيش العثماني على المدينة، ولكنَّه تركها ترحل[68]، ويبدو أنَّه فعل ذلك لكي لا يدخل في صداماتٍ جديدة، ومع أنَّه يعلم أنَّ النَّصر حتميٌّ لجنوده الكثيرة في مثل هذه المواجهات فإنَّه لم يكن يُريد ضحايا أكثر من ذلك فآثر تركهم.
أمَّا الجنود البيزنطيُّون فقد تباينت ردود أفعالهم بشكلٍ مثير؛ فمنهم من تجمَّع حول الإمبراطور لمحاولة الدِّفاع عنه[69]، ومنهم من أسرع إلى بيته ليحمي أسرته وأولاده، ومنهم من ألقى نفسه مُنتحرًا من فوق الأسوار، ومنهم من استسلم للجنود العثمانيِّين، والقليل هو الذي استمرَّ في القتال هنا أو هناك[70].
والإمبراطور ماذا فعل؟!
تؤُكِّد الروايات التركيَّة أنَّ الإمبراطور قد قُتِل في أثناء سعيه للفرار ناحية بحر مرمرة[71][72]، وذلك عن طريق أحد رجال البحريَّة أو الباشي بازوك، ويدعم هذا رواية قنصل أنكونا بينڤينوتو Benvenuto حيث يُؤكِّد كذلك أنَّ رأس الإمبراطور قد قُطِع لعرضه على السلطان محمد الثاني[73]، ومع ذلك فإنَّ باربارو يذكر أنَّه من المحتمل أن يكون قد شنق نفسه بعد تأكُّده من ضياع المدينة، وإن كان لم يستبعد أن يكون قُتِل[74]، واكتفى بعض المؤرِّخين بقولهم: إنَّ الإمبراطور «اختفى» ولم يظهر له أثر[75]. ومعنى هذا أنَّه قد يكون قُتِل كجنديٍّ عاديٍّ لم يعرفه أحد[76]، وهذا الاختفاء كان سببًا في ظهور أسطورةٍ في اليونان تزعم أنَّ الإمبراطور حيٌّ في مكانٍ ما، وسيعود في آخر الزَّمان ليسترجع القسطنطينيَّة[77]!
لم تُعْرَف الطريقة التي انتهت بها حياة الإمبراطور على وجه التحقيق إِذَنْ، ولكن الذي كان يهمُّ السلطان محمد الثاني في هذه اللحظات أن يتيقَّن من أنَّه قد قُتِل؛ لكي يُغلِق ملفَّ القسطنطينيَّة بشكلٍ كامل، وتَذْكُر إحدى الروايات أنَّ بعض الجنود العثمانيِّين قد أتوا برأس الإمبراطور، وأنَّ القائد العسكري الأعلى للبيزنطيِّين لوكاس نوتاراس -وكان قد أُسِرَ بعد الفتح- قد تعرَّف على الرأس، وأكَّد أنَّه للإمبراطور[78][79]، وتُؤكِّد هذه الرواية أنَّ السلطان محمدًا الثاني قد وضع رأس الإمبراطور على عمودٍ رخاميٍّ كي يراه أهل القسطنطينيَّة، ويتأكَّدوا من موت إمبراطورهم، فتتوقَّف مقاومتهم، ثم أمر السلطان بأن يُدْفَن الرأس بالمراسم الإمبراطوريَّة المهيبة نفسها التي يتَّبعها البيزنطيُّون في دفن أباطرتهم[80].
كان قتل الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر قاضيًا على مقاومة البيزنطيِّين ومَنْ تبقَّى من الإيطاليِّين بشكلٍ كامل، ومِنْ ثَمَّ بدأ الجميع تقريبًا في الاستسلام، وقد أمسك العثمانيُّون ببعض الرموز الكبرى في الدولة، واحتفظوا بهم إلى حين أن يقضي السلطان في أمرهم، وسوف نتعرَّض لموقفه منهم لاحقًا.
الوحيد الذي أكمل القتال للنهاية -لأنَّه لم يكن له خيارٌ آخر- هو الأمير أورخَان العثماني! وهو الأمير الذي كان يُطالِب بعرش الدولة العثمانيَّة، وكان مدعومًا من الإمبراطور البيزنطي، فقد كان يعلم أنَّه لن ينجو من القتل إن أمسك به الجيشُ العثماني، ولذلك ظَلَّ يُقاتل هو ومجموعةٌ معه من جنوده حتى وقع في النهاية في أَسْرِ العثمانيِّين[81].
بعد سقوط المقاومة بهذه الصورة اتَّجه شَعبُ القسطنطينيَّة بكامله تقريبًا إلى ميدان آيا صُوفيا للالتجاء إلى الكنيسة هناك، وانتظار قرار السلطان في أمرهم[82].
هكذا انتهى كلُّ شيء، ولم تبقَ جيوب مقاومةٍ في أيِّ مكان، وصارت المدينة بكاملها للمسلمين، وسقطت إلى الأبد الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة العريقة!
سقطت القسطنطينيَّة في الساعة الأخيرة لجهد العثمانيِّين وطاقاتهم! يقولون: إنَّه لو لم ينجح العثمانيُّون في دخول المدينة لساعةٍ أخرى لَمَا تمكَّنوا من فتحها، ولو لم تُفْتَح في هذه اللحظات لَرُفِعَ الحصار على الأغلب، ولا يعلم أحدٌ -إلَّا الله- متى كان سيُضْرَب عليها مرَّةً أخرى!
رأينا الظروف التي قادت إلى نجاح الجيش العثماني في اقتحام المدينة..
بوَّابةٌ مهجورةٌ «نَسِيَها» الجنود مفتوحة، أو فشلوا في غلقها!
وقائدٌ كبيرٌ أُصيب في لحظةٍ حَرجةٍ من لحظات القتال..
عندما رأى بعض المؤرِّخين هذه الملابسات قال بعضهم هذه «صدفة» أدَّت إلى نصر العثمانيِّين[83]، وقال آخرون: بل «حظٌّ عاثر»[84]! والحقيقة غير ذلك؛ فالأمور تجري بالمقادير. قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
لقد اطَّلع الله عز وجل على الجهد المبذول في عمليَّة فتح القسطنطينيَّة منذ بدأ السلطان محمد الثاني إعداده لها، وذلك منذ عدَّة شهور، بل منذ أخذ هذا القرار عند ولايته، ورأى أنَّهم قد استنفدوا وُسْعَهم في التخطيط، والتدبير، والقتال، والصبر، واختار سبحانه أن تكون هذه اللحظة هي لحظة الفتح، فيَسَّر فتح البوَّابة المهجورة، وأَذِنَ بإصابة القائد الكبير، وألقى في روع جنوده الانسحاب، وكتب للإمبراطور موتًا في لحظةٍ لن يتقدَّم عنها أو يتأخَّر، وبهذا فُتِحَت المدينة!
ليس بصُدْفَةٍ، ولا حَظٍّ!
إنَّما بتوفيقٍ من الله عز وجل لقومٍ بذَلوا وُسْعَهم، فمَنَّ الكريمُ سبحانه عليهم![85].
[1] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009., p. 41.
[2] Runciman Steven The Fall of Constantinople 1453 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 1965., p. 132.
[3] Crowley Roger 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West [Book]. - New York : Hyperion , 2005., p. 202.
[4] Runciman, 1965, pp. 96-97.
[5] Freely, 2009, p. 41.
[6] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books, 2007., p. 96.
[7] Crowley, 2005, p. 202.
[8] Bradbury Jim The Medieval Siege [Book]. - Rochester, N Y, USA : Boydell Press, 1992., p. 225.
[9] Crowley, 2005, p. 206.
[10] Feldman, 2007, p. 96.
[11] Freely, 2009, p. 42.
[12] Crowley, 2005, p. 208.
[13] Runciman, 1965, p. 134.
[14] Crowley, 2005, p. 208.
[15] Runciman, 1965, p. 135.
[16] Crowley, 2005, p. 209.
[17] باربارو: الفتح الإسلامي للقسطنطينية (يوميات الحصار العثماني 1453)/ المترجمون دراسة وترجمة وتعليق: حاتم عبد الرحمن الطحاوي. القاهرة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2002م صفحة 169.
[18] Runciman, 1965, p. 134.
[19] Feldman, 2007, p. 95.
[20] Crowley, 2005, p. 209.
[21] Runciman, 1965, p. 135.
[22] Crowley, 2005, p. 209.
[23] Freely, 2009, p. 42.
[24] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. إستانبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م، صفحة 1/137.
[25] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954., p.71.
[26] Freely, 2009, p. 42.
[27] Runciman, 1965, p. 136.
[28] باربارو، 2002م صفحة 170.
[29] Madden Thomas F Istanbul: City of Majesty at the Crossroads of the World [Book]. - New York, USA : Penguin Book, 2016., p. 247.
[30] Crowley, 2005, p. 211.
[31] Kritovoulos, 1954, p.69.
[32] Crowley, 2005, p. 212.
[33] Freely, 2009, p. 42.
[34] Crowley, 2005, p. 212.
[35] Bartusis, 1997, p. 134.
[36] Runciman, 1965, p. 137.
[37] Crowley, 2005, p. 212.
[38] Feldman, 2007, p. 98.
[39] Runciman, 1965, p. 137.
[40] أحمد آق كوندز و سعيد أوزتورك الدولة العثمانية المجهولة-إستانبول: وقف البحوث العثمانية، 2008م صفحة 158.
[41] Gibbon Edward The History of the Decline and Fall of the Roman Empire (vol 2 1807, vol6 1826, 1957, vol 7 2008) [Book]. - [s.l.] : J. & J. Harper, 1807., vol. 7, p. 192.
[42] أوزتونا، 1988م صفحة 1/139.
[43] Nicol Donald M. The Last Centuries of Byzantium, 1261-1453 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1993., p. 388.
[44] Crowley, 2005, p. 213.
[45] Runciman, 1965, p. 137.
[46] Setton, 1976, vol. 2, p. 128.
[47] Bartusis Mark C The Late Byzantine Army: Arms and Society [Book]. - Philadelphia, USA : University of Pennsylvania Press, 1997, p. 134.
[48] Crowley, 2005, p. 213.
[49] Mijatović Čedomilj Constantine, The Last Emperor of the Greeks [Book]. - London, UK : Sampson Low, Marston & Company, 1892., p. 216.
[50] Philippides Marios and Hanak Walter K. The Siege and the Fall of Constantinople in 1453 [Book]. - UK : Ashgate Publishing, Ltd, 2011, p. xvii.
[51] Mijatović, 1892, p. 216.
[52] Freely, 2009, p. 42.
[53] Setton, 1976, vol. 2, p. 128.
[54] باربارو، 2002م الصفحات 173-174.
[55] Setton, 1976, vol. 2, p. 129.
[56] Runciman, 1965, pp. 137-138.
[57] Crowley, 2005, p. 214.
[58] Feldman, 2007, p. 98.
[59] Crowley, 2005, p. 215.
[60] Runciman, 1965, p. 139.
[61] باربارو، 2002م صفحة 174.
[62] Feldman, 2007, p. 98.
[63] Runciman, 1965, p. 139.
[64] أحمد (6645)، والدارمي (486)، وقال حسين سليم أسد: إسناده قوي، والحاكم (8662)، واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، تعليق الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة (4).
[65] Freely, 2009, p. 43.
[66] Nicol, 1993, p. 388.
[67] Strathern Paul The Spirit of Venice: From Marco Polo to Casanova [Book]. - London : Random House, 2012., p. 111.
[68] أوزتونا، 1988م صفحة 1/140.
[69] Crowley, 2005, p. 216.
[70] Nicol, 1993, p. 388.
[71] Sa'd-Ud-dīn ibn Hasanjān (called Khojah Efendi) The Capture of Constantinople, from the Taj-ut-Tevārīkh [Book] / trans. Gibb E.J.W.. - scotland : Glasgow, 1879., p. 30.
[72] Tursun Beg The History of Mehmet the Conqueror [Book] / trans. Murphey Halil İnalcık and Rhoads. - Minneapolis and Chicago, USA : Bibliotheca Islamica, 1978., pp. 36-37.
[73] Crowley, 2005, p. 230.
[74] باربارو، 2002م صفحة 178.
[75] Runciman, 1965, p. 139.
[76] Mijatović, 1892, p. 221.
[77] Gregory Timothy E. A History of Byntizaum [Book]. - west Sussex, UK - Wiley-Blackwell, Malder, M A, USA : Wiley- Blackwell, 2010., p. 399.
[78] Mijatović, 1892, p. 229.
[79] Philippides Marios Byzantium, Europe, and the Early Ottoman Sultans, 1373–1513: An Anonymous Greek Chronicle of the Seventeenth Century [Book] / trans. Philippides Mario. - New York, USA : Aristide D. Caratzas, 1990., p. 171.
[80] Mijatović, 1892, p. 229.
[81] Crowley, 2005, p. 222.
[82] أوزتونا، 1988م صفحة 1/139.
[83] Angold Michael The Fall of Constantinople to the Ottomans: Context and Consequences [Book]. - New York, USA : Routledge, 2014., p. 8.
[84] Crowley, 2005, p. 213.
[85] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441ه= 2019م، 1/ 251- 265.
التعليقات
إرسال تعليقك