التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من هم أعداء الدولة العثمانية في عهد الانهيار الخفي؟ وماذا تعرف عنهم؟
أعداء الدولة العثمانية في عهد الانهيار الخفي
(آخر القرن الثامن عشر، ومعظم القرن التاسع عشر)
في هذه الحقبة التاريخيَّة اختفى بعض الأعداء التقليديِّن للدولة العثمانية؛ كالبندقية؛ التي ابتلعها نابليون بونابرت في عام 1797م، وبولندا التي قُسِّمَت على مراحل بين النمسا، وبروسيا، وروسيا، كما خفَّ عداء إيران إلى حدٍّ كبير، ليس بسبب روح التصالح؛ إنما بسبب ضعف الدولتين اللتين نشأتا فيها، وهما الزندية، والقاچارية، بعد سقوط الدولتين القويَّتين الصفوية، والإفشارية.
-أيضًا- ضمرت تمامًا الإمبراطوريَّة الإسبانية، وكذلك البرتغالية، وذلك بعد الثورة الفرنسية، وحروب نابليون، التي كانت ملهمةً لشعوب أميركا اللاتينيَّة والوسطى، فقامت في بداية القرن التاسع عشر حركات التحرُّر والاستقلال، وتكوَّنت الدول القوميَّة في هذه القارَّة، وبذلك فقدت إسبانيا والبرتغال وضعهما العالمي، وصارا من الأقطار غير المؤثِّرة في الأحداث. وعليه صارت القوى المعادية للدولة العثمانية أربعة على النحو التالي:
أولًا: روسيا:
صارت روسيا في هذه الحقبة كلِّها، بل إلى نهاية عمر الدولة العثمانية، أعتى أعداء الدولة العثمانية قاطبة! أظهرت روسيا في بعض الفترات النادرة صداقةً للعثمانيين، ولكنَّها كانت صداقةً خادعة، وظلَّ الأصل في العلاقة هو العداء المعلن والصريح. نمت قوَّة روسيا بشكلٍ كبيرٍ في عهد كاترين الثانية (1762-1796م)، حتى بعد موت الإمبراطورة القويَّة ظلَّ التفوُّق الروسي على الدولة العثمانية واضحًا إلى آخر عهدها.
كانت خطورة العدوِّ الروسي لا تكمن فقط في إمكاناته العسكريَّة، ولكن في قربه الجغرافي من الدولة العثمانية ممَّا يُتيح له اختراق الحدود العثمانية في أيِّ لحظة، خاصَّةً بعد سقوط جزءٍ من بولندا تحت احتلاله. -أيضًا- يزيد من خطورة العدوِّ الروسي نهمه الشديد للوصول إلى البحر الأسود، ومِنْ ثَمَّ إلى البحار الدافئة، فكانت حروبه مع الدولة العثمانية حروب «بقاء»، بعكس الأعداء الآخرين الذين كانوا يرغبون فقط في زيادة قوَّتهم وتوسُّعاتهم على حساب الدولة العثمانية.
كان الفارق كبيرًا بين إمكانات الروس والعثمانيين، ويمكن القول إنَّه لولا وجود بريطانيا وفرنسا لابتلعت روسيا الدولة العثمانية في سنواتٍ قليلة! قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا﴾ [الحج: 40].
كانت روسيا في هذه الحقبة هي القوَّة الثالثة في العالم بعد بريطانيا وفرنسا، ولم ترغب القوَّتان الأخيرتان في نموِّ الروس على حساب العثمانيين لئلَّا ينقلب ميزان القُوَى العالمي لصالحهم، فدافعتا عن الدولة العثمانية في مواقف كثيرة، على الرغم من عدائهما الدفين لها! هكذا، بجهود النصارى الأوروبيين المعادين، حُفِظَت الدولة العثمانية المسلمة، مائةً وخمسين سنةً تقريبًا! ولله في خلقه شئون!
ثانيًا: بريطانيا:
منذ منتصف القرن الثامن عشر، وإلى منتصف القرن العشرين تقريبًا، وبريطانيا هي القوَّة الأولى في العالم بلا منازع، وبفارقٍ كبيرٍ عن القوى التالية، مع استثناء طفيف محدود في عهد القائد الفرنسي الفذِّ نابليون بونابرت. ظهرت بريطانيا كقوَّةٍ أولى عالميًّا بعد حرب السنوات السبع (1756-1763م)، وما زادتها الأحداث بعد ذلك إلا قوَّة.
لم يقف تفوُّق الإنجليز عند الحدود السياسيَّة والعسكريَّة، بل تعدَّى ذلك إلى الأمور العلميَّة والاقتصاديَّة؛ فلقد أتحفهم المخترع الأسكتلندي چيمس وات James Watt عام 1776م بتطوير الآلة البخاريَّة، التي تُعتبر أساسيَّة في الصناعة، فقاد ذلك إلى «الثورة الصناعيَّة»[1]، ودخلت الميكنة في كلِّ شيء، وتحوَّل الإنتاج الفردي المحدود إلى إنتاجٍ جماعيٍّ على نطاقٍ واسعٍ جدًّا، وصُدِّرت الصناعات الإنجليزيَّة إلى الدنيا بأسرها، وقفز الاقتصاد في بريطانيا قفزاتٍ واسعة، وجُذِب معظم المستثمرين المهمِّين في معظم المجالات إلى لندن التي أصبحت أهمَّ مدينةٍ في العالم.
صاحَب ذلك تطوُّرٌ مذهلٌ في السلاح الإنجليزي، وكذلك الأسطول الذي صار الأوَّل على العالم بلا منافس، وضمَّ الإنجليز كندا كلِّها، واكتشفوا أستراليا، وضمُّوها إلى أملاكهم، واحتلوا الهند بكلِّ كنوزها الطبيعيَّة، وسيطروا على المنافذ البحريَّة في الدنيا؛ فمعهم رأس الرجاء الصالح بعد احتلال جنوب إفريقيا، ومعهم مضيق جبل طارق المتحكِّم في البحر المتوسط، ومعهم مضيق هرمز المتحكِّم في الخليج العربي، وستكون معهم في نهاية القرن التاسع عشر قناة السويس المصريَّة الناقلة بين البحرين المتوسِّط والأَحْمَر.
في نهاية القرن التاسع عشر كانت بريطانيا تملك خُمس اليابسة، ويعيش تحت حكمها ربع سكان العالم! يمكن مراجعة الكتاب المختصر الممتع: «الإمبراطورية البريطانية.. مقدمة قصيرة جدًّا»، للمؤلِّف الإنجليزي أشلي چاكسون Ashley Jackson[2]، لإدراك القوَّة المفرطة التي وصلت إليها هذه الإمبراطوريَّة العملاقة!
هذه القوَّة العظمى كانت من أعداء الدولة العثمانية الكبار، ولكنَّها لم تكن صريحةً في عدائها كروسيا؛ إنما كثيرًا ما كانت تُبْرِز للعثمانيين الودَّ العظيم، والرأفة الزائدة، والنصح الذي يبدو صادقًا، ثم لا تلبث بعد عامٍ أو عامين أن تضربها ضربةً موجعة، ثم بعد عدَّة سنوات أو شهور تعود لصداقتها الحميمة من جديد! هذه هي السياسة الإنجليزيَّة على مرِّ العصور، ويُحقِّقون بها أفضل النتائج بأقلِّ الأثمان.
كانت الدولة العثمانية المتهالكة في القرن التاسع عشر أحد أهداف الإنجليز في التوسُّع، ولكنَّهم لم يتسرَّعوا كالروس؛ إنما أخذوا ما يريدون بالتخطيط الهادئ بعيد المدى، محقِّقين بذلك قاعدة الأديب الإغريقي الشهير إيسوب Aesop، الذي قال: «البطيء المستمر يكسب السباق» Slow and steady wins the race![3]!
ثالثًا: فرنسا:
ستكون فرنسا في هذه الحقبة التاريخيَّة هي القوَّة الثانية في العالم بعد بريطانيا، بل ستتقدَّم عليها نسبيًّا في عصر العبقري بونابرت. والواقع أن فرنسا من أعداء الدولة العثمانية بلا جدال، مع أن الكتب تحفل بمظاهر الصداقة العثمانية الفرنسية، لكن هذه كلها أوهامٌ لم يخلقها إلا الواقع الفرنسي المحتاج للعثمانيين في القرن السادس عشر ومنتصف القرن السابع عشر، وذلك عندما كانت فرنسا تُعادي النمسا، وإسبانيا، بالإضافة إلى إنجلترا، فلمَّا تغيَّرت الأحوال وعلا نجم الفرنسيين تناسوا صداقتهم وحاربوا العثمانيين في سان جوتار عام 1664م.
مرَّةً ثانيةً احتاج الفرنسيون للعثمانيين بعد تجدُّد الحروب الفرنسية مع النمسا، فأعادوا العلاقات عام 1673م، ومن يومها وهم أصدقاء على الورق! إنهم يُحقِّقون المنافع التجاريَّة لكنَّهم لا يتورَّطون في مشاكل لأجل الدولة العثمانية. الآن في نهايات القرن الثامن عشر، وخلال القرن التاسع عشر، ستتأرجح فرنسا كالمعتاد بين الصداقة والعداء، ولكن معدَّل التأرجح سيكون سريعًا حتى يبدو وكأنه مجنون! اليوم صديقٌ، وغدًا عدو، وبعد غدٍ تعود الصداقة من جديد! والواقع أن الفرنسيين لا يملكون دهاء الإنجليز ولا حنكتهم، ولذلك يبدو تقلُّبهم بين الصداقة والعداء غريبًا، على عكس الحال مع الإنجليز، الذين يُثْبِتون للجميع بالحجَّة والمنطق أنهم صادقون مخلصون، بل كرماء!
رابعًا: النمسا:
عندما نتحدَّث عن النمسا في كلِّ تاريخ الدولة العثمانية فإننا نقصد الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، التي تُدار من النمسا، وتحديدًا من ڤيينا، ولكنَّها تشمل الكثير من الإمارات الألمانيَّة، بالإضافة إلى سلوڤينيا، وشمال إيطاليا، وسويسرا، وأجزاء من بلچيكا، وهولندا، وكذلك شرق فرنسا، وبوهيميا، وأخيرًا المجر، وأجزاء من رومانيا. إنها كيانٌ عملاقٌ يحكمه إمبراطورٌ قويٌّ في وقتٍ لم يكن يتسمَّى في أوروبا بالإمبراطور إلا هو.
هذا الكيان الضخم كان ألدَّ أعداء الدولة العثمانية قرابة ثلاثة قرون، وسيستمرُّ في عدائه في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. في أوَّل القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1806م، ستنهار هذه الإمبراطوريَّة المقدَّسة تحت أقدام نابليون بونابرت، وستتحلَّل تمامًا إلى دولٍ كثيرةٍ ستكون منها النمسا التي نعرفها اليوم مع زياداتٍ طفيفة[4]. سيظلُّ العداء مع العثمانيين، وإن كان سينقلب إلى صداقةٍ أحيانًا حسب المصلحة[5].
[1] Fetterley, Daniel D.: Two Bicentennial, Two revolutions, ABA Journal, American Bar Association, Chicago, USA, Vol. 62, 1976., p. 311.
[2] Jackson, Ashley: The British Empire: A Very Short Introduction, Oxford University Press, Oxford, UK, 2013..
[3] Sylvester, Ken: Negotiating in the Leadership Zone, Academic Press, London, UK, 2016., p. 36.
[4] Meeks, Joshua: Napoléon Bonaparte: A Reference Guide to His Life and Works, Rowman & Littlefield, Lanham, Maryland, USA, 2019., p. 84.
[5] كتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 887- 890.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك