جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
لم يشهد المسجد الأقصى خطرًا داهما منذ الغزوة الصليبية كما يشهده هذه الأيام؛ فالصرخات الإسرائيلية من كل الجهات تملأ المكان
حينما قام المدعو مايكل دنيس روهان اليهودي الأسترالي الجنسية بحرق المسجد الأقصى المبارك عام 1968, لم تنم ليلتها جولدا مائير تحسبًا من ردود الفعل العربية والإسلامية، ولكنها بعد ذلك عادت لتنام ملء جفونها بعد أن تحققت أن الردود العربية والإسلامية ما هي إلا زوبعة في فنجان، وثرثرة لفظية من خلال بيان أو إعلان, ولا تتجاوز ذلك المدى.
واليوم بعد أربعة عقود من ذلك الحادث المشئوم, تتلبد سماء المسجد الأقصى بغيوم سوداء تحمل الشرور كلها, وتدعو إلى الاستيلاء على المسجد الأقصى أو جزء منه بذريعة أو بأخرى. يساعد في ذلك المد اليميني المتنامي في إسرائيل من جهة, والهزال والضعف العربي والإسلامي من جهة أخرى. وأخيرًا ظهور أصوات دينية قوية تعارض فتوى الحاخامية الرئيسية في إسرائيل التي كانت تمانع حتى دخول اليهود لساحة الأقصى, بل أخذت تنظم مسيرات وصلوات لساحة المسجد الأقصى وباحاته ولدواوينه، وتنشد الأناشيد وتتلو المزامير.
لم يشهد المسجد الأقصى خطرًا داهمًا منذ الغزوة الصليبية كما يشهده هذه الأيام؛ فالصرخات الإسرائيلية من كل الجهات تملأ المكان, وروح المؤامرة تزكم الأنوف حيث تدعو للاستيلاء على المسجد الأقصى، أو على الأقل جزء منه لتحويله إلى كنيس لممارسة الصلوات فيه. ويبدو أن عام 1967 وهو عام الاحتلال الإسرائيلي للقدس لم يشهد خطورة على المسجد الأقصى كما هي الخطورة هذه الأيام. صحيح أن الخطورة كلها تنبع من الاحتلال فهو مصدر الآثام جميعًا, لكن درجة الخطورة هذه الأيام هي الأقوى والأعلى.
القدس عاصمة الثقافة العربية 2009الكارثي في الموضوع أن أخطارًا جدية تهدد المسجد الأقصى وتحيق به, بينما مدينة القدس معلنة كمدينة للثقافة العربية لعام 2009. ويفترض أن يتم الاحتفال بها وبتراثها وتاريخها وثقافتها وآثاراتها وحقوقها ومساجدها وكنائسها بعرس عربي إسلامي يمتد ليشمل عواصم ومدنًا عربية وإسلامية عديدة. وهناك الكثير من المفكرين الذين أشاروا واستعرضوا الخطورة الواقعة على المسجد الأقصى أو القادمة إليه، ولكن دون جدوى سوى ذرف الدموع وكتب البلاغة والخطب العصماء.
قد يقول قائل: إن هذه التهديدات قائمة منذ زمن طويل, وتحديدًا منذ دخول جحافل الجيش الإسرائيلي بقيادة موشي ديان وإسحق رابين ومردخاي غور لساحات المسجد الأقصى وقبة الصخرة في عام 1967. ومن لحظة رفع العلم الإسرائيلي وإنزاله بسرعة آنذاك. وقد يسأل البعض: ما الجديد الذي حصل أو ما هو الأمر الخطير الذي بدا في الأفق حتى تثار مثل هذه الضجة؟
نستذكر التاريخ الحديث بعد أحداث 1929, حينما أصدرت عصبة الأمم قرارًا أكدت بموجبه أن حائط البراق هو ملك إسلامي خالص، وأن حقوقهم العينية كاملة فيه. ومن ثَم جاءت بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين لتتبنى هذا القرار وتصدره في تشريع قانوني إنجليزي ملزم ليطبقه الجميع, لنتساءل اليوم: أين هذا القانون؟ وماذا حل به؟ وكيف تم إلغاؤه وتجاوزه؟
دعونا نذكر أيضًا أن الاحتجاجات العربية والإسلامية لم تحل دون استيلاء اليهود على الحرم الإبراهيمي في الخليل واقتسامه أحيانا أو حرمان المسلمين من الصلاة فيه أياما كاملة. ودعونا نؤكد أن الالتجاء لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية في هذا السياق أمر غير مجدٍ وعقيم، ويضفي الشرعية على الإجراء الإسرائيلي غير الشرعي.
دعونا نذكر أن حقبة بنيامين نتنياهو وعجرفته شهدت تفجير قضية النفق وشهدائه وجرحاه. دعونا نذكر أيضًا أن القدس تعوم على أنفاق وحفائر، وامتد هذا الأمر إلى سلوان، وتحديدًا حي وادي حلوة الذي اخترعوا له اسمًا جديدًا فكان حي مدينة داود. وقيل إن هذه الأنفاق والحفائر تعبر تحت الأقصى وتهدد سقوطه في كل لحظة. وقبل ذلك تم الاستيلاء على مفتاح باب المغاربة من أيدي الأوقاف الإسلامية. وكذلك تم الاستيلاء على "الخوتانية"، وهي أرض وقفية كبيرة وواسعة تقع مباشرة جنوب المسجد الأقصى حيث أعملت الحفريات الإسرائيلية معولها.
وفي ذات السياق تم الاستيلاء على الأرض الوقفية الإسلامية في جبل الزيتون ورأس العامود وسلوان بعد انتهاء تحكيرها أو تأجيرها. وتم الاستيلاء على أرض الصلودحة الوقفية الإسلامية في الجنوب الشرقي للمسجد الأقصى. ناهيك عن الاستيلاء على عقارات حارة الشرف الوقفية الإسلامية المقدسية وتحويلها لحارة لليهود، فضلاً عن حملات التحريض المستمرة وغير المتوقفة تجاه المسلمين والأوقاف الإسلامية، سواء رممت حجرًا أو أضاءت ممرًا أو ركبت حنفية طلبًا لماء بارد.
والآن تتغير الفتاوى الشرعية اليهودية حول زيارة ساحات المسجد الأقصى تغيرًا جوهريًّا ,فبعد الحظر المطلق المفروض على اليهود بدأت إشارات السماح المقيد لهم وبالتالي يتزايد عدد اليهود الراغبين بالقدوم للمسجد باعتباره نقطة جذب لهم أو سياحة أو زيارة. ويبدو أن أجهزة الأمن الإسرائيلية بدأت تعيد النظر في الحرمان المطلق المفروض على اليهود لزيارة المسجد الأقصى وبدأت تقلل من الأخطار الكامنة فيه ولم تعد ترى فيه تهديدًا جديًّا وخطيرًا للأمن والنظام العام. وبدأت الشرطة الإسرائيلية تطلق بالونات اختبار لتجربة رد الفعل الإسلامية فيما لو حدث طارئ في المسجد الأقصى أو في ساحة من ساحاته. فقد رأينا تحديدًا لأعمار المصلين الداخلين للمسجد الأقصى، بل رأينا إغلاقًا كليًّا أو جزئيًّا لأبواب المدينة المقدسة، ومنعت الداخلين إليها أيام الجمع.
العالم كله يتفرج فهناك ما زالت حملة على الإسلام والمسلمين. وما زالت الكنيسة المتصهينة في الولايات المتحدة تقود حملة العداء ضد الإسلام وتتمسك بجبل الهيكل. والاتحاد الأوربي يكرر كلمات إنشائية كالببغاء دون قدرة على اتخاذ عمل أو إجراء على الصعيد العملي ويتأثر بالتوراة والعهد القديم وبمقولات الإسرائيليين حول جبل الهيكل. والإسرائيليون المتشددون اليمينيون القومجيون يستلمون الحكم ويكشرون عن أنيابهم فلا بأس أن يبدءوا بالمسلمين والأقصى. يقابل ذلك أن السلطة الفلسطينية في أضعف صورها وأبهتها في قضايا القدس والمسجد الأقصى, ولا حول لها ولا قوة!! أما العالم العربي أو الإسلامي فرغم محاولاته للملمة جراحه إلا أنه ينجح بالكاد ليدير الأزمات ولا يستطيع حلها.
الوحيدون المتحدون حول القدس والمسجد الأقصى هم الإسرائيليون على اختلاف مشاربهم؛ فيسارهم ويمينهم ووسطهم متشددون في ما يسمى بجبل الهيكل كما قرأنا في محادثات كامب ديفيد وفي أدبياتهم التاريخية والدينية. والوحيدون الذين يملكون القوة العسكرية والأمنية والفعلية الطاغية في القدس وساحاتها هم الإسرائيليون؛ لذا يجب أن لا يستبعد أي احتمال بالاعتداء على الأقصى أو إحدى ساحاته في المستقبل القريب.
تعرض المسجد الأقصى بكل ساحاته وباحاته منذ أكثر من أربعة عقود لخطر إسرائيلي داهم، إلا أن درجة الخطر بقيت في الأفعال الخارجية والمحيطة بالأقصى كالحفر والأنفاق، ولم تصل درجة الاستعلاء الفعلي ذلك أن الشاعر بالإثم لا يعرف الطمأنينة البتة. ولكن الخطر الحقيقي يقترب أكثر من أي وقت مضى لاستيلاء على المسجد الأقصى, ويكاد المريب أن يقول خذوني, بعد استلام الاتجاه اليميني المتطرف للسلطة الحاكمة في إسرائيل, وبعد تغير الفتاوى الدينية الإسرائيلية، فعلى دمنته يصيح الديك.
من هنا يقع على الشعب الفلسطيني ودائرة الأوقاف الإسلامية واجب عظيم والتزام خطير في الدفاع عن الأقصى في زمن غدا الانهزام طابعه والانكسار سمته. فغصب الحق والاستيلاء أصل الشرور جميعًا.
المحامي إبراهيم شعبان
التعليقات
إرسال تعليقك