التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اهتمَّ خلفاء المسلمين بالتكافل الاجتماعي لبناء مجتمعٍ يتعاون فيه الجميع ويُغاث فيه المكروب والملهوف والمحتاج، مسلمًا كان أو غير مسلم، عملًا بوصايا
التكافل والإغاثة في الخلافة العباسيَّة (132 – 656هـ)
اهتمَّت الدولة العباسية ببناء كيانها الداخلي، فأَوْلَى الخلفاء العباسيُّون أعمال التكافل والإغاثة جُلَّ اهتمامهم، وعلى الرغم من الأحداث السياسيَّة الخطرة التي شهدت بداية هذه الدولة إلَّا أنَّنا نستطيع بقراءةٍ متأنيةٍ لتاريخ الخلافة العباسية أن نرى هذا الجانب واضحًا في حياة الكثير من الخلفاء العباسيِّين، وسنطرح هنا بعض الأمثلة من خلال ما يلي:
عهد المنصور (136 – 158هـ):
عُرف عن الخليفة المنصور حرصه على أحوال الرعيَّة، والاهتمام بأمورهم، حرصًا منه على تيسير أمر كلِّ معسر، والسعي على مصالح الفقراء والمحتاجين، فكان كُتَّاب البريد في عهد الخليفة المنصور يكتبون له كل يوم من أيام خلافته أسعارَ المواد التموينية التي يعيش عليها الناس، وكان ينظر في هذه الكتب، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإذا تغيَّر شيءٌ عن حاله ردَّ عليهم الكتاب، وسأل علَّة ارتفاع الأسعار[1] كي لا يُؤثِّر ذلك على كفاية الفقراء والمحتاجين.
وفي هذا التصرُّف ملمحٌ من ملامح التكافل الاجتماعي مع الرعيَّة؛ لاهتمام الخليفة بأمور المجتمع اليسيرة المؤثِّرة في حياتهم، وحرصه الدائم على التقليل من معاناتهم.
عهد المهدي (158 – 169هـ):
اتَّصف الخليفة المهدي بالجود والكرم وكثرة العطاء للناس، وكان قد بدأ خلافته بأن استخرج الحواصل التي كان أبوه[2] قد ادَّخرها من الذهب والفضة، وكانت من الكثرة بمكان، بحيث لا تحد ولا تُوصف، وفرَّقها في الفقراء والمحتاجين من الناس، ولم يعطِ أهله ولا مواليه منها شيئًا، وكان أبوه قد أوصاه بذلك، وقرَّر لأهله ومواليه أرزاقًا بحسب كفايتهم من بيت المال[3].
وكان للمهدي اهتمامٌ خاصٌّ بأهل مكَّة، وذلك نظرًا إلى وجود البيت الحرام، وكذلك أهل المدينة، لا سيَّما الفقراء والمحتاجين منهم، فكان يزيد في أَعطياتهم ويُطعمهم ويكسوهم. وذكر الطبري أنَّ المهدي قسَّم في أهل مكة في إحدى السنوات مالًا عظيمًا، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنَّه نظر فيما قُسِّم في سُفرةٍ واحدة، فوجد ثلاثين ألف ألف درهم حُملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار فقَسَّم ذلك كلَّه، وفرَّق من الثياب مائة ألف ثوبٍ وخمسين ألف ثوب[4].
كما أمر المهدي أيضًا أن يُجرى على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق، فيتم الإنفاق على خدمتهم، والقيام على أمرهم[5].
عهد هارون الرشيد (170 – 193هـ):
شيَّد هارون الرشيد مستشفًى كبيرًا أُطلق عليه بيمارستان الرشيد[6]، وكان يقبل في هذا البيمارستان كلَّ مريضٍ يحتاج للمعالجة، بغض النظر عن لونه أو دينه أو مقامه، ذكرًا كان أم أنثى، ويُعالج المريض مجانًا طيلة كونه في المستشفى، وعند مغادرته بعد شفائه يُعطى بدلة من الثياب ومبلغًا من النقود يكفيه العوز إلى أن يصبح قادرًا على العمل، والذي يموت في البيمارستان يُجهَّز ويُدفن على حساب البيمارستان، وتُسدُّ مصاريف المستشفى كلُّها من الأوقاف الخاصَّة بها؛ لأنَّ إيراد هذه الأوقاف كثيرةٌ وكافيةٌ للقيام بحاجات المستشفى جميعها[7].
وكان الرشيد يتصدَّق كلَّ يومٍ من صلب ماله بألف درهم سوى العطايا التي كانت تهطل على الناس منه، ولم يُرَ خليفةٌ قبله كان أَعْطَى منه للمال[8].
كما انتشرت في عهد الرشيد مكاتب السبيل، وهي عبارةٌ عن مدارس داخليَّة للأيتام وأولاد الفقراء، وأقدم مكتب سبيل يذكره المؤرِّخون هو الذي أسَّسه يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد الأوَّل ببغداد في القرن الثاني الهجري[9].
وتُعدُّ السيدة زبيدة بنت جعفر (ت 216هـ) زوج الرشيد من فُضليات النساء وشهيراتهن، وإليها تُنسب (عين زبيدة) في مكَّة جلبت إليها الماء من أقصى وادي نعمان شرقي مكَّة، وأقامت له الأفنية حتى أبلغته مكة، فقد أسالت الماء عشرة أميال تخط الجبال وتجوب الصخر حتى غلغلته في الحلِّ إلى الحرم، وهي التي سقت أهل مكَّة بعد أن كانت الرَّاوِية عندهم بدينار[10].
كما كان لها -أيضًا- بِرٌّ وصدقات وآثار حميدة في طريق الحج، حيث أنفقت في حجِّها بضعًا وخمسين ألف ألف درهم[11].
وقامت كذلك بتمهيد طريق الحج، وعن هذا الطريق يقول ابن جبير: "وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدَّة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كلَّ سنةٍ من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيلٌ بمجازاتها، والرضا عنها"[12].
عهد المعتصم (218 – 227هـ):
من صور الاستغاثة البارزة في عهد الخلفاء العباسيين، تلك الاستغاثة الشهيرة، التي استغاثت فيها امرأةٌ بالخليفة "المعتصم"، فَلَبَّى نداءَها على الفور، وكانت سببًا في فتح مدينة عمورية؛ فقد ذكر ابن الأثير في "الكامل" أنَّ المعتصم بلغه أنَّ امرأةً مسلمةً صاحت وهي أسيرةٌ في أيدي الروم "وامعتصماه"، فأجابها وهو جالسٌ على سريره: لبيك، لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير! وأشهد القضاة والشهود على ما وقف من الضياع، وغزا "عمورية"[13]، وذلك في جمادى الآخرة سنة 223هـ.
وفي هذا صورةٌ فريدةٌ من صور الغوث والإعانة؛ إذ لم يكن الغوث لقبيلةٍ أو دولة، وإنَّما ردٌّ لاستغاثة امرأة مسلمة، طلبت غوث خليفة المسلمين آنذاك، وهو ما يعكس -أيضًا- قوَّة الدولة الإسلامية يومئذٍ؛ إذ كانت قادرةً وحريصةً على إغاثة كلِّ مكروب، وفكِّ مصيبة كلِّ مصابٍ فورًا.
عهد المعتضد (279 – 289هـ):
اهتمَّ المعتضد بطبقة الزراَّع بشكلٍ خاص، وقدَّم لهم مساعدات عديدة لزراعتهم، كما كان يُؤجِّل أخذ الضرائب منهم حتى بعد شهر إنتاج المحاصيل حتى يُساعدهم[14]، وبذلك تحسَّنت أحوال المزارعين في عهده تحسُّنًا ملحوظًا.
عهد المقتدر (295 – 320هـ):
لم يكن لامرأة بعد زبيدة زوج هارون الرشيد من الخير ما كان لـ "شَغَب" أم المقتدر بالله العباسي (ت 321هـ)؛ فإنَّها كانت مواظبة على صلاح حال الحاجِّ وإنفاذ خزانة الطبِّ والأشربة إلى الحرمين، وإصلاح الطرق والحياض والآبار، وكان يرتفع إليها من ضياعها الخاصَّة ألف ألف دينار في كلِّ سنة، وتتصدَّق بأكثرها، ووقفت وقوفًا كثيرةً على مكَّة والمدينة[15]. ومن آثارها -أيضًا- بيمارستان أنشأته ببغداد، كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار[16].
بعض مظاهر التكافل والإغاثة عند الخلفاء الضعفاء:
غدا الإنفاق على الضعفاء والمحتاجين وإغاثة المكروبين جوًّا عامًّا في الخلافة العباسية؛ فلم يقتصر على عهود القوة فحسب، بل إنَّنا نراه واضحًا في عهود ضعف الخلفاء العباسيين أيضًا؛ فلا يتأخَّرون عن إعانة المحتاجين، وغوث الملهوفين، وإطعام الجائعين.
فعلى سبيل المثال عمل الخليفة المستنصر بالله (623 - 640هـ) على بناء المدارس والمستشفيات، وكان كثير الصدقات والبرِّ والصلات، محسنًا إلى الرعيَّة بكلِّ ما يقدر عليه، وكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكلِّ محلَّةٍ من محالِّ بغداد دار ضيافةٍ للفقراء[17].
أمَّا الخليفة العباسي المستعصم بالله (640 - 656هـ) آخر خلفاء بني العباس في بغداد؛ فقد اقتدى بأبيه المستنصر بالله في العدل وكثرة الصدقات[18].
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الخضري بك: الدولة العباسية 2/82.
[2] هو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي (136 – 158هـ).
[3] محمد السيد الوكيل: العصر الذهبي للدولة العباسية ص130 بتصرف.
[4] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 6/366.
[5] السابق: 6/373 بتصرف.
[6] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب ص83.
[7] أحمد عيسى بك: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص30، 86، 151 بتصرف، محمود الحاج: الطب عند العرب والمسلمين ص315.
[8] محمد الخضري: الدولة العباسية ص131.
[9] محمود الحاج: الطب عند العرب والمسلمين ص322 بتصرف.
[10] الصفدي: الوافي بالوفيات 4/472.
[11] المرجع السابق: الصفحة نفسها.
[12] ابن جبير: رحلة ابن جبير 1/77، والزركلي: الأعلام 3/42.
[13] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/197.
[14] يوسف العش: تاريخ عصر الخلافة العباسية ص167.
[15] الصفدي: الوافي بالوفيات 5/208.
[16] محمد حسين الأعلمي: تراجم أعلام النساء ص235 بتصرف.
[17] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 6/324، 325 بتصرف.
[18] السابق 6/327.
التعليقات
إرسال تعليقك