د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
قال السيوطي في كتاب الحاوي أنه يقدِّر أن عمر أمة الإسلام أقل من 1500 عام، ماذا تعرف عن ذلك؟
· قرأت للسيوطي في كتاب الحاوي أنه يقدِّر أن عمر أمة الإسلام أقل من 1500 عام. ذكر هذا الكلام تحديدًا في عام 898 ه، وكان يردُّ على من زعم أن الأمة تنتهي قبل عام 1000، وقد أصاب في تخطئة من ذكر أن عمر الأمة أقل من ألف، ولكنه لم يوفَّق في ذكر أن عمرها ينبغي أن يكون أقل من 1500 سنة.
· معظم الأحاديث التي ذكرها السيوطي ضعيفة، ومبنية على أن عمر الدنيا 7000 سنة منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث في آخر الألف السادسة، وبالتالي يكون المتبقي من عمر الدنيا عند بعثته ألف وما هو أقل من نصف الألف، أي أقل من خمسمائة.
· أحاديث عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ضعيفة، ومن الواضح أنها مستقاة من التوراة، وفيها تحريف؛ لأن الدراسات التاريخية الموثَّقة تثبت وجود الإنسان في فترات أعمق من هذه.
لكن هناك روايات صحيحة يفهم منها تقدير لعمر الأمة بالقياس إلى اليهود والنصارى:
روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنَ الأُمَمِ، مَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ اليَهُودِ، وَالنَّصَارَى، كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ اليَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلاَ، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلاَ لَكُمُ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ".
· يعطي الحديث الانطباع بأن عمر أمتنا مثل عمر أمة النصارى، ونصف عمر أمة اليهود.
· عمر أمة النصارى (بين عيسى ومحمد عليهما السلام) ثابت في البخاري أنه ستة قرون، فيكون عمر أمة اليهود من موسى إلى عيسى عليهما السلام 1200 سنة، وهذا متوافق مع ما في التوراة والدراسات التاريخية، ولكن تبقى معضلة أنه بهذا التصور يصبح عمر أمة الإسلام 600 سنة فقط، والأمة باقية إلى الآن، فما التأويل؟
يمكن أن يكون واحدًا من هذه التفسيرات:
أولًا: يكون المقصود القيادة الدينية للعالم، وليس بقاء الأمة وفناءها، وعلى هذا يكون المقصود من كون عمر أمة الإسلام في هذا الحديث ستمائة عام على أساس سقوط الخلافة العباسية عام 656 ه، وضياع القيادة الدينية لعامة المسلمين، فالأمة باقية ولكن بلا رابط يجمعها، وقد تأتي دول قوية، كالمماليك والعثمانيين ومغول الهند، ولكنها ليست جامعة.
ويؤيد هذا أن أمة اليهود لم تفنَ عند بعثة عيسى عليه السلام، وكذلك أمة النصارى باقية بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس المقصود إذن الفناء، ولكن المقصود القيادة الجامعة لكل الأتباع.
ثانيًا: قد يكون المقصود أن وقت أمة النصارى ليس فقط إلى وقت دخول العصر، ولكن إلى بعد وقت العصر بوقت، خاصة أن الحديث يقول إلى "صلاة" العصر، وليس إلى وقت العصر، فيصبح المقصود أن عمر أمة النصارى حوالي ضعف عمر أمة الإسلام، وعمر أمة اليهود ضعف عمر أمة النصارى، كأن يكون اليهود من 6 صباحًا إلى 12 ظهرًا، وأمة النصارى من 12 ظهرًا إلى 4 عصرًا (وليس 3 عصرًا)، وأمة الإسلام من 4 عصرًا إلى 6 المغرب، فهذا يعني أن عمرها 300 سنة فقط (نصف أمة النصارى)، وهذا يؤيده 3 أمور:
1. ما جاء في الحديث: فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، فكرة العمل تجعل فترة النصارى أطول من فترة اليهود، ولكن من لم يقل بهذا قال إن المقصود هو أن القائلين هم اليهود فقط، ولكنهما جمعا للتغليب.
2. القرون الثلاثة الأولى في الإسلام مختلفة عن غيرها، وفيها أحاديث معروفة؛ كالذي رواه البخاري ومسلم عن عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ».
3. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أن عمر الأمة أقل من العصر إلى المغرب، فعند أحمد، والبزار، وابن حبان، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: «مَا أَعْمَارُكُمْ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى، إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا مَضَى مِنْهُ».
ثالثًا: قد يكون المقصود مشقة العمل، وليس الطول الزمني، فالمقصود هنا التكاليف وليس المدة، وتكون أشدُّ التكاليف كانت على اليهود، ثم صارت أخف على النصارى، وأيسرها على المسلمين، وهذا له مؤيِّدات كثيرة في القرآن والسنة:
1. قول عيسى عليه السلام: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].
2. قول المؤمنين: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
رابعًا: أن يكون المقصود أعمار الأفراد وليس أعمار الأمة، فأعمار اليهود في زمانهم أطول من أعمار النصارى، وأعمار النصارى تماثل أو تزيد قليلًا على أعمار المسلمين، وهذا ثابت في الأحاديث الكثيرة. روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ».
الخلاصة:
1. عمر الأمة الذي تفنى بعده الأرض لا يعرف على وجه اليقين، وإلا لعُرِف وقت الساعة، وهذا محال. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
2. المهم بالنسبة للإنسان هو العمل، ولا يضير العبد أن تستمر الدنيا مائة سنة أو ألف بعد موته، فإن العمل ينقطع بالموت، فنسأل الله أن يحسن خاتمتنا[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك