ملخص المقال
عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، تابعية جليلة، روت عن أبيها وغيره، وروى عنها عدد مِنَ العلماء.
عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ابنة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، فهي تابعية جليلة، وُلدت في سنة 33هـ، وتوفيت سنة 117هـ، وقد رأت سِتًّا مِنْ أُمَّهات المؤمنين، وروت عَنْ أبيها وغيره، وروى عَنْهَا أيّوب السّخْتياني، والْجُعَيْد بْن عَبْد الرَّحْمَن، وعبيدة بن نابل، وصخر بْن جُوَيْرية، وعدد مِنَ العلماء، وَهِيَ مِنَ الثّقات، وأحاديثها في البخاري وَأَبِي داود وَالترمذي وَالنسائي[1].
كان لعائشة بنت سعد بن أبي وقاص موقف من المواقف العظيمة ما زال يذكره لها التاريخ، فقد كان لأبيها سعد ابن أبي وقاص مولى يدعى فِنْد أبو زيد، هذا المولى ضربه سعد بن إبراهيم[2]بن عبد الرحمن بن عوف ضربًا مبرحًا فحلفت عائشة بنت سعد أنها لا تكلم إبراهيم أبدًا إلا إذا رضى عنه فِنْد وكانت عائشة خالة إبراهيم.
صار سعد بن إبراهيم إلى فِنْد طاعة لخالته فوجده موجعًا من ضربه فسلم عليه فحوَّل فِنْد وجهه عنه إلى الحائط ولم يكلمه فقال له سعد بن إبراهيم: أبا زيد إن خالتي حلفت ألا تكلمني حتى ترضى ولست ببارح حتى ترضى عني. فقال له فِنْد: أما أنا فأشهد أنك مقيت سمج مبغض وقد رضيت عنك على هذه الحال لتقوم عني وتريحني من وجهك ومن النظر إليك. فقام من عنده فدخل على عائشة وأخبرها بما قال له فِنْد فقالت: قد صدق وأنت كذلك ورضيت عنه[3].
كان هذا اللوم من عائشة لابن أختها على الرغم من أنَّ: فند من الماجنين، ومن الذين اشتُهروا بسوء الخلق، كما اشتُهروا بسوء العمل، وقد أرسلته عائشة ذات مرة ليأتي لها بقابس فعاد بعد سنة! فقد وجد قومًا يخرجون إلى مصر فخرج معهم، فأقام بها سنةً ثم قَدِم فأخذ نارًا وجاء يعدو فعثر وتبدَّد الجمر، فقال: تَعِسَتْ العَجَلَة!
فقالت عائشة: بَعَثْتُكَ قابسًا فلَبِثْتَ حَوْلًا، مَتى يأْتي غَواثُك مَنْ تُغِيثُ؟ ويُضْرَب به المثل في البطيء: يقولون: أبطأ من فِنْد!
وعلى العكس من ذلك تمامًا كان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حفيد عبد الرحمن بن عوف من ناحية الأب، وحفيد سعد بن أبي وقاص من ناحية الأم، فقد كانت أمه أم كلثوم بنت سعد.
وقد لي سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قضاء المدينة في زمن يزيد بن عبد الملك، ويقول عنه أبو بكر محمد بن خلف الملقَّب بوكيع في أخبار القضاة: وكان سيفًا صليبًا في الحكم شريفًا، يهاب ويتقى»[4].
هو أيضًا عالم حديث جليل، ويقول عنه شعبة أحد أمراء المسلمين في الحديث: كتب عني سعد بْن إبراهيم، وما ترك من حديثي شيئاً إِلَّا كتبه، وأسند هو بنفسه عن أنس بن مالك، وأبي أمامة، وسهل بن حنيف، وابن المسيب، وخلق من التابعين، وأحاديثه في البخاري ومسلم.
كان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يصوم الدهر، وذكر أبو نعيم أنه صام أربعين سنة، وكان يختم القرآن في الليالي الوترية من العشر الأواخر كلَّ ليلة، ولم ينقطع عن القيام كلَّ حياته، وكانت له نِسْعَةٌ[5]مُعَلَّقةٌ، فإذا قامَ بالليل ونَعَسَ؛ تَعَلَّقَ بها، وكان لا يأكل إلا مع المساكين، ومع كلِّ ذلك جاء هذا الدرس من عائشة بنت سعد لأن الأمر جلل!
حسن معاملة الخدم، والنهي الشديد عن إيذائهم:
روى مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ»[6].
وعن أبِي ذرٍّ أن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن الخدم والعبيد: "إخوانُكم خَوَلُكم، جعلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فمَن كان أخوه تحتَ يدِه، فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، ولْيُلْبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينُوهم"[7].
هذه الأخوة الإنسانية هي التي قادت عائشة بنت سعد إلى هذا الموقف الشديد، واقع الأمر هي تحب سعد بن إبراهيم ابن أختها، وترجو له الخير، واسترضاء سعد لفند سيجعل عقابه دنيويًّا بإحراجه في الاعتذار، وإلا فإن العقاب كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في الآخرة سيكون بالنار.
نحن نحتاج في ظلِّ هذه القدوة أن نراجع علاقاتنا مع الخدم، وحرَّاس البيوت، ومن لنا قدرة عليه بشكل عام، وجزى الله عائشة بنت سعد خير الجزاء أن لفتت انتباهنا إلى مثل هذه المعاني الراقية[8].
[1] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ= 2000م، 16/ 347.
[2] سعد بن إبراهيم هو حفيد عبد الرحمن بن عوف، وحفيد سعد بن أبي وقاص، فأمه أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص، وعائشة بنت سعد خالته.
[3] الأصفهاني: الأغاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 17/ 280، وانظر: وكيع القاضي: أخبار القضاة، تحقيق: عبد العزيز مصطفى المراغي، المكتبة التجارية الكبرى، شارع محمد علي، مصر، الطبعة الأولى، 1366هـ=1947م، 1/ 155.
[4] وكيع القاضي: أخبار القضاة، 1/ 151.
[5] نعسة: حبل.
[6] مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (1659).
[7] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30).
[8] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص والإحسان إلى الخدم
التعليقات
إرسال تعليقك