التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
أعد السلطان الفاتح جيشًا كبيرًا لفتح الجزيرة، يُقدَّر بحوالي أربعين ألف مقاتلٍ مصحوبًا بأسطول كبيرٍ تتراوح سفنه بين خمس وستين إلى مائتي سفينة.
كان وقع حملة الفاتح على شمال الأناضول وشرقه، خاصَّةً بعد إسقاط إمبراطوريَّة طرابزون، عظيمًا جدًّا على جميع الأوروبِّيِّين، وبشكلٍ أكبر على البابا بيوس الثاني، ولقد جمع البابا أساقفته وقال لهم في حزن: «إنَّنا لم نفعل شيئًا لأعداء الصليب، هذا واضح، والسبب في صمتنا ليس عدم المبالاة ولكنَّه نوعٌ من اليأس»[1]!
هكذا وصل الحال بالقيادات الدينيَّة والسياسيَّة لأوروبا بعد النجاح الكبير الذي حقَّقه الفاتح في عام 1461م.
ومع ذلك فالبابا لم يتوقَّف عن العمل؛ بل سلك مسلكين لمحاولة تدارك الأمر قبل أن يسوء بشكلٍ أكبر؛ أمَّا المسلك الأوَّل فهو كتابة عددٍ كبيرٍ جدًّا من الخطابات التحميسيَّة لكافَّة أمراء وملوك أوروبا تستحثهم على التجمُّع في حربٍ صليبية للمسلمين العثمانيِّين[2]، وأمَّا المسلك الثاني فهو محاولة تحفيز القيادات النصرانيَّة داخل الدولة العثمانيَّة، أو التابعين لها، على التمرُّد على الدولة.
أمَّا المسلك الأوَّل فقد فشل فيه فشلًا ذريعًا؛ إذ لم يستجب له واحدٌ من كلِّ زعماء أوروبا، وكانوا -كما قال البابا نفسه- مصابين بنوعٍ من اليأس، ومع ذلك فالبابا نجح في مسلكه الثاني؛ حيث حقَّق بعض الاستجابات؛ في الإفلاق، وفي ليسبوس، وكذلك لاحقًا في ألبانيا، وبعض المناطق في اليونان.
بل فعل البابا بيوس الثاني أمرًا عجيبًا تحيَّر فيه كثيرٌ من المؤرِّخين! وهو محاولة إنهاء المشكلة العثمانيَّة التي لا يقدرون على حلِّها عن طريق دعوة السلطان الفاتح إلى النصرانيَّة، فعند ذلك تكون الأمور قد حُسِمَت لصالح أوروبا! لقد كتب البابا خطابًا مطوَّلًا مكوَّنًا من تسعة عشر فصلًا يشرح فيه عقيدة النصرانيَّة، ويدعو السلطان الفاتح إلى اعتناقها، ويُؤكِّد له فيها أنَّه لا يكرهه، ولكن يكره أفعاله، وأنَّ الفاتح إذا أراد أن يملك أوروبا كلَّها فعليه بالنصرانيَّة، وعندئذٍ سيتبعه كلُّ الأمراء والملوك[3]! يرى بعض المؤرِّخين أنَّ الخطاب يهدف بالفعل إلى دعوة السلطان الفاتح إلى النصرانيَّة[4][5]، بينما يرى أغلب المؤرِّخين أنَّ هذا الخطاب لم يُرْسَل أصلًا إلى الفاتح؛ إنَّما كان متداولًا على النطاق الأوروبي فقط[6][7][8]، خاصَّةً أنَّه لم يظهر إلَّا بعد وفاة البابا بيوس الثاني، كما لا توجد في كتابات البابا الأخرى إشارةٌ إليه، كذلك لا نجد في المصادر العثمانيَّة ما يُؤكِّد تسلُّم هذه الرسالة، بالإضافة إلى أنَّ لغة البابا في الرسالة لا تتواءم مع لغته المعتادة عند الحديث عن الفاتح أو المسلمين؛ فهو في كلِّ خطاباته ومؤلَّفاته ينعتهم دائمًا بصفات الوحشيَّة، والكفر، والطغيان، بعكس ما جاء في هذه الرسالة التي تمتلأ بالرِّقَّة والتوقير، ولهذا يرى المحلِّلون أنَّ الخطاب كُتِب لأغراضٍ أخرى غير الدعوة إلى النصرانيَّة؛ فترى المؤرِّخة الأميركيَّة نانسي بيساها Nancy Bisaha مثلًا أنَّه كُتِب كنوعٍ من الدعاية لحربٍ صليبيَّةٍ جديدة، ويهدف إلى تعميق النصرانيَّة في نفوس الأوروبِّيِّين لا محمد الفاتح أو المسلمين[9]، بينما يرى المؤرِّخ الأميركي روبرت شويبل Robert Schwoebel أنَّ البابا بيوس الثاني كان يهدف من وراء هذا الخطاب إثارة الفزع عند الأمراء الأوروبِّيِّين من كونه سينقلب إلى الفاتح بدلًا منهم، أو أنَّ الفاتح سيسحب البساط من تحت أرجلهم لو اعتنق النصرانيَّة[10]. أيًّا ما كان الأمر فإنَّ الخطاب يُعبِّر عن حالة اليأس التي وصل إليها البابا، وعدم قدرته على إيجاد حلولٍ عمليَّةٍ لوقف المدِّ العثماني.
عمومًا كان أشدُّ المتحمِّسين للاستجابة للبابا هو أمير الإفلاق الروماني ڤلاد الثالث، الذي كان يرى في دعم البابا له -على أرثوذكسيَّته- نجاحًا كبيرًا له، وفرصةً للتوسُّع، وتكوين مملكةٍ كبرى في أوروبا على حساب العثمانيِّين، لذلك استغلَّ فرصة وجود الفاتح في الأناضول في حملته الكبرى، وأعلن توقُّفه عن دفع الجزية إلى الدولة العثمانية، بل لم يكتفِ بذلك الأمر إنَّما عَبَر الدانوب، وقام بمذبحةٍ في الرعايا العثمانيِّين في بلغاريا[11]!
والواقع أنَّنا لكي نفهم هذا التطوُّر الخطر في الأحداث، لا بُدَّ لنا من خلفيَّةٍ تاريخيَّة سريعة عن العلاقة بين الدولة العثمانية وإمارة الإفلاق الرومانيَّة؛ فهذه ستجعلنا نستوعب الأعمال المتهوِّرة التي قام بها هذا الأمير الروماني.
إقليم الإفلاق Eflak هو النصف الجنوبي تقريبًا من جمهوريَّة رومانيا حاليًّا، وهو يقع بين نهر الدانوب جنوبًا وجبال كاربات الجنوبيَّة Southern Carpathians، وقد تأسَّست إمارةً مستقلَّةً منفصلةً عن المجر من عام 1330م، وشعبها في المجمل روماني العرقيَّة أرثوذكسي المذهب[12]، وإمارة الإفلاق معروفةٌ في الكتابات الرومانيَّة والأوروبِّيَّة بشكلٍ عامٍّ باسم إمارة والاشيا Wallachia، وهي كلمةٌ تعني بالألمانيَّة القديمة «أرض الغرباء»، وهي كلمةٌ أطلقها السلاڤيُّون عليها عندما هاجر إليها الرومانيُّون قديمًا وسكنوا فيها[13].
دخلت إمارة الإفلاق تحت الحماية العثمانيَّة في زمن بايزيد الأول (الصاعقة)، وذلك في عام 1391م[14]، وقبلت بالتالي أن تدفع الجزية للدولة العثمانيَّة في مقابل الحماية العسكريَّة، على أن يحكمها أميرها النصراني ميرسيا الكبير (Mircea I)، وفي عام (1396م=798هـ)، وعلى حدود الإفلاق الجنوبيَّة، حقَّق بايزيد الأول انتصارًا ساحقًا على الجيوش الصليبيَّة الغربيَّة بقيادة سيجيسموند Sigismund ملك المجر في موقعة نيكوبوليس Nicopolis الشهيرة[15]، وأدَّت هذه الموقعة إلى تثبيت أقدام العثمانيِّين في الإفلاق بصورةٍ أكبر، ومع ذلك فقد فَقَدت الدولة العثمانيَّة الإفلاق بعد كارثة أنقرة (1402م =804هـ)، وإزاء حالة الضعف الشديدة التي مرَّت بها الدولة بعد سحق جيشها في موقعة أنقرة، فكَّر سيجيسموند ملك المجر في القيام بتكوين تحالفات جديدة لإعادة الكَرَّة في الهجوم على العثمانيِّين انتقامًا لهزيمة نيكوبوليس الساحقة، فكوَّن سيجيسموند تنظيمًا أوروبِّيًّا من أعلى الأسر النبيلة في القارَّة سمَّاه تنظيم التنِّين (Order of the Dragon)؛ وذلك في 1408م[16]، وكان هدف التنظيم هو الدفاع عن الصليب ضدَّ أعدائه، وبصورةٍ خاصَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وبدأ في ضمِّ الأنصار لهذا التنظيم بُغية انتظار فرصةٍ للهجوم على العثمانيِّين، ولم يتحقَّق لسيجيسموند ما أراد بسبب ولاية السلطان القوي محمد الأول (محمد چلبي) لزمام الأمور في الدولة بدايةً من سنة 1413م، بل عادت الإفلاق لدفع الجزية له عام 1417م[17]، وهكذا استقرَّت أوضاع المنطقة لصالح العثمانيِّين بشكلٍ كبير.
في عهد مراد الثاني (والد محمد الفاتح) الذي تولَّى من سنة 1421م إلى سنة 1451م، تأرجحت الأمور في الإفلاق بين التبعيَّة ومحاولة الانفلات من سيطرة العثمانيِّين. في هذه الأثناء انضمَّ أحد النبلاء الرومانيِّين الطامحين في حكم الإفلاق إلى تنظيم التنِّين التابع لسيجيسموند ملك المجر، وهذا النبيل الروماني هو ڤلاد الثاني Vlad II، وقد أُطلِق عليه اسم «دراكول» (Dracul) اشتقاقًا من كلمة «dragon» التنِّين، وكان هذا في عام 1431م[18].
في عام 1432م أقرَّ ألكسندر ألديا Alexander I Aldea أمير الإفلاق بدفع الجزيَّة للعثمانيِّين[19]؛ ولكن في عام 1436م تمكَّن ڤلاد الثاني (دراكول) من غزو الإفلاق، وحكمها تحت رعاية ملك المجر سيجيسموند، مع رفضه دفعَ الجزية للدولة العثمانيَّة، ممَّا دفعها لإعلان الحرب على الإفلاق[20]، وبعدها بعام -سنة 1437م- تُوُفِّيَ سيجيسموند ملك المجر، وفقد ڤلاد الثاني دعمه المجري، ممَّا دفعه إلى إجراء الصلح مع العثمانيِّين والعودة لدفع الجزية[21].
تذبذب ڤلاد الثاني (دراكول) في تبعيَّة العثمانيِّين، وما لبث أن تعاون مع الملك الجديد الذي حكم المجر وبولندا معًا، وهو ڤلاديسلاڤ الثالث Vladislav III، ممَّا دفع الدولة العثمانيَّة إلى اعتقاله هو وأولاده عام 1442م، ثم أُطلِقَ من جديد لحكم الإفلاق على أن يترك ولدين من أولاده (ڤلاد الثالث (Vlad III) ورادو (Radu)) رهينةً لدى الدولة العثمانيَّة لضمان ولائه لها؛ وذلك في عام 1443م[22][23].
في عام (848هـ= 1444م) انتصر مراد الثاني على الجيوش الصليبيَّة بقيادة ملك المجر وبولندا ڤلاديسلاڤ الثالث[24]، وقد قُتِل هذا الملك البولندي في المعركة وانفصلت المجر عن بولندا، وتولَّى قيادة المجر الزعيم المجري المشهور هونيادي، الذي قام عام 1447م بقتل ڤلاد الثاني بتهمة الخيانة للنصرانية[25].
أطلق العثمانيُّون سراح ڤلاد الثالث ابن ڤلاد الثاني ليحكم الإفلاق باسمهم، وساندوه بالقوَّة لتحقيق ذلك، وكان هذا في عام 1448م[26]، وتلقَّب ڤلاد الثالث بلقب «ابن التنين»؛ أي «دراكولا» Dracula[27]، ومع شدَّته وقوَّة بأسه إلَّا أنَّه لم يستطع أن يلبث في الحكم كثيرًا؛ إذ انقلب عليه نبلاء ترانسلڤانيا، وهو الإقليم الشمالي من رومانيا، وخلعوه، ليتولَّى أمور الإفلاق ڤلاديسلاڤ الثاني Vladislav II[28] من عائلة (دانشتي Dăneşti)، وهي عائلةٌ أخرى غير عائلة الملك ڤلاديسلاڤ البولندي، الذي قُتِل في ڤارنا عام 1444م[29].
لم يرغب ڤلاد الثالث في طلب العون من العثمانيِّين لكراهيَّته الشديدة لهم، خاصَّةً بعد ولاية محمد الفاتح، الذي أسقط القسطنطينية عام 1453م، ممَّا دفع ڤلاد الثالث إلى الهرب إلى المجر ليلتقي بالحاكم العسكري آنذاك، وهو هونيادي، الذي وجد فيه نصيرًا قويًّا يُمكن أن يُحقِّق له منافع في منطقة الإفلاق[30].
بعد هزيمة العثمانيِّين أمام هونيادي في بلجراد عام 1456م وجد ڤلاد الثالث (دراكولا) الفرصة سانحة للعودة إلى الإفلاق ليتولَّى حكمها، وليُمارس ترتيب الأوضاع هناك بمنتهى القسوة والشدَّة، وقد بدأ بقتل النبلاء الذين كانوا سببًا في قتل أبيه قبل ذلك بتسع سنوات، كما وضع قوانين صارمة لمقاومة اللصوص والمجرمين والمتمرِّدين على حكمه، وكانت طريقة إعدامه المفضَّلة هي الإعدام بالخازوق؛ ولذلك عُرِفَ في التاريخ باسم ڤلاد الثالث المخوزِق! (Vlad the Impaler)[31].
نتيجة قسوته الشديدة، ونتيجةً لكراهيَّة نبلاء ترانسلڤانيا له، بدءوا في إشاعة القصص المرعبة عنه في الأوساط المختلفة، وفي الأشعار والأدبيَّات، حتى أشاعوا أنَّه اعتاد على شرب دماء ضحاياه! وهذا ما استغلَّه الروائي الأيرلندي الكبير «برام ستوكر» Bram Stoker في كتابة قصَّته المشهورة «دراكولا Dracula»، التي وصف فيها أميرًا رومانيا يمصُّ دماء ضحاياه، ومع أنَّه لم يُصرِّح أنَّه يقصد ڤلاد الثالث فإنَّ الأمر اشتُهر، وبدأت كتابة قصص مصَّاصي الدماء «Vampires» منذ ذلك الحين![32].
لم يقطع ڤلاد الثالث الجزية التي كانت تُدفع إلى الدولة العثمانيَّة لمدَّة خمس سنوات من حكمه، ثم انقطع عنها في عام 1461م[33]، ووردت الأنباء لمحمد الفاتح أنَّ ڤلاد الثالث قام بعلاقاتٍ سياسيَّةٍ سرِّيَّةٍ مع ماتياس ملك المجر الجديد المعادي للدولة العثمانيَّة[34].
استدعى الفاتح ڤلاد الثالث إلى إسطنبول لمناقشة هذه الأزمة؛ ولكنه رفض الإذعان لطلبه، وأرسل خطابًا لمحمد الفاتح في نوفمبر 1461م؛ يُخبره فيه بعدم قدرته على دفع الجزية، وكذلك عدم إمكانيَّة حضوره لإسطنبول خوفًا من هجوم ملك المجر على بلاده[35]. هنا قرَّر الفاتح أن يُرسل حمزة باشا والي نيكوبوليس على رأس فرقةٍ من ألف فارسٍ إلى الإفلاق؛ لإجبار ڤلاد الثالث على تنفيذ مطالب السلطان (خريطة رقم 8)؛ ولكن للأسف لم يُمهل ڤلاد الثالث الفرقة العثمانيَّة لكي تصل إلى عاصمة الإفلاق، فطوَّق العثمانيِّين عند مرورهم في إحدى المضايق الجبليَّة، واعتُقِلت الفرقة بكاملها، ثم أمر بإعدام الفرقة كلِّها بالخوازيق بما فيهم القائد حمزة باشا[36]، ولم يكتفِ بهذا؛ إنَّما ذهب إلى حصن چورچيو (Giurgiu) العثماني، وهو جنوب بوخارست Bucharest، واستطاع فتح الحصن وقتل كلِّ جنوده[37]، وتجاوز ذلك الأمر بأنْ عبر الدانوب المتجمِّد آنذاك، واجتاح وجنوده القرى البلغاريَّة الموجودة في المنطقة، وقتل ما يقرب من 25 ألف مسلم![38][39].
كانت كارثةً بكلِّ المقاييس، ولحظة وصول الخبر إلى السلطان محمد الفاتح أرسل جيشًا بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا أنچلوڤيتش Mahmud Pasha Angelović، وكان تعداد الجيش 18 ألف مقاتل، إلَّا أنَّ ڤلاد الثالث انتصر على الجيش، ويُقال: إنَّ النَّاجين من العثمانيِّين من القتال كانوا ثمانية آلافٍ فقط[40]!
لم يجد السلطان محمد الفاتح حلًّا إلَّا أن يتحرَّك بنفسه إلى لقاء ڤلاد الثالث دراكولا المرعب، خاصَّةً بعد انتشار الأنباء في أوروبا، وشعور الأوروبيِّين أنَّ هناك فرصةً للانتصار على العثمانيِّين، وبالفعل بدأ الفاتح في حشد عددٍ كبيرٍ من كافَّة الولايات العثمانيَّة، ووصل عدد الجيش إلى مائةٍ وخمسين ألف مقاتل[41][42]، وبالغت المصادر الأوروبِّيَّة حتى وصلت بالجيش إلى 250 ألف مقاتل[43]!
اصطحب السلطان محمد الفاتح معه في حملته رادو العادل Radu the Fair، وهو الأخ الأصغر للأمير ڤلاد الثالث، الذي كان أسيرًا عند الدولة العثمانيَّة[44]، وتختلف المصادر في إسلام هذا الرجل من عدمه؛ لكنَّهم يتَّفقون على سموِّ أخلاقه، وحسن تربيته وثقافته، ودرايته بالقرآن واللغة التركيَّة، واللغات الأخرى، وكذلك الكثير من العلوم، وقد كان صديقًا مقرَّبًا من الفاتح[45]، وأراد الفاتح أن يضعه على إمارة الإفلاق بعد أن يُزيح عنها دراكولا المرعب[46].
تحرَّك الجيش في إبريل 1462م، وتوجَّه مباشرةً إلى عاصمة الإفلاق ترجوڤيشت Târgovişte[47]، وهي مدينةٌ تبعد حوالي سبعين كيلو متر عن بوخارست في الاتجاه الشمالي الغربي، وقد اختار السلطان محمد الفاتح أن يعبر نهر الدانوب عند مدينة دروبيتا تورنو سيڤيرين Drobeta Turnu Severin؛ لكي يُسْقِط في طريقه قلعةً مهمَّة، وقد نجح في ذلك، وعَبَر الدانوب متَّجهًا إلى ترجوڤيشت، وكان ذلك في 4 يونيو 1462م، وكانت المسافة من مكان عبوره إلى العاصمة تزيد على المائة كيلو متر، فاتَّبع ڤلاد الثالث معه سياسة عدم المواجهة المباشرة قدر استطاعته، فاتَّبع أسلوب الأرض المحروقة؛ حيث كان يَحرِق كلَّ المزروعات في طريق الجيش العثماني حتى لا يتوفَّر له طعامٌ يكفي لغذائه، كما سمَّم المياه، وخَلَق المستنقعات التي تعوق حركة الجيش عن طريق تحويل مجاري المياه والأنهار الصغيرة، بالإضافة إلى ذلك كان يقوم بحرب العصابات ضدَّ الجيش العثماني[48].
وعلى الرغم من هذه الإجراءات لم يتوقَّف الجيش العثماني عن الزحف، وجعل وجهته في البداية مدينة بوخارست ليُحاول إسقاط قلعتها حتى لا تكون في ظهره أثناء توجُّهه للشمال في اتِّجاه العاصمة؛ ولكن لم ينجح في فتح القلعة؛ فلم يُرِد أن يُضيع وقتًا، فتركها إلى اتِّجاه العاصمة ترجوڤيشت[49].
وصل السلطان الفاتح إلى منطقة جنوب ترجوڤيشت في 16 يونيو 1462م، فعسكر الجيش هناك استعدادًا لاستكمال المسير؛ لكنَّه بُوغِت في أثناء الليل بهجوم ڤلاد الثالث على الجيش بغية اغتيال الفاتح شخصيًّا، ودارت موقعةٌ كبيرةٌ في أثناء الليل، وكان هدف الإفلاقيِّين الوحيد هو قَتْلُ السلطان محمد الفاتح أملًا في إفشال الحملة كلِّها؛ لكنَّهم فشلوا في الوصول إلى خيمته[50]، ودار القتال العنيف لعدَّة ساعات؛ ولكن دون خسائر كبرى في الطرفين[51].
أكمل الفاتح طريقه ثم دخل مدينة ترجوڤيشت فوجدها خاليةً من سكَّانها؛ ولكن وجد فيها مفاجأةً قاسية؛ إذ صُدِمَ برؤية غابة كثيفة من الخوازيق تُشَكِّل ممرًّا طويلًا به أكثر من عشرين ألف مسلم تخترقهم هذه الخوازيق المرعبة[52]، وكان فيهم حمزة باشا والي نيكوبوليس، وقد عرفوه لوجوده على خازوقٍ خاصٍّ أكبر من بقيَّة الخوازيق[53]، وكانت الطيور الجارحة تنهش في أجساد الموتى في منظرٍ بشعٍ لم يرَ العثمانيُّون مثله قبل ذلك![54].
لم يحتمل السلطان محمد الفاتح المنظر الرهيب، فأمر جنوده بالانسحاب من المدينة الخالية على الفور، وعسكر خارج المدينة بعد أن حفر خندقًا حول جيشه ليتجنَّب تكرار الهجوم الليلي الذي حدث قبل ذلك، ثم في الصباح قرَّر أن يستكمل رحلته في تتبُّع ڤلاد الثالث، الذي لم يكن يبقى في مكانٍ واحد، ولا يُريد الصدام المباشر؛ بل كان ينتقل داخل الإفلاق بسرعةٍ من موقعٍ إلى آخر[55].
قرَّر الفاتح وهو في طريقه إلى لقاء ڤلاد الثالث أن يسعى في ثلاثة اتِّجاهات:
أمَّا الاتِّجاه الأوَّل: فهو التعاون الدبلوماسي مع أمير البغدان استيفين الثالث (Stephen III of Moldavia)؛ وذلك عن طريق دعمه وتشجيعه على قتال ڤلاد الثالث في مواطن أخرى حتى يُشتِّت قوَّة الزعيم الإفلاقي، وقد حدث بالفعل أن هاجم استيفين الثالث ميناء كيليا التابع للإفلاق (Chilia)، وهو الآن أحد موانئ أوكرانيا، وهو ميناء على نهر الدانوب له أهميَّةٌ استراتيجيَّة، وقد أدَّى هذا الهجوم إلى إجبار ڤلاد الثالث على توجيه جزءٍ من قوَّته إلى الميناء، ممَّا شتَّته نسبيًّا[56].
وأمَّا الاتِّجاه الثاني: فقد قام به السلطان محمد الفاتح بنفسه؛ حيث توجَّه إلى مدينة برايلا المهمَّة Brăila[57]؛ في محاولةٍ لإجبار ڤلاد الثالث على ملاقاته هناك.
وأمَّا الاتِّجاه الثالث فكان مهمًّا للغاية؛ وهو دفع رادو أخي ڤلاد الثالث إلى السَّعي إلى إقامة علاقات دبلوماسيَّة قويَّة مع نبلاء الإفلاق وترانسلڤانيا لكسب دعمهم وتأييدهم، وتمهيد الطريق لولايته على الإفلاق، وتهديدهم بإمكانيَّة السلطان محمد الفاتح أن يجتاح الإقليم بكامله، وقد آتت هذه الجهود ثمارها، خاصَّةً أنَّ أمراء الإفلاق وترانسلڤانيا كانوا يكرهون ڤلاد الثالث كراهيةً كبيرةً لساديَّته وعنفه في قيادة البلاد، كما أنَّه عزل الكثيرين منهم عن أمور الإدارة والتملُّك بحجَّة رضاهم، أو مشاركتهم في قتل أبيه قبل ذلك بخمسة عشر عامًا[58].
أدَّت هذه الأمور إلى رُجحان كِفَّة العثمانيِّين بشكلٍ كبير، وبدا أنَّ الأوضاع تسير إلى الأفضل، مع أنَّ مكان ڤلاد الثالث لم يكن معلومًا على وجه التحديد، وفي نهاية يونيو 1462م اضطرَّ السلطان محمد الفاتح إلى ترك الإفلاق والعودة إلى أدرنة[59]؛ لأنَّ بقاءه خارجها أكثر من شهرين كان خَطِرًا للغاية؛ إذ تموج الدولة بالصراعات في أكثر من موضع؛ وخاصَّةً في الأناضول، واليونان، والبوسنة، وبالتالي لا بُدَّ من العودة لإدارة كلِّ هذه الأمور، وعدم الانشغال بأمر الإفلاق أكثر من الوقت المناسب.
ترك السلطان محمد الفاتح فرقة كبيرة من جيشه مع رادو وعاد إلى أدرنة، وقد دارت عدَّة معارك بين رادو وأخيه ڤلاد الثالث بعد رحيل محمد الفاتح، وبعد انتصارات وهزائم استقرَّت الأمور لرادو في منتصف أغسطس 1462م (بعد شهرٍ ونصفٍ من رحيل الفاتح)[60]، وأُعلِن -بموافقة النبلاء- واليًا على الإفلاق تحت الحماية العثمانيَّة[61].
هرب ڤلاد الثالث إلى المجر، ولجأ إلى ملكها ماتياس، وحاول الحصول على دعمه للعودة إلى حكم الإفلاق، لكنَّ ماتياس كانت له حساباتٌ أخرى؛ إذ لم يكن يرغب من ناحية في الصدام مع الدولة العثمانيَّة، خاصَّةً بعد استقرار العثمانيِّين في صربيا والإفلاق، وخوفه من إجبار السلطان محمد الفاتح على غزو المجر إذا استفزَّه بدخول الإفلاق، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ ماتياس لم يكن يُريد للعلاقة الطيِّبة التي صارت بين ڤلاد الثالث الأرثوذكسي والبابا بيوس الثاني (Pope Pius II) بابا الڤاتيكان الكاثوليكي أن تستمرَّ، وكان البابا يدعم ڤلاد الثالث بأموالٍ كثيرةٍ لمقاومة العثمانيِّين، فأراد ملك المجر أن يتوجَّه دعمُ البابا كلُّه للمجر لا لڤلاد الثالث؛ ومِنْ ثَمَّ قام بعملٍ غير متوقَّع، وهو القبض على ڤلاد الثالث والزجُّ به في السجن! ولكيلا يغضب البابا من حَبْس أحد حلفائه، زوَّر ملكُ المجر عدَّة خطاباتٍ يعرض فيها ڤلاد الثالث على محمد الفاتح التعاون معه ضدَّ ملك المجر في مقابل العودة إلى كُرسيِّه في الإفلاق[62][63].
وسواءٌ صدَّق البابا هذا الزعم أم لم يُصدِّقه فإنَّ ڤلاد الثالث لم يستطع التحرُّر من سجنه؛ بل استمرَّ فيه مدَّة ثلاثة عشر عامًا كاملة، حيث لم يخرج منه إلَّا في عام 1475م[64] بعد أن تحوَّل إلى الكاثوليكية في سبيل خروجه[65]، وكان هذا في زمن الملك المجري نفسه ماتياس، وسيأتي الحديث عن تكملة قصَّته في حينها إن شاء الله.
انتهت بذلك أزمة الإفلاق، واستقرت الأمور تمامًا؛ خاصَّةً أنَّ الشعب هناك كان يُفضِّل الانضواء تحت الحماية العثمانيَّة بديلًا عن الحماية المجريَّة؛ لأنَّ العثمانيِّين لا يتعرَّضون لديانتهم الأرثوذكسية، بينما يدفع المجريُّون أهل الإفلاق إلى الكاثوليكيَّة، بالإضافة إلى أنَّ السِّلْمَ العثماني والرِّفق في المعاملة يختلف كُلِّيًّا عن الساديَّة والعنف والبطش الذي كان يُمارسه ڤلاد الثالث المخوزِق (Vlad the Impaler).
وصل الفاتح إلى أدرنة في يوليو 1462م، ويبدو أنَّه وجد أنَّ إدارة الأمور من أدرنة أفضل منها من إسطنبول في هذه المرحلة لكونها قريبةً من الأحداث الأوروبِّيَّة النشطة في هذه الأيَّام، وفور عودته إليها رُفِعَت إليه عدَّة مشكلات، وكان عليه أن يتعامل معها بسرعةٍ قبل أن تتفاقم إحداها.
المشكلة الأولى: تحرَّشت بعض قوَّات إسكندر بك -على الرغم من الهدنة مع الدولة العثمانية- ببعض القوَّات العثمانية الموجودة في مقدونيا بالقرب من ألبانيا، واستطاعت أخذ كميَّاتٍ كبيرةٍ من الغنائم، والعودة بها إلى ألبانيا[66]، ومع أنَّ المؤرِّخ الألباني النصراني فان نولي Fan Noli يدَّعي أنَّ محمدًا الفاتح أرسل جنوده لحرب ألبانيا عندما علم بوجود اضطرابات بين ألبانيا والبندقيَّة جعلت فرصة مهاجمة ألبانيا سانحة، وهو بالتالي يلقي اللوم على الفاتح في نقض الهدنة[67]، فإنَّ المؤرِّخ الألباني المعاصر للحدث ديمتريو فرانكو Demetrio Franco، وهو من أشدِّ المتعصبين لإسكندر بك، يصف -وبمنتهى الوضوح- أنَّ القوَّات العثمانية كانت قريبةً «near» من ألبانيا، وليست فيها، وأنَّ الجيش الألباني «عاد» بالغنائم إلى ألبانيا، بمعنى أنَّه كان في مقدونيا وليس في ألبانيا[68]، فهذا يُؤكِّد أنَّ إسكندر بك هو الذي عبر إلى الأراضي العثمانية في مقدونيا، وليس العكس.
المشكلة الثانية: امتنع نيكولو جاتيلوسيو Niccolò Gattilusio حاكم جزيرة ليسبوس Lesbos الچنوي عن دفع الجزية إلى الدولة العثمانية، بل فعل ما هو أكثر من ذلك؛ إذ فتح موانئ الجزيرة للقراصنة الإسبان والإيطاليِّين والصقلِّيِّين، الذين اتَّخذوها قاعدةً لمهاجمة الشواطئ العثمانية، وسرقة السفن التركيَّة، بل أخذ بعض المسلمين من على الشواطئ عنوةً وبيعهم في أسواق العبيد[69]!
المشكلة الثالثة: هي مشكلة منبثقة من المشكلة الثانية؛ إذ إنَّ الفقد المتكرِّر للسيطرة على جزر بحر إيجة الشماليَّة، كما حدث قبل ذلك مع احتلال الأسطول الباباوي لبعضها عام 1457م، والآن ما يحدث في جزيرة ليسبوس، هذا الفقد المتكرِّر يُهدِّد بشكلٍ دائمٍ المضايق البحريَّة، وبالتالي يُهدِّد إسطنبول ذاتها، ويفتح الطريق إلى البحر الأسود، ولهذا كان لا بُدَّ من البحث عن طريقةٍ تُوَفِّر الحماية الدائمة والآمنة لهذه المضايق الاستراتيجيَّة.
المشكلة الرابعة: وردت الأخبار من البوسنة أنَّ ملكها استيفين توماسيڤيتش Stephen Tomašević قرَّر الامتناع عن دفع الجزية، وبالتالي من المتوقَّع أن يُوَجِّه ولاءه تجاه المجر بدلًا من الدولة العثمانية، ولا شَكَّ أنَّه سيحصل من البابا على دعمٍ نتيجة هذا السلوك العدائي ضدَّ الدولة العثمانية، وليس هذا فقط؛ بل عقد الملك البوسني اتِّفاقيَّة تحالفٍ مع إسكندر بك المنشقِّ الألباني[70]، وهذا يعني أنَّ احتمال الاشتراك في عملٍ عسكريٍّ ضدَّ الدولة العثمانيَّة صار قريبًا.
المشكلة الخامسة: كانت مشكلة في ظاهرها يسيرة، ولكن كان لها من الآثار الكثير؛ فقد سرق أحد الخدم المسلمين عند قائد مدينة أثينا العثماني مائةَ ألف آقجة[71] فضِّيَّة من القائد، وهرب بها إلى مدينة كورون التابعة للبندقيَّة، وعندما طالب القائدُ العثماني قائدَ مدينة كورون البندقي بردِّ الخادم رفض بدعوى أنَّه تنصَّر، ووردت الأنباء بأنَّه تقاسم هذا المال مع قائد المدينة البندقي[72]، وكان هذا تصعيدًا خطرًا للأحداث؛ إذ إنَّ هذا مخالفٌ لاتِّفاقيَّة الشراكة التجاريَّة بين الدولة العثمانية والبندقيَّة، ونظرًا إلى توتُّر العلاقة بين الدولتين منذ أحداث فتح القسطنطينية فإنَّ مثل هذا الحادث قد يكون شرارة بدء حربٍ بين القطبين الكبيرين.
كانت هذه هي المشكلات التي واجهت الفاتح رحمه الله عندما عاد إلى أدرنة بعد حملة الإفلاق الصعبة، فماذا هو فاعلٌ فيها؟!
وجد الفاتح أنَّ مشكلة البوسنة تحتاج إلى إعدادٍ كبير؛ حيث إنَّ موقعها الاستراتيجي سيجعل التنافس عليها كبيرًا، وقد يتدخَّل في الصراع عددٌ من القوى المجاورة، مثل: المجر، والبندقيَّة، وألبانيا، وصربيا. ولذلك أجَّل هذه المسألة للعام القادم حتى يقوم بالإعداد المناسب لها، ولكنَّه في الوقت نفسه وجد أنَّ مشكلة ألبانيا لا يُمكن السكوت عليها، فقرَّر أن يُرسل عدَّة حملاتٍ عسكريَّةٍ إلى هناك كردِّ فعلٍ لتعدِّي إسكندر بك على جيشه. لم يكن الفاتح ينوي بهذه الحملات أن يفتح ألبانيا، أو أن يُنهي تمرُّد إسكندر بك؛ فهو يعلم أنَّ هذا يتطلَّب إعدادًا ضخمًا، إنَّما كان فقط يُريد إثبات الوجود في الساحة المقدونيَّة الألبانيَّة، ولكي لا تتنامى طموحات إسكندر بك هناك، لذلك جاءت الحملات العسكريَّة صغيرة ومحدودة، ولكن هذا للأسف أتى بنتيجةٍ سلبيَّة؛ إذ تعرَّضت ثلاث حملاتٍ متتاليةٍ لهزائم عسكريَّة؛ الأولى في موكرا Mokra، وهي موقعةٌ تُعْرَف بموكرا الثانية (كانت الأولى عام 1445م، وانتصر فيها إسكندر بك على العثمانيِّين زمن مراد الثاني)، والثانية في بولوج Pollog، والثالثة في ليڤاد Livad[73]، كانت هذه الهزائم كلُّها في شهرٍ واحدٍ هو أغسطس 1462م[74]، وهذا كان يُنذر بعواقب وخيمة على الدولة العثمانية، كما يُؤكِّد المؤرِّخ الأميركي دينيس هشيك Dennis Hupchick أنَّ البندقيَّة هي التي شجَّعت إسكندر بك على حرب العثمانيِّين ونقض الهدنة[75]، وهذا يعني أنَّ هناك احتمالًا لفتح باب الحرب مع البندقيَّة ذاتها، خاصَّةً مع التصعيد الحادث بالفعل في اليونان بعد أزمة الخادم التي أشرنا إليها منذ قليل.
مع أنَّ هذه الهزائم قلَّلت من نشوة العثمانيِّين بانتصارهم في الإفلاق؛ فإنَّها لم تُوقِف عزيمة الفاتح عن أخذ إجراءاتٍ قويَّةٍ تُحقِّق نجاحًا للدولة العثمانيَّة، وإذا كان التوجُّه إلى ألبانيا أو البوسنة سيكون صعبًا الآن نتيجة قرب حلول الشتاء، فإنَّ هناك بعض الخطوات التي يُمكن اتِّخاذها في المناطق القريبة من مركز الدولة في إسطنبول وأدرنة. كانت هذه الخطوات ثلاثة أعمال مهمَّة: أمَّا الأوَّل: فهو تأمين العاصمة إسطنبول والمضايق، والثاني: هو التعامل مع تمرُّد ليسبوس، والثالث: التعامل مع مخالفة البندقيَّة للمعاهدة التجاريَّة.
بالنسبة إلى الأمر الأوَّل؛ فقد أمر الفاتح ببناء قلعتين كبيرتين على ضفتي مضيق الدردنيل، وذلك على غرار قلعتي أناضولو حصار، وروملي حصار على مضيق البوسفور، وسوف تُوضَع مدافع قويَّة في القلعتين، ممَّا سيمنع أيَّ سفينةٍ من عبور مضيق الدردنيل إلَّا بموافقة الجيش العثماني، فكان هذا هو التأمين المثالي للعاصمة، وهكذا بُنيت قلعة كِليد البحر على الجانب الأوروبِّي، والقلعة السلطانيَّة على الجانب الآسيوي من مضيق الدردنيل[76].
أمَّا الأمر الثاني فكان مهمًّا للغاية؛ وهو التعامل مع ملفِّ ليسبوس، فتمرُّد الجزيرة لم يكن فقط في منع الجزية، ولكن في فتح الباب لأساطيل القراصنة لتُهاجم الدولة العثمانيَّة في نظير أن يأخذ قائدها نسبةً من المسروقات! إنَّ هذا تعدٍّ جريءٌ يُمكن أن يُؤثِّر سلبًا بشكلٍ كبيرٍ في الدولة العثمانية، خاصَّةً أنَّه يأتي من جزيرة ليسبوس التي تنتمي إلى جمهوريَّة چنوة، وهي الجمهوريَّة الأضعف في إيطاليا في الآونة الأخيرة، فإذا سكت الفاتح على تعدِّيَّاتها فهذا سيدفع الأقوياء في إيطاليا كالبندقيَّة، ونابولي، والبابا، لكي يتعدوا على الدولة العثمانية كچنوة، ولهذا أخذ الفاتح قرارًا حاسمًا بفتح الجزيرة عسكريًّا، بل قيادة الحملة المتَّجهة إليها بنفسه؛ أي إنَّها حملةٌ همايونيَّة.
جزيرة ليسبوس من الجزر الكبرى في بحر إيجة؛ فهي الثالثة في المساحة بعد كريت Crete وإيوبويا Euboea، وهي قريبةٌ من الشاطئ التركي الأناضولي، وعاصمتها هي مدينة ميتيليني Mytiliene على الشاطئ الشرقي للجزيرة، وبها قلعةٌ حصينةٌ للغاية، وكانت الحامية التي تتولَّى الدِّفاع عن الجزيرة مكوَّنةً من ألفٍ إلى خمسة آلاف جنديٍّ حسب الروايات المختلفة، فيهم بعض المحاربين من فرسان القديس يوحنا، وكذلك بعض الإسبان[77].
أعدَّ السلطان الفاتح جيشًا كبيرًا لفتح الجزيرة، يُقدَّر بحوالي أربعين ألف مقاتلٍ مصحوبًا بأسطولٍ كبيرٍ تتراوح سفنه بين خمسٍ وستِّين إلى مائتي سفينة[78]. تحرَّك السلطان محمد الفاتح بجيشه برِّيًّا في الأناضول حتى وصل قبالة الجزيرة، وكان الأسطول قد وصل إلى الجزيرة قبله في أوَّل سبتمبر 1462م، وكان الأسطول بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا أنچلوڤيتش[79]. عَبَر الفاتح إلى الجزيرة، وضُرِب الحصار حول المدينة الرئيسة في الجزيرة، وهي العاصمة ميتيليني، وطلب الجيش العثماني من أهل الجزيرة التسليم، فرُفِض الطلب، ومِنْ ثَمَّ نُصِبَت المدافع، وبدأ القصف المتوالي على المدينة، وذلك بعد أربعة أيَّامٍ من وجود الجيش العثماني؛ أي بدايةً من 5 سبتمبر 1462م، وبعد أسبوعين، وفي 19 سبتمبر 1462م، أعلنت قيادة الجزيرة قبول التسليم للجيش العثماني، وهكذا سقطت الجزيرة دون قتالٍ مباشر، وكان من أسهل فتوحات العثمانيِّين[80].
أعطى هذا الفتح دفعةً معنويَّةً كبيرةً للجيش العثماني وقيادته بعد الأزمة النفسيَّة التي تعرَّض لها إثر هزائم ألبانيا، ولعلَّ هذه الدفعة كانت سببًا في جرأة الفاتح على الإقدام على عمليَّةٍ عسكريَّةٍ أخرى في اليونان ضدَّ البندقيَّة؛ ردًّا على إيواء القائد البندقي لمدينة كورون للخادم الهارب من أثينا، فأرسل جيشه بقياده عمر بك لحرب الحامية البندقيَّة عند مدينة ليبانتو Lepanto، والذي حقَّق عليها نصرًا مفاجئًا سريعًا في نوفمبر 1462م[81]، ولقد كان النصر -على كونه محدودًا- مهمًّا لأنَّه من جانبٍ يُعَدُّ ردًّا قويًّا على مخالفة البندقيَّة، ومن جانبٍ آخر يُوضِّح عدم رهبة الدولة العثمانية من الحرب ضدَّ جمهوريَّة البندقيَّة القويَّة، ثم من جانبٍ ثالثٍ مهمًّا لأنَّه حدث في الشتاء، وهو وقتٌ لا تعتاد فيه الجيوش على الحروب، ممَّا أكَّد كفاءة الجيش العثماني.
هكذا كان عام 1462م في المجمل عامًا سعيدًا على الدولة العثمانية، فعلى الرغم من الهزائم اليسيرة التي حدثت في ألبانيا فإنَّ النجاحات التي حقَّقها الجيش العثماني في الإفلاق، وليسبوس، وليبانتو كانت كبيرةً ومهمَّة، بل إنَّ المشكلة التي أحدثها ملك البوسنة استيفين توماسيڤيتش بإعلانه قطع الجزية لم تكن مزعجةً للدولة العثمانية، بل لعلَّها كانت مفيدة؛ لأنَّها أعطت السلطان الفاتح المبرِّر الشرعي والقانوني لفتح البوسنة، وهو ما سيكون شغله الشاغل في العام المقبل؛ أي عام 1463م، وهو موضوع المقال القادم![82].
[1] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 71.
[2] Bower Archibald The History of the Popes [Book]. - London, UK : Printed by author,, 1766, vol. 7, p. 292.
[3] Bisaha Nancy Pope Pius II's Letter to Sultan Mehmed II: a Reexamination [Book Section] // Crusades / book auth. Kedar Benjamin Z., Phillips Jonathan and Riley-Smith Jonathan. - New York, USA : Routledge, 2016, vol. 1, pp. 183-200.
[4] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 233.
[5] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, pp. 198-199.
[6] Freely, 2009, p. 71.
[7] Bisaha, 2016, vol. 1, p. 199.
[8] Sebok Marcell and Birnbaum Marianna D. Practices of Coexistence: Constructions of the Other in Early Modern Perceptions [Book]. - Budapest, Hungary : Central European University Press,., 2017, p. 73.
[9] Bisaha, 2016, vol. 1, p. 198.
[10] Schwoebel Robert The Shadow of the Crescent: The Renaissance Image of the Turk, 1453–1517 [Book]. - New York, USA : St. Martin's Press, 1967, p. 66.
[11] Jean Berenger C.A. Simpson A History of the Habsburg Empire 1273-1700 [Book]. - [s.l.] : Routledge., 2014, p. 106.
[12] Pop Ioan Aurel Romanians and Romania: A Brief History [Book]. - [s.l.] : Columbia University Press, 1999, p. 45.
[13] Blackie Christina Geographical Etymology: A Dictionary of Place-names Giving Their Derivations [Book]. - London, UK : John Murray, 1887, p. 204.
[14] أوزتونا، 1988م صفحة 1/104.
[15] Pálosfalvi Tamás V. László [Book Section] // Magyarország vegyes házi királyai [The Kings of Various Dynasties of Hungary] (in Hungarian) / book auth. Kristó Gyula. - [s.l.] : Szukits Könyvkiadó, 2018, pp. 58-65.
[16] Florescu Radu R and McNally Raymond T. Dracula, Prince of Many Faces: His Life and his Times [Book]. - [s.l.] : Back Bay Books , et al., 1989, p. 37.
[17] Kia Mehrdad The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2017, vol. 1, p. 228.
[18] Florescu, et al., 1989, p. 40.
[19] Panaite Viorel The Ottoman Law of War and Peace: The Ottoman Empire and Tribute Payers [Book]. - [s.l.] : East European Monographs, 2000, p. 266.
[20] Treptow Kurt W. Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula [Book]. - [s.l.] : The Center of Romanian Studies, 2000, p.43.
[21] Treptow, 2000, p.44.
[22] Treptow, 2000, pp. 42-48.
[23] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 285.
[24] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية [كتاب] / المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 158.
[25] Mureşanu Camil John Hunyadi: Defender of Christendom [Book]. - Iasi , Romanian : The Center for Romanian Studies, 2001, p. 190.
[26] Cazacu Matei The reign of Dracula in 1448 [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepeș / book auth. Treptow Kurt W. - [s.l.] : East European Monographs, Columbia University Press, 1991., 1991, p. 56.
[27] Livingstone David Terrorism and the Illuminati: A Three-thousand-year History [Book]. - [s.l.] : Progressive Press,, 2011, p. 105.
[28] Cazacu, 1991, p. 57.
[29] Grumeza Ion The Roots of Balkanization: Eastern Europe C.E. 500-1500 [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America, 2010, p.3.
[30] Cazacu, 1991, p. 58.
[31] Treptow Kurt W Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepeș [Book]. - [s.l.] : East European Monographs, Columbia University Press, 2000, pp. 78-79.
[32] Florescu, et al., 1989, p. 221.
[33] Berenger, et al., 2014, p. 106.
[34] Babinger, 1978, pp. 203-204.
[35] Florescu, et al., 1989, p. 132.
[36] Treptow, 2000, p. 123.
[37] Florescu, et al., 1989, p. 133.
[38] فريد، 1981م صفحة 169.
[39] Babinger, 1978, p. 204.
[40] Florescu, et al., 1989, p. 134.
[41] فريد، 1981م صفحة 170.
[42] Chalkokondyles Laonikos The Histories [Book]. - [s.l.] : Harvard University Press, 2014., p. 377.
[43] Florescu, et al., 1989, p. 139.
[44] فريد، 1981م صفحة 170.
[45] Iorga Nicolae Călători străini despre Ţările Române [Book]. - [s.l.] : Bucureşti : Editura Ştiinţifică, 1968, pp. 127-128.
[46] فريد، 1981م صفحة 170.
[47] Florescu, et al., 1989, p. 139.
[48] Florescu, et al., 1989, pp. 143-144.
[49] Stoicescu Nicolae Vlad Ţepeş: Prince of Walachia [Book] / trans. Krikorian from the Romanian: Cristina. - Bucharest, Romania : Academia Republicii Socialiste România,, 1978, pp. 117-118.
[50] Rezachevici, 1991, pp. 117-118.
[51] Florescu, et al., 1989, pp. 145-146.
[52] فريد، 1981م صفحة 170.
[53] Florescu, et al., 1989, p. 148.
[54] Chalkokondyles, 2014, p. 39.
[55] Florescu, et al., 1989, p. 148.
[56] Babinger, 1978, pp. 205-206.
[57] Florescu, et al., 1989, p. 133.
[58] Florescu, et al., 1989, p. 150.
[59] Cazacu, 2017, p. 154.
[60] Florescu, et al., 1989, p. 152.
[61] فريد، 1981م صفحة 170.
[62]Rezachevici Constantin Vlad Țepeș – Chronology and historical bibliography [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepe / book auth. Treptow Kurt W. - East European Monographs, Columbia University Press, 1991, p. 261.
[63] Treptow, 2000, p. 153.
[64] Rezachevici, 1991, p. 261.
[65] Treptow, 2000, p. 161.
[66] Franco Demetrio Comentario de le cose de' Turchi, et del S. Georgio Scanderbeg, principe d' Epyr [Book]. - Venice : Altobello Salkato, 1480, p. 328.
[67] Noli Fan Stilian George Castrioti Scanderbeg (1405–1468) [Book]. - New York, USA : International Universities Press, 1947, p. 65.
[68] Franco, 1480, p. 328
[69] Finlay George The history of Greece under Othoman and Venetian Domination, A. D. 1453-1821 [Book]. - Edinburgh And London : William Blackwood and sons, 1856, p. 71.
[70] Shaw Stanford Jay and Shaw Ezel Kural History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., vol. 1, 1976, p. 64.
[71] عملة الدولة العثمانية آنذاك، وكانت من الفضة.
[72] Setton, 1976, vol. 2, p. 241.
[73] Franco, 1480, p. 329.
[74] Brackob A. K Scanderbeg: A History of George Castriota [Book]. - las vegas, N V, USA : Histria, 2018, p. 113.
[75] Hupchick Dennis p. The Balkans: From Constantinople to Communism [Book]. - New York, USA : Palgrave macillan, 2002, p. 121.
[76] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 84.
[77] Babinger, 1978, p. 210.
[78] Wright Christopher The Gattilusio Lordships and the Aegean World 1355-1462 [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2014, p. 74.
[79] Miller William Essays on the Latin Orient [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1921, p. 345.
[80] Browning Oscar The Age of the Condottieri: A Short History of Mediaeval Italy from 1400-1530 [Book]. - London, UK : Methuen & Co, 1895, p. 98.
[81] Setton, 1976, vol. 2, p. 241.
[82] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 389- 403.
التعليقات
إرسال تعليقك