التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من الأمور اللافتة جدًّا في حركة الفتوح الإسلامية اعتناق الشعوب المختلفة لدين الإسلام في غضون سنوات قليلة.
سرعة إسلام الشعوب المختلفة في البلاد المفتوحة (فارس، والشام، ومصر، وغيرها):
من الأمور اللافتة جدًّا في حركة الفتوح الإسلامية اعتناق الشعوب المختلفة لدين الإسلام في غضون سنواتٍ قليلة، وذلك على الرَّغم من قلَّة أعداد الفاتحين، وعلى الرَّغم من تجذُّر الديانات والثقافات الأخرى في هذه الشعوب المختلفة، وعلى الرَّغم كذلك من أنَّ غالب هذه الشعوب كانت لها حضاراتٌ تسبق حضارة العرب قوَّةً ومجدًّا وإنتاجًا. إنَّ هذا أمرٌ يحتاج إلى وقفاتٍ وتحليل، ولكنَّنا في هذا المختصر نُشير إلى بعض الأمور التي أسهمت في «سرعة» قبول الشُّعوب لتغيير دينها والارتباط بالدِّين الجديد؛ الإسلام.
أوَّلًا: منطقيَّة العقيدة الإسلاميَّة:
تتوافق العقيدة الإسلاميَّة مع الفطرة الإنسانيَّة بشكلٍ دقيق؛ وهكذا كانت الديانات السماويَّة السَّابقة قبل تحريفها، فلمَّا وجدت الشعوب هذه العقيدة الواضحة، والفكرة السليمة، قَبِلَتها -في أغلب الأحايين- دون تردُّد، وأسرعت إليها دون تأخير. هذه فطرةٌ إنسانيَّةٌ سويَّة خلقها الله متوافقةً مع الشَّرع الذي أنزله، وعندما يرى النَّاس الشَّريعة على حقيقتها يُسرعون إليها؛ لأنَّهم في الواقع «يحتاجون» إليها. قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
إنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة المتكاملة تُجيب الشُّعوب عن الأسئلة الحائرة التي يعيشونها، وتُوفِّر لهم الوضوح النقيَّ عن فلسفة الحياة والموت، وتفرض عليهم الفروض التي تُصْلِح حياتهم ومعيشتهم، وتُنظِّم بينهم العلاقات على أساسٍ عادلٍ لا انحياز فيه لطائفةٍ أو عنصر، كما تُبرِز لهم بوضوح المستقبلَ الذي هم مقبلون عليه بعد الموت، فيشعر الإنسان أنَّه غير ضائعٍ في هذا الكون؛ إنَّما هو متابَعٌ بدقَّةٍ من إلهٍ قديرٍ حكيم، وأنَّه عائدٌ إليه ليُجازيه على ما فعل في الدُّنيا وَفْقَ المنهج الذي شرعه له.
أحسبُ أنَّ هذا هو السبب الرئيس وراء إسلام الشُّعوب بسرعةٍ بعد الفتح بشهورٍ قليلةٍ أو سنوات. إنَّ الشُّعوب كانت كعطشى في الصحراء كادوا يهلكون لافتقارهم إلى الماء، فلمَّا وجدوه لم يكن من المنطقيِّ أن يتردَّدوا في شربه، بل انطلقوا إليه مسرعين، وهذه هي الفطرة السَّويَّة.
ثانيًا: التَّبشير بالإسلام في الرِّسالات السَّابقة:
لا بُدَّ ونحن نُحلِّل مسألة «سرعة» إسلام الشعوب أن ننتبه إلى الفترة التاريخيَّة التي نحن بصدد تحليلها؛ فهذه المرحلة كانت تشهد ترقُّبًا من رجال الدين وعلماء العقيدة ينتظرون فيها ظهور نبيٍّ جديد بدينٍ خاتم. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157].
لم يكن العلماء المتخصِّصون يُخْفون هذه الحقيقة لأنَّهم لم يكونوا يعرفون على وجه التحديد «عنصر» هذا النبيِّ الجديد، وكانت كلُّ طائفةٍ تتمنَّى أن لو كان منها، فلمَّا بُعِثَ النبيُّ ﷺ تباينت ردود فعل العلماء والقادة؛ فمنهم من آمن به، ومنهم من صدَّ عنه، أمَّا الشُّعوب، التي لا تُعوِّقها مصلحة، ولا يمنعها كِبْرٌ، فقد أيقنت أنَّ هذا هو الرَّسول الذي انتظروه سنواتٍ طويلة، فأسرعوا إلى الإيمان به. عند مراجعة كلمات النجاشي، أو هرقل، أو المقوقس، أو كلمات القساوسة النصارى، ورجال الدين اليهودي، عند سماعهم بأمر النَّبيِّ ﷺ، نجد اليقين الكامل أنَّ هذا هو النبيُّ المنتظر، ولكن تفاوتت ردود فعلهم تبعًا لتمسُّكهم بمناصبهم ودنياهم. الشَّاهد من هذه النقطة أنَّ الشعوب لم تُفَاجَئ بالإسلام، ولم تُذْهَل عند رؤية الجيوش الفاتحة القليلة تُحقِّق النصر على الأعداد الغفيرة من الأعداء؛ إنَّما نظروا إلى الأمر بواقعيَّةٍ في إطار المعجزة التي كانوا يتوقَّعون ظهورها، وهذا دفع كثيرًا منهم إلى الإسلام دون تردُّد.
هذا التحليل الذي ذكرناه ينطبق بشكلٍ أكبر وأوضح على الشام ومصر وشمال إفريقيا، وهي البلاد التي كانت تدين بالنصرانيَّة وقت الفتح، وبالتالي يتوقَّعون ظهور نبيِّ آخر الزمان، أمَّا بلاد فارس فكانت وثنيَّةً تعبد النَّار، وبالتالي افتقرت إلى هذه البشارات، ومع أنَّهم أسلموا سريعًا أيضًا لعوامل أخرى، إلَّا أنَّ إسلام أهل الشام ومصر كان أقوى، على الأقل في هذه المرحلة التاريخيَّة، وقد يكون هذا راجعًا من جانبٍ إلى غياب التهيئة النَّفسيَّة لظهور نبيٍّ في هذا الوقت. أيضًا كان الفرس يعتزُّون بفارسيَّتهم وقوميَّتهم لكون حكَّامهم من عنصرهم الفارسيِّ نفسه، فكان ترك العقيدة الفارسيَّة إلى الإسلاميَّة أمرًا صعبًا عليهم، بخلاف الشعوب الشاميَّة والمصريَّة التي كانت تُحْكَم بالرومان، فكان زوالهم أمرًا عاديًّا، بل سعيدًا بالنسبة إليهم، ولم تكن هناك الحساسيَّة التي رأيناها في بلاد فارس. لعلَّ هذا كان له أثرٌ كذلك في انتشار المذهب الشِّيعيِّ في بلاد فارس تحديدًا، وكأنَّ شعوب هذه المنطقة يبحثون عن تميُّزٍ فريدٍ مختلف -ولو نسبيًّا- عن الأمَّة الإسلاميَّة التي أسقطت إمبراطوريَّتهم التليدة!
ثالثًا: أخلاق الفاتحين اللَّافتة:
كانت أخلاق الرَّحمة، والعدل، والأمانة، والوفاء بالعهد، والكرم، وحسن المنطق واللسان، والبشاشة والرُّوح الهادئة، كانت كلُّ هذه الأخلاق شيئًا فريدًا لافتًا للجيش الفاتح الجديد! لقد اعتادت الشعوب على رؤية القادة المظفَّرين في ثوب القساة غلاظ القلب، واعتادوا على معايشة مشاهد الظلم والقهر والبطش من كلِّ المحتلِّين بصرف النظر عن جنسيَّتهم. هكذا كان الرومان، والفرس، والإغريق، وهكذا كان مَنْ سبقهم من المحتلِّين في التاريخ. أمَّا الصورة التي ظهر بها المسلمون فهي غريبةٌ جدًّا على المنتصرين، وكان لا بُدَّ للشُّعوب أن تتساءل عن سرِّ هذه الملاحظة النادرة، وكان من السهل أن يجدوا الإجابة في «دين الإسلام»؛ لأنَّهم يعرفون العرب قبل الإسلام، ويُدركون أنَّ هذه الصِّفات الرائعة التي يرونها في الجيش الفاتح ليست هي الصفات الأصيلة في هذه الشعوب؛ إنَّما هي صفاتٌ مكتسبةٌ نتيجة هذا الدِّين الجديد. هذا دفع الشُّعوب إلى اعتناق هذا الدِّين الذي كان له الفضل في هذا التغيُّر المحوري في حياة العرب. شهد بهذا الأمر العربُ أنفسهم قبل غيرهم، وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يشهد بذلك أمام النجاشي، فيصف التحوُّل الأخلاقي الذي صار عليه العرب بعد الإسلام بقوله: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، «فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ»[1].
في الواقع كانت الشعوب الأخرى تستهين بأمر العرب، ولا ترى لهم فضلًا يمكن أن يجعل الرَّسول المنتظر منهم، ولا أنَّ لهم شأنًا يمكن أن يرتفع مهما تغيَّرت الظروف، وقد صرَّح قادة هذه الشعوب بذلك، كاشفين عن رؤيتهم لأمَّة العرب قبل الإسلام؛ فهذا هرقل يقول عن النبيِّ المنتظَر: «.. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ»[2]. وقال قادة الفرس عندما رأوا براعة الدبلوماسيِّين المسلمين في الحوار والحجَّة: «قَاتَلَ اللهُ أَوَّلينَا، مَا كَانَ أَحْمَقَهُمْ حِينَ كَانُوا يُصَغِّرُونَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ»[3]! هكذا كان واضحًا للشعوب المختلفة أنَّ التغيُّر الذي حدث للعرب كبيرٌ ولافت، وأدرك أسوياء الفطرة أنَّ السَّبب هو الإسلام لا غير، فأسرعوا إليه دون تكاسل.
رابعًا: وضوح الرؤية عند الفاتحين المسلمين:
لم ينظر الفاتحون المسلمون قط إلى الفتوح على أنَّها توسُّعٌ يهدف إلى زيادة الأرض، وتكثير الثَّروة، وتعظيم السُّلطة؛ إنَّما كانوا يتحرَّكون لهدفٍ كبيرٍ يعملون له بإخلاصٍ شديد، وهو نشر دين الله في الأرض، وإبلاغ العالمين برسالة الله لهم. عَبَّر عن ذلك رِبْعِي بن عامر رضي الله عنه في حواره مع رَسْتَم قائد الفرس بكلمته المشهورة: «اللهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ»[4]. هذه المهمَّة النبيلة لم تَغِبْ عن ذهن الصحابة وهم يتحرَّكون في المشارق والمغارب، ولهذا كانوا حريصين على فعل كلِّ شيءٍ يُساعد على النجاح في هذه المهمَّة الأصيلة لهم. هذا دفعهم إلى التنازل كثيرًا عن حقوقٍ لهم، ودفعهم إلى التساهل مع الشُّعوب في كثيرٍ من القضايا، وإلى تغليب الظنِّ لصالح غير المسلمين لا لصالح المسلمين، وما أحداث إرجاع الجزية لأهل حمص أو دمشق بخافية عن أحد، وما أحداث اعتبار فتح الإسكندرية أو بابليون صلحًا مع كونه تمَّ عنوةً بخافيةٍ كذلك عن أحد، وإنَّما فعلوا ما فعلوا تألُّفًا لقلوب الناس، وتقريبًا لهم للإسلام، فحَقَّق الله لهم -لمـَّا اطَّلع على الإخلاص في قلوبهم- ما أرادوا من خيرٍ للشعوب، فتسارعوا للإسلام على أيديهم.
لقد ظلَّ عمر رضي الله عنه على آخر عهده حريصًا على عدم تحميل الشعوب ضريبةً مُرْهِقة، فعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ، وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ب[5]، قَالَ: «كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ[6] مَا لاَ تُطِيقُ؟ قَالاَ: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ. قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ. قَالَ: قَالاَ: لاَ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللهُ، لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ العِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ..»[7]!
وعن جُوَيْرِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ التَّمِيمِيِّ رضي الله عنه[8]، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قُلْنَا: أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللهِ[9]، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ[10]»[11].
وفي وصيَّة عمر رضي الله عنه للخليفة من بعده، وهو على فراش الموت قال: «.. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ﷺ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ»[12].
خامسًا: قيام المسلمين بالدَّعوة الإيجابيَّة المباشرة:
بعض المسلمين يعتقدون أنَّ الناس سيتعرَّفون على الإسلام من خلال السلوكيَّات الحسنة فقط، ومِنْ ثَمَّ فهم لا يجتهدون في التَّعريف المباشر بدين الإسلام، ولكن في الواقع لم يكن الجيل الأوَّل الذي فتح البلاد على هذه الصورة؛ إنَّما كانوا -إلى جوار سلوكيَّاتهم الرَّائعة، وأخلاقهم الباهرة- «يتكلَّمون» في أمر الدِّين، ويجتهدون في شرح العقيدة، ويصرفون الأوقات في تعليم النَّاس الشَّريعة. لم يكن المسلمون يتحرَّكون للفتح بجنودٍ وأسلحةٍ فقط؛ إنَّما كانوا يصطحبون العلماء، والفقهاء، ويحملون القرآن والكتب، ويجتهدون في مقارعة الحجَّة بالحجَّة في ميادين الكلام والخطابة كما يُقارعون السَّيف بالسَّيف في ميادين الجهاد والنزال.
من اللافت للنظر أن نجد أنَّ الصحابة العلماء تركوا المدينة ومكة، على عِظَمِ الأجر في المكوث فيهما، وعلى روعة البيئة التي يحيونها هناك بين الصحابة والذكريات النبويَّة، وذهبوا ليستوطنوا في البلاد المفتوحة، لينشروا الإسلام بشكل علمي ومدروس بين أهلها. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُدرك قيمة هذا التصدير للصحابة إلى خارج العاصمة المدينة، ويذكره في كلماته، وها هو يوضِّح قيمة إرسال حَبْرٍ كبيرٍ مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى الكوفة؛ فعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: «إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ عَمَّارًا أَمِيرًا، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ مُعَلِّمًا وَوَزِيرًا، وَهُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، فَاقْتَدُوا بِهِمَا، وَاسْمَعُوا مِنْ قَوْلِهُمَا، وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللهِ عَلَى نَفْسِي»[13]. وما قلناه عن الوضع في الكوفة نقوله على كلِّ البلاد المفتوحة؛ فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يستوطن البصرة، وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يعيش في الشام، وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يسكن في مصر، وهكذا، فكان هذا التعليم المباشر، وهذه الدَّعوة الإيجابيَّة، سببًا في وصول العقيدة الإسلاميَّة إلى الشعوب بشكلٍ واضحٍ ودقيق، وهذا أسهم في سرعة إسلامهم.
سادسًا: إنشاء المدن الإسلاميَّة الخالصة:
دأب المسلمون على إنشاء مدنٍ كاملةٍ في عدَّة بلادٍ مفتوحة، فأنشئوا البصرة والكوفة في العراق، وأنشئوا الفسطاط في مصر، وسيُنشئون القيروان في تونس، هذا بخلاف التجمُّعات الإسلاميَّة التي كان المسلمون يقومون بها في بعض الأحياء من المدن القديمة الكبرى كدمشق، وحمص، والإسكندرية، وطرابلس. هذه «المجتمعات» المسلمة الخالصة كانت تُقَدِّم النموذج الحضاري الإسلامي الصادق، فكانت أبلغ دعوة للشعوب، وكانت أوضح طريقة لتعريف البشر بمنهج الإسلام الصحيح. هذه المجتمعات المسلمة تُظْهِر للناس تأثير الإسلام على التاجر والصانع والمزارع، وتُظْهِر تأثيره على الزوج والزوجة والأولاد، وتُظْهِر تأثيره كذلك على علاقة الجار بجاره، والغني بالفقير، والكبير بالصغير، والحاكم بالمحكوم. إنَّ هذه المدن والمجتمعات كانت الدعوة الحقيقيَّة للشعوب؛ حيث تحوَّلت فيها القواعد النظريَّة الموجودة في القرآن والسُّنَّة إلى واقعٍ حيٍّ ملموس يعيشه المسلمون.
سابعًا: الفساد الظاهر الذي كانت عليه القيادات العالميَّة قبل الإسلام:
من تقديم الله تعالى للإسلام، ومن تمهيده لقبول الشعوب لدينه الجديد وشريعته الخاتمة، أن شاء سبحانه أن تكون قيادات العالم في الوقت الذي سبق الإسلام مباشرةً على درجةٍ كبيرةٍ جدًّا من الفساد والضلال، فتكون المقارنة بينهم وبين المسلمين، وبين مناهجهم ومنهج الإسلام، واضحةً جليَّةً لا تحتاج إلى مجهودٍ كبيرٍ للحسم. كان الفساد مستشريًا في أروقة الحُكْمِ في فارس، والشام، ومصر، وغيرها، ولم يكن الناس يُقارنون بين روعة الإسلام وبين مناهج يحزنون على فراقها، أو قادةٍ يتمنُّون بقاءهم؛ إنَّما كانت الشعوب في الواقع تترقَّب «الفرصة» التي تتخلَّص فيها من نير الظلم الذي تُعانيه. كان هذا من تمهيد ربِّ العالمين للناس لقبول الإسلام، وهو شبيهٌ جدًّا بالوضع المرِّ الذي كانت تعيشه يثرب قبل هجرة الرسول ﷺ إليها، فالدَّمار والخراب الذي كان يشمل أوجه الحياة لفت أنظار الناس إلى روعة الإسلام الذي يختلف كلِّيَّةً عن هذا الوضع المتردِّي، ولو كان وضع البلاد سعيدًا قبل الإسلام فلعلَّ الناس لم تُرِد التغيير؛ فهذه الأزمات التي واجهتها الشعوب قبل الإسلام من قادتها والمتحكِّمين في أمورها، كانت من الوسائل المساعدة على سرعة إسلام الشعوب، وهذا أمرٌ لاحظته أمُّ المؤمنين عائشة، فقالت وهي تصف يوم بعاث، وهو اليوم الذي اشتعل بالصراع بين الأوس والخزرج، وسالت فيه دماء الفريقين: «كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ﷺ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ[14] وَجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ﷺ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ»[15]! لقد كان الخراب يوم بعاث سببًا في إسلام أهل يثرب، وتحوُّل بلدهم من «يثرب» التي لا يسمع عنها أحدٌ في العالم، إلى «المدينة» عاصمة أقوى دولةٍ في العالم في هذه الحقبة! هكذا أيضًا كان فساد الفرس والرومان سببًا في قناعة الشعوب بدين الإسلام، والأمور كلها تجري بالمقادير!
[1] أحمد (1740)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق، وقد صرَّح بالسماع. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 6/27.
[2] البخاري: كتاب التفسير، سورة آل عمران، (4278).
[3] الطبري: تاريخ الرسل والملوك (دار التراث)، 3/522.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية، 9/622.
[5] كانا مكلَّفَيْن بجباية الخراج والجزية من العراق.
[6] أي سكَّان الأرض من أهل العراق غير المسلمين.
[7] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه (3497).
[8] صحابي، وهو نفسه جارية بن قدامة.
[9] أي أهل الذِّمَّة من غير المسلمين.
[10] أي بالإضافة إلى أنَّ شرع النبيِّ ﷺ يُوجِب عليكم الوفاء بالعهد لهم، فإنَّكم مستفيدون الجزية التي تُصلحون بها معاشكم ومعاش أولادكم.
[11] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب الوصايا بأهل ذمة رسول الله ﷺ (2991).
[12] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون (2887).
[13] الحاكم: كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه، (5663)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير، 9/86 (8497)، واللفظ له، وقال ابن كثير: إسناده قوي صحيح. ابن كثير: مسند الفاروق أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم، 3/108، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير حارثة، وهو ثقة. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/291.
[14] سادتهم.
[15] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الأنصار، (3566)، وأحمد (24365).
التعليقات
إرسال تعليقك