التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في عام 1473م تمرد استيفين الثالث حاكم إمارة البغدان على السلطان محمد الفاتح، وتوقف عن دفع الجزية، فكيف تصرف محمد الفاتح مع هذا الأمر؟
عجيبة هي حياة العظماء من القادة والأمراء!
لا يكاد يُغْلَق ملفٌّ مهمٌّ في حياتهم حتى تُفتح ملفَّات أكثر أهميَّة، ولا تنتهِ مشكلةٌ إلَّا وتظهر مشكلات، ولا يخرجون من أزمةٍ إلَّا ويقعون في أزمات! هل هذا لأنَّهم شديدو التأثير فيمن حولهم؟ أم لأنَّ عظمتهم تخلق لهم أعداءً كثيرين من الحاقدين والحاسدين؟ أم لأنَّهم لا يستطيعون السكوت عن منكرٍ ولا يقبلون أوضاعًا منقلبة؟ أم لأنَّ هذا قَدَرَهم حتى يُعلِّموا الدنيا كيف يُمكن التعامل مع الأمور والصعاب؟ أم لهذا كلِّه؟!
أحيانًا نقرأ حياة بعض القادة العاديِّين غير المؤثِّرين، فلا نجد فيها شيئًا يستحقُّ الدراسة والتحليل، مع كونهم حكموا عشرات السنين، وأحيانًا أخرى -كما هو الحال في قصَّة محمد الفاتح رحمه الله- لا نستطيع ترك عامٍ واحدٍ من أعوام حكمه دون دراسةٍ وتعمُّقٍ وفهم!
هذا هو الفارق بين قائدٍ عظيمٍ كالفاتح، وبين قادةٍ كثيرين مرُّوا في التاريخ دون أن نعرف أسماءهم، أو نشعر بوجودهم..
هذا هو الفارق بين قائدٍ يصلح أن يكون قدوةً ومثالًا يُحتذى، وبين قادةٍ ينبغي ألَّا يشغل المرء نفسه بقراءة سيرتهم وقصَّة حياتهم..
وهو فارقٌ شاسعٌ كما هو الفارق بين السماء والأرض!
أقول هذا الكلام لأنَّ الفاتح رحمه الله لم يَكَدْ يُغْلِق ملفَّ أوزون حسن، حتى فتح ملفَّين كبيرين في آنٍ واحد! أحدهما قديمٌ والآخر حديث.. أمَّا القديم فهو ملفُّ ألبانيا المتمرِّدة، وأمَّا الحديث فهو ملفُّ إمارة البغدان (والتي تضم دولة مولدوڤا حاليًّا)!
إنَّ قصَّة ألبانيا لا تزداد إلَّا تأزُّمًا! لقد مرَّ على وفاة إسكندر بك خمسة أعوامٍ الآن، ونحن في عام 1473م، وما زال الوضع على ما هو عليه.. البندقية تُقدِّم حمايةً كاملةً للبلد، وتستغلُّ سواحلها الأدرياتيكيَّة في تحريك الحملات ضدَّ الدولة العثمانية، والأوروبيُّون يرون في ألبانيا نموذجًا يُحتذى في المقاومة وحرب العثمانيِّين، واستمرار هذا الوضع يُضعِف من هيبة الدولة العثمانيَّة، كما أنَّه يُشجِّع آخرين على القيام بالتمرُّد نفسه، وهو ما سنراه في قصَّة البغدان، فضلًا عن أنَّ تطوُّر الطموح الألباني ممكن؛ فقد لا يقف الأمر عند استقلال ألبانيا، بل قد يحدث غزوٌ لصربيا، أو مقدونيا، أو اليونان، خاصَّةً إذا كانت الدولة العثمانيَّة مشغولة في أحداثٍ جسامٍ كأزمة أوزون حسن أو غيرها.
هذا الوضع كان لا يحتمل البقاء هكذا فترةً طويلة؛ ومِنْ ثَمَّ كان الفاتح يُفكِّر جدِّيًّا في إرسال حملةٍ جديدةٍ إلى ألبانيا لردِّ الإقليم إلى السيطرة العثمانيَّة، وكذلك لمواجهة البندقية بشكلٍ مباشرٍ هناك لردعها عن الإعانات المتكرِّرة التي دأبت على تقديمها لأعداء العثمانيِّين، سواءٌ من القرمانيِّين، أو الآق قوينلو، أو الألبان، أو المجر، أو البابا..
أحسب أنَّ هذا كان الشغل الشاغل لمحمد الفاتح في هذه الفترة..
ومع هذا فقد ظهر ملفٌّ جديدٌ فَرَضَ نفسه بقوَّة، وكان لا بُدَّ من تفريغ وقتٍ وجهدٍ لمواجهته، وهو ملفُّ «البغدان»! حيث جاءت الأخبار في بداية عام 1473م بأنَّ استيفين الثالث الملقَّب بالعظيم Stephen III, the Great، قد أعلن توقُّفه عن دفع الجزية إلى الدولة العثمانيَّة، وبالتالي الخروج من تبعيَّتها[1][2].
إنَّه تمرُّدٌ جديد، وقد يكون أخطر من تمرد ألبانيا؛ لقرب البغدان من إسطنبول، ولأسبابٍ أخرى كثيرة تجعل الإقليم خَطِرًا للغاية على العثمانيِّين..
إنَّه في الواقع ملفٌّ بالغ التعقيد، والعلاقات فيه متشابكةٌ ومتداخلة، ولهذا السبب فإنَّنا نحتاج إلى الرجوع في التاريخ قليلًا لكي نفهم أحداثه بشكلٍ منطقيٍّ ومتسلسل..
إنَّ إقليم البغدان الذي نتحدَّث عنه ليس له وجودٌ الآن بشكله القديم حيث قُسِّم بين عدَّة دولٍ معاصرة؛ فهو يضمُّ دولة مولدوڤا بكاملها، وكذلك جزء كبير من الشمال الشرقي لرومانيا، بالإضافة إلى الجزء الجنوبي الغربي من محافظة أوديسا الأوكرانية. إنه يتجاوز بهذا الوصف مائة كيلو متر مربع، وليس من الصواب أن نظن أنه دولة مولدوڤا فقط، التي كانت تُمثِّل الثلث فقط من هذا الإقليم المهمِّ، بل إنَّ الجزء الأهمَّ من إقليم البغدان كان الجنوبي منه، وهو تابعٌ الآن لأوكرانيا؛ لأنَّه كان يطلُّ على البحر الأسود، ويضمُّ مدينتين من أهمِّ المدن التجاريَّة الساحليَّة آنذاك، وهما مدينة أكرمان Akkerman، وتعني الصخرة البيضاء، وهي مكان مدينة بيلهورود دنيستروڤسكي Bilhorod-Dnistrovskyi الآن، ومدينة كيليا Chilia أو Kiliya، وهي مدينةٌ تحمل أهميَّةً مزدوجة؛ حيث إنَّها تطلُّ على البحر الأسود، وفي الوقت نفسه تتحكَّم في الملاحة في نهر الدانوب؛ حيث تقع عند مصبِّه مباشرة، ممَّا يعني أنَّ السيطرة عليها تُؤثِّر في حركة السفن التجاريَّة والحربيَّة في النهر الكبير، الذي يصل إلى عدَّة دولٍ مهمَّةٍ في أوروبا، منها المجر، وصربيا، والنمسا، وكذلك ألمانيا.
هذا الإقليم المؤثِّر كان واقعًا بين ثلاث ممالك ضخمة، كلها يطمع في السيطرة عليه، وهي: الدولة العثمانية في الجنوب، ومملكة المجر في الغرب، واتِّحاد بولندا وليتوانيا في الشمال والشرق، وهذه الدولة الأخيرة كانت إحدى الدول العملاقة القويَّة في أوروبا في ذلك الوقت ولقرونٍ عديدةٍ متَّصلة. كان طبيعيًّا أن يحدث الصراع بين هذه الممالك على هذا الإقليم خاصَّةً أنَّ العلاقة متوتِّرة أصلًا بينها جميعًا؛ فصدامات العثمانيِّين مع المجر معروفة، وكذلك صدامهم مع اتحاد (بولندا – ليتوانيا) في معركة ڤارنا عام (848هـ= 1444م) مهمٌّ وكبير، وأخيرًا فالعلاقة كانت حادَّة جدًّا كذلك بين المجر واتحاد (بولندا – ليتوانيا).
كان وجود إقليم البغدان في هذه المساحة المحصورة بين الممالك الكبرى دافعًا له لقبول سيادة إحدى هذه القوى، وكانت الضغوط كثيرةً على الإقليم ممَّا أورثت تعقيدات كبيرة؛ حيث كان ولاؤه يتبدَّل بسهولة، كما كان يُعطي حقَّ السيادة عليه لأكثر من قوَّةٍ في آنٍ واحد ممَّا يُؤدِّي إلى صراعاتٍ كبيرةٍ بين القوى الموجودة في المنطقة.
بعد فتح القسطنطينية عام (857هـ= 1453م) صارت الدولة العثمانيَّة قوَّة مرهوبة لافتة للنظر في المنطقة، وحيث إنَّها كانت تُسيطر على بلغاريا كلِّها، وكذلك الإفلاق (جنوب رومانيا)، فإنَّ البغدان كانت محاطة بالدولة العثمانيَّة من جنوبها وغربها، ولهذا آثر زعيمها بيتر آرون Peter Aaron أن يدخل تحت الحماية العثمانيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ صار تابعًا للعثمانيِّين وفق معاهدة جزية عام 1455م قيمتها 2000 دوكا سنويًّا[3][4].
في عام 1457م تولَّى حكمَ إمارة البغدان أهمُّ حكَّامها في كلِّ تاريخها، وهو استيفين الثالث Stephen III؛ وذلك بعد انقلابٍ كبيرٍ على عمِّه بيتر آرون، الذي هرب إلى بولندا، وكانت ولاية استيفين هناك بمساعدةٍ من ڤلاد الثالث (دراكولا)، الذي كان تابعًا للدولة العثمانيَّة آنذاك، وكان يدفع الجزية بانتظام[5].
بدأ استيفين الثالث حكمه للبغدان بدفع الجزية إلى الدولة العثمانيَّة محافظًا على المعاهدة نفسها التي عقدها الحاكم السابق بيتر آرون[6]؛ ولكن كان واضحًا أنَّ الأمير الجديد مختلفٌ عن سابقيه بشكلٍ لافتٍ للنظر؛ فهو يهدف إلى استقلالٍ كاملٍ للبغدان، ولا يُريد تبعيَّة لدولةٍ أخرى من الدول القويَّة حوله؛ ولكن لكونه ضعيفًا في البداية ولا يُريد مواجهةً مباشرةً مع قوَّةٍ لا طاقة له بحربها، كان يُبدي الودَّ أحيانًا عن طريق الهدايا والضرائب وما إلى ذلك، ومع ذلك فهو لم يكن يُمانع في تغيير الولاء فورًا لقوَّةٍ أخرى حسب المرحلة، تمهيدًا للخروج من ولاء الجميع والاستقلال بإمارته. هذا السلوك جعل له أعداءً في كلِّ جهة؛ لأنَّ القوى الكبرى لا تفهم مسألة «تغيير الولاء»؛ فهي تُريد تابعًا تطمئنُّ إلى وجوده، خاصَّةً إذا كان التَّابع يُدير إمارةً استراتيجيَّةً كالبغدان.
بدأ استيفين الثالث ولايته بعداءٍ لبولندا وولاءٍ للدولة العثمانيَّة، وسبب عدائه لبولندا أنَّها آوت عمَّه بيتر آرون الحاكم السابق للبغدان، وهدَّدت بدعمه لاستعادة حكمه، فما كان من استيفين الثالث إلَّا أن اقتحم حدود بولندا الجنوبيَّة في نشاطٍ عسكريٍّ غير متوقَّعٍ لمن هو في حجمه! وذلك في عام 1458م[7]؛ أي بعد أقلَّ من عامٍ على حكمه، وقد فعل ذلك معتمدًا على ولائه للدولة العثمانيَّة، وأنَّها في ظهره إذا ما حاول البولنديُّون غزو بلاده؛ حيث تقضي الجزية التي يدفعها إلى العثمانيِّين أن يُدافعوا عنه في حالة حربه مع دولةٍ أخرى؛ ولكن في الوقت نفسه لا ينبغي له أن يأخذ قراراتٍ عسكريَّةٍ كبيرةٍ مثل هذا القرار الأخير دون الرجوع للدولة العثمانيَّة.
كان من الواضح أنَّ السلطان الفاتح لم يُبْدِ اهتمامًا كبيرًا بالأحداث في البغدان؛ لأنَّه كان منشغلًا جدًّا في هذه الفترة بتطوُّراتٍ خَطِرةٍ في المورة البيزنطيَّة، وصربيا، وألبانيا، وكذلك الأناضول، ولعلَّ استيفين الثالث أدرك أنَّ الدولة العثمانيَّة لن تدخل في حربٍ مباشرةٍ مع بولندا في هذا الوقت، ولهذا آثر أن يُغيِّر سياسته تجاه بولندا، فعقد معاهدةً معهم في عام 1459م أعطى إلى ملكها كازيمير الرابع Casimir IV حقَّ الحماية على البغدان في نظير مساعدته على استرجاع مدن البغدان الواقعة تحت سيطرة الدول الأخرى، وأهمها مدينة كيليا Chilia، التي يمتلكها المجريُّون منذ عام 1448م، وأيضًا في نظير عدم السماح لبيتر آرون بالعودة إلى البغدان[8][9][10].
كانت هذه مخالفة صريحةً من استيفين الثالث لعهده السابق مع الدولة العثمانيَّة؛ ولكنَّه مع ذلك لم ينقطع عن دفع الجزية إلى العثمانيِّين، وهذا ما دفع السلطان الفاتح إلى السكوت على الأمر، خاصَّةً أنَّ جيوشه موزَّعة على مناطق كثيرة ملتهبة في هذا التوقيت، وإن كنت أرى أنَّ هذا خطأٌ من الفاتح؛ لأنَّ السكوت على مخالفات استيفين الثالث ستدفعه إلى ما هو أعظم، وقد يُورِّط الدولة العثمانيَّة في حروبٍ مع قوى عظمى في وقتٍ لا تُريده، أو قد ينقطع عن دفع الجزية، ويُعلن ولاءه لقوَّةٍ أخرى بوضوحٍ أكبر، أو قد يستقلُّ تمامًا بولايته، وهذا قد يُؤثِّر سلبًا في إمارتي الإفلاق وبلغاريا القريبتين جدًّا من البغدان.
هذا السكوت من الفاتح دفع استيفين الثالث فعلًا إلى تطويرٍ جديدٍ في علاقاته السياسيَّة!
لقد طرد كازيمير الرابع ملكُ بولندا بيتر آرون من بلده بعد معاهدته مع استيفين الثالث، فلجأ بيتر آرون إلى ملك المجر ماتياس، واستقرَّ في منطقة زيكلي Székely Land، وهي المنطقة الشرقيَّة من إقليم ترانسلڤانيا شرق المجر آنذاك، وهذه المنطقة ملاصقةٌ تمامًا لغرب البغدان، وقد أعلن ماتياس عزمه على دعم بيتر آرون، ممَّا دفع استيفين الثالث إلى فتح جبهة قتالٍ مع المجر؛ حيث غزا زيكلي المجريَّة عدَّة مرَّات عام 1461م[11][12]! الذي لم يتحرَّك تجاهه تحرُّكًا مناسبًا لانشغاله الشديد في صدامٍ مع إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة -ومقرها النمسا- فريدريك الثالث Emperor Frederick III[13].
كان استيفين الثالث متوقِّعًا غضب الدولة العثمانيَّة لكونه -أوَّلًا- يُعطي ولاءً صريحًا لبولندا، ولكونه -ثانيًا- يفتح جبهات قتال مع المجر العدوِّ اللدود للعثمانيِّين في وقتٍ كان العثمانيُّون فيه منشغلين بفتح طرابزون؛ ولذلك آثر أن يُقدِّم بعض علامات الودِّ للدولة العثمانيَّة، فطرد عام 1462م عددًا من القساوسة كانوا يُنادون بحربٍ صليبيَّةٍ ضدَّ العثمانيِّين، مؤكِّدًا حسن علاقاته مع المسلمين[14]؛ ولكنَّه في الوقت نفسه في 2 مارس 1462م عقد معاهدة تأكيد ولاء مع بولندا[15]!
بعد هذه المعاهدة الأخيرة بثلاثة أشهر غزا محمد الفاتح الإفلاق لحرب دراكولا الثالث في (866هـ= يونيو 1462م)، فتعاون استيفين عسكريًّا مع الفاتح، على الرغم من أنَّ دراكولا الثالث كان قد عاون استيفين من قبل في الاستيلاء على الحكم في البغدان؛ لكن استيفين كان رجلًا يبحث عن المصلحة في أيِّ مكانٍ دون النظر إلى عقودٍ أو عهود، ولقد حاصر الجيشان البغداني والعثماني مدينةَ كيليا لمدَّة ثمانية أيَّام؛ ولكن الحامية المجريَّة تمكَّنت من الصمود أمامها[16]، وبالتالي لم يستطع استيفين الثالث أخذ كيليا ولا العثمانيُّون، وكلاهما كان يطمح في ضمِّها إلى حوزته، وانتهى الوضع في هذه المرحلة بانتصار العثمانيِّين في الإفلاق على دراكولا، وهروبه إلى المجر، ثم حبسه هناك -كما شرحنا من قبل[17]- وعودة استيفين إلى البغدان مواليًا للعثمانيِّين، وإن لم يقطع ولاءه للبولنديِّين، واستقرَّت الإفلاق تحت حكم الدولة العثمانيَّة بولاية رادو العادل.
هدأت الأمور نسبيًّا في المنطقة؛ ولكنَّه كان هدوءًا ظاهريًّا غير حقيقي؛ لأنَّ طموحات استيفين كان لا بُدَّ لها من التَّعارض مع مصالح الدول المجاورة، وخاصَّةً الدولة العثمانيَّة، التي كانت تغضُّ الطرف عن ولاءات استيفين المتعدِّدة وحروبه المتكرِّرة، ومع ذلك فقد حدث تصعيدٌ مفاجئٌ في عام 1465م؛ عندما باغت استيفين الحامية المجريَّة في كيليا، واستطاع إسقاط القلعة لحسابه في 26 يناير[18].
أدَّى هذا النصر العسكري الأخير لاستيفين إلى حدوث توتُّرٍ كبيرٍ على جبهتين: الجبهة الأولى هي المجر بالطبع؛ حيث فقدت ميناءً استراتيجيًّا في غاية الأهميَّة، والجبهة الثانية هي الجبهة العثمانية؛ حيث طالب رادو العادل أمير الإفلاق بضمِّ كيليا إلى إمارته لكونها تاريخيًّا تتبع الإفلاق وليس البغدان، وقد دعمت الدولة العثمانيَّة هذا الطلب؛ ولكنَّه قُوبِل بالرَّفض من استيفين[19].
عمل استيفين على تهدئة الدولة العثمانيَّة بزيادة الجزية من 2000 إلى 3000 دوكا[20]، وبالطبع لم يكن هذا كافيًا لتعويض الدولة العثمانيَّة عن ميناء كيليا؛ ولكن الفاتح كان غارقًا آنذاك في مشاكل تمرُّدَي قرمان وألبانيا، وبالتالي قَبِل الوضع على مضضٍ ولم يتحرَّك عسكريًّا في هذا الاتجاه، ولكن ملك المجر ماتياس لم يقبل ضياع القلعة منه، وتوجَّه بنفسه على رأس جيشٍ كبيرٍ لاستعادة كيليا؛ وذلك في آخر عام 1467م؛ ولكنَّه مُنِي بهزيمةٍ كبرى من البغدانيِّين في معركة بايا الشهيرة Baia، في الخامس عشر من ديسمبر، وفيها أُصيب الملك ماتياس بإصابات خطرة، ونجا من الموت بأعجوبة[21]!
رفع هذا النصر الأخير أسهم استيفين في دولته؛ ولكنَّه أدرك أنَّ هذا النصر لن يمرَّ بسلام؛ لأنَّ النموَّ المطرد في قوَّة جيشه سيُلفِت أنظار المجر والدولة العثمانيَّة معًا؛ ومِنْ ثَمَّ سارع الزعيم البغداني بعقد معاهدةٍ جديدةٍ وثَّق فيها ولاءه لملك بولندا، وعُقِدت المعاهدة مع مبعوث الملك البولندي في سوسيڤا Suceava، عاصمة البغدان آنذاك في 28 يوليو 1468م[22].
لم يكتفِ استيفين الثالث بذلك؛ إنَّما قام بعدَّة حملاتٍ عسكريَّةٍ على إقليم ترانسلڤانيا التابع للمجر مستغلًّا الاضطراب الذي وقعت فيه المجر نتيجة هزيمة بايا، وذلك في أعوام 1468م، 1469م، 1470م[23]، مع العلم أنَّه لم يقطع تبعيَّته للدولة العثمانيَّة، فهذا يعني في العُرف الدولي أنَّ الدولة العثمانيَّة مشاركة معه في المسئوليَّة في هذه الحروب، وهو بذلك يفتح للعثمانيِّين صفحاتٍ من الصدام لا يُريدونها في هذا الوقت.
الحقُّ أنَّ هذه الاستفزازات المتكرِّرة كانت تستحقُّ وقفةً من الدولة العثمانيَّة، وكان لا بُدَّ للسلطان الفاتح أن ينتبه إلى أنَّ السكوت على مثل هذه التطوُّرات سيقود إلى ما هو أكبر، وقد يتَّسع الخِرق على الرَّاقع، ونصل إلى محطَّةٍ لا يُمكننا الرجوع منها، فهذه بوادر واضحة لتمرِّد قريب، بل قد تُصبح البغدان رأس حربةٍ لمملكةٍ كبرى مثل بولندا في محاولةٍ لاستعادة سيناريو معركة ڤارنا عام (848هـ= 1444م)؛ حين قادت بولندا تحالفًا عالميًّا للهجوم على الدولة العثمانيَّة، فضلًا عن أنَّ صدامات استيفين مع المجر قد تدفع هذه المملكة الجريحة إلى فتح صفحات قتالٍ مع العثمانيِّين، سواءٌ على أرض البغدان، أم في مساحات التلاصق الكبرى بين الدولتين في الإفلاق، وصربيا، والبوسنة.
للأسف لم يتحرَّك السلطان الفاتح!
قد يكون معذورًا لكونه يُحارب في أكثر من جبهة؛ ولكن هذا حال الدول الكبرى صاحبة التقاطعات الكثيرة مع عددٍ من الأعداء والجيران، وما دامت الدولة رَغِبَت في الظهور العالمي القوي لا بُدَّ لها أن تقف وقفاتٍ صارمةً مع مثل هذه التعدِّيَّات على سيادتها، وإلَّا نهش في جسدها الأعداءُ من كلِّ جانب!
هذا التَّراخي العثماني دفع استيفين الثالث المنتشي بانتصاراته إلى تصعيدٍ جديدٍ خطر!
لقد اقتحم الزعيم البغداني إمارة الإفلاق العثمانيَّة بعد توتُّر العلاقة بينه وبين رادو العادل الأمير التابع للعثمانيِّين، وحرق أكبر مدينتين تجاريَّتين هناك، وهما مدينتا برايلا Brăila، وتارجول دي فلوتشي Târgul de Floci؛ وذلك في فبراير 1470م! واستمرَّ السكوت العثماني، بل ازداد تفاقم الموقف؛ إذ إنَّ رادو العادل حاول أن ينتقم لنفسه ولإمارته بغزو البغدان، إلَّا أنَّه مُنِي بهزيمةٍ كبيرةٍ على يد استيفين في 7 مارس 1471م عند مدينة سوشي Soci[24].
لقد كان الأمر لا يحتمل السكوت حقًّا؛ فإمارتا الإفلاق والبغدان كلاهما تابعتان للدولة العثمانية، والحرب بينهما تعني شأنًا داخليًّا يتحتَّم على السلطان الفاتح أن يتدخل فيه، وكلا الطرفين يدفع جزيةً إلى الدولة العثمانيَّة في نظير الدِّفاع عنه، فسواءٌ كان الخطأ في الصدام من استيفين أم من رادو فإنَّ حلَّ المشكلة لا بُدَّ أن يكون بيد السلطان الفاتح؛ لكن هذا لم يحدث! نعم كان السلطان مشغولًا بجبهته الشرقيَّة ومشاكل إمارة قرمان وأوزون حسن، ونعم يُعَدُّ الأناضول أهمَّ من أوروبا لأنه الوطن الأم الذي ينبغي دائمًا ألا يكون مضطربًا، إلَّا أنَّ التَّراخي العثماني في ملفِّ البغدان أمرٌ غير مقبولٍ أبدًا، وعلى الأقلِّ كان لا بُدَّ من سفاراتٍ دبلوماسيَّةٍ تُحاول الوصول إلى حلِّ وسطٍ يُهدِّئ الأوضاع إلى أن يستطيع الفاتح أن يتدخَّل في الأمر بنفسه؛ لكن هذا لم يحدث، عِلْمًا بأنَّ الطرفين: الإفلاق والبغدان، ما زالا يدفعان الجزية إلى الدولة العثمانيَّة، ولم يُعلنا رسميًّا خروجهما أو خروج أحدهما من التبعيَّة العثمانيَّة، ولعلَّ هذا ما أراح ذهن الدولة العثمانيَّة، فتركت الأمر بهذه الصورة غير المقبولة!
شعر استيفين أنَّ لحظة الصدام مع الدولة العثمانيَّة قد اقتربت، فأراد أن يُقلِّل من جبهات الحرب عنده، فأرسل رسله إلى ماتياس ملك المجر صيف 1471م لفتح مباحثات سلام، وكان ملك المجر قد سعى إلى هذا السلام قبل ذلك بعامين، وبالفعل نجحت المباحثات السلميَّة، ودعمها استيفين بإعطاء بعض التجَّار المجريِّين من ترانسلڤانيا امتيازات تجاريَّة جيِّدة في البغدان[25].
ازدادت جرأة استيفين الثالث؛ فعقد عام 1472م اتِّفاقيَّة صداقة مع أوزون حسن سلطان الآق قوينلو المحارب للدولة العثمانيَّة آنذاك[26][27][28]! وفي أوائل عام 1473م أعلن توقُّفه عن دفع الجزية إلى السلطان الفاتح!
هكذا جاء إعلان التمرُّد بشكلٍ رسمي، بعد أن جاء قبل ذلك مرارًا، وعلى مدار عدَّة سنوات، بشكلٍ غير مباشر! وتحوَّل الملفُّ الراكد الهادئ إلى ملفٍّ عاجل الأهميَّة!
ولكن هذا الإعلان جاء في وقتٍ حرجٍ للغاية؛ فأوزون حسن يستعدُّ آنذاك لغزو الدولة العثمانيَّة، وطموحه ليس في الاستقلال بولاية كما يُريد استيفين؛ ولكنَّه يطمح في إسقاط الدولة العثمانيَّة كلِّها تحت قبضته، وهو زعيمٌ كبيرٌ يحكم في ذلك الوقت دولةً ضخمةً شاسعة تضمُّ بين طيَّاتها إيران والعراق وأذربيچان، وأجزاءً من الشام وأفغانستان وباكستان، كما أنَّ له نفوذًا في الأناضول، وموالين له في قرمان، وله علاقات قويَّة مع البندقية والبابا، بل استيفين نفسه..
إزاء هذه الموازنات اضطرَّ محمد الفاتح للتَّغاضي عن ملفِّ البغدان مرَّةً جديدة، مع أنَّه كان ينوي أن يتَّجه إليها بجيشٍ كما جاء في رسالةٍ إيطاليَّةٍ أُرسلت إلى السياسي والمؤرِّخ الفلورنسي بارتولوميو سكالا Bartolomeo Scala، وذُكِر فيها أنَّ محمدًا الفاتح ترك إسطنبول في 13 أبريل 1473م متوجِّهًا بجيشٍ إلى البغدان[29]؛ ولكن قدوم الأخبار بدخول أوزون حسن إلى الأناضول غيَّر الخطط، وجعل الأولويَّة الأولى للدولة العثمانيَّة هي حربُ الآق قوينلو.
ظلَّ الوضع كما هو عليه في البغدان: استيفين متمرِّدًا، وعلاقاته جيِّدة مع بولندا والمجر، وتوتُّر كبير مع رادو العادل أمير الإفلاق العثماني، والجميع ينتظر الصدام الكبير بين السلطانين التركيَّين المسلمَين: أوزون حسن ومحمد الفاتح.
حدث الصدام المروِّع -كما نعلم- في موقعة أوتلق بلي في 11 أغسطس 1473م، وبقي السلطان الفاتح في شرق الأناضول فترةً فتح فيها قلعة شبين قرة حصار، ووطَّد أركان الحكم في طرابزون وما حولها، ثم عاد إلى إسطنبول، وهذا يعني أنَّه عاد إلى عاصمته مع بدايات فصل الشتاء، وهي فترةٌ لا تتحرَّك فيها الجيوش عادةً لكثرة الثلوج والأعاصير التي تُعيق حركتها، فضلًا عن أنَّ الجيوش العثمانيَّة كانت مرهقةً للغاية من الحركة في صحاري وجبال الأناضول طوال الشهور السابقة، ولهذا آثر الفاتح أن يُرجئ أمر البغدان إلى الربيع المقبل صَدْرَ عام 1474م..
هكذا رأَى الفاتح..
لكن استيفين كان له رَأْيٌ مختلف!
أدرك استيفين الثالث الوضع الحرج الذي تمرُّ به الجيوش العثمانيَّة بعد الجهد الكبير في معركة أوتلق بلي، فأراد ألا يُضيِّع الفرصة، وبالتالي اقتحم ولاية الإفلاق العثمانيَّة؛ لا ليحرق مدينة أو مدينتين كما فعل من قبل ذلك، وإنَّما ليُغيِّر فيها الحاكم شخصيًّا، ويضع على رأسها أحد النبلاء الرومانيِّين الموالين له بدلًا من رادو العادل الموالي للدولة العثمانيَّة! حدث هذا في 18 نوفمبر 1473م، واستمرَّت معركته مع رادو العادل ثلاثة أيَّام، وعلى الرغم من وصول نجدةٍ عثمانيَّةٍ محدودة فإنَّ استيفين انتصر عليها، وتمكَّن من احتلال قلعة بوخارست، وتولية النبيل الروماني باساراب الثالث لايوتا Basarab III Laiotă، ومع ذلك فقد نجحت فرقةٌ عثمانيَّةٌ مكوَّنةٌ من 17 ألف جندي من إعادة رادو إلى حكم الإفلاق في 31 ديسمبر 1473م[30]، وحيث إنَّ متوسِّط درجة الحرارة في هذا التوقيت من السنة هو أربع درجات تحت الصفر[31]، فلم يكن بالإمكان إكمال المسيرة إلى البغدان لمواجهة استيفين، فانتظر الفاتح إلى الربيع المقبل ليأخذ قراره.
في ربيع 1474م صار أمام السلطان الفاتح قضيَّتان مهمَّتان تحتاجان إلى حسم: قضيَّة البغدان، وقضيَّة ألبانيا! كلا الإقليمَين متمرِّدٌ الآن، وعواقب التمرُّد كبيرةٌ كما هو واضح، ولن يستطيع الفاتح أن يُقاتل في الجبهتين معًا، وخلافًا لِمَا أراه، اختار الفاتح أن يبدأ بجبهة ألبانيا!
أعلم أنَّ المعطيات التي في أيدينا ليست كافية للحكم على دقَّة الاختيار، وخاصَّةً إذا كان القائد حكيمًا كالفاتح، فمن المؤكَّد أنَّ عنده من المسوِّغات ما يدفعه إلى هذا القرار؛ لكن القياسات العقليَّة عندنا، وكذلك رؤية النتائج التي سطَّرها التاريخ بعد ذلك، تُشير إلى أولويَّة مسألة البغدان عن مسألة ألبانيا في هذا التوقيت؛ وذلك لعدَّة عوامل..
أوَّلًا: سخونة المسألة؛ فأحداث البغدان متسارعة، ومحاولات تغيير الحكم في الإفلاق لم يمضِ عليها إلَّا شهورٌ قليلة، بينما مسألة ألبانيا راكدة هادئة منذ 7 سنوات حين كان الحصار الأخير لكرويه في 1467م، وثانيًا: الأهميَّة الاستراتيجيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة للبغدان أعلى من أهميَّة ألبانيا؛ حيث تتحكَّم في الملاحة في البحر الأسود، وكذلك في نهر الدانوب ممَّا يُعطي لها أهميَّةً مضاعفة، وثالثًا: تقع البغدان في وسط الدولة العثمانيَّة ممَّا يُؤثِّر في القلب لا في الأطراف كألبانيا، ولا شَكَّ أنَّ حدوث قلاقل في البغدان المتوسِّط سيُوثِّر على الإفلاق وبلغاريا وتراقيا، وكلِّها في عمق الدولة العثمانيَّة، ورابعًا: مسألة البعد والقرب من العاصمة إسطنبول؛ فمركز الحكم العثماني سهل المنال من البغدان، والطريق البرِّيُّ لا يستغرق سوى عشرة أيَّام، وأيضًا هناك الطريق البحري القصير عبر البحر الأسود، بينما تقع ألبانيا بعيدًا جدًّا عن مركز الحكم، والطريق البرِّي يحتاج إلى ضعف هذه المدَّة أو أكثر، وليس هناك طريقٌ بحريٌّ مباشر اللهمَّ إلا إذا كان عبر البحر الأدرياتيكي، ثم الأيوني، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم إيجة، وهو طريقٌ طويلٌ للغاية، وخامسًا: وجود علاقاتٍ قويَّةٍ للبغدان مع بولندا والمجر يُعطيها أهميَّةً زائدة؛ لأنَّ أطماع هاتين المملكتين الكبيرتين واضحة، وليس من المستبعد أن يستخدما البغدان كرأس حربةٍ لضرب الدولة العثمانيَّة، وسادسًا وأخيرًا -وهي نقطةٌ مهمَّةٌ للغاية-: وجود رمزٍ قياديٍّ بارزٍ في البغدان وغياب هذا الرمز في ألبانيا؛ فاستيفين الثالث حقَّق انتصارات كثيرة في الأعوام السابقة على العثمانيِّين والمجريِّين والبولنديِّين، وكذلك على إقليمَي الإفلاق وترانسلڤانيا، وصار هذا الزعيم رمزًا كبيرًا ليس في البغدان وحدها؛ ولكن في أوروبا كلِّها، ونموُّ هذا الرمز سيُؤدِّي إلى واقعٍ مرٍّ كالذي قابلته الدولة العثمانيَّة في ألبانيا عند وجود رمز إسكندر بك بها، ولهذا كان لزامًا على الدولة العثمانيَّة أن تحلَّ هذه المشكلة قبل تفاقم الأمر.
وعلى الرغم من هذه الحيثيَّات فإنَّ الفاتح اختار أن يتوجَّه بحملته إلى ألبانيا لا إلى البغدان، ولعلَّه كان يخشى من البندقية التي لا تزال معلنةً الحرب على العثمانيِّين، وكانت معاوِنةً للآق قوينلو، وقبلها لقرمان، ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وقد تُحاول استعادة أملاكها في جزيرة نيجروبونتي أو المورة، وقد يظهر رمزٌ جديدٌ يدفع ألبانيا إلى تطوير تمرُّدها بالدخول في مقدونيا، أو اليونان، أو صربيا، أو البوسنة، وكلِّها أملاكٌ عثمانيَّةٌ مهمَّة.
وبصرف النظر عن الأسباب فقد تحرَّك الجيش العثماني فعلًا في ربيع 1474م بقيادة سليمان باشا والي الروملي إلى ألبانيا، ولم يجعل وجهته إلى كرويه كما كانت الحملات السابقة؛ إنَّما توجَّه مباشرةً إلى مدينة شقودرة Shkodër، وهي مدينةٌ تابعةٌ للبندقيَّة، ممَّا يُوضِّح أنَّ الفاتح كان يهدف إلى حرب البنادقة لا الألبان؛ لأنَّه يعلم أنَّ المدد الحقيقي للإقليم صار بُندقيًّا. ضُرِبَ الحصار فعلًا حول المدينة بدايةً من أوائل مايو 1474م، وسارعت البندقية بإرسال سفنٍ وجنود، ودارت عدَّة معارك حول المدينة المحاصَرة[32].
لم يكد الجيش العثماني يصل إلى ألبانيا حتى تحرَّك استيفين مستغلًّا غياب القوَّة الرئيسة للعثمانيِّين، فقام بحملةٍ على الإفلاق، واستطاع هزيمة رادو العادل، ووضع لايوتا مرَّةً ثانيةً على عرش الإمارة[33]!
كان الوضع محرجًا للدولة العثمانيَّة؛ فالفاتح لا يُريد تشتيت جيشه في حربين بعيدتين عن بعضهما البعض، وبالتالي فقد حاول أن يشتري بعض الوقت لحين تمكُّنه من إعداد جيشٍ مناسبٍ لمجابهة استيفين، أو الانتهاء من مشكلة ألبانيا وعودة الجيوش العثمانيَّة من هناك لاستكمال مهمَّتها في البغدان، وكان الحلُّ الدبلوماسيُّ هو الوسيلة التي أراد الفاتح أن يُؤجِّل بها الصدام، وقد سار الفاتح في محورين: محور التَّواصل مع استيفين، ومحور التَّواصل مع لايوتا.
أمَّا محور استيفين فكان لا بُدَّ فيه من الردع والتخويف، فلجأ محمد الفاتح إلى التهديد والوعيد، وأرسل إلى استيفين إنذارًا بالحرب إذا لم يقم بثلاثة أمور: تسليم كيليا للدولة العثمانيَّة، وإيقاف الأعمال العدائيَّة في إمارة الإفلاق، ودفع الجزية المتأخِّرة[34]. كان الفاتح يعلم أنَّ استيفين لن يُوافق على هذه الشروط؛ ولكنَّه كان يُحاول تأجيل معركةٍ حتميَّة الحدوث، وبالفعل رفض استيفين، ولكن كما توقَّع الفاتح فإنَّه توجَّس من هذا التحذير، ولذا لم يقم بأعمال تصعيد، وإن كان الوضع في الإفلاق لم يتغيَّر؛ حيث بقي لايوتا الموالي لاستيفين على رأس الإمارة.
أمَّا محور التواصل مع لايوتا فكان إيجابيًّا بصورةٍ أكبر؛ فقد فتح السلطان محمد الفاتح للأمير الروماني الباب للتعاون، ولا شَكَّ أنَّه أغراه بأنَّ الولاء للدولة العثمانيَّة الكبرى التي تُسيطر على معظم البلقان أفضل من الولاء لاستيفين أمير الإمارة الصغيرة البغدان، وصاحب العلاقات المتذبذبة مع كلِّ ممالك المنطقة! نجحت محاولات الفاتح، وفي شهر يونيو 1474م أرسل لايوتا للسلطان العثماني يُعلمه بتوجيه ولائه له، وترك التبعيَّة لاستيفين[35].
كانت ضربةً مفاجئةً لاستيفين؛ ولكن ردَّ فعله كان سريعًا؛ إذ سرعان ما جهَّز أميرًا رومانيا جديدًا لزرعه في الإفلاق مكان لايوتا، وهذا الأمير الجديد هو باساراب الرابع Basarab IV، وهو الملقَّب بالمخوزق الصغير Țepeluș[36]، للتفرقة بينه وبين المخوزق الكبير ڤلاد الثالث (دراكولا) الأمير السابق للإفلاق، وكانت هذه وسيلة العقاب المعتمدة لدى هذين الأميرين شديدي العنف.
تابع السلطان محمد الفاتح أخبار الجيش العثماني في ألبانيا باهتمام؛ فقد كان يتمنَّى إتمام المهمَّة في أسرع وقتٍ حتى يرجع الجيش لإدراك مشكلة الإفلاق والبغدان قبل تفاقمها بصورةٍ أكبر؛ ولكن جاءه أنَّ سليمان باشا متعثِّرٌ في حصاره لشقودرة، وأنَّه تعرَّض لعدَّة هزائم من جيوش البندقية، وأنَّ المدينة حصينةٌ للغاية، وبالتالي لا يتوقَّع سقوطها قريبًا، ولهذا أخذ الفاتح القرار المباشر بعودة الجيوش العثمانيَّة من ألبانيا، وكان ذلك على الأغلب في شهر أغسطس 1474م[37]، لعلَّه يُدرك حلًّا في البغدان قبل الشتاء.
هكذا كانت رحلة سليمان باشا إلى ألبانيا غير موفقة بشكلٍ عامٍّ، ومع ذلك تذكر بعض المصادر أن العثمانيين فتحوا مدينة بودجوريتسا Podgorica، وهي عاصمة جمهورية الجبل الأسود الآن، في عام 1474م[38]، وأن هذا كان بهدف منع التواصل بين إمارة زيتا في الجبل الأسود والبنادقة في شمال ألبانيا[39]، ولَمَّا كانت مدينة بودجوريتسا تقع على مسافة أقل من 50 كيلومتر شمال مدينة شقودرة، فإن فتحها كان على الأغلب على يد الجيش العثماني بقيادة سليمان باشا، وذلك قبل أن يحاصر شقودرة، وتعدُّ هذه هي النتيجة الإيجابية الوحيدة لهذه الحملة المضنية.
وصل الجيش العثماني في رحلةٍ مرهقةٍ من ألبانيا إلى صوفِيا في بلغاريا في سبتمبر 1474م[40]، ولم ينتظر استيفين، بل غزا الإفلاق في الوقت نفسه، ووضع تابعه باساراب الرابع على عرش الإفلاق؛ لكن هذا لم يستمر سوى أسابيع قليلة؛ حيث استطاع لايوتا أن يهزمه في 5 أكتوبر لتعود الإفلاق إلى الدولة العثمانيَّة[41].
دخل الجيش العثماني من بلغاريا إلى الإفلاق بصحبة فرقةٍ عثمانيَّةٍ أخرى من صوفِيا، واستراح عدَّة أسابيع، وانضمَّت إليه فرقةٌ إفلاقيَّةٌ قوامها 17 ألف مقاتل تحت قيادة لايوتا، واستعدَّت الجيوش لدخول البغدان، وقد قدَّرت بعضُ المصادر الرومانيَّة الجيشَ العثمانيَّ بثلاثين ألف فارسٍ بخلاف المشاة[42]، بخلاف الفرقة الإفلاقيَّة أيضًا، أمَّا التقديرات البغدانيَّة فقد ذكرت أنَّ الجيش العثماني بلغ مائة وعشرين ألفًا بخلاف الإفلاقيِّين، وإن كان هذا الرقم يبدو مبالغًا فيه، وقد ورد في رسالة استيفين الثالث إلى زعماء أوروبا في يناير 1475م[43]، ولعلَّه أراد إبراز أهميَّة المعركة بالمبالغة في تقدير حجم الجيش العثماني، وللأسف لم تذكر المصادر التركيَّة أيَّ تقديرات، بل لعلِّي لا أُبالغ إن قلت: إنَّ معظم المصادر التركيَّة لم تذكر أيَّ تفاصيل عن هذه الأحداث الساخنة في هذا الشتاء البارد!
في ديسمبر 1474م دخل الجيش العثماني البغدان، واجتهد استيفين الثالث في تجنُّب الصدام المباشر السريع؛ بل أراد أن يرهق الجيش العثماني بصورةٍ أكبر، فاستخدم سياسة الأرض المحروقة، والمياه المسمومة، ونصب الكمائن في طريق الجيش، ونقل الأهالي والماشية إلى الجبال، فنقص الزَّاد مع العثمانيِّين، وصار الموقف صعبًا للغاية، خاصَّةً مع البرودة الشديدة في هذه الفترة من السنة[44][45].
لم يستطع السلطان محمد الفاتح أن يشترك بنفسه في هذه المواجهات، مع أنَّها كانت في حاجةٍ ماسَّةٍ لجهده ورأيه، خاصَّةً بعد استفحال أمر استيفين، وشدَّة جرأته على الدولة، بالإضافة إلى تعاونه الخَطِر مع بولندا والمجر القويَّتين، ووصول الأنباء بإعاناتٍ عسكريَّةٍ من هاتين المملكتين يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجريات القتال.
لماذا لم يشترك الفاتح في هذا القتال؟
الحقُّ أنَّ الفاتح كان معذورًا بشدَّة في هذا الأمر؛ فبعيدًا عن الوضع السياسي والعسكري للدولة، واحتياجها لإدارةٍ مركزيَّةٍ في إسطنبول تجاه هذه المشاكل المتبعثرة، سواءٌ من جهة ألبانيا، أم من جهة بحر إيجة؛ حيث يُنتَظر أن تُهاجم البندقية سواحل الدولة العثمانيَّة بعد انسحاب جيش العثمانيِّين من شقودرة، أم من جهة الشرق حيث لا يُؤمَنُ جانب أوزون حسن خاصَّةً أنَّنا ذكرنا قبل ذلك أنَّ البندقية كانت تحثُّه باستمرارٍ على استئناف القتال ضدَّ الدولة العثمانية.. بعيدًا عن كلِّ هذه الحسابات العسكريَّة والسياسيَّة الخَطِرَة كان هناك عاملان آخران منعا الفاتح من المشاركة في هذه الحملة الخَطِرَة..
أمَّا العامل الأوَّل فهو المرض الشديد؛ فقد كان السلطان يُعاني من النقرس، وقد وصل به المرض إلى أن يُحْمَل دون قدرةٍ على الحراك، بل تفاقم الأمر حتى ظنَّ الناس أنَّه في مرض الموت، وقد تناقل هذا الأمر الجواسيس الأوروبيُّون، حتى كان زعماء إيطاليا ينتظرون هذه اللحظة كما جاء في رسالة لسفير ميلانو في نابولي[46].
كان هذا هو العامل الأوَّل..
أمَّا العامل الثاني فهو وفاة الأمير مصطفى الابن الثاني للسلطان محمد الفاتح، وأمير قرمان، وهي وفاةٌ مفاجئةٌ للأمير الشاب؛ حيث كان في الثالثة والعشرين من عمره! حدث ذلك في 25 ديسمبر 1474م[47] / 15 شعبان 879هـ، وكانت مصيبةً كبيرةً هزَّت السلطان الكبير محمد الفاتح.
رَوَى أَبو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ»[48].
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!
قُبِضَت ثمرة فؤاد الفاتح رحمه الله!
أحيانًا يتعامل النَّاس والمؤرِّخون مع القادة والعظماء على أنَّهم أجسادٌ بلا أرواح، اعتقادًا منهم أنَّ المسؤليَّات الجسام التي يحملونها وينشغلون بها تجعلهم لا يتأثَّرون بما يتأثَّر به عامَّة الناس، فيمرُّ المؤرِّخ على الحدث دون تعليقٍ أو ذكر، وكأنَّه أمرٌ عاديٌّ أن يموت ولدٌ، أو يمرض جسد؛ إذ لا بُدَّ للسلطان أو القائد أن يكون صلبًا لا يهتزُّ في مثل هذه المصائب!
هذا تعاملٌ غير صائبٍ في حقيقة الأمر..
إنَّ الفاتح إنسانٌ مثل كلِّ البشر.. يحزن قلبه على وفاة ابنه الفقيد كما حزن قلبُ رَسُولِ اللهِ ﷺ على وفاة ثمرة فؤاده إبراهيم رضي الله عنه.
هذه ابتلاءاتٌ متكرِّرةٌ في حياة عظماء الإيمان..
سأل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»[49].
ولقد كان السلطان محمد الفاتح من أمثل الناس إيمانًا، كيف لا وهو (نِعْمَ الأمير) كما وصف رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ ولذلك ابتُلِي في حياته كثيرًا.. ابتُلِي بفقد إخوانه، ثم أمه، ثم أبيه مبكِّرًا، وابتُلِي بأعداءٍ لا حصر لهم، وابتُلِي بخيانة قادةٍ مسلمين له وانقلابهم عليه، وابتُلِي مرارًا في أرض الجهاد في حملاتٍ عسكريَّةٍ شاقَّةٍ خاضها بنفسه، وابتُلِي بنصر، وابتُلِي بهزيمة، وابتُلِي بسلطانٍ وحُكْمٍ وقوَّة، وابتُلِي بمالٍ وثروة، وها هو يُبْتَلَى بمرضٍ عِضَال، ويُبْتَلَى بِقَبْضِ ثمرة الفؤاد!
غير أنَّني لا أقصد أنَّ الفاتح لم يخرج للقتال بنفسه بسبب حزنه على فقد ابنه؛ بل كان الأمر أكبر من ذلك، فمصيبة وفاة الأمير مصطفى لم تكن فقط مجرَّد وفاة أحد الأمراء؛ ولكن زادت أهميَّة هذا الأمير لكونه كان أميرًا لقرمان كثيرة التمرُّد، وقد كان هو الأمير المناسب؛ حيث إنَّ جدَّه لأمِّه كان إبراهيم بك أمير قرمان السابق، ممَّا كان يُهدِّئ من روع القرمانيِّين لإحساسهم أنَّ قائدهم ما زال منهم، ولو من جهة الأم، أمَّا الآن فعلى الفاتح أن يضع حاكمًا جديدًا للإمارة، ولا يدري أحدٌ كيف سيكون ردُّ فعل أهلها!
كانت هذه أمورٌ جعلت الفاتح يُتابع من إسطنبول أحوال جيشه المقاتل في البغدان على الرغم من صعوبة المسألة كما هو واضح.
وعودة إلى جيش سليمان باشا في البغدان..
لقد أُرهق الجيش جدًّا من البرد وقلَّة المؤن نتيجة حرق المزروعات وتسميم المياه، ثم وصلت أخبارٌ بأنَّ هناك قريةً بغدانيَّةً في الشمال لم تُحْرَق زروعها بعد[50]، ولذا فهي تصلح للتزوُّد بالطعام، كما أنَّها تقع في طريق سوسيڤا Suceava عاصمة البغدان آنذاك، هذه القرية هي قرية ڤاسلوي Vaslui، على بعد حوالي مائة كيلو متر شمالًا بعد عبور الحدود بين الإفلاق والبغدان.
للأسف لم يُدرك سليمان باشا أنَّ هذه القرية تُرِكَت سليمةً عمدًا؛ وذلك حتى يَستدرج استيفين الجيشَ العثمانيَّ إلى هذه المنطقة لتدور المعركة في الأرض التي يُريد! كان وادي ڤاسلوي نصف بيضاوي، ومساحتة محدودة، ممَّا يجعل المناورة فيه صعبة، وبالتالي يُمكن للجيش البغداني قليل العدد أن يُواجه جيشًا كبيرًا كالجيش العثماني، وأيضًا يُحاط الوادي بغاباتٍ كثيفةٍ على الجانبين ممَّا يجعل هناك فرصة لاختباء قوَّاتٍ بغدانيَّةٍ إضافيَّة بين الأشجار[51]، بالإضافة إلى أنَّ الوادي يقع شمال نهر بارلاد Bârlad، ممَّا يستلزم عبور الجيش العثماني لهذا النهر حتى يتمَّ القتال، وبالتالي سيكون خطُّ رجعته صعبًا إذا ما كان النصر حليف استيفين، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك فالمسافة الطويلة بين حدود الإفلاق وقرية ڤاسلوي ستجعل الجيش مرهقًا من سير كلِّ هذه المسافة في البرد الشديد، كما ستجعل انسحابه إلى الإفلاق في حال الهزيمة عسيرًا، ممَّا سيُضاعف الخسائر حتمًا.
دخل سليمان باشا وجيشه الوادي في 10 يناير 1475م، وكان يومًا ضبابيًّا إلى درجةٍ كبيرة، حتى تكاد الرؤية أن تكون منعدمة[52]، واستُدرِج الجيش العثماني عن طريق الموسيقى العسكريَّة البغدانيَّة التي أغرت العثمانيِّين بالتقدُّم خلف الصوت لاكتشاف موقع الجيش المعادي؛ ولكن كلَّ هذا كان فخًّا خطرًا، وما إن اكتمل دخول الجيش العثماني حتى انهالت عليه النيران من ثلاثة جوانب، ووقع العثمانيُّون في كارثةٍ عسكريَّةٍ حقيقيَّة[53].
على الرغم من أنَّ المدفعيَّة العثمانيَّة بادلت البغدانيَّة القصف، وعلى الرغم من المحاولات التي بذلها الجيش العثماني الكبير فإنَّ الخسارة كانت واضحة، وأدرك سليمان باشا في نهاية اليوم أنَّ الأمر فوق طاقة جنوده فأصدر أوامره بالانسحاب، الذي لم يكن سهلًا قط؛ لأنَّه كان يحدث من فوق جسرٍ خشبيٍّ محدود فوق نهر بارلاد[54].
لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تتبَّع الجيشُ البغدانيُّ الجنودَ العثمانيِّين وهم يفرِّون من أرض القتال، ولمدَّة ثلاثة أيَّامٍ كاملة، إلى أن وصلوا إلى الإفلاق، ممَّا ضاعف حجم الكارثة[55].
بلغت التقديرات البولنديَّة والرومانيَّة لعدد الشهداء العثمانيِّين في الموقعة والأيَّام التي تلتها إلى رقمٍ مهول؛ حيث تجاوز 45 ألف جندي[56]، وذكرت بعض المصادر الإسلاميَّة الأمر بشكلٍ مقتضبٍ دون تحديد؛ وذلك مثل: «وبعد محاربةٍ عنيفةٍ قُتِل فيها كثيرٌ من الجيشين المتحاربين عادت الجيوش العثمانيَّة دون فتح شيءٍ من هذا الإقليم»[57].
كانت كارثةٌ حقيقيَّةٌ للدولة العثمانيَّة، وكانت أصداؤها ونتائجها كبيرة..
أوَّلًا: حفر استيفين الثالث اسمه في الواقع وفي التاريخ بهذا النصر على الدولة العثمانيَّة، ومع أنَّه تعرَّض بعد ذلك لهزائم من العثمانيِّين فإنَّ ذكرى هذا النصر كانت تمحو باستمرار أيَّ انكسارٍ أمام الدولة العثمانيَّة، ولقد عَدَّه البغدانيُّون القائد الملهم الذي ينبغي أن يحكم بلادهم للأبد، وكان هذا في الحقيقة واقعًا؛ حيث حكم استيفين البغدان إلى عام 1504م، أي إلى لحظة وفاته[58]، وهو بذلك يُعَدُّ من أطول أمراء البغدان حكمًا (مدَّة 47 سنة من 1457 إلى 1504م)، ولم يكن تخليد اسمه تاريخيًّا خاصًّا بعهده فقط؛ بل ظلَّ كذلك طوال القرون التالية، وقد أعطاه أهل البغدان لقب العظيم «The Great» بعد وفاته مباشرة[59]، وحافظ على هذه الصورة في كلِّ العهود، وليس هذا في مولدوڤا (جزء من البغدان) فقط إنَّما في رومانيا كذلك، على أساس التاريخ المشترك بين الدولتين، وأنَّ إمارة البغدان كانت تضمُّ أجزاء من الدولتين، بالإضافة إلى الجذور الرومانيَّة لاستيفين، وفي استفتاء في رومانيا عام 2006م حول أعظم مائة شخصيَّة في تاريخهم كان استيفين هو الأوَّل في هذا الاستفتاء[60]، وأكثر من هذا؛ فإنَّ الكنيسة الرومانيَّة الأرثوذكسية أعطته في عام 1992م لقب قديس «Saint»[61]، وليتحوَّل يوم وفاته إلى عيدٍ دينيٍّ رسمي، وهو يوم 2 يوليو من كلِّ سنة[62].
ثانيًا: انتبه البابا الكاثوليكي سيكستوس الرابع Sixtus IV إلى هذا الانتصار الكبير، وعلى الرغم من أنَّه لم يُرسل مساعدات مادِّيَّة إلى استيفين الثالث فإنَّه أنعم عليه بلقبٍ كبيرٍ لا يُعطى إلَّا في ظروفٍ معيَّنةٍ ومحدودة، وهو «المدافع الحقيقي عن العقيدة المسيحية «The true defender of the Christian faith، أو باللغة اللاتينية: Athleta Christi»[63][64]، وهي رتبةٌ باباويَّةٌ تعني القدِّيس العسكري، وتُعطَى إلى أولئك الذين يقودون حملاتٍ عسكريَّةً للدفاع عن المسيحية، وجديرٌ بالذكر أنَّ إسكندر بك الألباني قد حاز هذا اللقب قبل ذلك[65][66]؛ ولكن إعطاء هذا اللقب المميز لاستيفين يحمل تقديرًا خاصًّا؛ حيث إنَّه أرثوذكسي، ومن العجيب أن يُعطيه البابا الكاثوليكي هذا اللقب الرفيع، ممَّا يُشير إلى أثر هذا النصر على أوروبا، ويُشير كذلك إلى إحباط الغرب الكاثوليكي من إمكانيَّة التغلُّب على الدولة العثمانيَّة حتى صاروا يتقرَّبون إلى الأرثوذكس -وهم أعداؤهم- الذين يُحقِّقون نصرًا على العثمانيِّين!
ثالثًا: لنعرف أيضًا حجم هذا النصر عند النصارى ينبغي مراجعة تقويم مارا برانكوڤِيتش Mara Branković؛ وهي ابنة الملك الصربي الشهير چورچ برانكوڤيتش George Branković، وهي في الوقت نفسه زوجة أبي السلطان محمد الفاتح؛ أي زوجة السلطان مراد الثاني، وكان قد تزوَّجها عام 1435م[67][68]، وهي مثل أمِّ السلطان الفاتح، وكانت علاقتها جيِّدة جدًّا به حتى بعد وفاة زوجها[69]، قالت مارا برانكوڤِيتش: «لم يتعرَّض العثمانيُّون لهزيمةٍ أعظم من هذه»[70]! وهذا تقويمٌ صائبٌ في الحقيقة، إذا ما استثنينا كارثة موقعة أنقرة عام (804هـ= 1402م)، على يد تيمورلنك، أو لعلَّها تقصد أنَّها أكبر هزيمة يتعرَّض لها العثمانيُّون على يد نصارى أوروبا؛ حيث إنَّ تيمورلنك مسلم آسيوي كما هو معلوم.
رابعًا: كان ردُّ فعل المجر مهمًّا بعد هذا النصر البغداني؛ إذ أعاد الملك ماتياس حساباته الخاصَّة باستيفين، فبدلًا من العداء الظاهر بين الزعيمين -الذي توقَّف مؤقتًا قبل موقعة ڤاسلوي- أراد ملك المجر أن يستفيد من قوَّة استيفين الظاهرة، خاصَّةً أنَّ العدو الأبقى والأكبر للمجر هو الدولة العثمانيَّة وليس إقليم البغدان؛ ولذلك تناسى ماتياس ما كان من استيفين، سواءٌ ما كان خاصًّا بأخذه مدينة كيليا المهمَّة، أم ما كان خاصًّا بحملاته المتكرِّرة على ترانسلڤانيا المجريَّة، ومن هنا بدأت المباحثات الجادَّة بين الطرفين، وقد افتتح استيفين مباحثاته مع ماتياس بطلبٍ غريب، وهو إطلاق سراح دراكولا الثالث أمير الإفلاق السابق[71]، الذي كان محبوسًا في المجر منذ عام 1462م؛ أي منذ ثلاث عشرة سنة كاملة، وكان الهدف من طلب استيفين هو ضرب الإفلاق بدراكولا الثالث؛ لأنَّ الإفلاقيِّين -والكلام لاستيفين- كالأتراك بالنسبة إلى البغدانيِّين[72]؛ أي كلاهما عدوٌّ لهم، ويرى استيفين أنَّ دراكولا عدوٌّ قديمٌ لعائلة لايوتا حاكم الإفلاق الآن، وهو كذلك عدوٌّ للأتراك، وله تاريخ انتصاراتٍ عليهم في عدَّة مواقع، وله قدرةٌ قياديَّةٌ فائقة؛ ومِنْ ثَمَّ يُمكن أن يُحدِث فرقًا إذا ما دُعِم لقيادة الإفلاق.
كان ماتياس ملك المجر يكره دراكولا الثالث، ولم يكن يرغب في إطلاق سراحه؛ ولكنَّه كان يُريد لعلاقته باستيفين أن تتوطَّد؛ ومِنٍ ثَمَّ قَبِل طلبه؛ ولكن بشرط أن يتحوَّل دراكولا للكاثوليكيَّة، كما قرَّر ألَّا يدعم دراكولا في مسألة تولِّي الحكم في الإفلاق[73]، ولعلَّه لم يُرِدْ أن يدخل في صدامٍ مباشرٍ مع الدولة العثمانيَّة، فترك دعم دراكولا لاستيفين الثالث، وهكذا أُطلِق سراح دراكولا في أواخر مايو، أو أوائل يونيو 1475م[74].
بعد هذه البادرة من ماتياس عقد الطرفان -ماتياس واستيفين- تحالفًا عسكريًّا؛ وذلك في يوليو 1475م[75]، ولم يكن لهذا التحالف هدف سوى حرب الدولة العثمانيَّة بطبيعة الحال.
خامسًا: على عكس هذا التفاعل المجري الإيجابي مع استيفين بعد نصره جاء ردُّ ملك بولندا كازيمير الرابع على الحدث فاترًا! مع أنَّ استيفين كان قد أرسل له مجموعةً قيِّمةً من الغنائم التي حصَّلها من العثمانيِّين، وادَّعى ملك بولندا أنَّه لا يملك في الوقت الحالي من المال أو الجنود ما يُمكن أن يدعم به البغدان[76]!
الذي أراه أنَّ هذا الفتور ناتجٌ عن رؤية الملك البولندي للتَّقارب البغداني المجري؛ حيث إنَّه كان من ألدِّ أعداء الملك المجري ماتياس، وبالتالي لم يرغب في دعم استيفين، الذي يُمكن أن يصبَّ في مصلحة الحليف المجري، كما أنَّ الملك البولندي لم يكن يرغب -على الأغلب- في الدخول في صدامٍ طويلٍ مع الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّه كان منشغلًا للغاية بالتهديد الروسي الخطر في شرق دولته، حيث كان إيڤان الثالث Ivan III -الأمير الروسي الشهير- يُهدِّد بشكلٍ كبير ليتوانيا، التي كانت متَّحدة بشكلٍ كاملٍ مع بولندا في ذلك الوقت[77].
وخلاصة الأمر أنَّ بولندا لم تتحمَّس لإكمال دعمها للبغدان؛ ولكن دون تصريحٍ بفكِّ الارتباط؛ وذلك في انتظار ما تتطوَّر إليه الأحداث في المنطقة.
سادسًا: على خلاف التقارب الحذر الذي أَبْدَته المجر، والفتور الذي ظهر من ملك بولندا، كان تفاعل جمهوريَّة البندقية! لقد كانت البندقية في حربٍ حقيقيَّةٍ مع الدولة العثمانيَّة منذ عام 1463م، وكانت الغلبة في معظم الصدامات لصالح العثمانيِّين؛ ولذلك بمجرَّد رؤية هذا النصر البغداني أسرع البنادقة للتَّواصل مع استيفين، بل عَدُّوه حليفهم الرئيس في أوروبا[78]، بل سعت البندقية لتوجيه دعم «الكرسي الرسولي» Holy See في الڤاتيكان؛ وهو الهيئة المستقلَّة التي تقود كلَّ كنائس الكاثوليك في العالم، لاستيفين بدلًا من توجيهها لماتياس ملك المجر[79]، ويُعَدُّ هذا نجاحًا كبيرًا لاستيفين لأنَّه في النهاية أرثوذكسيٌّ وليس كاثوليكيًّا!
سابعًا: كان هناك أثرٌ مباشرٌ لهذا النصر البغداني على الوضع في الإفلاق (جنوب رومانيا)؛ فحاكم الإفلاق آنذاك كان لايوتا، الذي كان من الواضح أنَّه متذبذب الولاء بشكلٍ كبير؛ ففي البداية كان تابعًا لاستيفين الثالث أمير البغدان، ثم غيَّر ولاءه كما وضَّحنا فصار مواليًا للدولة العثمانيَّة، واشترك بفرقةٍ إفلاقيَّةٍ من الرومانيِّين في قتال الجيش العثماني في معركة ڤاسلوي؛ ولكنَّ المصادر البغدانيَّة تؤكِّد أنَّه لم يشترك في القتال الفعلي[80]، ويبدو أنَّه كان لا يُريد تعميق العداء مع البغدانيِّين خشية أن تكون لهم الغلبة في النهاية، وهو في الوقت نفسه لا يُريد إغضاب العثمانيِّين لأنَّه يرى أنَّهم القوَّة الأكبر، ومن المنطق أن تظلَّ لها السيطرة والهيمنة؛ ولكن هذا الوضع كان غير مطمئن للدولة العثمانيَّة على كلِّ حال.
ماذا يفعل السلطان الفاتح؟
الواضح أنَّ السلطان الفاتح تعامل مع الأمر بواقعيَّة، ولم يرفع سقف طموحاته إلى أعلى ممَّا ينبغي؛ فالولاء الكامل من زعيم الإفلاق وشعبها غير متوقَّعٍ في الحقيقة؛ لأنَّها إمارةٌ تابعةٌ للدولة العثمانيَّة، وليست من صلب كيان الدولة، ممَّا يعني أنَّها تُدار بشكلٍ كاملٍ بالرومانيِّين، ونسبة المسلمين فيها ضئيلةٌ للغاية، ولا تربطها بالدولة العثمانيَّة إلَّا روابط عسكريَّة واقتصاديَّة، متمثِّلة في التحالفات الحربيَّة، والجزية المدفوعة، وبالتالي من الطبيعي أن يتذبذب الولاء ما بين الحين والآخر، خاصَّةً أنَّ الطرف الآخر في الصراع مع العثمانيِّين طرفٌ نصراني، بل أرثوذكسيٌّ كذلك في حالة البغدان؛ ومِنْ ثَمَّ لا ينبغي للفاتح أن يتفاءل كثيرًا في مسألة ولاء أهل الإفلاق له.
بالنظر إلى كلِّ هذا قَبِل الفاتح بقاءَ لايوتا على رأس إمارة الإفلاق؛ لأنَّه يعلم أنَّ تغييره سيعني العداء له، وللنبلاء الذين يتبعونه، فإذا علمنا أنَّ عائلة لايوتا (وهي عائلة باساراب) هي عائلةٌ ملكية قديمةٌ بدأت حكم الإفلاق منذ عام 1310م[81]، أدركنا قيمة بقاء مثل هذه الشخصيَّة، وإنْ لم تكن مثاليَّة، ويرفع من قيمة بقاء لايوتا في منصبه وصول خبر إطلاق سراح دراكولا؛ لأنَّ دراكولا من عائلة دراكوليشتي Drăculești، وهي عائلةٌ فرعيَّةٌ من عائلة باساراب الكبرى، بينما لايوتا من فرع دانشتي Dănești، وهو الفرع المنافِس لفرع دراكوليشتي، وعرش الإفلاق لا يخرج عن هذين الفرعين[82]، وهكذا سيصير الدافع عند لايوتا في مقاومة دراكولا مضاعفًا، وهذا يرفع من أهميَّة بقائه لا شك.
والواقع أنَّ مشكلة الإفلاق هذه ستظلُّ دائمةً إلى آخر عهود الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّها بقيت على الدوام إمارةً تابعة، ولم تُحكم قط بشكلٍ مباشرٍ من الدولة العثمانيَّة، وهي مشكلةٌ ليست خاصَّة بالإفلاق فقط؛ بل بكل الإمارات والولايات التابعة، التي من الصعب جدًّا أن تشعر بالولاء لدولةٍ أخرى لا تدين بدينها، وليس هناك ما يربطها بها سوى العسكر والمال!
ثامنًا: حدث تطوُّرٌ خطرٌ للغاية نتيجة نصر البغدانيِّين في موقعة ڤاسلوي، وهو جرأة استيفين على غزو منطقة القرم Crimean، الواقعة شمال البحر الأسود؛ وذلك لزيادة نفوذه في هذا البحر المهم، وهكذا بينما كان الفاتح يسعى إلى تقليص الحدود البغدانيَّة على البحر الأسود بمحاولة السيطرة على ميناءَي كيليا وأكرمان البغدانيَّين، إذا بالعكس يحدث، ونرى توسُّع استيفين في سواحل البحر الأسود ممَّا يُهدِّد بقوَّة أمن وسلامة الدولة العثمانيَّة.
ولكي نفهم خطورة هذه الخطوة ينبغي مراجعة وضع منطقة القرم الجغرافي والسياسي، الذي سيكون له أثرٌ كبيرٌ في تطوُّر الأحداث خلال المرحلة التي نحن بصدد دراستها الآن.
منطقة القرم هي شبه جزيرة على شكل مثلَّثٍ مقلوب، وتقع في شمال البحر الأسود، وتبلغ مساحتها 27 ألف كم2 (خريطة رقم 11)، ومع أنَّ طبيعة الأرض غير جيِّدة حيث إنَّها ملأى بالبراري والحشائش الكثيفة، فإنَّ أهميَّتها الاستراتيجيَّة كبيرة للغاية؛ حيث إنَّها -أوَّلًا- تُمثِّل مخرجًا لكلِّ غرب آسيا وشرق أوروبا على البحر الأسود، الذي يُمكن -في حال فتح المضايق الموجودة في الأناضول- أن يكون مخرجًا للبحر الأبيض المتوسِّط، وبالتالي الاتصال بإفريقيا وجنوب وغرب أوروبا، وثانيًا لأنَّ القرم نقطة انطلاق عسكريَّة مهمَّة يُمكن منها الوصول إلى ممالك الروس في الشمال الشرقي، وبولندا وليتوانيا في الشمال الغربي، وثالثًا -وهذا مهمٌّ جدًّا- أنَّها تُمثِّل نقطة متوسِّطة للتجارة الواسعة التي تنطلق من آسيا إلى أوروبا والعكس، وخاصَّةً بعض مدنها الساحليَّة مثل مدينة كفَّة Caffa، وهي الآن مدينة فيودوسيا Feodosia، ومدينة سوداك Sudak، ومدينة كيرش Kerch، وغيرها من المدن.
هذه الأهميَّة الاقتصاديَّة جعلت هذه المنطقة هدفًا للقوى الاستعماريَّة المختلفة على مدار التاريخ، فتتابع على حكمها اليونانيُّون، والفرس، والرومان، ومنهم البيزنطيون، وكذلك الروس، والمغول، وأيضًا القوى البحريَّة الأوروبيَّة وخاصَّةً جمهورية چنوة الإيطاليَّة[83]، وللأسف فإنَّ منطقة القرم كانت من أكبر مراكز تجارة العبيد في العالم[84]، وهذا أضاف لها أهميَّةً خاصَّةً عند المستعمرين، ومن المحتمل أن تكون هذه الأهميَّة قد جاءتها بحكم موقعها المتوسِّط بين آسيا وأوروبا، ممَّا جعلها مكانًا مناسبًا لانتقال العبيد من موطنهم الأصلي (في آسيا) إلى المكان الذي سيُباعون فيه (أوروبا).
في هذا التوقيت الذي ندرسه -أي في عام 1475م- كانت سيادة القرم مقسَّمة بين ثلاث قوى رئيسة؛ الأولى هي جمهوريَّة چنوة، والثانية هي إمارة تيودورو البيزنطيَّة، وأمَّا الثالثة فهي خانية (إمارة) القرم المغوليَّة.
إحدى هذه القوى الثلاث كانت جمهوريَّة چنوة، وقد كانت تحتلُّ عدَّة موانئ ومستعمرات في البحر الأسود، وذلك منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك بعد عقد معاهدات مع الدولة البيزنطيَّة[85]، وكانت هذه الموانئ في الساحل الشرقي والجنوبي من جزيرة القرم، وكذلك في شرق البحر الأسود، بالإضافة إلى بعض القلاع في شمال غرب البحر الأسود، وكانت أهمُّ مراكز چنوة في كلِّ المنطقة هي مدينة كفَّة Caffa شرق القرم، وكانت تتنافس مع جمهوريَّتي البندقية وبيزا Pisa الإيطاليَّتَين في التجارة في هذا البحر، ولكن چنوة -في الفترة التي نحن بصدد تحليلها- صارت القوَّة الإيطاليَّة الوحيدة في كلِّ سواحل البحر الأسود.
وأمَّا القوَّة الثانية في القرم فهي إمارة تيودورو البيزنطيَّة Principality of Theodoro، وهي آخر ما يربط الدولة البيزنطيَّة المنهارة بالعالم، وهي إمارةٌ صغيرةٌ في وسط القرم، ولها ميناءٌ وحيدٌ في الساحل الغربي للقرم هو ميناء إنكرمان Inkerman، وكانت عاصمتها هي مدينة منكب Mangup، والإمارة كانت تُحكم بعائلة بيزنطيَّة، وحاكمها في ذلك الوقت اسمه ألكسندر، ومن أجل القدرة على مقاومة الدولة العثمانيَّة القويَّة زوَّج أخته ماريا من استيفين الثالث أمير البغدان[86].
وأمَّا القوَّة الثالثة والأخيرة في القرم فهي قوَّة خانات القرم المغول، وهؤلاء كانوا يُسيطرون على القسم الشمالي من شبه الجزيرة (قاعدة المثلث)، وليس هذا فقط إنَّما يُسيطرون كذلك على مساحات شاسعة من الأرض الأوروبيَّة شمال البحر الأسود؛ أي مساحات من روسيا وأوكرانيا الحاليَّتين، وخانات القرم هؤلاء كانوا مسلمين، وهم من نسل چنكيز خان، ومن فرع القبيلة الذهبيَّة Golden Horde، التي سيطرت على غرب روسيا وشرق أوروبا بعد تقسيم مملكة المغول إثر موت چنكيز خان، وكانت القبيلة الذهبيَّة قد اعتنقت الإسلام عام 1257م بعد إسلام زعيمها بركة خان Berke khan[87][88]، وقد انفصل خانات القرم عن القبيلة الذهبيَّة عام 1449م، ودخلوا في صراعاتٍ كثيرةٍ مع الفروع الأخرى للقبيلة ممَّا أدَّى إلى إضعاف الجميع[89]، وكان خانات القرم على صراعٍ كذلك مع أمير روسيا[90]، وكذلك مع مملكة (بولندا - ليتوانيا)، بالإضافة إلى صراعهم مع أمير البغدان استيفين الثالث[91].
هذا هو الوضع المعقَّد في شبه جزيرة القرم!
ويزيد من تعقيد الأمر أنَّ هذه القوى التي تُسيطر على القرم كانت متصارعةً بينها وبين بعضها البعض؛ فإمارة تيودورو على خلاف مع الچنويِّين، وهي كذلك على خلافٍ مع خانات القرم، وخانات القرم بدورهم على خلافٍ مع الچنويِّين، وهكذا صارت المنطقة بؤرة صراع أدَّت إلى ضعف كلِّ القوى. في ظلِّ هذه الاضطربات وضع استيفين الثالث أمير البغدان مسألة السيطرة على القرم نصب عينيه، فأرسل جيشًا لمساعدة أخي زوجته ماريا على توطيد حكمه، وزيادة التوسُّع في شبه الجزيرة[92]، كان هذا ردُّ فعلٍ سريعٍ من استيفين الثالث مستغلًّا نشوة النصر عنده وعند جنوده في موقعة ڤاسلوي، ومستغلًّا كذلك حالة فقد الاتزان التي عانتها الدولة العثمانيَّة بعد الهزيمة، وكان وجود الجيش البغداني في هذه المنطقة يعني سيطرة مستقبليَّة على الملاحة في البحر الأسود، وكذلك سيطرة على التجارة الوسيطة بين آسيا وأوروبا، كما قد يعني توسُّعًا في اتِّجاه الشمال في ممالك الروس وأوكرانيا ممَّا يُضاعف من قوَّة البغدانيِّين، ويُصَعِّب المسألة بصورةٍ أكبر على العثمانيِّين.
لقد كانت حقًّا خطوة خطرة للغاية!
تاسعًا: ما ردُّ فعل إمارة چنوة إزاء تطوُّر الأوضاع لصالح البغدانيِّين بعد موقعة ڤاسلوي؟!
على الرغم من أنَّ إمارة چنوة كانت إحدى القوى البحريَّة الرئيسة في العالم في القرنين الثالث عشر والرابع عشر فإنَّ قوَّتها بدأت في الاضمحلال في أواخر القرن الرابع عشر، وكذلك في القرن الخامس عشر[93]، وحيث إنَّها كانت تعتمد في وجودها في هذه الفترة الحرجة من حياتها على معاهداتها مع الدولة البيزنطيَّة، فإنَّها وقفت إلى جوارها أيَّام فتح القسطنطينية[94][95]، ومع ذلك فقد عقد الچنويّون معاهدات مع محمد الفاتح أيضًا تتعهَّد فيها بعدم الوقوف إلى جوار البيزنطيِّين، وقد شرحنا هذا من قبل عند الحديث عن فتح القسطنطينية، وعلى الرغم من هذا التذبذب فإنَّ الفاتح قَبِل منهم ذلك؛ لأنَّه لم يكن قادرًا على حرب كلِّ القوى المعادية له في وقتٍ واحدٍ، ومنذ ذلك الحين والعلاقة بين الدولة العثمانيَّة وچنوة فاترةٌ للغاية؛ فالدولة العثمانية تعلم أنَّ الچنويِّين أعداؤهم كما البنادقة والبغدانيِّين، خاصَّةً أنَّهم يمتلكون موانئ في البحر الأسود يُمكن أن تُؤثِّر سلبًا فيهم، وكذلك يمتلكون عدَّة جزر في بحر إيجة، وأهمها خيوس، وهذه جزر يُمكن أن تخنق الدولة العثمانيَّة من جنوبها.
هذه هي طبيعة العلاقة بين الدولة العثمانيَّة وچنوة.. إنَّها علاقة عداءٍ غير معلن، وكل طرفٍ يعلم أنَّ الطرف الآخر ينتظر الفرصة للانقضاض على الآخر!
وكما كانت العلاقة متوتِّرة بين چنوة والعثمانيِّين، فإنَّها كانت متوتِّرة كذلك بين چنوة والبغدانيِّين، وقد أمرت إمارة چنوة مستعمراتها في البحر الأسود عام 1471م أن تُمارس بعض الأعمال الانتقاميَّة من البغدان بسبب تعدِّيَّات استيفين على الچنويِّين[96].
والآن حدثت معركة ڤاسلوي، وانتصر البغدانيُّون، وعلا نجم استيفين الثالث؟
ماذا فعل الچنويّون؟!
الواقع أنَّهم لم يفعلوا شيئًا!
لم يقفوا إلى جوار المنتصر ولا المهزوم، بل وقفوا سلبيِّين في انتظار ضربةٍ تأتيهم من هذا أو ذاك، والسبب أنَّ دولتهم الأم -هناك في إيطاليا- كانت قد وقعت تحت احتلال إمارة ميلانو، وكذلك فرنسا، وهذا الاحتلال سيستمرُّ حتى نهاية الثلث الأوَّل من القرن السادس عشر[97].
لقد كانت الإمارة تنهار، والمستعمرات جاهزة للضياع، وسيأخذها من يغتنم الفرصة أوَّلًا؛ سواءٌ كان من البغدان أم من الدولة العثمانيَّة، أم من الغرب الأوروبي، مثل: ميلانو، أو فرنسا، أو العدو القديم البندقية. ولقد كان توجُّه استيفين الثالث بجيشٍ لمساعدة ألكسندر أمير إمارة تيودورو نذيرًا بأنَّه قد يكون الحاكم المستقبلي لمستعمرات چنوة في البحر الأسود!
عاشرًا وأخيرًا: ما ردُّ فعل السلطان محمد الفاتح لهزيمة ڤاسلوي؟!
كان ردُّ الفعل الأوَّل للسلطان محمد الفاتح هو «الصمت» عدَّة أيَّام دون أن يكون له القدرة على الحوار أو السَّماع من أحد[98]؛ إنَّ المصيبة كانت كبيرة، والقرار القادم للسلطان قد يُؤثِّر في مسيرة الدولة بشكلٍ عامٍّ، فإمَّا القيام من الكبوة، وإمَّا استمرار السقوط، فالحذر الحذر من القرارات الانفعاليَّة، والحذر الحذر من تأثير العاطفة على العقل!
ماذا فعل الفاتح رحمه الله؟!
لكي نفهم ما ينبغي للفاتح أن يفعله في هذه الفترة لا بُدَّ من استرجاع النقاط التي ذكرناها في الصفحات السابقة، التي تُلَخِّص ردود الفعل عند كلِّ الأطراف المشاركة في الحدث، سواءٌ من قريبٍ أم من بعيد، وبتجميع النقاط بعضها إلى جوار بعض يُمكن أن نطَّلع على الصورة كاملة، وحينها سنفهم قرارات الفاتح في هذا الموقف.
يُمكن حصر النقاط المهمَّة في تحليلنا فيما يلي:
1. استيفين الثالث في قمَّة قوَّته، معنويًّا وماديًّا، وكذلك جيشه وشعبه.
2. هزيمة ڤاسلوي كانت في الشتاء شديد البرد، وما زالت هناك أشهر في هذا الجوِّ الصعب، وكانت برودة الشتاء أحد عوامل هزيمة العثمانيِّين في المعركة، ومحاولة الحركة في الأسابيع أو الشهور المتبقية في الشتاء قد تحمل هزيمةً أخرى أقسى.
3. الجيش العثماني مصابٌ بكارثةٍ عسكريَّةٍ كبيرة، فَقَدَ فيها عددًا ضخمًا من رجاله، كما فَقَدَ سلاحًا وممتلكات، والأكثر من ذلك فَقَدَ روحه المعنويَّة لفشله مرَّتين متتاليتين في غضون شهورٍ قليلة.. أعني فشله في ألبانيا ثُمَّ في البغدان.
4. هناك دعمٌ نصرانيٌّ كبيرٌ للبغدان، على الأقلِّ معنويًّا وروحيًّا؛ وذلك متمثِّلٌ في تأييد البابا، وكذلك في خطابات التهنئة الواردة من مختلف الأقطار النصرانية.
5. المجر -التي لم تدخل في صدامٍ مباشرٍ مع الدولة العثمانيَّة منذ فتح البوسنة عام (867هـ= 1463م)؛ أي منذ اثني عشر عامًا- تدعم استيفين الثالث الآن، وتتحالف معه عسكريًّا، مع ما قد يحدث من تطوُّراتٍ كبرى لو أقدمت المجر على الحرب المباشرة مع العثمانيِّين؛ وذلك للحدود الكبيرة التي تتلاقى فيها الدولتان، وهي حدود الإفلاق، وصربيا، والبوسنة (أكثر من ألف كيلو متر طولية من الحدود).
6. هناك قلاقل متوقَّعة في الإفلاق؛ حيث إنَّ إطلاق دراكولا الثالث قد يعني حربًا جديدةً في هذه الأرض، وغالبًا ما سيدعم استيفين الثالث حليفه دراكولا بجيشٍ من البغدانيِّين.
7. هناك فتورٌ في العلاقة بين بولندا والبغدان، وغالبًا ما ستسكت بولندا في حال تعرُّض استيفين للخطر؛ وذلك لانشغال بولندا في صراعاتها مع الروس من ناحية، وللعداء الذي بين بولندا والمجر من ناحيةٍ أخرى.
8. البندقية -أقوى أعداء الدولة العثمانية الحاليِّين- متحمِّسةٌ لنصرة استيفين، وتَعُدُّه حليفًا قويًّا مناسبًا، ومن المحتمل أن تفتح جبهات قتال مع العثمانيِّين بالاشتراك مع استيفين.
9. هناك جيشٌ بغدانيٌّ الآن في القرم لنصرة ألكسندر أمير تيودورو، وبقاء هذا الجيش في القرم قد يعني تطوُّر السيطرة البغدانيَّة على الأمور، وقد يعني التوسُّع في أوروبا وآسيا، فضلًا عن السيطرة على البحر الأسود.
10. استيفين الثالث متزوِّجٌ ماريا البيزنطيَّة، ومن المحتمل أن يُطالب بميراث الدولة البيزنطيَّة: وهو كلُّه الآن بيد الدولة العثمانيَّة، وقد يكون هذا هو دافعه الأصلي للزواج من ماريا، وهذا ما يراه عددٌ من المؤرِّخين[99][100]، ولو تحرَّكت هذه القضيَّة في أوروبا لوقفت وراءها كلُّ القوى الأوروبيَّة، ليس حبًّا في استيفين الثالث، ولا في الدولة البيزنطيَّة؛ ولكن كُرهًا في الدولة العثمانيَّة، ورغبةً في تقليص أملاكها، ولو إلى الأرثوذكس أعدائهم منذ زمن.
11. إمارة چنوة في غاية الضعف، سواءٌ في مستعمرات البحر الأسود، أم في بحر إيجة، أم الدولة الأمِّ في إيطاليا، وهي على خلافٍ مع كلِّ القوى المحيطة بها؛ أعني على خلافٍ مع خانات القرم، وإمارة تيودورو، وكذلك مع الدولة العثمانيَّة، وإمارة البغدان، فضلًا عن خلافهم التقليدي مع جمهورية البندقية، وهذا يعني أنَّ جميع هذه القوى طامعة في اقتناص الممتلكات الثمينة إذا ما انهارت چنوة بشكلٍ كامل.
12. خانات القرم تعيش حالةً من حالات ضعفها، وهم مسلمون، وهم على خلافٍ مع كلِّ القوى المحيطة بهم كذلك، حالهم في هذا كحال چنوة؛ فهم متصارعون مع البغدان، وبولندا، وروسيا، وتيودورو، وچنوة، فضلًا عن صراعهم الداخلي بينهم وبعضهم البعض، وبينهم والقبيلة الذهبيَّة بكافَّة فروعها.
13. لم تُحَل مشكلة ألبانيا بعد، والذي يدعم التمرُّد هناك ويقوده هم رجال جمهورية البندقية، ولم يظهر رمزٌ ألبانيٌّ يُعوِّض غياب إسكندر بك.
هذه هي المعطيات الثلاثة عشر التي نظر إليها السلطان محمد الفاتح استعدادًا لأخذ قرارٍ بخصوص خطوة الدولة العثمانيَّة القادمة.
لم يكن هناك شَكٌّ في أنَّ قضيَّة ألبانيا صارت أقلَّ أهميَّةً من قضيَّة البغدان، وكان من الواضح أنَّ الفاتح سيجعل مسألة الانتقام من استيفين الثالث هي شغله الشاغل في المرحلة القادمة؛ لكن تبقى الأسئلة: متى؟ وأين؟ وكيف؟ هي التي تحتاج إلى إجابات!
متى يكون تحرُّك الدولة العثمانيَّة؟ وأين سيكون هذا التحرُّك؟ هل سيكون في البغدان نفسها؟ أم سيكون في الإفلاق إذا ما تحرَّك استيفين لدعم دراكولا في السيطرة على الإمارة؟ أم سيكون في القرم لمواجهة الجيش البغداني الذي يدعم إمارة تيودورو؟
كيف سيكون هذا التحرُّك؟ هل تتحرَّك طاقة الدولة كلِّها في هذه المواجهة؟ هل ستكون حربًا برِّيَّةً أم بحريَّةً أم كليهما معًا؟ هل سيخرج السلطان بنفسه في هذه المعارك؟ هل سيقبل عروض السلام إذا ما طُرِحَت فتقف الحرب أم إنَّ الحرب صارت حتميَّة؟
بعد النظر إلى كل هذه المعطيات أخذ الفاتح قرارًا عجيبًا قد لا يبدو مفهومًا لمن لم يستعرض الصورة بكاملها؛ أما بعد استعراض كل شيء فسنفهم حينها أن القرار كان أحد أعظم قراراته في كل تاريخه!
وهذا هو موضوع المقال القادم![101].
[1] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية، المترجمون تحقيق: إحسان حقي- بيروت، لبنان: دار النفائس، 1981م صفحة 173. ولكنَّه قال: اسطفن الرَّابِع وليس الثالث.
[2] Pop Ioan-Aurel and Bolovan Ioan The Romanians in the 14th–16th centuries from the «Christian Republic» to the «Restoration of Dacia» [Book Section] // History of Romania: Compendium. - [s.l.] : Romanian Cultural Institute (Center for Transylvanian Studie),., 2005, p. 267.
[3] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري- إستانبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/150.
[4] Panaite Viorel The Ottoman Law of War and Peace: The Ottoman Empire and Tribute Payers [Book]. - [s.l.] : East European Monographs, 2000, p. 164.
[5] Matei Mircea D. and Cârciumaru Radu Studii Noi Despre Probleme Vechi – Din Istoria Evului Mediu Românesc, [Book]. - [s.l.] : Cetate de Scaun., 2004, pp. 94-96.
[6] Pop, et al., 2005, p. 266.
[7] Eagles Jonathan Stephen the Great and Balkan Nationalism: Moldova and Eastern European History [Book]. - [s.l.] : I.B. Tauris, 2014, p. 38.
[8] Papacostea Șerban Stephen the Great, Prince of Moldavia, 1457–1504 [Book] / trans. Celac Sergiu. - Bucharest, Romania : Editura Enciclopedică, 1996, p. 35.
[9] Demciuc Vasile M. Domnia lui Ștefan cel Mare. Repere cronologice [Book]. - [s.l.] : Codrul Cosminului (10),, 2004, p. 3.
[10] Ciobanu Veniamin The Equilibrium policy of the Romanian principalities in East-Central Europe, 1444–1485 [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepeș / book auth. Treptow Kurt W. - [s.l.] : East European Monographs, Columbia University Press,, 1991, p. 43.
[11] Demciuc, 2004, p. 3.
[12] Eagles, 2014, p. 213.
[13] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 299.
[14] Mureşanu Camil John Hunyadi: Defender of Christendom [Book]. - Iasi , Romanian : The Center for Romanian Studies, 2008.
[15] Ciobanu, 1991, pp. 43-44.
[16] Florescu Radu R and McNally Raymond T. Dracula, Prince of Many Faces: His Life and his Times [Book]. - [s.l.] : Back Bay Books., 1989, p. 149.
[17] انظر قصة حبس ملك المجر لدراكولا ص PAGEREF حبس_دراكولا \h 399.
[18] Demciuc, 2004, p. 4.
[19] Długosz Jan The Annals of Jan Długosz [Book]. - [s.l.] : IM Publications, 1997, p. 552.
[20] Denize Eagen Semnificaţia Haracului în relaţiile Moldo-Otomane din vremea lui Ştefan cel Mare [Book]. - Târgovişte, Romania : Editura Cetatea de Scaun, 2004, p. 45.
[21] Eagles, 2014, pp. 213-214.
[22] Ciobanu, 1991, p. 44.
[23] Eagles, 2014, p. 214.
[24] Papacostea, 1996, p. 42.
[25] Ciobanu, 1991, pp. 46-47.
[26] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور، المترجمون محمد مصطفى. - فيسبادن : فرانز شتاينر، 1975م صفحة 3/86.
[27] نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري- بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر، 2002م صفحة 7/64.
[28] Demciuc, 2004, p. 5.
[29] Pippidi Andrei Noi Izvoare Italiene despre Vlad Ţepeş şi Ştefan cel Mare [Book]. - [s.l.] : Studies and Materials of Medium History, 2002, p. XX.
[30] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 339.
[31] Worldweatheronline Bratuseni temperature [Online] // World weather online. - October 9, 2013. - Worldweatheronline.com..
[32] Babinger, 1978, pp. 361-362.
[33] Babinger, 1978, p. 339.
[34] Panaite, 2000, p. 165.
[35] Babinger, 1978, p. 339.
[36] Babinger, 1978, p. 334.
[37] Pilat von Liviu and Ovidiu Cristea The Ottoman Threat and Crusading on the Eastern Border of Christendom During the 15th [Book]. - Boston, USA : Brill,, et al., 2017, p. 148.
[38] Longley Norm The Rough Guide to Montenegro [Book]. - New York, USA : Rough Guides, 2009, p. 96.
[39] Ćorović Vladimir Istorija Srba (in Serbian) [Book]. - [s.l.] : Zoograf, 2005, p. 357.
[40] Iorga Nicolae Istoria lui Ştefan cel Mare [Book]. - [s.l.] : Bucharest, 1904, p. 128.
[41] Babinger, 1978, p. 339.
[42] Kármán Gábor and Kunčević Lovro The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries The Ottoman Empire and its Heritage [Book]. - Boston, USA : BRILL., 2013, p. 266.
[43] Długosz, 1997, p. 588.
[44] Turnbull, Stephen The Ottoman Empire 1326–1699 [Book]. - London, UK : Bloomsbury Publishing, 2012 (A), p. 42.
[45] Iorga, 1904, p. 128.
[46] Babinger, 1978, p. 342.
[47] أوزتونا، 1988م صفحة 1/166.
[48] الترمذي: كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب (1021)، وقال: حسن غريب. وأحمد (19725) واللفظ له، وابن حبان، 1993م (2948)، وحسنه الألباني، 1995م (1408).
[49] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2398) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7481)، وأحمد (1481)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والدارمي، 1987م (2783)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن والحديث صحيح، وصحَّحه الألباني، 1995م (143).
[50] Iorga, 1904, p. 128.
[51] Iorga, 1904, p. 129.
[52] Turnbull, 2012 (A), p. 42.
[53] Iorga, 1904, p. 130.
[54] Mikaberidze Alexander Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia [Book]. - California, USA : ABC-CLIO, 2011, vol. 1, p. 914.
[55] Cristea, 2016, p. 316.
[56] Ghyka (Prince Matila) A Documented Chronology of Roumanian History – from prehistoric times to the present day [Book]. - [s.l.] : Oxford,, 1941, p. 108.
[57] فريد، 1981م صفحة 173.
[58] Pop, et al., 2006, p. 271.
[59] Eagles, 2014, p. 75.
[60] Eagles, 2014, pp. 75-83.
[61] كان هذا بعد انتهاء الشيوعية من مولدوڤا؛ حيث لم تكن لهم حرية وهم تحت حكم الاتحاد السوفيتي، في الاحتفال بمناسبات أو أعياد دينية.
[62] Ramet Sabrina Nihil obstat: religion, politics, and social change in East-Central Europe and Russia [Book]. - Durham : Duke University Press, 1998, p. 195.
[63] Cändea, 2004, p. 141.
[64] فريد، 1981م صفحة 174.
[65] Sinishta Gjon The Fulfilled Promise: A Documentary Account of Religious Persecution in Albania [Book]. - Santa Clara Calif, California, USA : H and F Composing Service, 1976, p. 6.
[66] فريد، 1981م صفحة 174.
[67] Fine John Van Antwerp The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest [Book]. - [s.l.] : University of Michigan Press,, 1994, p. 530.
[68] ذكر هذا الزواج محمد فريد ويلماز وسرهنك ولكن دون تحديد سنة. فريد، 1981م صفحة 154، وأوزتونا، 1988م صفحة 1/122، وسرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار- مصر : مطابع الأميرية، بولاق، 1895م صفحة 1/503.
[69] Nicol, 1994, p. 116.
[70] Demciuc, 2004, p. 10.
[71] Rezachevici Constantin Vlad Țepeș – Chronology and historical bibliography [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepe / book auth. Treptow Kurt W. - East European Monographs, Columbia University Press : [s.n.],, 1991, p. 261.
[72] Hasan Mihai Florin Aspecte ale relaţiilor matrimoniale munteano-maghiare din secolele XIV-XV [Aspects of the Hungarian-Wallachian matrimonial relations of the fourteenth and fifteenth centuries]. Revista Bistriţei (in Romanian) [Book]. - [s.l.] : Cumplexul Muzeal Bistrița-Năsăud,, 2013, p. 154.
[73] Treptow Kurt W. Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula [Book]. - [s.l.] : The Center of Romanian Studies, 2000, p. 161.
[74] Hasan, 2013, p. 155.
[75] Papacostea, 1996, p. 50.
[76] Długosz, 1997, pp. 588-589.
[77] Kiaupa Zigmantas The History of Lithuania Before 1795 (English ed) [Book]. - [s.l.] : Lithuanian Institute of History. Arturas Braziunas, 2000, p. 221.
[78] Papacostea, 1996, p. 44.
[79] Papacostea, 1996, p. 52.
[80] Iorga, 1904, pp. 131-132.
[81] Georgescu Vlad The Romanians: A History [Book]. - Ohio State : University Press, 1991, p. 17.
[82] Giurescu, et al., 1976, vol. 2, p. 112.
[83] Kizilov Mikhail Slaves, Money Lenders, and Prisoner Guards: The Jews and the Trade in Slaves and Captives in the Crimean Khanate [Journal]. - [s.l.] : journal of jewish studies, vol. lviii, no. 2, autumn, 2007, p. 1.
[84] Kołodziejczyk Darjusz Slave Hunting and Slave Redemption as a Business Enterprise: the Northern Black Sea Region in the Sixteenth to Seventeenth Centuries [Book]. - [s.l.] : OrienteModerno n.s, 2oo6, pp. 151-152.
[85] Vasiliev Alexander A. History of the Byzantine Empire, 324–1453 [Book]. - Wisconsin, USA : University of Wisconsin Press, 1958, vol. 2, pp. 537-538.
[86] Vasiliev, 1936, pp. 236-237.
[87] DeWeese Devin Islamization and Native Religion in the Golden Horde [Book]. - [s.l.] : Penn State Press, 1994, p. 3.
[88]صولاق زاده تاريخ صولاق زاده- إستانبول : [s.n.], 1297هـ=1879م ، صفحة 252.
[89] Williams Brian Glyn The Sultan's Raiders: The Military Role of the Crimean Tatars in the Ottoman Empire [Book]. - [s.l.] : The Jamestown Foundation,, 2013, p. 27.
[90] Ostrowski Donald Muscovy and the mongols, cross- cultural In Fluences tbe steppe frontier, 1304- 1589 [Book]. - [s.l.] : Cambridge university press, 1998, p. 140.
[91] Papacostea Șerban Relaţiile internaţionale ale Moldovei în vremea lui Ştefan cel Mare [Book Section] // Revista de istorie, 1982, p. 50.
[92] Eagles, 2014, p. 46.
[93] Lucas Henry S. The Renaissance and the Reformation [Book]. - New York : Harper & Brothers, 1960, p. 42.
[94] Runciman Steven The Fall of Constantinople 1453 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 1965, pp. 84-85.
[95] فريد، 1981م صفحة 162.
[96] Papacostea, 1982, p. 50.
[97] Ilardi Vincent and Kendall Paul M. Dispatches of Milanese Ambassadors, 1450–1483 [Book]. - Athens, Ohio : Ohio University Press., 1981, p. xxxvii.
[98] Papacostea, 1982, p. 133.
[99] Vasiliev, 1936, p. 239.
[100] Năstase D. L'idée impériale dans les pays Roumains et le «crypto-empire chrétien» sous la domination ottomane. État et importance du problème [Book]. - [s.l.] : Byzantina Symmeikta, 1981, pp. 220-221.
[101] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 511- 540.
التعليقات
إرسال تعليقك