التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
إنَّ للأمة الإسلامية أيامٌ كبرى في التاريخ، وقد أمرنا الله بتذكُّرها. قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ
أهم مقتطفات المقال
إنَّ للأمة الإسلامية أيامٌ كبرى في التاريخ، وقد أمرنا الله بتذكُّرها. قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]. وإحدى أهم وسائل الخروج من الظلمات إلى النور، وإحدى وسائل الصبر والشكر، هو تذكُّر أيَّام الله. وبين أيدينا حدثٌ قام به شعب المغرب العظيم، وهو صاحب أيادٍ بيضاء كبرى على الأمَّة الإسلاميَّة؛ ومن أعظمها انتصاره الكبير على البرتغاليِّين في موقعة #الملوك_الثلاثة أو #وادي_المخازن أو #القصر_الكبير. وكثرة هذه الأسماء لمعرك واحدة تدلُّ على عظم المسمَّى. فهي واحدةٌ من أعظم المعارك في التاريخ! والتي غيَّرت حينها وجه التاريخ وخارطة العالم! وفي هذا #المقال نذكر أسباب وأحداث هذه المعركة بإذن الله تعالى..
من المهم دراسة الأحداث الكبرى التي تعتبر منعطفات مهمَّة في التاريخ عامَّة..
خاصَّةً أن للأمة الإسلامية أيامٌ كبرى في التاريخ، وقد أمرنا الله بتذكُّرها. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
وإحدى أهم وسائل الخروج من الظلمات إلى النور، وإحدى وسائل الصبر والشكر، هو تذكُّر أيَّام الله.
وبين أيدينا حدثٌ قام به شعب المغرب العظيم، وهذا الشعب له أيادٍ بيضاء كبرى على الأمَّة الإسلاميَّة؛ ومن أعظمها؛ أياديه في أبواب الجهاد، والعلم، والحضارة.
ومن أعظم أعمال الشعب المغربي انتصاره الكبير على البرتغاليِّين في موقعة الملوك الثلاثة، أو وادي المخازن، أو القصر الكبير. وكثرة هذه الأسماء لمعرك واحدة تدلُّ على عظم المسمَّى.
فهي واحدةٌ من أعظم المعارك في التاريخ! والمعارك عامَّةً لا تقاس بحجم الجيوش فيها، ولكن تقاس بأمرين كبيرين:
أولًا: عظم الغاية والهدف.
ثانيًا: النتائج والآثار، والمنعطفات التاريخية.
البرتغال قبل الموقعة:
استقلَّت البرتغال عن الأندلس عام 1139م، وكانت كراهيَّتها للمغرب كبيرة؛ لأنَّ المغرب كانت الدَّاعم الرئيس للأندلس على مدار عدَّة قرون (المرابطون، فالموحدين، فبني مرين)، ولذا قامت البرتغال باحتلال سبتة في عام 1415 م، ثم حدثت نقلةٌ نوعيَّةٌ في البرتغال في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي عندما اكتشفوا رأس الرجاء الصالح عام 1488، وبعدها وصلوا للهند في عام 1498، ثم البرازيل عام 1500، وتحوَّلت البرتغال من مملكةٍ صغيرة إلى إمبراطوريَّةٍ عظمى ثريَّة. صارت البرتغال تُهدِّد السَّواحل الإسلاميَّة، وحقَّقت بعض الانتصارات على المماليك، وكذا على الدَّولة العثمانيَّة، وعاثت في الأرض فسادًا.
في ظل هذه الطموحات الكبرى لم تنس البرتغال قصَّة المغرب، وأراد ملكها الشابُّ سبستيان الأوَّل ضمَّ المغرب إلى إمبراطوريَّته، ولم يكن يدري أنَّه كان يحفر قبره بل قبر إمبراطوريَّته كلها عندما فكَّر في إسقاط المغرب.
أسباب المعركة واستعداد البرتغال القوي:
كانت المغرب في هذا التوقيت تحت حكم الدولة السعديَّة منذ عام 1554، وهي من نسل الرسول ﷺ (فرع الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما)، واستغلَّ سبستيان الأوَّل فتنةً حدثت في البلاط الملكي عند وفاة عبد الله الغالب بالله سلطان المغرب في عام 1574، فدعم محمدَ الثالث ابن السلطان الراحل للتثبيت في الحكم في مقابل الولاء له، وفي المقابل توجَّه الأمير عبد الملك -أخو السلطان الراحل- إلى مراد الثالث سلطان الدولة العثمانية طالبًا دعمه، فأمدَّته الدَّولة بفرقةٍ عسكريَّة من الجزائر وضعته على العرش، في التاسع من مارس 1576، وخُلِع الملك محمد الثالث الذي لجأ إلى سبستيان الأول ملك البرتغال.
قرر سبستيان الأول غزو المغرب، وحرص على إضفاء الصبغة الصليبيَّة على الحرب[1]؛ فأخذ دعم البابا، واستعان بخاله ملك إسبانيا فيليب الثاني، وكذلك ببعض الإمارات الإيطاليَّة، مع مرتزقةٍ من هولندا[2]، بالإضافة إلى الاستعانة بقائدٍ إنجليزيٍّ كبير هو توماس ستاكلي Thomas Stucley وهو الذي حقَّق النصر على العثمانيِّين في موقعة ليبانتو الشَّهيرة عام 1571[3].
جَهَّز الملك البرتغالي أسطولًا من 500 سفينة، ويحمل 18 ألف جندي، وجعل نفسه على قيادته، ودعا معظم نبلاء البرتغال للمشاركة في الحملة. قام البرتغاليُّون بعمليَّة إنزالٍ في ميناء أصيلة في أقصى شمال غرب المغرب بالقرب من طنجة، ثم تحرَّك الجيش البرتغالي جنوبًا حتى التقى والملك المخلوع محمد الثالث يقود ستَّة آلاف مغربي، فاتَّحد الجيشان وتوجَّهوا جميعًا للجنوب لملاقاة الملك عبد الملك السَّعدي الذي كان مريضًا جدًّا، ونصحه مقرَّبوه بعدم المشاركة في الحرب؛ لكنَّه أصرَّ على قيادة جيشه بنفسه، ودعا إلى الجهاد في سبيل الله، ولحقت به فرقةٌ عثمانيَّة من تونس والجزائر بقيادة والي تونس رمضان باشا.
أحداث الموقعة:
التقى الجيشان البرتغالي المتَّحد مع محمد الثالث، والمغربي المتَّحد مع العثمانيين، عند مدينة القصر الكبير على بعد 110 كيلو مترات جنوب طنجة في وادٍ يُعْرَف بوادي المخازن[4]، في يوم 4 أغسطس 1578[5].
التحم الجيشان في معركةٍ حامية الوطيس، وكانت الصبغة الدينيَّة للمعركة واضحة..
بدأت المعركة بقصفٍ مدفعيٍّ متبادلٍ بين الفريقين. شاء اللهُ أن يُقْتَل قائد الوسط في الجيش البرتغالي، وهو الإنجليزي توماس ستاكلي، بقذيفةٍ في أوَّل ساعات القتال[6]، وكان لقتله من الأثر ما يتعدَّى فَقْد أحد القادة؛ فقد اهتزَّ مركز الجيش البرتغالي، ولاحظ هذا الاهتزاز الجيشُ المسلم.
ركب الملكُ عبد الملك السَّعدي جواده على الرغم من مرضه وانطلق محمِّسًا جيشه على استغلال الحدث[7]. أحاطت فرق الخيَّالة المغربيَّة والعثمانيَّة بالجيش البرتغالي، وبدأت أجنحة الصليبيِّين تتأثَّر، كما تأثَّر وسط الجيش. استمرَّت المعركة أربع ساعات. كان النصر الإسلامي حاسمًا، ودُمِّر الجيش البرتغالي ومعاونيه من التابعين لمحمد الثالث.
قُتِلَ من الصليبيِّين ثمانية آلاف، وأُسر خمسة عشر ألف جندي[8]! قُتِلَ كذلك ملك البرتغال الشاب سبستيان، ويبدو أنه مات غريقًا (في نهر لوكوس) فلم يُعثر له على أثرٍ بعد المعركة. قُتِل أيضًا في المعركة معظم نبلاء البرتغال، كما قُتِل الملك المخلوع محمد الثالث[9].
كانت المعركة قاضيةً تمامًا على أحلام البرتغاليِّين بتوسيع أملاكهم في المغرب؛ إذ فَنِيَ الجيش البرتغالي تقريبًا في هذا الصِّدام. مات في أثناء المعركة الملك المجاهد عبد الملك السَّعدي نتيجة الجهد الكبير الذي بذله وهو في مرضه الشديد. (عرفت المعركة بهذا الاسم لموت الملوك الثلاثة فيها).
تولَّى قيادة المغرب بعد عبد الملك السعدي أخوه السلطان أحمد السعدي[10]، المعروف بأحمد الذهبي، وسوف تكون فترة حكمه للمغرب هي أزهى عصور السعديِّين، وسيمتدُّ حكمه إلى عام 1603. (25 سنة)..
كانت للمعركة آثارٌ ضخمةٌ للغاية، وهذه الآثار جعلت المعركة من المنعطفات التاريخيَّة الكبرى في أوروبا بشكلٍ خاص، وفي العالم بشكلٍ عام. محت هذه المعركةُ البرتغالَ من على خريطة العالم لمدَّة ستِّين سنةً متَّصلة؛ حيث احتلَّت إسبانيا البرتغالَ عام 1580[11]؛ وذلك بعد فناء الجيش البرتغالي، وورثت بذلك إسبانيا كلَّ ممتلكات البرتغال في الدنيا، واستمرَّ هذا الوضع إلى عام 1640[12].
أعطت هذه المعركة هيبةً كبيرةً للمغرب، فشهد فترةً من أزهى عصوره، واستغلَّ المغاربة مكانهم الاستراتيجي الممتاز في العودة للتأثير على السياسة العالميَّة. أمِنَت الدَّولة العثمانيَّة على حدودها الغربيَّة، بل حدودها الجنوبيَّة كذلك في اليمن وإريتريا؛ إذ لم يعد للبرتغاليِّين قوَّةٌ لحرب العثمانيِّين في المحيط الهندي.
لقد حفر البرتغاليُّون قبرهم في هذه المعركة، وأثَّرت عليهم نفسيًّا بشكلٍ متفاقم، إلى درجة أنَّ الشعب البرتغالي ظلَّ لفترةٍ يظنُّ أنَّ الملك سبستيان سوف يعود لينتقم، وأنَّه لم يُقْتَل في المعركة، إنَّما رُفِعَ وسيرجع! وكَتَبَ الأدباء البرتغاليون في هذا الصَّدد، وانتشرت الأسطورة في البرتغال ومستعمراتها، وهي حالةٌ صارت تُعْرَف في التاريخ البرتغالي بالسبستيانيَّة Sebastianism، وهي معروفةٌ أيضًا في التَّاريخ البرازيلي، لكون البرازيل كانت محتلَّةً من البرتغال، وهذا يُوضِّح لنا مكانة المعركة في التاريخ!
ظلَّت الدولة السَّعديَّة في الحكم إلى عام 1631 (بعد الموقعة بـ 53 سنة) حيث تسلَّم منها الحكمَ الأسرةُ العلويَّة، التي ما زالت تحكم إلى الآن، وهي من نسل الحسن بن عليٍّ (رضي الله عنهما) أيضًا، وهم أبناء عمومة السَّعديِّين.
من الرائع للمسلمين أن يتذكَّروا مثل هذه الأيَّام، وأن يفتخروا بسلفهم الصَّالح، وأن يشكروا شعب المغرب على حميَّته الإسلاميَّة التي كانت سببًا في تغيير مسار التاريخ.
المصدر:
كتاب الدكتور راغب السرجاني: «قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط»، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 555- 557.
[1] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 534.
[2] Grant, R. G.: 1001 Battles That Changed the Course of History, Chartwell Books, New York, USA, 2017., p. 289
[3] Simpson, Richard: Biography of Sir Thomas Stucley. The famous history of the life and death of Captain Thomas Stukeley, J. W. Bouton, New York, USA, 1878, vol. 1, p. 94.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/ 388.
[5] الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري، محمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، (دون سنة طبع). صفحة 5/82.
[6] Grant, 2017, p. 289.
[7] Tucker, 2010, vol. 2, p. 534.
[8] McAlister, Lyle N.: Spain and Portugal in the New World, 1492-1700, Volume 3, Within a series: Shafer, Boyd C.: Europe and the World in the Age of Expansion, University of Minnesota press, Minneapolis, Minnesota, USA, 1984, vol. 3, p. 292.
[9] الإفراني، محمد الصغير: نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق: عبد اللطيف الشادلي، الطبعة الأولى، 1419هـ=1998م، الصفحات 141، 142.
[10] مؤلف مجهول: تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تقديم وتحقيق: عبد الرحيم بنحادة، دار تينمل للطباعة والنشر، مراكش–المغرب، الطبعة الأولى، 1994م. الصفحات 61، 62.
[11] التر، عزيز سامح: الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية، ترجمة: محمود علي عامر، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ=1989م. صفحة 257.
[13] 75. ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م، صفحة 29/110.
[12] Givens, Bryan: Sebastianism in Theory and Practice in Early Modern Portugal, In: Piterberg, Gabriel; Ruiz, Teofilo F. & Symcox, Geoffrey: Braudel Revisited: The Mediterranean World 1600-1800, University of Toronto Press, Toronto, Canada, 2010., p. 127.
التعليقات
إرسال تعليقك