التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن تاريخ الكعبة من آدم إلى إبراهيم عليهما السلام؟
وصلنا في المقال الساق (هل الكعبة من بناء آدم عليه السلام؟) إلى أن الكعبة كانت على الأغلب موجودة في زمن آدم عليه السلام؛ سواء بُنِيَت قبله بالملائكة، أو بناها هو بنفسه بمساعدة زوجته حواء، فماذا حدث بعد ذلك؟
إحدى الروايات التي حسَّن سندها البعض، وضعَّفه آخرون، رواها الأزرقي في أخبار مكة، وهي عند البيهقي أيضًا، وفيها:
ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ (وقال مرة: ثقة من أهل المدينة) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَطُوفُ بِهِ وَيَعْبُدُ اللَّهَ عِنْدَهُ، وَأَنَّ نُوحًا قَدْ حَجَّهُ وَجَاءَهُ وَعَظَّمَهُ قَبْلَ الْغَرَقِ، فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ حِينَ أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ، أَصَابَ الْبَيْتَ مَا أَصَابَ الْأَرْضَ مِنَ الْغَرَقِ، فَكَانَتْ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ مَعْرُوفٌ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُودًا إِلَى عَادٍ، فَتَشَاغَلَ بِأَمْرِ قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ وَلَمْ يَحُجَّهُ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ثَمُودَ، فَتَشَاغَلَ حَتَّى هَلَكَ وَلَمْ يَحُجَّهُ، ثُمَّ بَوَّأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِإِبْرَاهِيمَ، فَحَجَّهُ، وَعَلَّمَ مَنَاسِكَهُ، وَدَعَا إِلَى زِيَارَتِهِ، ثُمَّ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا حَجَّهُ"[1].
قول ابن إسحاق مدلِّس، وفضلًا عن ذلك فقد أبهم شيخَه في الرواية.
لابد أولًا أن نفهم أن ابن إسحاق من كبار العلماء المسلمين، وأحد أعلام الكتابة في السيرة النبوية والتاريخ، ولا يُستغنى عنه بحال، وقال يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ عنه: كَانَ ثِقَةً، حَسَنَ الحَدِيْثِ، وعَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي المَغَازِي، فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ، وقال الزُّهْرِيَّ: لاَ يَزَالُ بِالمَدِيْنَةِ عِلْمٌ جَمٌّ مَا دَامَ فِيْهِمُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
مسألة التدليس عند المحدثين الثقات: يوهم المحدِّث السامعين أنه سمع الحديث من شيخ معين، ولكنه في الواقع لم يسمعه منه، وهو أنواع؛ منها تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية، وليس المجال يتَّسع لشرح هذه الأنواع، ولكن من المهمِّ توضيح أن المدلِّس يتجنَّب الكذب، لأنه في الواقع شيخ تقي لا يرضى بالكذب، لكنه يشعر بقوة أن شيخه صادق، ولكنه يعلم أن العلماء يُضَعِّفون شيخه، فلو صرَّح باسمه رفضوا الحديث على أهميته في وجهة نظره، ولذلك يُدَلِّس، فيقول عن فلان موهمًا أنه سمع من فلان، ولكنه في الواقع لم يسمع منه، إنما سمع منه شيخُه الضعيف، وعلى كلٍّ فالتدليس صورة من صور ضعف الحديث.
اشتُهر عدد من العلماء الكبار بالتدليس؛ ومن أشهرهم ابن إسحاق، والحسن البصري، والأعمش، والزهري، وغيرهم. وغالب العلماء لا يعتبرونهم كذابين، ولذا يأخذون عنهم بشرط التصريح بالتحديث، ولذا فأحاديثهم في البخاري ومسلم، وسائر كتب السُّنَّة.
في الروايات التاريخية يمكن أن نأخذ بالرواية مع وجود بعض الضعف فيها، إذا كانت تتَّفق مع النسق العام، وتفسِّر لنا بعض المبهم، بشروط الأخذ عن الأحاديث الضعيفة، وأهم هذه الشروط ألا يكون شديد الضعف، مثل أن يكون في السند كذَّاب أو وضَّاع، وأن يندرج تحت أصل كلِّي، فلا يتعارض مع الشريعة في شيء. وأضاف البعض ألا يكون في الباب حديث يغني عنه.
الكعبة في زمن شيث بن آدم:
هناك روايات ضعيفة عن وهب بن منبه ذكر فيها البعض أن شيث بن آدم من الأنبياء، وأنه أنزلت عليه صحائف، وأنه أول من بنى الكعبة بالحجارة والطين.
الكعبة في زمن طوفان نوح عليه السلام:
هناك آثار وأخبار كثيرة وردت في هذا الشأن، ولكن ما صحَّ منها قليل، والفرق بين الحديث، والأثر، والخبر: الحديث يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والأثر ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة والتابعين، وقيل الخبر هو ما ينسب إلى التابعين ومن بعدهم.
ورد في الأثر بإسناد حسن في أخبار مكة للأزرقي عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ وَضَعَهُ فِيهَا الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ جَوْفَاءُ لَهَا بَابَانِ: أَحَدُهُمَا شَرْقِيٌّ، وَالْآخَرُ غَرْبِيٌّ، فَجَعَلَهُ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْغَرَقِ رُفِعَ فِي دِيبَاجَتَيْنِ، فَهُوَ فِيهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَوْدَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرُّكْنَ، أَبَا قُبَيْسٍ". قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ ذَهَبًا فَرُفِعَ زَمَانَ الْغَرَقِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ»[2].
فهذا خبر حسن إلى مجاهد، ثم أثر حسن إلى ابن عباس، وكلام ابن عباس قد يأخذ شكل المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن هذه المعلومات لا تُعْرَف إلا بوحي، وليس ابن عباس من المكثرين في التحديث عن أهل الكتاب حتى يُظَنَّ أن هذا من الإسرائيليات.
وروى الأزرقي أيضًا خبرًا بسند صحيح إلى مجاهد بن جبير[3] قال فيه: " كَانَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ قَدْ خَفِيَ، وَدَرَسَ فِي زَمَنِ الْغَرَقِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَ: وَكَانَ مَوْضِعُهُ أَكَمَةً حَمْرَاءَ مَدَرَةً لَا تَعْلُوهَا السُّيُولُ غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَوْضِعَ الْبَيْتِ فِيمَا هُنَالِكَ، وَلَا يَثْبُتُ مَوْضِعُهُ، وَكَانَ يَأْتِيَهُ الْمَظْلُومُ، وَالْمُتَعَوِّذُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَيَدْعُو عِنْدَهُ الْمَكْرُوبُ، فَقَلَّ مَنْ دَعَا هُنَالِكَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ حَتَّى بَوَّأَ اللَّهُ مَكَانَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ مِنْ عِمَارَةِ بَيْتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُنْذُ أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ مُعَظِّمًا مُحَرِّمًا بَيْتَهُ تَتَنَاسَخُهُ الْأُمَمُ وَالْمِلَلُ؛ أُمَّةٌ بَعْدَ أُمَّةٍ، وَمِلَّةٌ بَعْدَ مِلَّةٍ"، قَالَ: «وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحُجُّهُ قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ»[4].[5].
[1] أخبار مكة للأزرقي (1/ 72)
[2] الأزرقي: أخبار مكة، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، دار الأندلس للنشر، بيروت، 1/ 51.
[3] مجاهد بن جبر: قال عنه الذهبي: الإِمَامُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالمُفَسِّرِيْنَ... رَوَى عَنِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَكْثَرَ وَأَطَابَ، وَعَنْهُ أَخَذَ القُرْآنَ، وَالتَّفْسِيْرَ، وَالفِقْهَ. وروى عن كثير من الصحابة مثل أبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأم هانئ، وغيرهم. وقال قَتَادَةُ: أَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ: الزُّهْرِيُّ، وَأَعْلَمُ مَنْ بَقِيَ بِالقُرْآنِ: مُجَاهِدٌ، وقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مُجَاهِدٌ: ثِقَةٌ، فَقِيْهٌ، عَالِمٌ، كَثِيْرُ الحَدِيْثِ.
[4] الأزرقي: أخبار مكة، 1/ 52-53.
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: الكعبة من آدم إلى إبراهيم عليهما السلام
التعليقات
إرسال تعليقك