الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مدينة طرابلس مدينة عريقة، تأسست في القرن السابع قبل الميلاد على يد الفينيقيين، وفتحها المسلمون على يد عمرو بن العاص عام 645م.
نافذة اليوم نفتحها على مدينة عريقة تأسست قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، هذه هي طرابلس عاصمة ليبيا وأكبر مدنها، تقع في الشمال الغربي، وتأسست في القرن السابع قبل الميلاد على يد الفينيقيين، وكانت مركزًا تجاريًّا للتبادل بين أوروبا وإفريقيا، يعود سبب تسميتها إلى الإغريق إذ تعني "تريبولي" بلغتهم: المدن الثلاث، وفتحها المسلمون على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه عام 645م.
نافذة اليوم نفتحها على ملمحين من ملامح الحضارة في مدينة طرابلس، وهي ملامح ليست معمارية أو علمية، إنما هي في الجانب الأعلى والأهم، وهو الجانب الأخلاقي والقيمي، ونلحظ فيه أمرين مطردين لمن وصف طرابلس في التاريخ الإسلامي؛ وهما النظافة والمروءة، قد تغيب العلاقة المباشرة بين الأمرين، لكنهما ملاحظان بشكل لافت في روايات المؤرخين، مما يجعلنا نشير إلى أن بعض الشعوب تتميَّز بخصائص معينة أكثر من غيرها، وكان لأهل طرابلس هذا التميُّز.
وقد تحدث عنها ابن حوقل طويلًا في كتابه صورة الأرض ومدح أهلها، فيقول: «وهي مدينة بيضاء من الصخر الأبيض على ساحل البحر، خصبة حصينة كبيرة.. صالحة الأسواق.. بها من الفواكه الطيّبة اللذيذة الجيّدة القليلة الشبه بالمغرب وغيره كالخوخ الفرسك والكمّثرى اللذين لا شبه لهما بمكان.. إلى مراكب تحطّ ليلا ونهارا وترد بالتجارة على مرّ الأوقات والساعات صباحا ومساء من بلد الروم وأرض المغرب بضروب الأمتعة والمطاعم، وأهلها قوم مرموقون من بين من جاورهم بنظافة الأعراض والثياب والأحوال، متميّزون بالتجمّل في اللباس وحسن الصور والقصد في المعاش، إلى مروءات ظاهرة وعشرة حسنة ورحمة مستفاضة ونيّات جميلة ورباطات كثيرة، ومحبّة للغريب أثيرة ذائعة، ولهم في الخير مذهب من طريق العصبيّة لا يدانيهم أهل بلد؛ إذا وردت المراكب ميناءهم عرضت لهم دائما الريح البحريّة، فيشتدّ الموج لانكشافه ويصعب الإرساء، فيبادر أهل البلد بقواربهم ومراسيهم وحبالهم متطوّعين، فيقيَّد المركب ويرسى به في أسرع وقت، بغير كلفة لأحد، ولا غرامة حبّة، ولا جزاءً بمثقال»[1]. بهذا كانت طرابلس من المدن القليلة التي ظفرت بهذا الإطراء من ابن حوقل.
ويقول ياقوت الحموي (626هـ): «.. ومبنى جامعها أحسن مبنى، وبها أسواق حافلة جامعة.. وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون أعمرها وأشهرها مسجد الشعاب، ومرساها مأمون من أكثر الرياح، وهي كثيرة الثمار والخيرات..»[2].
ويؤكد المؤرخ عبد الواحد المراكشي على نجدة أهلها ومعاونتهم للأيوبيين في مصر على مواجهة الصليبيين بتحذيرهم من الهجمات القادمة عليهم: «وما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب، خمس وأربعون مرحلة؛ وكان فيما بين الإسكندرية وطرابلس المغرب حصون متقاربة جدًّا، فإذا ظهر في البحر عدو نوَّر كلُّ حصن للحصن الذي يليه، واتصل التنوير؛ فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية، أو من الإسكندرية إلى طرابلس، في ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل؛ فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم»[3].
ويقول العلامة الأديب المغربي المولد التونسي الحياة التيجاني في رحلته: «ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يعشي الأبصار، فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء وخرج جميع أهلها مظهرين الاستبشار رافعين أصواتهم بالدعاء».
ويقول: «ورأيتُ شوارعها فلم أر أكثر منها نظافة، ولا أحسن اتساعًا واستقامةً، ذلك أن أكثرها يخترق المدينة طولا وعرضا من أولها إلى آخرها على هيئة شطرنجية، فالماشي يمشي بها مشي الرخ خلالها».
ويقول ابن عبد المنعم الحميري (900هـ): «.. وبها أسواق حافلة وحمامات كثيرة، وفي شرقيها بساتين كثيرة فيها فواكه كثيرة وخيرات جمة، وأهلها تجار يسافرون برًّا وبحرًا، وهم أحسن الناس معاملة بضدّ أهل سرت»[4].
بل كتب القائد العسكري الإسباني بيدرو نافارو إلى نائب الملك فرديناند قائلاً: أيها السيد هذه المدينة طرابلس أعظم كثيراً مما كنت أظن.. وبالرغم من أن جميع الذين وصفوها قد أجادوا الوصف فإنني أرى أنهم لم يجتازوا نصف الحقيقة.. وبين جميع المدن التي شاهدت في الدنيا لم أجد مدينة تضاهيها سواء في تحصيناتها أو في نظافتها..".
فرسان القديس يوحنا في مالطة إلى عام 1551 حين حرَّرها العثمانيون، جزى الله أهل طرابلس خيرًا أن أعطوا هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين لكل من خالطهم وعاشرهم، ولو كان من أعدائهم[5].
[1] صورة الأرض (1/ 69))
[2] معجم البلدان (4/ 25)
[3] المعجب في تلخيص أخبار المغرب (ص: 250)
[4] الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: 389)
[5] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك