الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن المشتركات الخاصَّة لا حصر لها، وقد تشترك عدَّة شعوبٍ في أمورٍ يسيرةٍ جدًّا لكنَّها تكون مُؤَثِّرَة بالنسبة إليها، وهي مشتركاتٌ تتجدَّد وتتغيَّر
- الثقافة
- الأرض
- العِرق
- التاريخ
- اللغة
- العادات والتقاليد
- القانون
- الأخلاق السامية
"المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة"
هي في الحقيقة مشتركاتٌ إنسانية موجودةٌ في كلِّ أُمَّة، ويُقدِّرها كلُّ إنسان، ولكنَّها تختلف عن المشتركات الإنسانية العامة في أمرين جعلني أُفرد لهما مجموعةً خاصَّة:
الفرق بين المشتركات العامَّة والخاصَّة
أمَّا الأمر الأوَّل: فهو أنَّ البشر يشتركون في أصول هذه المشتركات، ولكنَّهم يختلفون في فروعها؛ بمعنى أنَّ البشر يتَّفقون في المشترك كمبدأ، لكنَّهم يختلفون في طريقة تطبيقه، وكمثالٍ يُوَضِّح الصورة فإنَّني وضعتُ مع هذه المشتركات اللغة.. فكلُّ البشر يحتاجون إلى لغةٍ يتواصلون بها، لكن لكلِّ شعبٍ لغته الخاصَّة به، ولا يُمكن جمع العالم على لغةٍ واحدة، بل جعل الله عز وجل من آياته اختلاف لغات العالم: )وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ( [الروم: 22]، فاللُّغة عامَّة في كلِّ البشر، لكنَّها خاصَّةٌ لكلِّ شعب، ومن هنا جاءت في المشتركات الخاصَّة.
أمَّا عند حديثنا عن المشتركات الإنسانيَّة العامَّة فإنَّنا كنَّا نتكلَّم عن مشتركاتٍ يتَّفق البشر جميعًا في أصولها وفروعها، ويتفقون في المبدأ الذي بُنِيت عليه، وكذلك في طريقة التطبيق، فالعالم كلُّه لا بُدَّ أن ينعم بالحريَّة والكرامة، ولا بُدَّ أن يُحترم عقله، ولا بُدَّ أن تُتاح له الفرصة لتعلُّم علوم الحياة والمعمار.. وهكذا.
هذا هو الفارق الأوَّل بين المشتركات العامَّة والخاصَّة..
أمَّا الفارق الثاني: فهو أنَّ المشتركات الإنسانيَّة العامَّة ضروريَّة وحتميَّة؛ بمعنى أنَّه لا يُمكن بحالٍ أن نعيش دونها، وما دامت نُزِعَت من إنسانٍ فإنَّه لا بُدَّ له أن يصطدم بمَنْ نزعها منه، لأنَّه نزع شيئًا يُهَدِّد حياته، وهي أغلى ما يملك.. أمَّا المشتركات الخاصَّة فهي -على الرغم من أهميَّتها- أقلُّ درجةٍ من المشتركات العامَّة، ويُمكن للإنسان أن يعيش دونها، لكنَّها ستكون حياة تعيسة، وإذا نُزِعتْ من الإنسان فإنَّه سيصطدم مع مَنْ نزعها منه، لكن هذا الصدام سيكون أقلَّ دمويَّة من الصدام على المشتركات الأعلى؛ مثل المشترك الأسمى، أو المشتركات الإنسانيَّة العامَّة.
لكنَّ هذين الاختلافين لا يُلغيان أهميَّة المشتركات الخاصَّة في الربط بين شعوب الأرض، لكنَّها ليست كالمشتركات العامَّة تربط كلَّ سكَّان العالم، إنَّما هي تربط عددًا معيَّنًا من الناس، قد يضيق حتى لا يشمل إلَّا شعبين أو ثلاثة، وقد يتَّسع حتى يشمل نصف سكان العالم مثلًا، لكنَّه لا يشمل كلَّ السكَّان أبدًا.
والمشتركات الخاصَّة لا حصر لها، وقد تشترك عدَّة شعوبٍ في أمورٍ يسيرةٍ جدًّا لكنَّها تكون مُؤَثِّرَة بالنسبة إليها، وهي مشتركاتٌ تتجدَّد وتتغيَّر وتتطوَّر بشكلٍ كبير؛ لذلك قلنا: إنَّ حصرها صعبٌ للغاية، ولذلك فإنَّنا في هذه النظريَّة سنضرب بعض الأمثلة لهذه المشتركات الخاصَّة، التي يجتمع عليها في العادة عدَّة شعوب، فهي تُعتبر في رؤيتي أهمُّ هذه المشتركات الخاصَّة.. وهي تشمل ثمانية مشتركات -كذلك- وهي: الثقافة، والأرض، والعرق، والتاريخ المشترك، واللغة، والعادات والتقاليد، والقانون، والأخلاق السامية.
أمَّا المشترك الإنساني الخاص الأوَّل فهو الثقافة، وأنا أُدرك أنَّ الثقافة لها عشرات التعريفات، ولكنَّني أعني بها سهولةَ الفكر الذي يُمكن أن يُغيِّر سلوك الإنسان ومنهجه في الحياة، والثقافة هي نتاج العقل بهذا التعريف، ولمـَّا كان للعقل مكانٌ متقدِّمٌ -كما بيَّنَّا في المشتركات الإنسانيَّة العامَّة- كان لا بُدَّ للثقافة والفكر أن يكون لهما هذا المكان المتقدِّم في المشتركات الإنسانيَّة الخاصة، والثقافة شيءٌ محترمٌ ومُقَدَّرٌ من كلِّ الشعوب، بصرف النظر عن مكنوناتها أو نتاجها؛ لأنَّها في النهاية جهدٌ بشريٌّ راقٍ، وعملٌ إنسانيٌّ عظيم، حتى لو شابتها أخطاء، أو اعتراها نقص فهذا من طبيعة الأفكار الإنسانيَّة.
والثقافة قد تكون محدودة بوطن معيَّن، لكن إن كانت منطقيَّة ومقنعة فإنَّها سرعان ما تنتشر خارج الوطن الواحد حتى تشمل كثيرًا من دول العالم، وتُصبح بذلك من أقوى عوامل التعارف والالتقاء بين الشعوب، ولكنَّها في الوقت ذاته قد تُهيِّج شعوبًا أخرى بشكل قد يُثير صدامًا وعراكًا.
ولأنَّ الثقافة هي نتاج العقل فمجال شموليَّتها واسعٌ جدًّا؛ كاتَّساع العقل! والعقل له فكرٌ في قضايا الاجتماع، وله فكرٌ في قضايا السياسة، وله -كذلك- فكرٌ في قضايا الاقتصاد، وكذلك في قضايا الأخلاق.. وهكذا، فما من مجالٍ من مجالات الحياة إلَّا وللإنسان فكرٌ فيه؛ ومن ثَمَّ يكون هناك سلوكٌ معيَّنٌ في المجتمع ناتجٌ عن هذا الفكر.
من هذا المنطلق فأنواع الثقافة لا نهائيَّة، فمن الناحية الاقتصادية -مثلًا- هناك فكر (أو ثقافة) شيوعي -مثلًا- وهناك فكر رأسمالي، وداخل كلِّ واحدٍ من هذين القسمين عشرات التفريعات..
ومن الناحية الاجتماعيَّة هناك فكرٌ سلميٌّ يسعى لتجميع الطاقات والتعايش بينها، وهناك -أيضًا- فكرٌ صداميٌّ يسعى للمواجهة والتحدِّي..
ومن الناحية الأخلاقيَّة هناك فكرٌ التزاميٌّ انضباطيٌّ يدعو إلى العودة إلى الأخلاق والاهتمام بها، ويُواجهه فكرٌ إباحيٌّ تحرُّرِيٌّ ينظر إلى الأخلاق على أنَّها قيود على الإنسان.
وعلى قدر هذه التقسيمات الكثيرة يتغيَّر سلوك المجتمع، وما أسرع أن تتجمَّع شعوبٌ كثيرةٌ حول فكرٍ واحد! وما أسرع أن تصطدم -كذلك- شعوبٌ كثيرةٌ بسبب أفكار متعارضة!
والتعارف الفكري هو من أقوى أسباب التعارف والتواصل، بل إنَّه يُصبح في بعض الأماكن في العالم بديلًا عن المشترك الأسمى -وهو العقيدة كما بيَّنَّا- خاصَّةً في الأماكن التي يقلُّ فيها الارتباط بالدين لسببٍ أو لآخر.. ومن هنا فالتعارف المبني على اتحاد الفكر تعارفٌ قويٌّ للغاية، ويتجاوز كثيرًا من الحدود الجغرافيَّة والاقتصاديَّة والعرقيَّة.. وغيرها، ونحن في هذه النظريَّة نحبِّذه وندعو إليه، فما أجمل وأقوى أن يلتقي الإنسان مع أخيه الإنسان حول فكرةٍ واحدةٍ نتعاون من أجل إنجاحها، ونلتقي من أجل تنميتها وتطويرها!
ولكنَّ من المنطلق نفسه فالصدام بسبب الفكر يكون صدامًا داميًا، قد يقترب في قوَّته من الصدام حول المشترك الأسمى (العقيدة)؛ لأنَّه صدامٌ من أجل فكرة، وقد لا يتغيَّر إلَّا إذا غيَّر أحد الأطراف أفكاره، والأفكار عادةً لا تتغيَّر بالقوَّة؛ ومن ثَمَّ فقد ندخل في حلقةٍ مفرغة، ولا يقف الصدام.
ومن هنا فنحن نُحَذِّر أشدَّ تحذيرٍ من الحرب والصدام على أساس الأفكار، وندعو الشعوب إلى النظر إلى الأمور نظرة مختلفة، وهذه النظرة هي نظرة التكامل لا التنافس، فأنا مقتنعٌ بفكرتي ومؤمنٌ بها، لكن ما المانع أن أُنَقِّح فكرتي من أفكارك، وأن أُكَمِّل نقصي ممَّا عندك.. هذه النظرة التكامليَّة، وهذا "الانفتاح الفكري" سيُؤَدِّي إلى ثراء عظيم بدلًا من التحجُّر الفكري العقيم، وسيقودنا إلى تعارفٍ تكامليٍّ بدلًا من الصدام التنافسي.
وثاني المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة هي الأرض، وهي من أشهر الأسباب التي يتجمَّع عليها البشر ويتعارفون، بل لعلَّها الأشهر في زماننا؛ فقد برز في هذا الزمن المعاصر نظام الدول والأوطان، والدولة أو الوطن ما هي إلَّا رقعة جغرافيَّة معيَّنة لها حدودٌ معيَّنةٌ معروفة، ويعيش عليها شعبٌ هم المواطنون لهذه الدولة.. وصارت كلُّ بقعةٍ من "أرض" المعمورة تابعةً لدولةٍ معيَّنة، حتى البحار تقسَّمت دوليًّا؛ حتى تعرف كلُّ دولةٍ حدود مياهها الإقليميَّة، بل صار الجميع يتعارف على المجال الجويِّ لكلِّ دولة، فصارت بذلك "الأرض" هي العامل الأكبر لتجميع عددٍ معيَّنٍ من الناس في مكانٍ واحد.
وتكبر بعض الدول حتى تشمل عدَّة ملايين من الكيلو مترات المربعة؛ مثل: روسيا وكندا والولايات المتحدة الأميركيَّة، وتصغر بعضها حتى تُحسب بمئات الكيلو مترات المربَّعة فقط، وليس بالآلاف أو الملايين؛ مثل: موناكو ومالطا وسنغافورة، لكن في النهاية يتعارف الجميع أنَّ هذه "الأرض" مجمِّعة لهذه المجموعة من البشر.
ولا يخفى علينا أنَّ الأرض الواحدة تضمُّ فوقها عشرات التنوُّعات البشريَّة؛ ففيها عدَّة عقائد، وعدَّة أعراق، وعدَّة ألوان، وعدَّة مستويات اقتصاديَّة، وكلُّ هؤلاء مواطنون في هذه البقعة من الأرض.. يُحبُّونها ويُدافعون عنها.
الأرض من هذا المنظور من أقوى المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، التي تجمع عددًا معيَّنًا من البشر في مكانٍ واحد.
ولا شكَّ أنَّ ميدان التواصل والتعارف سيكون كبيرًا بين "الأراضي" المتجاورة؛ فهناك عشرات المصالح المشتركة بين الدول المتلاصقة؛ سواءٌ مصالح متعلِّقة بمصادر المياه، أو حقولٌ مشتركة للنفط والمعادن، أو احتياجٌ للتواصل مع العالم الخارجي عبر طرق دولةٍ مجاورة، أو عبر موانيها، أو مرور أنابيب ووسائل اتصال، كما لا شكَّ أنَّ فرص العمل المشترك ستكون كثيرة، وليس غريبًا الآن في أوربَّا أن تجد رجلًا فرنسيًّا يعمل في ألمانيا على الحدود مع فرنسا، ويعود يوميًّا يبيت في بيته الفرنسي! إنَّ مساحة التواصل بين الدول المتجاورة كبيرة للغاية، ويُمكن لعقلاء كلِّ دولةٍ إذا فكَّروا في خَلْق فرصٍ جديدةٍ للتواصل مع الدول المحيطة لدولتهم أن يخرجوا بما لا يُحصى من مساحات الاشتراك.
ومع هذه الفرصة للتعارف والتقارب إلَّا أنَّ أشهر حروب العالم الآن تقوم من أجل الصراع على الحدود! وقد حوَّل الإنسان المشترك القوي الذي بينه وبين أخيه المجاور له إلى وسيلة صدام لا وسيلة تعارف. وكم من الطاقات تضيع على الدولتين المتصارعتين! وكم من الأرواح تُزهق! وكم من الأموال تُنفق! وكلُّ هذا يزيد مئات المرَّات عن الربح المتحقِّق الناتج عن ضمِّ رقعة الأرض المختلَف عليها! فالجميع في النهاية خاسر، بالإضافة إلى فقدان الثقة، وضياع فرص التعاون والشراكة.
ولعلَّ أخطر من ذلك أن تقوم على "الأرض" الواحدة حرب بين سكَّانها، وأن يشتعل الصدام بين مواطنيها، فيما يُعرف بالحرب الأهليَّة؛ فهؤلاء كانوا أكثر حماقة، وأعمق جهلًا، فلم ينظروا إلى المشترك العظيم الذي يجمعهم وهو الأرض، بل صار هذا المشترك مفرَّقًا لهم، ومشتِّتًا لقوَّتهم، وبدلًا من أن يضعوا أيديهم في أيدي إخوانهم للحفاظ على الأرض والدفاع عنها، صاروا بصدامهم مُضَيِّعين لها، ومفرِّطين فيها.. ولا شَكَّ أنَّ بلدًا اشتعلت فيه حربٌ أهليَّةٌ ضاريةٌ هو بلدٌ افتقر إلى الحكماء، وهجره العقلاء!
أمَّا المشترك الإنساني الخاص الثالث فهو العِرق.. وهو من المشتركات الإنسانيَّة الأصيلة، ولعلَّه من أشهر المشتركات "التقليديَّة" التي دأب البشر على التجمُّع عليها، والعالم كلُّه يعرف في تاريخه نظام القبائل والعشائر، ويشعر بالارتباط بشكلٍ فطريٍّ وتلقائيٍّ لأفراد رحمه وقبيلته وعشيرته، وفي الوقت نفسه فإنَّ المعارك بين الأعراق المختلفة معارك مشهورة، وقد تقوم معارك بين عرقين متقاربين جدًّا كبطنين في قبيلةٍ واحدة، أو عائلتين في عشيرةٍ واحدة، وعندها يتحوَّل المشترك الإنساني إلى سبب صدام!
ومع أنَّ دور العرق قد قلَّ كثيرًا مع حياة المدنيَّة الحديثة، حتى صار معظم الناس لا يعرفون أصولهم، ولا يكترثون بالبحث عن أعراقهم، إلَّا أنَّه ما زال له دورٌ مهمٌّ في بعض المناطق، وخاصَّةً إذا كان أصحاب العرق الواحد يشعرون بالغبن والاضطهاد في البلد الذي يعيشون فيه؛ ومن ثَمَّ فإنَّهم يبحثون عن رابطةٍ أخرى غير رابطة الوطن تجمعهم، وقد تكون هذه الرابطة هي رابطة العرق، ولعلَّ من أبرز الأمثلة على ذلك مثال العرق الكردي؛ فالأكراد يبحثون عن رابط العرق ليربطهم، وينظرون إلى حلمٍ يترقبونه، وهو تكوين دولةٍ لم يشهد التاريخ مولدها حتى هذه اللحظة، وهي دولة "كردستان"، ولم يتنامَ عندهم هذا الشعور إلَّا لشعورهم بالتهميش في الدول الخمس التي يعيشون فيها؛ وهي: العراق، وسوريا، وتركيا، وإيران، وأرمينيا فصار العرق بذلك مجمِّعًا لهم، ومجدِّدًا لآمالهم.
وكما أنَّه ما زال للعرق دورٌ في تجميع وتعارف مجموعات من البشر، فإنَّه ما زال كذلك سببًا كارثيًّا من أسباب الصدام؛ فالحروب التي تقوم على أساس العرق حروبٌ شرسةٌ لا نهاية لها، وهي جريمةٌ بكلِّ المقاييس، وصار العالم يتعارف الآن على هذا التجريم لهذه الحروب، التي تُعرف بجرائم "التطهير العرقي"؛ لأنَّ البشر لا يد لهم في أعراقهم، ولا يملكون تغييرها، ولا يختارونها أو يستبدلونها؛ ومن ثَمَّ فهي حروبٌ لا معنى لها، وليس هناك مبرِّرٌ عقليٌّ مقبول وراءها، وما أبلغ الوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الحرب العرقيَّة، حين وصفها بأنَّها: "دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ"[1]. فمن الجهل حقًّا أن نتصادم لأنَّ أعراقنا مختلفة، مع أنَّه لم يختر أحدنا هذا العرق أو غيره.
ومن هذا المنطلق فإنَّني أُنادي في هذه النظريَّة بإعادة النظر في مسألة العرق على أنَّها "مشتركٌ إنساني" وليست سببًا للتصادم، فليس عندي مانعٌ مطلقًا أن يتواصل أصحاب العرق الواحد سواءٌ في وطنٍ واحد، أو عبر الأوطان المختلفة، أو جاليَّاتٍ قليلةٍ في أوطان غريبة، وأن يكون هذا العرق الواحد سببًا في تجميع جهودهم وتعارفهم وتواصلهم وتعاونهم لتحقيق مصالح مشتركة، لكن في الوقت نفسه أدعو الجميع إلى عدم الاستعلاء على الآخرين بسبب عرقٍ أو أصلٍ أو جنس، وعدم التصادم على هذا الأساس، وإلَّا فالنتائج قد تكون سلاسل من الصدامات الدمويَّة التي يهلك فيها ما لا نُحصيه من البشر!
ويأتي التاريخ المشترك بين شعبين مشتركًا إنسانيًّا خاصًّا رابعًا.. وهو مشتركٌ في غاية الأهميَّة، وهناك علاقاتٌ حميمةٌ يُمكن أن تنشأ بين بعض الشعوب لا لشيءٍ إلَّا لأنَّهم أصحاب تاريخٍ مشتركٍ قويٍّ وإيجابي، والسياسيون الحكماء يدرسون التاريخ، ويقرءون مثل هذه العلاقات، ويضربون على أوتارها، والمفكِّرون الأمناء الحريصون على أمن وسلام العالم يُنَقِّبون في مراحل التاريخ المختلفة على نقاط التلاقي بين شعبين معينين أو عدَّة شعوب، ثم يُحرِّكون همَّة الناس في التعارف والتواصل انطلاقًا من هذا التاريخ الإيجابي المشترك.
ولكن لا شكَّ أنَّ هناك تاريخًا أسود يجمع شعبين أو أكثر، وأنَّه قد تكون هناك صدامات تاريخيَّة أدَّت إلى جروح عميقة بين كيانين إنسانيَّين، والحلُّ هنا واحدٌ من اثنين: إمَّا تجاهل هذا التاريخ كليَّة، والنظر في المشتركات الأخرى التي تجمع الشعبين؛ مثل: المشترك الأسمى، أو المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، أو بعض المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، وإمَّا الطريق الثاني –وهو أفضل- وهو صناعة تاريخٍ جديدٍ إيجابي! ولا أعني به تزوير الأحداث الماضية والعبث فيها؛ فإنَّ هذا منهجٌ مرفوضٌ تمامًا، ولكن أعني وضع نقطة في نهاية السطر وبداية سطر جديد! نستطيع أن نتواصل اليوم تواصلًا إيجابيًّا فعَّالًا مع تجنُّب ذِكْر التاريخ القديم مطلقًا، ثُمَّ مع مرور الوقت سيُصبح واقعنا الآن تاريخًا للأجيال المستقبليَّة، وقد يطغى هذا التاريخ الإيجابي القريب على التاريخ السلبي السحيق، والأمثلة التطبيقيَّة على هذا التصوُّر كثيرة؛ فالتاريخ القديم يحمل على سبيل المثال عداوات متكرِّرة بين الإنجليز والفرنسيِّين، لكنَّ التاريخ الحديث يحمل تعاونًا في الحربين العالميَّتين الأولى والثانية، فلينظر عقلاء الشعبين إلى هذا التاريخ التعاوني المشترك بدلًا من النظر إلى التاريخ العدائي السابق، وهنا يُصبح التاريخ مشتركًا إنسانيًّا لا سببًا من أسباب الصدام.
أمَّا المشترك الإنساني الخامس فهو اللغة.. وهي مشتركٌ إنسانيٌّ بارز؛ فالبشر جميعًا يحتاجون إلى لغةٍ يتواصلون بها، ويجتمع في العادة كلُّ مجموعةٍ من البشر على لغةٍ معيَّنةٍ يتكلَّمون بها ويُطَوِّرونها، تكون سببًا في تعارفهم وتعاونهم.. وكلَّما قويت الأُمَّة انتشرت لغتها، وسعى عددٌ أكبر من الناس لتعلُّم هذه اللغة ودراستها؛ ومن ثَمَّ "الاشتراك" مع أهلها في مشتركٍ جديد، وقد كان العالم كلَّه يسعى إلى تعلُّم اللغة العربيَّة يوم كانت الحضارة الإسلاميَّة في صدارة العالم، والآن العالم يسعى إلى تعلُّم الإنجليزيَّة؛ لتصدُّر أميركا وقبلها بريطانيا للنهضة الحضاريَّة المعاصرة، وغدًا تنتشر لغةٌ أخرى.. وهكذا.
من هذا المنطلق يُصبح تعلُّم اللغات الأخرى غير اللغة الأم التي يتكلَّم بها أهل الوطن الواحد.. يُصبح هذا التعلُّم بابًا واسعًا للتعارف مع الشعوب الأخرى؛ ومن ثَمَّ فهو دورٌ مهمٌّ -كذلك- للشعوب أن تُعَرِّف الآخرين بلغاتها، وذلك عن طريق فتح المراكز المختلفة لتعليم هذه اللغة في كلِّ أماكن الدنيا، وهنا سيعرف العالم طبيعة هذه الدولة وأفكارها عن طريق لغتهم، وهذا سيكون أبلغ في المعرفة، وأدقَّ في النقل.
بل إنَّه على الشعوب المختلفة أن تسعى إلى تيسير لغتها وتسهيلها على الآخرين؛ حتى تفتح مجالًا أوسع لتعلُّمها، ولعلَّه من المناسب هنا أن أنقل المثال الياباني الذي وجد أنَّ كتابة لغته الأصليَّة بالحروف الصينيَّة يُمَثِّل مشقَّةً كبيرةً جدًّا على الذين يُريدون التعرُّف على اللغة اليابانيَّة، حتى إنَّه يُمَثِّل مشقَّةً على أهل اليابان أنفسهم! ومن ثمَّ لجأت اليابان إلى كتابة لغتها بالحروف الكوريَّة الأسهل في الرسم والفهم، ومن ثَمَّ سهَّلت على العالم التعرُّف على اللغة اليابانيَّة، وزاد مُتَعَلِّموها.
وإذا كنَّا نقول: إنَّ حرص الدول على تعليم الآخرين للغتها سيكون وسيلةً مهمَّةً من وسائل التعارف والتقارب وحُسن التعايش. فإنَّنا في الوقت نفسه نُحَذِّر من "قهر" الشعوب على تعلُّم لغةٍ معيَّنة، فإنَّ هذا يُحدث خلاف ما رغبنا في تحقيقه تمامًا؛ لأنَّه لا شكَّ سيُشعل الصدام، ويُورث الكراهيَّة، ويُؤَجِّج صراعًا مميتًا.. ولعلَّ مراجعة النموذج الفرنسي في إفريقيا، والإسباني والبرتغالي في أميركا الجنوبية يُؤَكِّد هذه الخطورة ويُوَضحها.
أمَّا المشترك الإنساني الخاص السادس فهو العادات والتقاليد، وهو كذلك من أقوى الروابط بين أفراد الشعب الواحد، وهو كذلك من أقوى الروابط بين أفراد شعبين أو أكثر إذا اتفقت هذه العادات والتقاليد، بل إنه أحيانًا عند بعض الشعوب تعلو العادات والتقاليد على دينهم وعقيدتهم، وتعلو على مصالحهم وحاجياتهم، ويُصبح من "العار" أن يتخلَّى فرد من أفراد الشعب عن العادات والتقاليد.
ودراسة عادات الشعوب وتقاليدها أمر ممتع حقًّا، وهو يُوَضِّح مدى الثراء في الفكر الإنساني، ووجود تشابه في العادات -حتى ولو كان التشابه بسيطًا وجزئيًّا- يُثير في النفس نوازع زيادة التعارف، ويرفع من درجة الفضول لزيادة التقارب، وهذا شيءٌ طيِّبٌ ولا شكَّ، وقد نفاجأ أنَّ شعبًا في أقصى الأرض يتبع عادات وتقاليد تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ عادات شعب يعيش على بُعد آلاف الأميال منه! وما ألطف ما قرأتُه عن عادات استقبال الضيوف وإكرام المسافرين، وإطعام مَنْ لا يعرفهم أحد، فقد وجدتُ ذلك منتشرًا عادةً وتقليدًا في الجزيرة العربيَّة واليمن، وكذلك في قبائل وسط إفريقيا، و-أيضًا- في الهنود الحمر في أميركا، وكذلك في الإسكيمو في شمال العالم!
إنَّه اتفاقٌ مذهلٌ يُثبت جمال التجربة الإنسانيَّة، ويُثبت في الوقت ذاته أهميَّة البحث عن المشتركات الكثيرة بين البشر جميعًا.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نلفت الأنظار إلى أن النقيض من هذا التعارف تمامًا يحدث عندما يسخر قومٌ من عادات وتقاليد قومٍ آخرين؛ لأنَّ العادات تُمثِّل للناس ميراث الآباء، وتراث الأُمَّة، وحصيلة الأجيال، وغالبًا ما تكون لها قداسةٌ عند كثيرٍ من الناس، فإذا تعدَّى عليها أحدٌ أو سخر منها فقد يكون الصدام المروع، والعراك الدامي، وعلى البشر أن يحذروا ذلك.
ويأتي القانون مشتركًا إنسانيًّا خاصًّا سابعًا.. وهو مشتركٌ إنسانيٌّ لا شكَّ في ذلك، ولا يستطيع أن يعيش شعبٌ بلا قانون، مهما صغر هذا الشعب أو تخلَّف، ففي النهاية لا بُدَّ من نظامٍ وأحكامٍ وتشريعاتٍ تحكم كلَّ طائفةٍ تجمَّعت في مكانٍ ما، فالقانون من هذا المنطلق مشتركٌ إنسانيٌّ أصيل، لكنَّ كلَّ شعبٍ له قانونه الخاص الذي يحترمه ويُبَجِّله وينصاع له ويتحاكم به، على أنَّ هذه الخصوصيَّة لكلِّ شعبٍ لا تمنع من وجود نقاط تقاطع كثيرةٍ بين الشعوب المختلفة في مسائل القوانين، فكلَّما تشابه قانون دولةٍ مع قانون دولةٍ أخرى حدث التعارف والتقارب، وما أروع أن تستفيد الدول من قوانين المجتمعات الإنسانيَّة الأخرى، التي تُشاركها الحياة على ظهر هذا الكوكب! فهذا ميراث الإنسانيَّة الذي بُذِل فيه فكر وجهد ووقت.
وقد يُطَوِّر البشر أنفسهم حتى يبتكروا قانونًا يُوَحِّد بين أرجاء المعمورة بكاملها! مثلما نرى في زماننا الآن بخصوص قوانين التجارة والمرور والملاحة العالميَّة، فهي قوانين تُقَرِّب كثيرًا بين شعوب العالم، وتجعل الإنسان لا يشعر بغربةٍ عند وجوده في بلدٍ آخر مهما بَعُد عن بلده الأصلي.
ومثلما ذكرنا في المشتركات الأخرى فإنَّنا نُحَذِّر هنا من عدَّة أمور؛ منها: أن تحاول دولةٌ تغيير قوانين الدول الأخرى بالقهر والاستبداد، فإنَّ القانون لكلِّ دولةٍ بمثابة روحها وعمودها الفقري، والتعرُّض له تعرُّض لكرامة الدولة وعزَّتها، وهذا قد يُؤَجِّج صراعات خطرة.
ومنها كذلك أن يُحاول أحدٌ تعميم بعض القوانين التي تتعارض مع عقيدة قومٍ أو دينهم، فإنَّ كثيرًا من الشعوب تستمدُّ قانونها من دينها، ولعلَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي أبرز الأمثلة على ذلك؛ ومن ثَمَّ فمحاولة تعديل قوانين دولة بما يُخالف عقيدتها -ولو بطرقٍ سلميَّةٍ- قد يُنتج صدامًا عنيفًا، ومن أبرز أمثلة ذلك ما حاوله مؤتمر السكَّان في القاهرة ثُمَّ بكين من فرض بعض القوانين التي لا تتفق مع دين الأُمَّة الإسلاميَّة ولا أعرافها ولا تقاليدها؛ مثل قوانين الزواج المنحرفة أو قوانين الشواذ، فهذا أدَّى إلى ثورةٍ شعبيَّةٍ عارمة، وحدوث شروخٍ في العلاقات بين الشعب المسلم والشعوب التي سعت إلى مثل هذه القوانين.
إنَّ مساحات التقارب بين مختلف قوانين العالم كبيرة وموجودة، وعلى العقلاء أن يسعوا إلى الاستفادة من تجارب الآخرين، وإلى التقريب بين القوانين الموجودة في المساحة القابلة للتغيير، وفي الوقت نفسه عدم الاقتراب من المناطق المحظورة لكلِّ شعبٍ أو أُمَّة، وهي لا شَكَّ مختلفة من وطنٍ إلى وطن ومن قومٍ إلى آخرين.
أمَّا المشترك الإنساني الخاص الثامن والأخير فهو الأخلاق السامية..
ولكي نفهم المقصود من الأخلاق السامية لا بُدَّ أن نُراجع ما قلناه عن الأخلاق الأساسيَّة، التي كانت مشتركًا عامًّا بين كلِّ البشر، فالأخلاق الأساسيَّة التي اخترنا أن تكون -الصدق والأمانة والعدل- هي أخلاقٌ لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن نعيش دونها، وتقديرها مزروع في قلب كلِّ إنسان؛ فهي من الفطرة السويَّة، وهي مُبرَّرة عقليًّا ومنطقيًّا بشكلٍ لا يحتاج إلى إقناع؛ ومن ثَمَّ فلا يُجادِل فيها عادةً أحدٌ.
أمَّا الأخلاق السامية فهي أخلاق الفضل؛ التي يتفضَّل بها الإنسان في تعاملاته، ولكنَّه ليس مجبرًا على التحلِّي بها، ولا تحدث حرب أو صدام عادةً إذا ما تخلَّى عنها أحدٌ، بعكس الأخلاق الأساسيَّة، ولكن هذه الأخلاق السامية تُجَمِّل الحياة، وترفع من مستواها الإنساني، فهي من صور الرقيِّ البشري الرائعة.
وكمثال لهذه الأخلاق السامية نجد أخلاق العفو والحلم وكظم الغيظ، ونجد أخلاق الكرم والإيثار، ونجد أخلاق الصبر وقوَّة التحمُّل، ونجد أخلاق الشجاعة والمروءة، وكذلك نجد أخلاق الابتسام والسلام وطلاقة الوجه، وكل هذه أخلاق سامية رائعة لكن ليس كلُّ البشر يفعلونها، وليسوا جميعًا مطالبين بها، لكنَّها أخلاقٌ تُبرز جوانب إنسانيَّة متميِّزة في البشر.
وهناك شعوبٌ في العالم تتميَّز ببعض هذه الأخلاق أو جزءٍ منها، ولا شكَّ أنَّها تجد تقاربًا عظيمًا مع الشعوب التي تُشبهها في هذه الأخلاق؛ بل إنَّ الشعب الذي يغلب عليه مثل هذه الأخلاق السامية يُصبح من السهل عليه التعارف والتقارب مع غيره من الشعوب، حتى لو لم يتَّصفوا هم بالأخلاق نفسها؛ لأنَّ مَن اتَّصف بهذه الأخلاق يكون من عادته أن يعفو عن الإساءة، بل وأن يُردَّها بالإحسان، وهذا لا شكَّ يُذيب فوارق كثيرة بين الشعوب، ويفتح أرحب الطرق للتواصل والتعايش.
فكم من القلوب أُسِرَتْ بالكرم العربي الأصيل، وبالتواضع الماليزي، وبالتحيَّة اليابانيَّة، وبالبسمة الأميركيَّة، وبحرارة الاستقبال السودانيَّة!
إنَّه ميراثٌ جميلٌ جميل ينبغي على البشر أن يسعوا للتحلِّي به، والتمتُّع بآثاره.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] اقتتل غلامان؛ غلامٌ من المهاجرين وغلامٌ من الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون: يا للمهاجرين. ونادى الأنصاريُّ: يا للأنصار. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا هَذَا دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟!". البخاري: كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية (3330)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584) عن جابر بن عبد الله.
التعليقات
إرسال تعليقك