التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعف، مقال د. راغب السرجاني، يتناول زرياب وثورة عمر بن حفصون والانفتاح على الدنيا وأسباب ضعف الإمارة الأموية بالأندلس
فترة الضعف في الإمارة الأموية
بوفاة عبد الرحمن الأوسط رحمه الله يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية، ويبدأ من سنة (238هـ=852م) وحتى سنة (300هـ=913م) أي حوالي اثنتين وستين سنة.
فلقد تولَّى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، ثم اثنان من أولاده؛ هما: المنذر وعبد الله، وحقيقة الأمر أن الإنسان لَيَتَعجَّب: كيف بعد هذه القوَّة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وذلك الانحدار؟!
فمن سُنن الله U أن الأمم لا تسقط فجأة، بل يأتي السقوط متدرِّجًا وعلى فترات طويلة، ففي عهد الولاة الثاني ظهرت أسباب الضعف؛ منها:
أولاً: انفتاح الدنيا وحبُّ الغنائم.
ثانيًا: القَبَلِيَّة والقومية.
ثالثًا: ظلم الولاة.
رابعًا: ترك الجهاد.
وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوَّة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.
إذًا لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف، والأمراض التي أدَّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني.
عوامل وأسباب ضعف الإمارة الأموية
كان من أهمِّ أسباب ضعف الإمارة الأموية ما يلي:
أولاً: كثرة الأموال وانفتاح الدنيا على المسلمين
من جديد كانت الدنيا قد انفتحت على المسلمين، وكثرت الأموال في أيديهم، وقد زاد هذا بشدَّة في أواخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد ازدهرت التجارة كثيرًا، ولم يُوجد هناك في البلاد فقير، وفُتِنَ الناسُ بالمال، وتكرَّر ثانية حديث رسول الله r: «فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[1]. وقال -أيضًا-: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»[2] وقد حذَّر الرسول r من الدنيا مِرارًا وتكرارًا وقلَّل من قيمتها، فكان يقول r: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ[3] فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» [4].
ثانيًا: زِرْياب
اسم ليس بغريب لكنه كان كدابَّة الأرض التي أكلت مِنْسأَةَ سليمان u؛ فسقط جسده على الأرض؛ زِرْياب هذا كان من مطربي بغداد، تربَّى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء؛ حيث كان يُغَنِّي لهم ويُطربهم، وكان مُعَلِّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت[5].
ومع كرِّ الأيام ومرِّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبَّر له مكيدة فطُرِدَ من البلاد، أو أنه هدَّده فهرب زرياب من نفسه دون مكائد كما في روايات أخرى.
وكانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًّا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد زرياب ضالَّته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، كما تكون -أيضًا- أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم[6].
وغالب الأمر أن الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلاَّ أن زرياب ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظَّمُوه وأحسنوا وِفَادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامَّة ونواديهم، فأخذ يُغَنِّي للناس ويُعَلِّمهم ما قد تَعَلَّمَه في بغداد، ولم يكتفِ زرياب بتعليمهم الغناء وتأليف ما يُسمَّى بالموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يُعَلِّمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصَّة بكل مناسبة من المناسبات العامَّة والخاصَّة[7].
ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من زرياب ويَتَعَلَّمُون؛ خاصَّة وأنه قد بدأ يُعَلِّمهم -أيضًا- فنون الطعام كما عَلَّمَهُم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات، وما إلى ذلك حتى تعلَّق الناس به بشدَّة، وتعلَّق الناس بالغناء، وكَثُرَ المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث وهكذا.
الغريب أن دخول زرياب إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي اهتمَّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه -ويا للأسف- ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور، وينخر في جسد الأُمَّة دون أن يدري أحدٌ.
ففي الوقت الذي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثُرَ العلماء، كان كلام زرياب المنمَّق وإيقاعه الرَّنَّان يصرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، ويصرف الناس عن سماع حديث رسول اللهr، وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل - والله - لقد انصرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلُّق بلهوه ومجونه.
وليس هذا بعجيب أو جديد؛ ففي بداية دعوة رسول الله r في مكة، وحين رآه النضر بن الحارث -وكان من رءوس الكفر- يخاطب الناس بالقرآن فيتأثَّرُون ويؤمنون بهذا الدين، ما كان منه إلاَّ أن قطع أميالاً طويلة وذهب إلى بلاد فارس، وقضى هناك فترة طويلة يتعلَّم حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلَّم الأساطير الفارسية، ثم اشترى قينتين (مغنيتين) وعاد إلى مكة، وفي مكة كان النضر بن الحارث يقوم بحرب مضادة للدعوة الإسلامية، فكان إذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له القينتين تُغَنِّيانِه ما كان في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار؛ حتى يُلهياه عن هذا الدين، وظلَّ على هذا النحو، وأنزل الله I فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها ما نزلت إلاَّ في الغناء[8].
وهكذا؛ فالشيطان لا يهدأ ولا ينام حتى في وجود هذه النهضة العلمية؛ {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
وكلما زاد الاهتمام بالدين، وارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وتعلَّقت قلوبهم بالمساجد، نشط الشيطان، وزادت حركته عن طريق زرياب ومَن سار على نهجه.
وإنه بالرغم من مرور أكثر من ألفٍ ومائتي عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد شمال إفريقيا، فلم يسمع الكثير من الناس عن السَّمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم -رحمهما الله- ولم يسمعوا عن عُقبَة بن الحجاج، أو سيرة عبد الرحمن الداخل، أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قادة المسلمين في فارس والروم وفي بلاد إفريقيا والأندلس؛ لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تُغنَّى في تونس والمغرب والجزائر، وما زالت تُدرَّس سيرته الذاتية هناك على أنه رجل من قوَّاد التنوير والنهضة، ويُمَجَّد في حربه ضدَّ الجمود وكفاحه من أجل الفنِّ، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومَنْ سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثالثًا: عمر بن حفصون
عمر بن حفصون (240-306هـ=855-919م) كان مسلمًا من المولَّدين؛ أي: من أهل الأندلس الأصليين، كان عمر بن حفصون قاطعًا للطريق، وكان يتزعَّم عصابة من أربعين رجلاً، وحين بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله زاد حجمه، واشتدَّ خطره، وبدأ يثور في منطقة الجنوب؛ حتى أرهب الناس في هذه المنطقة، وأخذ يجمع حوله الأنصار فتوسَّع سلطانه كثيرًا، فسيطر على كل الجنوب الأندلسي.
وفي سنة (286هـ=899م) قام عمر بن حفصون بعملٍ لم يتكرَّر كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفة عامَّة وتاريخ الأندلس بصفة خاصَّة؛ فلكي يُعَضِّد من قوَّته في آخر عهده، وبعد اثنين وعشرين عامًا من ثورته انقلب على عقبيه وتحوَّل من الإسلام إلى النصرانية، وسمَّى نفسه صمويل؛ وذلك بهدف كسب تأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال، وهو وإن كان قد تركه بعض المسلمين الذين كانوا معه إلاَّ أنه نال بالفعل تأييد مملكة ليون، في الوقت الذي تزامن مع توقُّف الجهاد في ممالك النصارى[9].
بدأت (مملكة ليون) تتجرَّأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال وعمر بن حفصون أو صمويل يُهاجمها من جهة الجنوب.
[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 6061، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق 2961 عن عمرو بن عوف واللفظ له.
[2] الترمذي: كتاب الزهد، باب أن فتنة هذه الأمة في المال 2336، وقال: صحيح غريب. وأحمد 17506، وابن حبان 3223، والحاكم 7896، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[3] أشار أحد رواة الحديث بِالسَّبَّابَةِ.
[4] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 2858 عن المستورد بن شداد، وأحمد 18037، وابن حبان 6265.
[5] المقري: نفح الطيب، 3/123.
[6] انظر: المقري: نفح الطيب، 1/123.
[7] انظر مزيدًا من التفاصيل في المقري: نفح الطيب، 1/133.
[8] انظر: الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، 20/127، والبغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن، 6/284، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 14/53، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 6/332.
[9] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/139.
التعليقات
إرسال تعليقك