د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ما جريمة إبليس التي لا يعرفها كثير من الناس؟
جريمة إبليس التي لا يعرفها كثير من الناس هي أنه ينافس ربَّ العالمين، ويريد للناس أن يعبدوه، وفي رغبته لدعم هذه الفكرة يحرص على أخذ شكل الملك المنافس لله تعالى!
يُطْلَق لفظ الملك مجازًا على ملوك الدنيا، لكنهم يملكون ملكًا محدودًا مهما زاد، وهم لا يرتبطون بملكهم للأبد، فإما أن يفارقوا ملكَهم، أو يفارقهم ملكُهم، فضلًا عن أن الذي يؤتيهم الملك هو الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
أولًا: الله هو الملك المطلق:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، فهو يملك الملوك وما ملكوا{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، وقال ابن عباس: الْقِطْمِيرُ: هُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوَاةِ التَّمْرَةِ. (أو في شقِّ التمرة).
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التسمية بملك الملوك؛ ففي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْنَى (أذل) الأَسْمَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ»، وفي لفظ مسلم "أخْنَع"، وهي بمعنى أفجر.
وذكر سفيان بن عيينة، وهو من رواة هذا الحديث، أن هذا مثل شاهان شاه الذي يستخدمه العجم.
ثانيًا: والله كملك مطلق يُسَخِّر الكون كله ليكونوا من جنوده:
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].
ثالثًا: ثم إن الله هو ملك الدنيا والآخرة:
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73]
لذلك الله هو الملك الحق:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
وفي هذا الإطار ليس له منافس على وجه الحقيقة:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
إبليس لا يعجبه هذا التصور، ويريد أن تكون له مملكة موازية لمملكة الله تعالى:
بعض الملاحظات على مملكة إبليس:
عرش إبليس:
روى مسلم عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ " قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: «فَيَلْتَزِمُهُ»[1].
وروى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، (في أمر ابن صياد) قَالَ: لَقِيَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» فَقَالَ هُوَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «آمَنْتُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، مَا تَرَى؟» قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ»[2].
فإبليس له عرش يجلس عليه كالملك، ويبثُّ سراياه، وله جنود كثر:
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94، 95].
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].
والجنود من الذكور والإناث؛ ففي البخاري عن أَنَسٍ، قال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ»، وفي تأويلات بعض الشُّرَّاح أن الخبث هم ذكور الشياطين، والإنس هم إناثهم، وهم يكونون بالخلاء لعدم ذكر الله تعالى.
وله راية في معاركه:
صحيح مسلم عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ، أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ.
الخلاصة:
أردتُ بهذا المقال توضيح خطورة الموقف، وإصرار الشيطان على إضلال المؤمنين، فاحترس أن تقع في حبائل هذا المجنون: لا يكون هذا إلا بالارتباط "بالملك الحق"، وهذا بالالتزام بقواعد الشريعة، والطاعة له، والذكر له، والزهد في الدنيا، والارتباط بأوليائه؛ ففي الترمذي وهو صحيح عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ"[3].
([1]) مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، (2813).
([2]) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، (2925).
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك