التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في هذا المقال يبرز الدكتور سهيل طقوش بداية الصدام المسلح بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في صفين، ولجوء طرفي المعركة للتحكيم لإنهاء الصراع بينهم.
مرحلة الصدام العسكري
بلغت معاوية أخبار استعدادات عليٍّ رضي الله عنه للمسير إليه، فجهز قوَّاته البالغة ما بين ثمانين إلى مائة ألف مقاتل[1]، وانحدر بها إلى صفين على شاطئ الفرات الغربي قرب الرقة؛ لأنَّ ذلك هو الطريق الطبيعي الذي سيسلكه جيش عليٍّ رضي الله عنه ليصل إلى بلاد الشام، ووصل معاوية رضي الله عنه إلى صفين في "أول ذي الحجة 36هـ= 21 مايو 657م"، واستقرَّ فيها، وساعدته الظروف البيئية من سهولة الأرض وملاءمة المناخ وقرب الفرات[2].
كان عليٌّ رضي الله عنه يُعسكر في النخيلة على بعد ميلين من الكوفة استعدادًا للانطلاق إلى بلاد الشام، وطلب منه بعض قادته بإعطاء المفاوضات فرصة أكبر، كما طلب منه آخرون بالمسير مباشرة لقتال معاوية رضي الله عنه، وآثر علي المواجهة السريعة لحسم الوضع، فغادر النخيلة إلى الصراة، ثُمَّ المدائن فالأنبار فالرقة فصفين، فوصل إليها بعد بضعة أيامٍ من وصول معاوية t، وقد بلغ عدد قواته ما بين تسعين إلى مائة ألف مقاتل[3].
شهد شهر ذي الحجة مبارزاتٍ فردية، ومناوشاتٍ جماعية محدودة قبل أن يتوقف القتال في شهر "محرم 37هـ= يونيو 657م"، ربَّما بضغط القاعدة التي كانت ترغب في السلام، ويبدو أنَّ حرص الطرفين على الاحتفاظ بقدرٍ معيَّنٍ من التفاهم يكتسب أهمية بالغة في التطورات اللاحقة؛ إذ يُظهر الرغبة الكامنة لدى أهل الشام والعراق في المصالحة، وبخاصَّةٍ أنَّ كلَّ طرفٍ كان يتخالط مع الطرف الآخر، ويدخل معسكره وسط جوٍّ من حسن الجوار[4].
استمرَّت الهدنة شهرًا واحدًا تخلَّلها اتصالات ومفاوضات على أمل الوصول إلى اتفاقٍ يُنهي النزاع ويحقن دماء المسلمين، لكنَّ التصلُّب في المواقف حال دون ذلك[5]، والواقع أنَّ اندفاع قيادات الطرفين للقتال قابله حرصٌ من سواد رجالهما على أن تكون المواجهة بينهما محدودةً خشيةً من هلاك المسلمين[6].
يبدو من تفاصيل التعبئة حرص طرفي النزاع على أن تُواجه كلَّ قبيلةٍ من قبائل الشام أختها من أهل العراق، إلَّا أن تكون قبيلةً ليس منها بالشام أحد، فصرفها إلى قبيلةٍ أخرى تكون بالشام ليس منها أحد في العراق، مثل بجيلة التي لم يكن منها في الشام إلا عددٌ قليل، فصرفهم إلى لخم[7].
اشتبك الطرفان في رحى معركةٍ طاحنة، ستتحمل الأجنحة ثقلها، تبادل المتقاتلون خلالها الكرِّ والفر، وتأرجحت الكفَّة بين النصر والهزيمة من واقع ضغط الطرفين كلٍّ على الآخر، ووصلت إحدى الهجمات العراقية إلى جوار معاوية رضي الله عنه، ووصف يوم الخميس 12 صفر بأنَّه اليوم الأطول، وأُطلق على ليله اسم الهرير، وقُتل فيه ذو الكلاع، وعبيد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، وهو المرقال حامل لواء عليٍّ[8]، وكثر القتل بفعل اشتداد المواجهة، وأمام ضخامة المجزرة خشيت العرب على نفسها من القتال والهلاك، ولاح في الأفق أنَّ نهاية الدولة الإسلامية بات وشيكًا، والواقع أنَّ المسلمين جميعًا كانوا يتقاتلون، وتتمزَّق الأمَّة دون أيِّ أفقٍ في انتصار طرفٍ على آخر؛ فالكفتان متوازنتان والقتال سجال[9]، واستفاقت قيادات الطرفين على هول الكارثة، وانطلقت نداءات سلمية من وسط القتال، "ألا تذكرون الأرحام، أفنيتم لخم الكرام، والأشعريين وآل ذي حُمام... أما تذكرون أهل فارس والروم والأتراك"، "من لثغور الشام بعد هلاك أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد هلاك أهل العراق، من للذراري والنساء"[10].
أدرك مقاتلوا الشام بأنَّهم يسيرون نحو الإبادة المتبادلة، فنادوا بالبقية؛ أي وقف القتال خوفًا من زوال الجميع "لقد أكلتنا الحرب، ولا نرى أنَّنا سنغلب أهل العراق إلا بفناء أهل الشام". ويبدو أنَّ معاوية رضي الله عنه لم يكن مستعدًا للتضحية بأهل الشام للوصول إلى أيِّ غاية، وتبيَّن له أنَّه لن يكون هناك غالبٌ ومغلوب، ومن هذه الرؤية دعا القادة العراقيين إلى وقف القتال، فكتب إلى عليٍّ t يقول: "أمَّا بعد، فإنِّي أظنُّك أن لو علمت أنَّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وإن كنَّا قد غلبنا على عقولنا، فلنا منها ما نذم به ما مضى، ونصلح ما بقي... فإنك لا ترجو من البقاء إلَّا ما أرجو، ولا تخاف من الفناء إلَّا ما أخالف، وقد والله رقت الأجناد، وذهبت الرجال"[11].
كما كتب إلى ابن عباس يقول: "... وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض، حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا، وما أيأسكم منَّا أيأسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحدِّ من حدِّكم أمس، وقد منعنا بما كان منَّا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق، فاتقوا الله في قريش..."[12]. وكتب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس ب يقول: "... فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة وصبرًا، واعلم أنَّ الشام لا تهلك إلَّا بهلاك العراق، وأنَّ العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام..."[13]، وفي المقابل مال مقاتلو العراق إلى الموادعة، وقالوا: "... إنَّ هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة..."[14].
إنَّ قراءةً متأنيةً لمضمون نداءات المصالحة والموادعة تُوضِّح اختلاطها بقيم الدين والشرف والعرض والتعصُّب للأمصار، مع ملاحظة تراجع الأثر الديني في أداء الدور الرئيس فيها، وفي هذه الأجواء، رفع مقاتلو الشام المصاحف، فتوقَّف القتال[15]، أمَّا الاعتقاد بأنَّ جيش الشام كان على وشك الهزيمة والانهيار وأنَّه رفع المصاحف تخلُّصًا من هذا المأزق، فهو اعتقادٌ مبالَغٌ فيه، هناك روايةٌ واحدةٌ مصدرها أبو مخنف تُوهم أنَّ الأشتر كان يأمل النصر؛ حيث قام بعملية اختراقٍ في صفوف جيش الشام، وأنَّه كان يسير نحو النصر.
الواقع أنَّ غالبية قوَّات عليٍّ وافقوا على وقف القتال[16]، من واقع تعبير قادتهم له حين استشارهم "لم يُصب منَّا إلا وقد أصيب مثلها منهم، وكلٌّ مقروح، ولكنَّا أفضل بقيَّةٍ منهم"[17]، فأدرك عندئذٍ أنَّ الوضع الميداني لقوَّاته أضحى حرجًا بسبب الإرهاق الشديد الذي أصابهم، وأنَّه لم يعد باستطاعتهم المضي في القتال؛ فاتَّخذ قرارًا بوقف الحرب، أمَّا إبراز أنَّه وافق مكرهًا بفعل ضغط القرَّاء أو فئةٍ منهم أو بضغط الأشعث بن قيس، وهو قد دعا قوَّاته إلى تجاهل النداء والاستمرار في القتال بفعل أنَّ فكرة رفع المصاحف خدعة ومكيدة[18] فأمرٌ لا يُمكن القبول به، وبخاصَّةٍ أنَّه قدَّم نفسه منذ البداية على أنَّه رجل سلام، وكان لديه شعورٌ صادقٌ تجاه الحلِّ السلميِّ منذ ما قبل اندلاع القتال.
إنَّ إعادة قراءة أحداث معركة صفين أمرٌ مهمٌّ جدًّا لرصد وضع كلِّ طرف، ولا شكَّ بأنَّ عليًّا ومعاوية رضي الله عنهما أدارا المعركة بشكلٍ ناجح، وحرصًا على الحفاظ على دماء المسلمين ما أمكن، على الرغم من كثرة عدد القتلى، وتميَّز عليٌّ بالشجاعة والصبر في حين ظهر معاوية كقائد سياسي محترف.
يبدو التأثير الشيعي واضحًا في ما تُقدِّمه بعض روايات المصادر من صورة عليٍّ رضي الله عنه البطل الخارق ذي القوَّة الجسدية الهائلة، ورجل المآثر والمواقف الصعبة، الذي قابل الإساءة بالإحسان؛ إذ سمح لقوَّات الشام بالوصول إلى ماء الفرات في الوقت الذي أصرَّ معاوية على منع أهل العراق من الوصول إليه، الحريص على دماء المسلمين؛ إذ حاول إقناع معاوية بوقف القتال، ولم يؤذِ النساء، ولم يأخذ أموال أهل الشام بغير وجه حق، وهو الرجل المتسامح الذي يأمر بإطلاق سراح الأسرى، وتُصوِّر قادته بأنَّهم ذوو مهاراتٍ عسكريةٍ خارقة، ومقاتلون متميِّزون مخلصون يرفضون خيانة قائدهم ومصرهم، ومستعدُّون لبذل أرواحهم ثمنًا لانتصاراتهم. وتُصوِّر معاوية -في المقابل- بالرجل الذي فرَّط بدماء المسلمين، ويرفض الاستجابة لدعوات عليٍّ رضي الله عنه المتكرِّرة بالموادعة ووقف القتال، ويحثُّ قوَّاته على القتل والتنكيل، ويفتقد إلى المزايا العسكرية التي تُؤهِّله ليكون قائدًا؛ فهو يخشى مبارزة عليٍّ رضي الله عنه، وسرعان ما يُفكِّر بالفرار من ساحة المعركة عندما يشتدُّ ضغط الجبهة العراقية على قوَّاته، ولا يُشارك معسكره في القتال بل "يجلس وعلى رأسه رجلٌ قائم، معه ترس ذهب يستره من الشمس، وهو إنسانٌ مخادعٌ عديم الرحمة، يعرض الرِّشوة باستمرار على قيادات عليٍّ رضي الله عنه وجنده بهدف سلخهم واستقطابهم، كما أنَّه يرفض دفن جثث القتلى العراقيين، ويدعو إلى قتل الأسرى، وتتصف قيادات عسكره بالجبن والخداع وفي مقدِّمتهم عمرو بن العاص الذي اقترح فكرة رفع المصاحف بهدف وقف القتال بعد أن مالت كفَّة المعركة لصالح عليٍّ رضي الله عنه، وتصف قبائل الشام بالمتردِّدة؛ لأنَّها لا تُقاتل عن إيمان وإنَّما تُقاتل عن حميَّة، وأبرزت أنَّ موازين القوى في ساحة المعركة كانت لصالح عليٍّ رضي الله عنه في حين أنَّ معسكر معاوية رضي الله عنه كان على وشك الهزيمة[19].
الواقع أنَّ هذا الأمر لا يُمكن قبوله، خاصَّةً أنَّ مختلف الروايات قدَّمت معلوماتٍ مهمَّةً عن الأوضاع الصعبة التي كان يُعانيها طرفا القتال في المعركة.
التحكيم وظهور فرقة المحكِّمة
كان رفع المصاحف من قِبَل مقاتلي أهل الشام بمثابة دعوة إلى التعقل، ووقف القتال بين المسلمين، واتخاذ القرآن حكمًا بين الطرفين المتخاصمين "كتاب الله يحكم بيننا وبينكم"، وسوف يترتب على ذلك مسألتان مترابطتان، ومتعاقبتان في الزمن؛ الأولى وقف القتال، والثانية اللجوء إلى التحكيم، وإذا كنا قد تحدَّثنا عن المسألة الأولى فسوف نبحث هنا المسألة الثانية.
الواقع أنَّ رغبة السلام كانت قويَّة لدى غالبية جيش عليٍّ رضي الله عنه لدرجة أن هؤلاء تقبلوا المفاوضات الأولية التي جرت بين الأشعث ومعاوية لوضع أسس التحكيم التي آلت إلى اختيار حكمين للنظر في الخلاف بمقتضى القرآن، ويبدو أنَّ هذه القضية هي التي أثارت عامَّة القرَّاء أو بعضهم، ودفعتهم إلى رفضها. وهكذا تبدَّل موقفهم مباشرةً بعد اتفاق الطرفين على قبول وقف الحرب، وقبل الخوض في التفاصيل الخاصَّة بعملية التحكيم، وقد بلغ عدد الرافضين زهاء أربعة آلاف "من ذوي بصائرهم، والعبَّاد منهم"[20].
الراجح أنَّ هؤلاء الرافضين لمبدأ التحكيم اعتقدوا حين امتثلوا لحكم القرآن أنَّ دورًا ما سيوكل إليهم لإصدار الحكم من خلال مضمونه، مع رفضهم تدخل البشر في هذا الحكم، أو أنَّهم كانوا يطرحون مسبقًا أنَّ القرآن يدين معاوية رضي الله عنه؛ لأنَّه يُمثِّل الفئة الباغية ولا بُدَّ من قتاله، وأنَّ رفعه المصاحف كان نوعًا من الاستسلام[21]، أو أنَّهم أدركوا أنَّهم تسرَّعوا كثيرًا في هذا الأمر الذي حمل في طيَّاته بشائر النصر لمعاوية، ممَّا يُهدِّد مصالحهم بشكلٍ أعظم من ذي قبل، ومنذ هذه اللحظة حصل الانقسام في جيش عليٍّ t[22].
عندما جال الأشعث بن قيس بين المقاتلين ليروِّج لفكرة التحكيم، تعرَّض للاغتيال؛ حيث اندفع الرافضون أمامه يصرخون في وجهه "لا حكم إلَّا لله"، فعُرفوا بالمحكِّمة، وأعلنوا توبتهم عن قبول وقف القتال وطالبوا عليًّا أن يستأنف الحرب[23].
مهما يكن من أمر فقد جرى اختيار حكمين هما: أبو موسى الأشعريِّ ممثِّلًا عن أهل العراق، وعمرو بن العاص ممثِّلًا عن أهل الشام، وإذا كان هذا الأخير يُعدُّ حليفًا قويًّا لمعاوية، فإنَّ الأوَّل يُجسِّد التوجُّه الحيادي الذي لازمه في الكوفة من قبل، حين دعا الكوفيين إلى عدم مبايعة عليٍّ الذي عزله، كما كان قد حذر من الفتنة، والواقع أنَّه فُرِض على عليٍّ من جانب الأشتر وأغلبية المقاتلين الذين عارضوا رغبته في اختيار عبد الله بن عباس، ويبدو أنَّ لذلك علاقةً بمدى قرابته منه، بالإضافة إلى أنَّه رجلٌ تقيٌّ يثق به أهل العراق وأهل الشام، وهو على مسافةٍ واحدةٍ من كلا الطرفين المتنازعين[24].
الواضح أنَّ اختيار أبي موسى الأشعريِّ أحدث نقلةً نوعيَّةً سلبيةً في الصراع، وشكَّل منعطفًا حاسمًا في موقف جيش العراق، وذلك بفعل أنَّه تحوَّل إلى الحياد في النزاع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، وهو الموقف القديم للكوفيين الذين تنكَّروا لعليٍّ في وقعة الجمل، ويبدو أنَّ هذا الانقلاب جاء نتيجة خيبة أمل العراقيين من تحقيق النصر.
وثيقة التحكيم
كتب الطرفان بينهما وثيقة التحكيم يوم الأربعاء (13 صفر سنة 53ه= 31 يوليو 657م)، كتبها عبد الله بن رافع كاتِب علي رضي الله عنه، وعمير بن عباد الكناني كاتِب معاوية رضي الله عنه، وتتضمَّن تسليم الطرفين المتنازعين أمرهما لحكم القرآن، وأنَّ الحكمين المذكورين في النصِّ[25] ملزمان بالتقيد بحكم القرآن أيضًا، وحُدِّد الأجل بثمانية أشهر ينتهي في شهر (رمضان 37هـ= فبراير 658م)، وبقي مكان اللقاء غامضًا "مكان وسط بين أهل الكوفة، وأهل الشام"، قبل أن يتأرجح بين دُومة الجندل وأذرح الأكثر توسُّطًا[26]، والملفت في هذه الوثيقة أمران:
الأوَّل: أنَّها تجاهلت القضية الأساسية التي ارتكز عليها صراع عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، وهي القصاص من قتلة عثمان بن عفان، ويبدو أنَّ معاوية رضي الله عنه نجح في تحويل المسألة إلى قضيَّةٍ سياسيةٍ بينه وبين عليٍّ رضي الله عنه في الصراع على السلطة، وعلى هذا النحو سيتطور التحكيم.
الثاني: رفض معاوية بن أبي سفيان كتابة "أمير المؤمنين" بجانب اسم عليٍّ رضي الله عنه؛ لعدم اعترافه بذلك، ولم يصر عليٌّ على ذلك ممَّا عُدَّ تنازلًا من عليٍّ عن الخلافة؛ لأنه وضع نفسه على قدم المساواة مع معاوية رضي الله عنه، ولم يعد سوى رئيس العراقيين وشيعتهم، تمامًا مثلما كان معاوية زعيم أهل الشام وشيعتهم، وقد أتاحت هذه الخطوة طرح مصطلح الشورى، وعزَّز من إصرار معاوية رضي الله عنه على تطوير محاور صراعه مع عليٍّ رضي الله عنه، وأعطاه غطاءً شرعيًّا للخروج على خلافته وعدم الاعتراف بها[27].
هكذا من خلال حلقاتٍ جاءت متعاقبة ومتداخلة بدءًا بقبول التحكيم إلى فرض أبي موسى الأشعري ممثِّلًا له، إلى التخلي عن إمرة المؤمنين؛ كان عليٌّ يفقد أوراقه تباعًا، ويتراجع إلى أن يُصبح ومعاوية رضي الله عنه ندَّين متنافسين على الخلافة، بعد أن كان قبل ذلك يُقاتله بوصفه خارجًا على حكمه[28].
دعا عليٌّ قوَّاته بعد يومين من إنجاز وثيقة التحكيم للعودة إلى الكوفة، بعد أن أمر بدفن القتلى وإطلاق سراح الأسرى، فعاد إلى الكوفة في شهر (ربيع الأول 37هـ= يوليو-أغسطس 657م)[29].
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] ابن قتيبة: 1/87، والبلخي: 2/224، والمسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 2/384، وابن مزاحم: ص157.
[2] ابن قتيبة: المصدر نفسه.
[3] البلاذري: 3/80.
[4] الطبري: 4/563-575.
[5] البلاذري: 3/84، والطبري: 5/5-10، وابن الأثير: 2/641- 644.
[6] جعيط: ص198.
[7] البلاذري: 3/86، وابن مزاحم: ص227-229، 243-246.
[8] الطبري: 5/17-48 حيث تفاصيل مسهبة عن سير العمليات العسكرية، البلاذري: المصدر نفسه: ص85، 86، ص91-107.
[9] جعيط: ص201.
[10] ابن مزاحم: ص302، 481-498.
[11] ابن قتيبة: 1/97.
[12] المصدر نفسه: ص93-94.
[13] ابن قتيبة: 1/92، 93، والبلاذري: 3/87، 88.
[14] ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص97، 98، وابن مزاحم: ص485.
[15] ملحم: ص270.
[16] عارض الأشتر النخعي وعدي بن حاتم وقف القتال في حين وافق سعيد بن قيس زعيم الهمدانيين، وأغلبية زعماء ربيعة.
[17] ابن مزاحم: ص482.
[18] الطبري: 5/48، 49.
[19] ابن قتيبة: 1/88، 89، 95، 103، والبلاذري: 3/81، 82، 110، والطبري: 4/469-572، 5/5-56، والمسعودي: 1/386، واليعقوبي: 1/87-89، وابن مزاحم: ص191، 258، 259، 334.
[20] البلاذري: 3/112.
[21] المصدر نفسه: جعيط: ص210.
[22] المصدر نفسه.
[23] الطبري: 5/55.
[24] الطبري: 5/51، وابن قتيبة: 1/105، وابن مزاحم: ص499، والمسعودي: 2/412.
[25] انظر النص عند الطبري: 5/53، 54، 56، 57.
[26] المصدر نفسه: ص54-57.
[27] ملحم: ص280.
[28] بيضون: ص86.
[29] البلاذري: 3/111.
التعليقات
إرسال تعليقك