التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ماذا تعرف عن الحرب الإفشارية العثمانية 1743-1746م، وما أهم أحداثها ونتائجها؟
في سنة 1729م ظهر في إيران أحد العباقرة العسكريين والسياسيين يُدْعَى نادر الإفشاري، من قبيلة إفشار التركية في خراسان، وهو واحد من المعدودين عالميًا في مجال الحروب والقيادة، وفي عام 1730م قام هذا القائد بخلع الشاه الصفوي طهماسب الثاني، ووضع على عرش الدولة ابنه الرضيع عباس الثالث.
هذا يعني أن الحاكم الفعلي للبلاد صار القائد العسكري للجيش نادر الإفشاري، وفي عام 1736م، خلع نادر الإفشاري الطفلَ عباس الثالث الصفوي، وأعلن نفسه، شاهًا على إيران، وصار من يومها معروفًا بنادر شاه، وهو الاسم الأشهر له في كتب التاريخ.
وهذه بداية تأسيس الدولة الإفشارية، التي استمرت ستِّين سنة (من 1736م إلى 1796م)، هذه -أيضًا- هي النهاية الرسمية للسلالة الصفوية كحكَّام لإيران، بعد أن استمرت أكثر من قرنين كاملين.
لم يكن ذهاب الصفويين يعني انتهاء عداء الإيرانيين الشيعة للدولة العثمانية السنِّيَّة؛ إنما كان يعني فقط تبدُّل حامل راية العداء! أراد نادر شاه استكمال مشروعه الاستراتيجي في زعامة العالم الإسلامي، وتوجه إلى ضمِّ أفغانستان والهند المسلمتين.
الحرب الإفشارية العثمانية (1743-1746م)
حقق نادر شاه نجاحًا غير مسبوق في حملته الشرقية على بلاد الأفغان والهند، والتي قام بها في عامي 1738 و1739م. في هذه الحملة ضمَّ أقطارًا بالجملة إلى دولته! تشمل المساحات التي فتحها في هذه الحملة أفغانستان، وباكستان، وشمال الهند[1]. انتصر في معارك عظمى على جيوش ضخمة، سواء من الأفغان، أو من مغول الهند. يكفي أنه انتصر بخمسة وخمسين ألف جندي في موقعة كارنال Karnal شمال الهند في فبراير 1739م على محمد شاه إمبراطور مغول الهند وهو يقود ثلاثمائة ألف[2]! لقد عاد من حملة الهند بغنائم تخرج عن الحسابات دفعته لوقف جمع الضرائب من الإيرانيين لمدة ثلاث سنوات[3]!
في عام 1740م قام بحملة كبرى شمال شرق إيران، وضمَّ فيها مساحات شاسعة من الأرض تشمل أوزبكستان، وطاجيكستان، وجنوب قيرغيزستان، وجنوب غرب كازاخستان[4]. يضاف إلى ما سبق احتلاله للبحرين وعمان، وهذا أعطاه سيطرة كبيرة على الخليج العربي[5]. الحق أن آسيا لم تشهد منذ تيمور لنك فاتحًا عسكريًّا مثله، كما لم يأت بعده مَن يقترب من إنجازاته الحربية! يصفه المؤرخ الإنجليزي استيفين هيمسلي لونجريج (لونگريك) Stephen Hemsley Longrigg بأنه آخر فاتح آسيوي عظيم عرفه العالم[6]!
إزاء هذه القوة المفرطة لم يكن متوقَّعًا منه أن يحترم عهده مع العثمانيين، والذي عقده عام 1736م. لقد كان الغرض من هذا العهد تفريغ طاقته لفتوحات أفغانستان والهند، وقد تمت هذه الفتوحات، واستقرت البلاد بعدها، فلماذا لا يتجه بأحلامه ناحية الغرب؟! ومع ذلك فمن رحمة الله بالدولة العثمانية أن نادر شاه تعرَّض في السنوات الأخيرة لعدة أمور أضعفت من همَّته، فلم يعد بالنشاط الباهر الذي كان عليه. من هذه الأمور اعتلال كبير بصحته[7]، وصراعات داخلية مع ابنه الأمير رضا قولي وصلت إلى قيام نادر شاه باقتلاع عيني ابنه[8]!
لم يكن نادر شاه يهدف إلى احتلال مدينة أو ولاية في الدولة العثمانية؛ إنما كان يريد لإيران أن تحل محل الدولة العثمانية في قيادة الأمة الإسلامية، لذلك أرسل إلى العثمانيين يطلب منهم الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب خامس في الإسلام، ولما قوبل هذا بالرفض غضب نادر شاه، وأعلن الحرب على الدولة العثمانية، بل عَزَم على غزو إسطنبول ذاتها[9]، أي إسقاط الدولة بالكلية! ومع ذلك يبدو أنه خاف من استفزاز المسلمين بإسقاط الدولة العثمانية، فوجَّه حملته إلى العراق بدلًا من إسطنبول.
في آخر صيف 1743م، توجه نادر شاه إلى شمال العراق بقوات بلغت ثلاثمائة ألف مقاتل، واحتل بسهولة كركوك في أوائل أغسطس، ثم أربيل بعدها بقليل، ثم حاصر الموصل في منتصف سبتمبر[10]. استمر الحصار أربعين يومًا، وصمدت الحامية العثمانية بقيادة حسين الجليلي باشا صمودًا كبيرًا[11] دفع نادر شاه إلى سحب قواته[12]، خاصة بعد ورود أخبار اضطرابات داخلية في إيران[13]، وبذلك لم تحقق الحملة نتائج تُذكر، وكان هذا في حدِّ ذاته نجاحًا للدولة العثمانية أمام هذا العسكري الشرس.
زادت الاضطرابات في أركان الدولة الإفشارية، بسبب احتمال إصابة نادر شاه بجنون الارتياب (Paranoia)، الذي دفعه للشك في قيادات كثيرة بدولته، مما كان يشجعه على القيام بإعدامات بالجملة[14]، ومع ذلك قام بحملتين على الدولة العثمانية، في 1744م، و1745م، حقق فيهما انتصارات كبيرة حول مدينة قارص Kars في الأناضول، وسقط عدد كبير من القتلى العثمانيين، ومع ذلك لم تكن هناك آثار كبيرة فعلية على أرض الواقع[15]، ولعل السبب في ذلك هو زيادة اضطرابات إيران الداخلية مما كان يمنع نادر شاه من استثمار انتصاراته. أخيرًا اضطر القائد الإيراني إلى قبول التصالح مع الدولة العثمانية، فعُقِدَت معاهدة كردان Kerden (بلدة بجوار قزوين في إيران) في 4 سبتمبر عام 1746م[16]، وفيها أقر الطرفان بالحدود المتفق عليها منذ معاهدة قصر شيرين[17] عام 1639م، منذ أكثر من قرن، مما يعني عودة كل ما فقدته الدولة العثمانية خلال حروب نادر شاه.
هكذا، كالعادة، تنتهي حروب الدولة العثمانية مع إيران دون نتائج ذات معنى على أرض الواقع، ولقد كان من الممكن أن يعيد نادر شاه فتح ملف الأناضول والعراق لاحقًا لكن الموت لم يمهله! لقد اغتاله مجموعة من رجال حكومته، وضباطه، وأقاربه، في 19 يونيو 1747م خوفًا من إصداره لأحكام إعدامٍ لهم[18][19]، وكان في التاسعة والخمسين من عمره[20]، وبمجرد موته تحلَّلت إمبراطوريته تمامًا، حيث أعلن معظم حكام الولايات، والمقاطعات، استقلالهم عن الدولة الإفشارية، التي لم يتبقَّ لها إلا إقليم خراسان[21]. هذا التحلُّل سيؤدِّي إلى هدوء الجبهة الإيرانيَّة تسعةً وعشرين عامًا بعد معاهدة كردان (إلى عام 1775م)[22].
[1] برايس، 2010 صفحة 87.
[2] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007, vol. 1, p. 512.
[3] إقبال، عباس: تاريخ إيران بعد الإسلام من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، راجعه: السباعي محمد السباعي، نقله عن الفارسية وقدم له وعلق عليه: محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م.صفحة 715.
[4] ولبر، دونالد: إيران ماضيها وحاضرها، ترجمة: عبد النعيم محمد حسنين، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الثانية، 1405هـ=1985م. صفحة 95.
[5] ويلسون، أرنولد ت.: تاريخ الخليج، ترجمة: محمد أمين عبد الله، وزارة التراث والثقافة، مسقط–سلطنة عمان، الطبعة الرابعة، 1437هـ=2016م. صفحة 155.
[6] لونگريك، ستيفن هيمسلي: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، مكتبة اليقظة العربية، الطبعة السادسة، 1985م. صفحة 167.
[7] مينورسكي، فلاديمير: مختصر تاريخ نادر شاه، ترجمة: نظام عز الدين محمد علي، دار الياقوت، كركوك-العراق، (دون سنة طبع). صفحة 55.
[8]براون، إدوارد: تاريخ الأدب في إيران، ترجمة: محمد علاء الدين منصور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م. صفحة 4/130.
[9] لاكهارت، كتاب نادر شاه، ضمن كتاب: شفق، رضا زاده، نادر شاه أفشار مؤسس الدولة الأفشارية وأول مُفعِّل للتقريب بين المذاهب الإسلامية (1100-1160هـ/1688-1748م) في نظر المستشرقين، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد الخولي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م. الصفحات 222، 223.
[10] Farrokh, Kaveh: Iran at War: 1500-1988, Bloomsbury Publishing, 2011., pp. 106-107.
[11] ريمون، أندريه: المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.22.
[12] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. الصفحات 352، 353.
[13] لاكهارت، 2010 صفحة 224.
[14] Middleton, John: World Monarchies and Dynasties, Routledge, New York, USA, 2015., p. 655.
[15] Farrokh, 2011, pp. 106-107.
[16] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. liv.
[17] أمجن، فريدون: مولد الإمارة العثمانية ونموها، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/65.
[18] براون، 2002 صفحة 4/131.
[19] سلوت، ب. ج.: عرب الخليج 1602 – 1784، مراجعة: محمد مرسي عبد الله، ترجمة: عايدة خوري، المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 312.
[20] Axworthy, Michael: The Sword of Persia: Nader Shah, from Tribal Warrior to Conquering Tyrant, I.B. Tauris & Co Ltd, London, UK, 2006., p. 17.
[21] هورن، باول: تاريخ إيران في العصر الإسلامي، ضمن كتاب: شفق، رضا زاده: نادر شاه أفشار مؤسس الدولة الأفشارية وأول مُفعِّل للتقريب بين المذاهب الإسلامية (1100-1160ه/1688-1748م) في نظر المستشرقين، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد الخولي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م. صفحة 34.
[22] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 849- 853.
التعليقات
إرسال تعليقك