التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يتعمد المؤرخون المسلمون عدم التفصيل عن الفترات التي يتعرض فيها المسلمون لهزيمة، ومن ثَمَّ نجد هناك صعوبة في فهم قصة ألبانيا أيام الدولة العثمانية...
مسائل حول قصة ألبانيا
لعلَّه من المناسب أن نقف هنا عند هذا الحادث المحوري في قصَّة الدولة العثمانيَّة، حادث موت إسكندر بك، ونُناقش بعض المسائل المهمَّة المتعلِّقة بالحدث..
المسألة الأولى: يتعمَّد المؤرِّخون المسلمون عدم التفصيل -وأحيانًا عدم الحديث أصلًا- عن الفترات التي يتعرَّض فيها المسلمون لهزيمةٍ أو شدائدَ كثيرة؛ ومِنْ ثَمَّ نجد هناك صعوبةً بالغةً في فهم قصَّة ألبانيا أيَّام الدولة العثمانية إذا رجعنا إلى المصادر التركيَّة والإسلاميَّة فقط، وهذا ما يدفعنا إلى الاعتماد على المصادر الأوروبيَّة في مثل هذه الأمور، مع أنَّها قد لا تخلو من مبالغاتٍ لا نستطيع تقويمها بشكلٍ جيِّد لعدم وجود القصَّة في مصادرنا المعتمدة. والحقُّ أنَّ ما يفعله المؤرِّخون المسلمون بهذا التَّجاهل لمثل هذه الأحداث يُؤثِّر سلبًا في فهم العلماء وطلبة العلم؛ ومِنْ ثَمَّ عموم قرَّاء التاريخ، وهذا يُسبِّب خسائر علميَّة جمَّة، ولقد ناقشنا هذه المسألة قبل ذلك بإيجاز عند حديثنا عن هزيمة بلجراد عام (860هـ= 1456م)، ونُضيف هنا بعض الأمور، غير أنِّي أحبُّ قبل ذلك أن أُدلِّل على ملاحظتي بذكر ما قاله مؤرِّخون معتمدون عند الحديث عن مسألة تمرد ألبانيا، وقصَّة إسكندر بك..
يقول المؤرِّخ التركي يلماز أوزتونا على سبيل المثال في كتابه تاريخ الدولة العثمانيَّة:
«الحملتان الهمايونيَّتان 19، 20؛ هما حملة ألبانيا الأولى (1466م)، والثانية (1466- 1467م)، وكلتاهما موجَّهتان إلى تمرد إسكندر بك. أسَّس الفاتح في حملته الأولى (19) قلعةً ومدينة الباسان Elbasan، ولم يتمكَّن في الحملة الثانية (20) من القبض على إسكندر بك. وافت إسكندر بك المرتد منيَّته في 17-1-1468م في أليشو Alessio، وهكذا انتهى عصيان ألبانيا الكبير»[1].
هكذا اختصر يلماز أوزتونا قصَّة عصيان ألبانيا بكلِّ ما فيها من معارك وأزمات في هذه السطور الأربعة! بينما يتحدَّث عن الانتصار العثماني في نيكوبوليس مثلًا في صفحتين ونصف، مع أنَّه انتصارٌ في موقعة يومٍ واحد![2].
إنَّنا لا نُريد الاختصار في تفصيلات النصر، فهي بالتأكيد مفيدة كذلك؛ ولكن نُريد التوازن، فيكون اهتمامنا عند الحديث عن الانتصارات هو اهتمامنا نفسه عند الحديث عن الهزائم؛ لأنَّ تحليل الأمرين مفيدٌ للمسلمين، ولنا في القرآن عِبرة؛ فالله عز وجل أنزل سورة الأنفال في 75 آية تتحدَّث عن نصر يوم بدر، وعندما حدثت مصيبة أُحُد لم يتجاوز الحدثَ أو يختصره؛ إنَّما أنزل 60 آية في سورة آل عمران، تُحلِّل الحدث وتُخْرِج الفوائد والعبر.
ومثالٌ آخر من كتب التاريخ الخاصَّة بالدولة العثمانيَّة نأخذه من كتاب تاريخ الدولة العليَّة للأستاذ محمد فريد بك المحامي، وهو كتابٌ قيِّمٌ ومهمٌّ، لكنَّه يتعامل مع هذه الأزمات من المنطلق نفسه، فنجده يتحدَّث عن سنوات عصيان ألبانيا وإسكندر بك بهذه السطور:
«حارب إسكندر بك الجنود العثمانيِّين، وحصل بينهما عدَّة وقائع أُهرِق فيها كثيرٌ من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالًا، وفي سنة 1467م[3] تُوُفِّيَ إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العليَّة خمسًا وعشرين سنة دون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خصوم الدولة، وألدِّ أعدائها»[4].
ولن تجد الأمر مختلفًا عن ذلك كثيرًا في المصادر التركيَّة والعربيَّة الأخرى..
إنَّ هذا يضرُّ بعمليَّة التأريخ من أكثر من وجه، ويحضرني هنا ثلاثة أوجه للضرر:
1. عدم الاستفادة من حدث الهزيمة أو الأزمة؛ لأنَّه في العادة يكون مليئًا بالدروس والعبر: إمَّا لتبرير الهزيمة وتفسير حدوثها، وإمَّا لتقدير مدى الجهد الذي بذله المسلمون للوصول إلى مرادهم، فليس طريق الفاتح ممهَّدًا كما نظنُّ، وليست حياته القسطنطينية فقط؛ إنَّما تعرَّض لأزماتٍ كثيرةٍ كبيرة كان له في كلِّ واحدةٍ منها رأيٌ وموقف، وهذا كلُّه يحتاج إلى تحليلٍ ودراسةٍ واستفادة.
2. ليس من المصلحة أن تظهر حياة الفاتح، أو أيِّ قائدٍ إسلاميٍّ كبير، في صورةٍ ملائكيَّةٍ ليس فيها عثرات؛ لأنَّ تقليد مثل هذا المثال الكامل يكون صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلًا، إنَّما نُريد أن نرى نموذجًا بشريًّا يُصيب أحيانًا ويُخطئ أحيانًا أخرى، وينجح في مرَّات، ويفشل في مرَّاتٍ أخرى، ويفرح عند النصر والتمكين، ويحزن عند الهزيمة والانكسار.. هذه حياةٌ طبيعيَّةٌ يُمكن أن تكون لنا أسوة، أمَّا المثال الكامل الذي يُحاول المؤرِّخون إيهام القرَّاء بوجوده فهذا لا يُحقِّق نفعًا؛ بل على العكس يكون ضرره أكبر من منافعه.
3. بذكر الانتصارات تفصيلًا والهزائم اختصارًا نفقدُ المصداقيَّة عند القرَّاء وطلبة العلم، خاصَّةً القرَّاء الأجانب الذين يُتابعون الحدث نفسه من المصادر الأوروبيَّة؛ لأنَّ هذا التجاهل إذا تكرَّر مرارًا يأخذ صفة العَمْدِيَّة؛ أي أنَّ المؤرِّخ يتعمَّد التدليس على القرَّاء بذكر أشياء وترك أشياء أخرى، وهذا ينسف المصدر من أساسه، أمَّا التوازن الصحيح فإنَّه يقود إلى المصداقيَّة عند الدارسين، وفي هذا نفعٌ وفائدةٌ لا تخفى على أحد.
المسألة الثانية: لفت نظري بشدَّة التَّخاذل الإيطالي الفاضح في تعاملهم مع ملفِّ الاستغاثة الألباني، فألبانيا واقعةٌ تحت ضغطٍ كبيرٍ من العثمانيِّين المسلمين، وزعيم المقاومة عندهم كان مسلمًا قبل ذلك، وليس مستبعدًا أن يعود للإسلام في مباحثات تفاوضٍ مع العثمانيِّين إذا آيس من المساعدة النصرانية، وشعب ألبانيا في معظمه كان كاثوليكيًّا؛ أي على مذهب نصارى إيطاليا نفسه، فكلُّ هذه عوامل تدفع إلى الجدِّيَّة في مساعدة الألبان على تمرُّدهم على العثمانيِّين، ومع كلِّ هذا رأينا الإيطاليِّين جميعًا يتقاعسون عن هذه المهمَّة لانشغالهم بمشاكلهم السياسيَّة الداخليَّة، ولم يتحرَّك البابا الكاثوليكي بحملةٍ صليبيَّة، ولم يتحرَّك الملك فرديناند الأول ملك نابولي مع أنَّه حليفٌ قديمٌ لإسكندر بك منذ معاهدة جيتا Gaeta، التي عقدها أبوه ألفونسو الخامس Alfonso V مع إسكندر بك عام 1451م[5]، أمَّا الوحيدون الذين تحرَّكوا فهم البنادقة؛ لأنَّ لهم أملاكًا في سواحل ألبانيا، بالإضافة إلى انخراطهم في حربٍ مع العثمانيِّين في اليونان وبحر إيجة؛ ومِنْ ثَمَّ كانت لهم مصلحةٌ في المساعدة..
إنَّها حرب المصالح البحتة، وليس فيها مكانٌ لدعوة الدين، أو روح الصليب؛ إنَّما يستخدم هؤلاء الملوك والأمراء، بل الباباوات، هذه الدَّعاوى الدينيَّة والشعارات الصليبيَّة عند الحاجة السياسيَّة والاقتصاديَّة فقط، أمَّا النصرة الحقيقيَّة للدِّين والعقيدة فلم تكن موجودة إلَّا فيما ندر، وهكذا فليس لنا أن ننخدع بمثل هذه الشعارات أثناء قصَّتنا.. إنَّهم لا يعرفونها إلَّا عند الرغبة في تهييج الشعوب والجيوش، أو عند الرغبة في إعطاء سبب منطقي أو أخلاقي للحرب، أمَّا عند تعارض المصالح فإنَّ العوامل الدينيَّة تُهْمَل تمامًا وكأنَّها غير موجودةٍ بالمرَّة!
المسألة الثالثة: القاعدة التي أرادها الله عز وجل، وذكرها في كتابه الكريم، هي أن يعرف الجميع أنَّ الهداية بيده سبحانه، وليس للبشر دخلٌ فيها مهما كانوا.. قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، نعم يبذل الدُّعاة إلى الله جهدهم، ويأخذون بالأسباب الصحيحة لتوفير أفضل سبل الهداية للناس؛ ولكن تبقى الحقيقة ثابتة، وهي أنَّ الأمر كلَّه بيد الله تعالى. نقول هذا الكلام بعد أن رأينا نموذجين متباينين تمامًا لقطرين من أقطار البلقان: نموذج البوسنة، ونموذج ألبانيا، وهما أكبر بلدين مسلمين الآن في أوروبا؛ فقد شاهدنا كيف وَضَع الله عز وجل في البوسنة الأسباب الكثيرة التي جعلتهم يُسْرِعون بشكلٍ لافتٍ للنظر إلى الدخول في الإسلام، وقد فصَّلنا في هذه الأسباب التي لم يكن فيها يدٌ للعثمانيِّين، أو للسلطان الفاتح، مع إقرارنا أنَّ الدولة العثمانيَّة والفاتح بذلا جهدًا فائقًا لتسهيل قبول شعب البوسنة للإسلام، ولكنَّنا رأينا على النقيض من ذلك أنَّ الدولة العثمانيَّة والفاتح لم يستطيعا أن يفعلا الشيء نفسه ولا قريبًا منه في ألبانيا! لقد رأينا شعبًا مقاوِمًا للإسلام بكلِّ طاقته، ومحارِبًا له أشدَّ ما تكون المحاربة، حتى صار الألبان عند الأوروبيِّين هم النموذج الأمثل لمقاومة الأتراك، وصار إسكندر بك هو البطل الأسطوري الذي ينبغي أن يَحتذي حذوه ملوك وأمراء ونبلاء أوروبا، ولم يبقَ هذا الوضع عقدًا أو عقدين، بل تجاوز القرنين من الزمان! ومع ذلك، وبعد مرور السنين الطويلة أراد الله عز وجل أن يمنَّ على هذا البلد بالإسلام، فإذا بهم يُسارعون في الدخول في هذا الدين في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ أي بعد أكثر من 200 سنة من دخول الإسلام إلى بلادهم، وبعد أكثر من مائة وخمسين سنة من جهود الفاتح والدولة العثمانيَّة! ولأسبابٍ مختلفةٍ عن أسباب إسلام البوسنويِّين.
الفاتح هو الفاتح، والدولة العثمانيَّة هي الدولة العثمانيَّة؛ ولكنَّ إرادة الهداية كانت مختلفة عند الله، فحقَّقها بسرعةٍ في البوسنة، وأخَّرها في ألبانيا، ولم يُحْدِثها في أقطارٍ أخرى مجاورةٍ لعلَّها تحمل الصِّفات نفسها التي توفَّرت في القُطْرين، ويفعل الله ما يشاء.
المسألة الرابعة: لا بُدَّ من وقفةٍ مع رِدَّة إسكندر بك! إنَّه منذ ارتدَّ عن الإسلام وهو ثابتٌ على نصرانيَّته، ومقاتلٌ للمسلمين بكلِّ طاقته، مع أنَّه عاش مسلمًا أكثر من عشرين سنة! هل ارتدَّ عن قناعة؟! هل درس الأمرين فوجد أنَّ المسيحية أفضل؟ أحسب أنَّ هذا لم يحدث؛ وإنَّما هي المصالح التي كانت تحكم حياة كثيرٍ من الأمراء والنبلاء في ذلك الوقت.
العودة إلى جذور القصَّة تُوضِّح لنا هذا الأمر؛ إنَّ إسكندر بك هو أحد أبناء نبيلٍ من نبلاء ألبانيا اسمه چون كاستريوتي Gjon Kastrioti، وهو النبيل النصراني الذي يُغيِّر مذهبه الديني وفقًا لمتطلِّبات العصر الذي يعيش فيه، فكان أرثوذكسيًّا عند موالاته للصرب الأرثوذكس، ثم أصبح كاثوليكيًّا عند تحالفه مع البندقية الكاثوليكيَّة، ثم صار تابعًا للمسلمين ومقاتلًا معهم -وهو على نصرانيَّته- عندما تبدَّلت المصالح وصارت مع العثمانيِّين![6].
أرسل هذا النبيل ابنه إسكندر بك -وكان اسمه في هذه المرحلة چورچ- رهينةً عند السلطان العثماني لضمان ولاء النبيل النصراني للدولة العثمانيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ إبقاؤه على ولايته في إقطاعيَّته بألبانيا، علمًا بأنَّ هذا الابن لم يكن يُحْبَس في الدولة العثمانية، إنَّما كان يدخل أفضل المدارس العسكريَّة، ويُؤهَّل على أفضل صورةٍ ليكون قائدًا في المستقبل[7][8][9]، وغالبًا ما كان يُعَدُّ ليكون مواليًا للدولة العثمانيَّة، ويدها في الدولة الأمِّ التي أتى منها، وقد رأينا مثل هذا النموذج قبل ذلك في قصَّة ڤلاد الثاني أمير الإفلاق، عندما أرسل ولديه رادو وڤلاد الثالث ليكونا رهائن عند السلطان مراد الثاني.
ولم يكن هناك إكراهٌ على الإسلام كما يشيع المؤرِّخون الأوروبيُّون؛ بل كان بعضهم يعتنق الإسلام وآخرون يبقون على نصرانيَّتهم، وقد رأينا في قصَّة أبناء ڤلاد الثاني هذا الأمر، فبينما دخل رادو في الإسلام -لو ثبت إسلامه أصلًا- آثر ڤلاد الثالث أن يبقى على النصرانية، مع أنَّهما عاشا في الظروف نفسها، وإن كانت فرصة الابن الأصغر الذي لم يبلغ بعد تكون أكبر في اعتناق الإسلام لعدم تمسُّكه بمعتقداتٍ أخرى وهو في هذه السنِّ المبكرة.
أغلب الظنِّ أنَّ إسكندر بك جاء إلى الدولة العثمانيَّة وهو في الثامنة عشرة من عمره؛ أي في عام 1423م[10]، وقد تحوَّل إلى الإسلام سريعًا، ودخل المدارس العسكريَّة العثمانيَّة لمدَّة ثلاث سنوات، ثم تسلَّم إحدى الولايات في ألبانيا، وصار من موظَّفي الدولة العثمانيَّة، ثم شهد ترقيَّاتٍ سريعةً لنبوغه العسكريِّ والقيادي[11][12].
هنا تكمن النقطة التي نفهم منها قصَّة إسكندر بك، أو چورچ كاستريوتي..
إنَّ الرجل -على الأغلب- لم يُسْلِم حبًّا في الإسلام، ولا رغبةً في تغيير عقيدته إلى الأفضل؛ إنَّما كان يسعى إلى القيادة والزعامة، وكان الذي يُحقِّق له ذلك في هذا التوقيت هو الإسلام، فأسلم إلى حين، وفعل مثلما فعل أبوه من تغيير المذاهب حسب الحاجة السياسيَّة، وظلَّ يترقَّى إلى أن وصل إلى قائد سنجق دبرة Dibra في شمال ألبانيا؛ وذلك عام 1440م[13]، ثم خاض مع الدولة العثمانيَّة عدَّة حروب ضدَّ هونيادي الزعيم المجري المعروف، وذلك حتى سنة 1443م[14]. في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الدولة العثمانيَّة -وكانت أيَّام مراد الثاني- تعرَّضت الدولة لعدَّة هزائم من المجر، وتجدَّد عصيان إمارة قرمان، واجتمعت ملوك أوروبا والبابا على حرب المسلمين، ثم تعرَّض المسلمون لهزيمةٍ قاسيةٍ في مدينة نيش الصربيَّة، وكان إسكندر بك مشاركًا بفرقته الألبانيَّة في المعركة، فإذا به يقرأ الموقف على أنَّ هزائم الدولة العثمانيَّة لن تنتهي، وفي ظلِّ تضخُّم قوَّة المجر باتِّحادها مع بولندا تحت قيادة ڤلاديسلاڤ الثالث، وظهور القائد العسكري الفذ هونيادي، فإنَّ المصير المحتوم للدولة العثمانيَّة هو الخروج من البلقان، وهذا يعني لإسكندر بك فقدان القيادة والمركز؛ لأنَّ السيطرة على البلقان كله ستكون نصرانيَّة كاثوليكيَّة. هنا أخذ إسكندر بك قراره الآثم، فانسحب بفرقته من موقعة نيش متَّجهًا إلى ألبانيا وتاركًا الجيش العثماني في أزمته[15][16][17].
وصل إسكندر بك إلى كرويه، المدينة الحصينة في شمال ألبانيا، وسيطر عليها وعلى بعض القلاع حولها، وأعلن نصرانيَّته، وجمَّع حوله الأنصار من نصارى ألبانيا، وألزم من معه في فرقته أن يتحوَّلوا إلى النصرانية أو يُواجهوا عقوبة الموت[18][19].
لم يكن تمرد إسكندر بك هو الأوَّل في ألبانيا، بل وصل إسكندر بك إلى ألبانيا وفيها ثورةٌ قائمةٌ منذ عدَّة سنواتٍ بقيادة أحد نبلائهم هو چورچ أريانيتي Gjergj Arianiti[20]، وقد تقرَّب منه إسكندر بك، وأقنعه بالتعاون معه، بل تزوَّج ابنته دونيكا Donika لتدعيم أواصر الصلة بينهما[21].
لم يكتفِ إسكندر بك بالتَّواصل مع چورچ أريانيتي، بل استخدم مهاراته القياديَّة والتجميعيَّة في تحفيز نبلاء ألبانيا على التجمُّع لمقاومة العثمانيِّين والاستقلال بألبانيا، وهكذا جمع هؤلاء النبلاء في مدينة ليزهي Lezhë، ليُكوِّن منهم اتِّحادًا تحت قيادته، وبالفعل كوَّن ما يُسمَّى باتحاد ليزهي نسبةً إلى المدينة التي كان فيها الاجتماع الأول League of Lezhë، في 2 مارس 1444م[22]، وقد اختار مدينة ليزهي، التي كانت تابعةً للبندقيَّة آنذاك، لكي يحظى بالرعاية البندقية للاجتماع، فيضمن بذلك دعمهم مستقبلًا[23].
هكذا حقَّق إسكندر بك في خلال شهور من ردَّته زعامته من جديد.. نعم تحت ستار النصرانية في هذه المرَّة، ونعم بمباركة أعدائه السابقين الذين كان يُحاربهم لمدَّة عشرين سنةً كاملة؛ لكنَّه في النهاية لم يفقد الزعامة!
هذه هي قصَّته! وهي قصَّة مسيلمة الكذاب نفسه الذي آثر أن يرتدَّ ليُصبح زعيمًا في بني حنيفة بدلًا من أن يكون تابعًا في دولة الإسلام، ولو كان قائدها رسول الله ﷺ! إنَّها قصَّةٌ متكرِّرةٌ في التاريخ، ولن تختفي من صفحاته؛ حيث إنَّ حبَّ السلطان هو آخر ما يخرج من قلب الإنسان!
صار إسكندر بك نموذجًا للألبانيِّين ولأوروبَّا[24]، وقاد ثورته ضدَّ العثمانيِّين خمسًا وعشرين سنة كاملة، وكانت له الغلبة في معظم المواقع؛ وذلك حتى موته عام 1468م، والعجيب أنَّه على الرغم من إسلام ألبانيا في القرن السابع عشر وبعده، فإنَّ رمز إسكندر بك لم يختفِ من ألبانيا، بل ما زالت المتاحف والشوارع والميادين والأنشطة التي تُسمَّى باسمه موجودة بكثرة هناك[25]؛ فهو الرجل الذي حافظ على هُويَّة الألبان في هذه المرحلة، وكعادة بعض المسلمين فإنَّهم لا ينظرون إلى ميزان العقيدة في تقويمهم للأشخاص، بل ينظرون فقط إلى انتصاراته وأمجاده، فيرفعون قدره دون النظر إلى حقيقة أمره، وهو تمام ما يفعلونه مع نماذج الفراعنة مثلًا عندما ينظرون إلى إنجازاتهم المعماريَّة والعلميَّة والقياديَّة، متناسين اللعنة التي يصبُّها عليهم ربُّ العزَّة في صفحاتٍ كثيرةٍ من كتابه العظيم! ولله في خلقه شئون!
المسألة الخامسة: كيف سارت الأوضاع في ألبانيا بعد موت إسكندر بك؟
مات إسكندر بك وليس له إلَّا ابنٌ واحدٌ قاصر هو چون كاستريوتي الثاني Gjon Kastrioti II، وكان في الرابعة عشرة من عمره عند وفاة والده، وقد تولَّى قيادة مدينة كرويه لفترةٍ وجيزةٍ بحكم أنَّه ابن إسكندر بك؛ لكنَّه ما لبث أن غادر ألبانيا إلى نابولي[26]، وترك البلد إلى الرعاية الأجنبيَّة، فبينما قدَّمت نابولي خدماتها لرعاية البلد وعائلة إسكندر بك بعد وفاته، عرضت البندقية حماية المناطق الشماليَّة وخاصة كرويه؛ لأنَّ هذه المناطق قريبةٌ من الممتلكات الساحليَّة البندقية[27][28]. كان الوضع يُنذر بالخطر في ألبانيا بعد وفاة زعيمهم الأوحد على مدار 25 سنة؛ لأنَّه في الواقع لم تظهر أسماءٌ كبيرةٌ إلى جواره طوال هذه الفترة، وهذا ما دفع عددًا كبيرًا من أهل ألبانيا، وخاصَّةً من نبلائها الذين خافوا أن يكونوا مطلوبين من السلطات العثمانيَّة نتيجة مشاركتهم مع إسكندر بك في عمليَّات القتال، دفع كل هؤلاء إلى الهجرة النهائيَّة من ألبانيا إلى إيطاليا، وخاصَّةً في المناطق التابعة لمملكة نابولي في الجنوب الإيطالي، وتحديدًا في كالابريا Calabria، وأبوليا Apulia، وباسيليكاتا Basilicata، حيث كوَّنوا ما يُعرف بالشعب الألباني الإيطالي، أو شعب أربيريشي Arbëreshë people[29].
المسألة السادسة: ماذا فعلت الدولة العثمانيَّة إزاء هذا الوضع الجديد؟!
لا أعتقد أنَّ أحدًا لم يتوقَّع أن يُسارع السلطان الفاتح بإرسال جيشٍ قويٍّ للسيطرة على تمرد ألبانيا مستغلًّا الفراغ الكبير الذي تسبَّب فيه موت إسكندر بك، خاصَّةً أنَّه لم يترك إلَّا غلامًا صغيرًا لا يقوى على إدارة الأمور المعقَّدة في هذا البلد الكبير؛ ولكن خاب توقُّع الجميع! إذ إنَّ السلطان محمدًا الفاتح لم يُرسل جيشًا إلى هذه المنطقة برمَّتها إلَّا بعد 6 سنوات كاملة؛ أي في عام 1474م، حتى هذا الجيش لم يكن مرسلًا إلى ألبانيا بذاتها، إنَّما إلى مدينة شقودرة Shkodër الواقعة تحت سيطرة البندقية آنذاك، أمَّا أوَّل جيوش الفاتح لقمع تمرد ألبانيا فكان بعد 10 سنوات من موت إسكندر بك؛ أي في عام (883هـ= 1478م)![30][31].
ما الذي دفع الفاتح إلى هذه التأخير في التعامل مع ملفِّ ألبانيا؟!
الواقع أنَّ المراجع التاريخيَّة لم تُفَصِّل في هذه النقطة، والذي أعتقده أنَّ الفاتح خشي من صدمةٍ جديدةٍ في ألبانيا سيكون وقعها النفسي على الدولة العثمانيَّة أشدَّ لو حدثت بعد وفاة إسكندر بك؛ فهذا يعني أنَّ القوَّة الألبانيَّة غير معتمدة على شخصٍ بعينه، ممَّا قد يُضعف الروح المعنويَّة عند العثمانيِّين، وأيضًا لعلَّ الفاتح أراد أن يتجاوز فترة الحماسة الإيطاليَّة العاطفيَّة في مساعدة ألبانيا وأسرة إسكندر بك بعد وفاته؛ لأنَّه لا شَكَّ أنَّ بعد فترة الحماسة الأولى سيحدث فتور تلقائي نتيجة انشغال الدويلات الإيطاليَّة بمشاكلها السياسيَّة الداخليَّة، وفوق هذا فإنَّ الفاتح لم يكن يعلم من سيكون خليفة إسكندر بك في قيادة التمرد الألباني، وهل سيستمرُّ التمرُّد أصلًا أم أنَّ الألبان سيُعيدون التفكير في الأمر بعد وفاة زعيمهم الأكبر.
بالإضافة إلى كلِّ ما سبق فإنَّ هناك تطوُّراتٍ في الأحداث السياسيَّة العالميَّة ربَّما جعلت الفاتح يتوقَّف ليُتابع نتائج هذه التطوُّرات.. من هذه التطوُّرات -مثلًا- ما حدث في مملكة المجر؛ حيث أعلن ملكها ماتياس الحرب على بوهيميا في 31 مارس 1468م[32]؛ ومِنْ ثَمَّ انتُخب ملكًا على بوهيميا في 1469م، وكان هذا يعني زيادة مُلْكِه بشكلٍ كبير، بل وَعَدَه إمبراطور النمسا فريدريك الثالث بأنَّه سيكون مرشَّحًا ليكون إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة، ممَّا يعني سيادته على كامل النمسا وألمانيا وهولندا وبلچيكا وشمال إيطاليا وسويسرا وغير ذلك من أملاك الإمبراطوريَّة الكبيرة[33]. كان تضخُّم المجر بهذا الشكل يُزعج الفاتح لا شَكَّ؛ لأنَّ هذا التطوُّر العسكريَّ والاقتصاديَّ الكبير قد يدفع ملك المجر إلى إحياء الصدام مع العثمانيِّين، ومحاولة التوسُّع في البوسنة وصربيا، أو غزو الإفلاق وبلغاريا.
ولم تكن التطوُّرات السياسيَّة مقصورة على المجر فقط؛ فقد أوردت بعض المصادر التركيَّة حدوث معاهدة في فبراير 1468م بين البندقية والبابا وعدَّة دويلات إيطاليَّة تهدف لحرب العثمانيِّين[34]، فهذه أيضًا كانت تحتاج إلى تروٍّ من الفاتح لمعرفة أهداف هذا التحالف الجديد، وإلى أيِّ مناطق الدولة العثمانيَّة سيتوجَّه.
وفوق هذا كان الفاتح متوجِّسًا جدًّا من أوزون حسن حاكم دولة الآق قوينلو في إيران وأذربيچان Azerbaijan، فقد كان يُساعد إسحاق بك على محاولة السيطرة على العرش في قرمان، وهذا بلا شَكٍّ يُوضِّح ميول أوزون حسن التوسُّعيَّة في الأناضول، وكان على الفاتح أن يدعم قوَّاته في هذه المنطقة الشرقيَّة تحسُّبًا لأيِّ غزوٍ إيرانيٍّ لها.
أيضًا كان الفاتح معنيًّا بقوَّته البحريَّة وتطويرها؛ لأنَّه كان متأكِّدًا أنَّ البندقية لن تقبل الانتصارات العثمانيَّة التي حدثت في بحر إيجة في عام 1466م، ومن المؤكَّد أنَّها ستُعيد الكَرَّة في محاولةٍ لاسترداد المدن التي استولى عليها العثمانيُّون في جنوب اليونان، خاصَّةً أنَّ الحرب ما زالت معلنةً بين الطرفين بعد فشل مفاوضات السلام بينهما.
هذه التطوُّرات، بالإضافة إلى الطاعون الذي ضرب إسطنبول في 1467م، جعلت الفاتح يتريَّث في أخذ خطوةٍ متسرِّعةٍ في اتِّجاه ألبانيا، ولعلَّه أراد التأجيل لسنةٍ أو سنتين؛ ولكن سرعان ما تطورَّت الأحداث في الدولة العثمانيَّة في السنوات التالية[35].
[1] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م الصفحات 1/153-154.
[2] أوزتونا، 1988م الصفحات 1/106-108.
[3] والصواب 1468م.
[4] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية، المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 172.
[5] Frashëri Kristo Gjergj Kastrioti Skënderbeu: jeta dhe vepra, 1405–1468 [Book]. - [s.l.] : Botimet Toena, 2002, pp. 310-316.
[6] Myhill John Language, religion and national identity in Europe and the Middle East: A historical study [Book]. - Amsterdam : John Benjamins Publishing, 2006, p. 232.
[7] Zilfi Madeline Women and Slavery in the Late Ottoman Empire: The Design of Difference [Book]. - Cambridge : University Press, 2010, p. 101.
[8] فريد، 1981م صفحة 158.
[9] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار- مصر: مطابع الأميرية، بولاق ، 1895م. صفحة 1/505.
[10] Frashëri, 2002, p. 86.
[11] Frashëri, 2002, pp. 86-92.
[12] Anamali Skënder, Prifti Kristaq and RSH) Instituti i Historisë (Akademia e Shkencave e Historia e popullit shqiptar në katër vëllime (in Albanian) [Book]. - [s.l.] : Botimet Toena., 2002, vol. 1, p. 342.
[13] Hösch Edgar The Balkans: a short history from Greek times to the present day [Book]. - [s.l.] : Crane, Russak, 1972, p. 96.
[14] Anamali, et al., 2002, vol. 1, p. 343.
[15] Frashëri, 2002, pp. 130-133.
[16] فريد، 1981م الصفحات 158-159.
[17] سرهنك، 1895م صفحة 1/505.
[18] Ramet Sabrina Nihil obstat: religion, politics, and social change in East-Central Europe and Russia [Book]. - Durham : Duke University Press, 1998, p. 209.
[19] سرهنك، 1895م صفحة 1/505.
[20] Fine John Van Antwerp The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest [Book]. - [s.l.] : University of Michigan Press, 1994, p. 535.
[21] Frashëri, 2002, p. 181.
[22] Frashëri, 2002, p. 135.
[23] Soucek s Rodos [Book Section] // The Encyclopaedia of Islam / book auth. Gibb Sir Hamilton Alexander Rosskeen [et al.]. - Leiden : E.J. Brill, 1954, p. 139.
[24] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999, p. ix.
[25] Schwandner-Sievers Stephanie and Fischer Bernd Jürgen Albanian Identities: Myth and History [Book]. - [s.l.] : Indiana University Press., 2002, p. 43.
[26] Anamali, et al., 2002, vol. 1, pp. 413-416.
[27] Noli Fan Stilian George Castrioti Scanderbeg (1405–1468) [Book]. - New York, USA : International Universities Press, 1947, p. 38.
[28] سرهنك، 1895م صفحة 1/517.
[29] Minni C. Dino and Ciampolini Anna Foschi Writers in transition: the proceedings of the First National Conference of Italian-Canadian Writers [Book]. - [s.l.] : Guernica Editions., 1990, pp. 63-64.
[30] Noli, 1947, p. 38.
[31] سرهنك، 1895م صفحة 1/517.
[32] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 304.
[33] Kubinyi András Matthias Rex [Book] / trans. Gane Andrew T.. - Budapest : Balassi Kiadó, 2008, p. 85.
[34] أوزتونا، 1988م صفحة 1/161.
[35] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 488- 497.
التعليقات
إرسال تعليقك