الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعد المئذنة الملوية مئذنة الجامع الكبير بسامراء مفخرة مآذن المسلمين وأكثر معالم العمارة الإسلامية شهرة، فما تاريخها وملامحها المعمارية؟
في سنة (234هـ=848م) ابتدأ الخليفة المتوكل في بناء المسجد الجامع الكبير في سامرَّاء ومئذنته الشهيرة (المئذنة الملوية) وانتهى بنائه سنة (237هـ=852م)، حيث يُعدُّ المسجد الجامع أو الجامع الكبير بسامرَّاء من أهمِّ آثار المدينة، الذي ما زال يُعتبر أكبر مسجدٍ في الدنيا مساحةً حتى اليوم، واشتهر بمئذنته المئذنة الملوية التي كان معمارها دليل بن يعقوب النصراني الحيري، وهي من الأمثلة التي لم تتكرَّر إلَّا جزئيًّا في مسجد أحمد بن طولون في القاهرة. ويكمن الثراء المعماري في هذا المعلم بأنَّه جمع بين الوظيفيَّة والرمزيَّة والجماليَّة في آنٍ واحد، حتى ليُعتبر من أكثر معالم العمارة الإسلامية الأقرب إلى الكمال.
رمز للعمارة العباسية
كان لتطور العمارة العباسية أسبابه؛ فخلفاء بنو العباس كانوا يتسابقون في تشييد الأبنية والقصور والمساجد والمدن، وكانوا يُنفقون الكثير عليها، ويستجلبون أمهر الصنَّاع والمهندسين والبنَّائين، فكان التقدُّم على صعيد فنِّ العمارة سريعًا وواضحًا، ولقد اتَّصفت العمارة الإسلامية خلال عهد العباسيين بجمالها وفخامتها وبروعة صنعتها وتنوع طرزها حتى بلغت أوج ازدهارها.
وخير مثالٍ على ذلك، ما تركته حضارة العباسيين من مبانٍ يُمكن أن يُشار إليها بالكثير من الإعجاب، لعلَّ أهمها: المسجد الكبير في سامرَّاء، المئذنة الملوية، المدرسة المستنصرية، القصر العباسي، قصر الأخيضر، بيت الخليفة في سامراء، قصر العاشق، الجسر العباسي.. وغيرها.
ولغرض عرض بعض جماليَّات فنِّ العمارة العباسية سنتناول هنا بالشرح المفصَّل واحدةً من أهمِّ تلك الشواهد المعمارية بطابعها وشكلها المميَّز، التي ذاع صيتها على مستوى العالم باعتبارها واحدةً من المباني المثيرة وغير التقليدية؛ إنَّها المئذنة الملوية، مئذنة الجامع الكبير في سامرَّاء.
منزلة المئذنة الملوية
لم تدم مدينة سامرَّاء التي بناها الخليفة العباسي المعتصم بالله عام (221هـ=835م) كحاضرةٍ عباسيَّةٍ أكثر من 150 عامًا، حكم بها ثماني خلفاء من العباسيين، وهم "المعتصم بالله، والمنتصر بالله، والواثق بالله، والمتوكل على الله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمهتدي بالله، والمعتمد". والأخير هجرها، فهي مدينةٌٌ كانت عاصمةً للدولة العباسيَّة، بُنيت ونَمَت بسرعة.. وانتهت سريعًا أيضًا، ومن أهم ما وصل إلينا من سامرَّاء اليوم المنارة الملوية أو المئذنة الملوية، فكانت أبرز شواهد سامراء المعمارية؛ بل أحد أهم إبداعات العمارة العراقية التاريخية.
والمئذنة الملوية في مدينة سامراء العراقية تُعد واحدةً من أهمِّ المعالم المعمارية الأثرية التي تُمثِّل إبداع العمارة الإسلامية العربية في العراق، واكتسبت أهميَّتها التاريخية بفضل أسلوبها المعماري الفريد الذي لم يسبق أن بُني مثله في أيِّ مكانٍ في العالم؛ فقد بُنيت المئذنة على شكل أسطواني حلزوني من الطابوق الفخاري الذي يمتاز به العراق، لتكون مئذنةً لأكبر المساجد في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
تاريخ بناء المئذنة الملوية
بأمر من الخليفة العباسي المتوكل على الله (232-247هـ=846-861م) تمَّ بين سنتي (234هـ=848م، 237هـ=852م) بناء واحدٍ من أكبر المساجد والأجمل في العالم الإسلامي في ذلك الزمن، في الجزء الغربي من العاصمة الجديدة للخلافة العباسية (سامرَّاء)، وبسبب سعة مساحته اُطلق عليه تسمية (المسجد الكبير)؛ إذ تبلغ مساحته حوالي 38000 مترًا مربعًا تقريبًا، وكان يتَّسع لحوالي 100000 (مئة ألف مصلي) وفيه خمسة عشر مدخلًا، كما كانت تحمل سقفه الرئيسية حوالي 488 عمودًا، وتطرز جدرانه المتينة العديد من الأبراج الدائرية والمحاريب المستطيلة.
إنَّ هذا المسجد بالإضافة إلى مساحته الكبيرة، تميَّز بشكل مئذنته التي جعلته يغدو واحدًا من أشهر مساجد العالم الإسلامي، فتلك المئذنة تميَّزت بطابعها المعماري الفريد وبشكلها الحلزوني الرشيق، التي تُعتبر اليوم إحدى أشهر المعالم الأثرية في مدينة سامرَّاء الواقعة شمال غرب مدينة بغداد، هذه المدينة التاريخية كانت بهجةً للناظرين وسيِّدة مدن العالم خلال فترة ازدهارها التي امتدَّت على مدى نصف قرنٍ ونيف من الزمن، وبسبب جمالية هذه المئذنة التي لا يوجد شبيهٌ لها في أيِّ مكانٍ في العالم، وجمالية بناء المسجد الأكبر في العالم الإسلامي، أُطلق على المدينة اسم "سُرَّ من رأى" اختُصر فيما بعد إلى سامرَّاء بعد أن كان اسمها "المعسكر"!
أبرز سمات ومميزات المئذنة الملوية
تُعتبر المئذنة الملوية في سامراء من أهمِّ مآذن العالم الإسلامي وأكثرها فرادةً وتميُّزًا من الناحية المعمارية والبنائية، فلأول مرَّةٍ يتمُّ بناء مئذنة بهذا الحجم وبهذا الطراز المتميِّز؛ فهي لا تتميَّز بشكلها الغريب فقط، إنَّما بمزايا أخرى متعدِّدة؛ فإذا نظرنا إلى سمات المآذن الأخرى الموجودة في العالم الإسلامي نجد أنَّها جميعًا تشترك في كون الارتقاء إليها يتم من الداخل حتى بلوغ القمة التي يُؤدِّي منها المؤذِّن الآذان.
وتشترك معظم المآذن في كونها عبارة عن أبنية اسطوانية ذات نهايات مستدقة، كما أنَّها جميعًا تُبنى كوحدات بنائية داخليَّة؛ أي ملحقة ببناء المسجد ومرفقاته الأخرى من الداخل، ويُحيط البناء كلَّه سور -سياج خارجي، أمَّا مئذنة سامرَّاء فهي تختلف عن ذلك كلِّه؛ أوَّلًا: بسبب شكلها اللولبي الفريد كقطعة معمارية غير تقليدية، فهي متَّسعة المساحة من الأسفل ويقلُّ اتساعها صعودًا حتى بلوغ القمة، فالمئذنة هذه مؤلَّفة من طبقات متعددة، وثانيًا: بسبب موقعها بالنسبة إلى بناء المسجد؛ إذ إنَّها تنتصب خارج سور المسجد وتقع أمام الحائط الشمالي على بعد 27,25 مترًا منه؛ أي أنَّها بناءٌ منفصلٌ قائمٌ بذاته، الميزة الثالثة لها: هو كون الارتقاء إلى قمَّتها يكون من الخارج عن طريق سلَّمها الذي يدور حول محورها صعودًا بعكس اتجاه عقارب الساعة، ولهذا السبب كان الناس يرون المؤذِّن عن بعد وهو يرتقي المئذنة فيعلمون بحلول وقت الصلاة، أمَّا الميزة الرابعة لها: فهو كونها أعلى وأضخم مئذنة تمَّ بناءها في ذلك الزمن.
الوصف المعماري للمئذنة الملوية
يبلغ ارتفاع مئذنة سامراء الملوية الحلزونية 52 مترًا، وهي تقوم على قاعدة مربعة مؤلفة من طبقتين مربعتين، الأولى طول ضلعها 31,30 مترًا، بارتفاع 3 أمتار، والثانية مستطيلة بارتفاع 120 سم، وأضلاعها فهي أصغر قليلاً، ويعلو فوق الطبقتين المربعتين بناء أسطواني مكون من 5 طبقات تتناقص سعتها تدريجيًّا بارتفاع البناء، يحيط بطبقاتها الخمس درج حلزوني بعرض مترين يلتف حول بدن المئذنة بعكس اتجاه عقارب الساعة وكأنها على عنادٍ وتحدٍّ مع الزمن.
وتزين واجهات القاعدة محاريب مستطيلة (تجاويف أشبه بالنوافذ، غائرة وغير نافذة) وتعلو هذه المحاريب عقود أو أقواس مدببة، أمَّا عدد هذه المحاريب فهو تسع في كلِّ ضلعٍ عدا الضلع الجنوبي؛ إذ يحتوي ست محاريب فقط بسبب وجود سلَّم الملوية في هذا الجانب، أمَّا القسم الحلزوني -أي بدن الملوية- فهو بناء مؤلَّف من خمس طبقات تتناقص مساحتها كلَّما ارتفع البناء، ولكلِّ طبقةٍ ارتفاعٌ معيَّن؛ فالطبقة الأولى السفلى يبلغ ارتفاعها 10,10 أمتار، والثانية 8,12 أمتار، والثالثة 8,83 أمتار، والرابعة 8,10 أمتار، والطبقة الأخيرة ارتفاعها 8,45 أمتار.
ويبلغ عدد درجات السلم 399 درجة، ويعتقد عالم الأثار (هرزفيلد) أنَّ السلم كان له سياجٌ خشبيٌّ وذلك لوجود ثقوبٍ على الجانب الخارجي منه لتثبيت قوائم ذلك السياج، بنيت المئذنة الملوية بالآجر المشوي مادَّة البناء السائدة في بلاد الرافدين، أمَّا المادة الرابطة فهي الجص، وقد بُني المسجد الكبير بنفس هذه المواد، ويعتقد بعض الآثاريُّون أنَّ طراز بناء الملوية مشتقٌّ من طراز بناء الزقورات العراقية من ناحية كونها مؤلَّفة من طبقات متعدِّدة ترتفع فوق بعضها بمساحات تقل مع الارتفاع، إلَّا أنَّ باحثين آخرين يعتبرون أنَّ طراز وشكل الملوية هو بناءٌ فريدٌ ليس له نظيرٌ في جميع الأبنية قديمها وحديثها.
وعند أعلى قمَّة المئذنة بُنيت طبقةٌ على شكلٍ دائريٍّ لها 7 نوافذ يُطلق عليها أهل مدينة سامراء "الجاون"، وهو المكان الذي يرتقيه المؤذِّن ويرفع منه الأذان للصلاة، ويتحدَّث البعض أنَّهم رأوا بقايا أعمدة من الخشب على قمة الملوية المسماة بالجاون، ويقال إنها سقيفة يستظل بها المؤذن، وإن هناك أيضا درابزين من الخشب يمسك به الصاعد، ومن الجدير بالذكر أنَّ الناس كانوا يعتمدون حين ذاك على رؤية المؤذن على قمة الملوية نهارًا، وعلى فانوسه الذي يحمله معه عند الصعود لقمَّة المئذنة ليلًا، لتحديد أوقات الصلاة؛ حيث يتعذَّر وصول الصوت إلى مسافات بعيدة في المدينة، وراعى البناءون في ذلك الوقت اتجاه المسجد نحو القبلة بشكلٍ دقيقٍ ومذهل، ممَّا يعكس صورةً مشرقةً عن التقدُّم العلمي الذي كان عليه المسلمون آنذاك.
في قمَّة المئذنة يُوجد قبَّة أسطوانيَّة الشكل طول قطرها ثلاثة أمتار وارتفاعها 6,40 مترًا، وهي مسقَّفة وفيها ثمانية ثقوب يُعتقد أنَّها كانت مواضع لثمانية أعمدة خشبية صُمِّمت لحمل سقيفة القبَّة، وهذه القمَّة أو القبَّة يُرتقى إليها بواسطة سلَّم شديد الانحدار مؤلَّف من 22 درجة (باية). وللمئذنة الملوية سُلَّم من الآجر بعرض 2,50 مترًا، ويبدأ من وسط الجانب الجنوبي للمئذنة ويدور صاعدًا إلى الأعلى بعكس اتجاه عقرب الساعة، وكلَّما ارتفع السلم ضاقت مساحته وازداد انحداره؛ إذ يبلغ عرض السلم في قمَّة الملوية حوالي 1,90 مترًا.
وجديرٌ بالذكر أنَّ هنالك مئذنة ملوية أخرى في مدينة سامراء ليس بعيدًا عن المئذنة الأم، إلَّا أنَّ تلك المئذنة أصغر حجمًا وأقلُّ ارتفاعًا، وهي مئذنة "جامع أبي دلف" الشهير الذي بناه الخليفة المتوكل أيضًا، ويُعتبر من المساجد الكبيرة في العراق والعالم الإسلامي؛ إذ تبلغ مساحته حوالي 12 دونمًا (حوالي 30700 متر مربع)، والمئذنة الملوية لهذا المسجد يبلغ ارتفاعها حتى القمَّة المتهدِّمة نحو 19 مترًا، وفي حين أنَّ الملوية الأم تتألف من خمس طبقات، فإنَّ الملوية الصغرى تتألَّف من ثلاث طبقات فقط، والسلم يدور صاعدًا باتجاهٍ معاكسٍ لعقارب الساعة أيضًا.
تُعتبر ملوية سامراء من أشهر الأبنية على مستوى العالم بسبب هندستها وطرازها المميَّز، ويُسمِّيها بعض الغربيين -برج بابل- أو أنَّهم يتوقعون أنَّ شكل برج بابل الشهير كان على غرارها. وقد استوحى بعض المعماريين المعاصرين من شكل المئذنة الملوية تصاميمهم ومبانيهم الحديثة في العالمين العربي والغربي.
وحظيت منارة الملوية ومدينة سامراء باهتمام جميع الحكومات المتعاقبة في الدولة العراقية، حتى أصبحت مسجلة ضمن المدن والشواخص الأثرية في منظمة اليونيسكو العالمية، وكانت مقصدًا للزائرين من كلِّ بقاع العالم إلى حين ما أصابها من إهمال وتخريب بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث أصبحت منطقة نزاع بين القوات الأميركية المحتلة التي اتخذت من المنارة والمسجد الأثري قاعدةً عسكرية، ونتيجة المعارك المستمرة تعرَّضت القبَّة العليا للمئذنة للتفجير، ممَّا ألحق أضرارًا بجزئها العلوي.
وما زالت المئذنة الملوية بسامراء تُفصح عن سر حفظها من الفناء، فمَنْ يرتقي طريقها الشاهق، ويُدقِّق في أحجارها وهيئتها يجدها خارج الزمن بالفعل، وكأنَّها شُيِّدت بالأمس القريب.
_______________
المصادر والمراجع:
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995م.
- مناف العبيدي: المئذنة الملوية في سامراء .. تعاند الزمن وتقف لتذكِّر بمجد العباسيين، جريدة الشرق الأوسط، رقم العدد (13333)، الأحد - 13 شعبان 1436هـ=31 مايو 2015م.
- تحسين الناشئ: جماليات العمارة الإسلامية في العصر العباسي - المئذنة الملوية في سامراء نموذجًا، موقع الحوار المتمدن، يوليو 2015م.
التعليقات
إرسال تعليقك