التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
عبد الرحمن الثاني - عبد الرحمن الأوسط، مقال د. راغب السرجاني، يتناول ولاية عبد الرحمن الأوسط على الأندلس وجهاده والحضارة العلمية والمادية في عهده
ولاية عبد الرحمن الأوسط
بعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].
قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات... وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي r، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3] الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].
عهد عبد الرحمن الثاني
ومن أهم ما تميَّز به عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية:
أولاً: ازدهار الحضارة العلمية
ومن أشهر العلماء في عصر عبد الرحمن الأوسط عباس بن فرناس -رحمه الله- (274 هـ=887م)، وكنيته أبو القاسم، وهو من أهل قُرْطُبَة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الأوسط (في القرن التاسع للميلاد)، وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273هـ)، وكان فيلسوفًا شاعرًا، له علم بالفلك[5].
وهو أول مَنِ استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومَثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وهو أول طيار اخترق الجوَّ؛ أراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدَّ له جناحين طار بهما في الجوِّ مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذَّى في ظهره؛ لأنه لم يعمل له ذنبًا، ولم يَدْرِ أن الطائر إنما يقع على زِمِكِّه[6].
ولكنه -برغم هذه المحاولة الرائدة التي فشلت- كان عبقرية هائلة؛ حتى إن الصفدي بَعْدَ كثيرٍ من المدح له يصفه بأنه «له شخص إنسي وفطنة جني»[7].
ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية
اهتمَّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا[8]، فازدهرت حركة التجارة في عهده؛ ومن ثَمَّ كثُرت الأموال[9]؛ ومن المهم أن نعلم أن بلاد الأندلس لم يكن فيها ما نُسَمِّيه بـ «التسوُّل»، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى؛ لكنها لم تُعرَف في بلاد الأندلس[10].
كذلك تقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده –رحمه الله[11].
ثالثًا: وقف غزوات النورمان
النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضمُّ الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة؛ فقد كانوا يعيشون على ما يُسَمَّى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عُرِفَت باسم «غزوات الفايكنج»، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرِّقة من بلاد العالم، ليس لها من هَمٍّ إلاَّ جمع المال وهَدْم الديار.
جهاد عبد الرحمن الأوسط
في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230هـ=845م) هجمت هذه القبائل على إِشْبِيلِيَة من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، ودخلوها فأفسدوا فسادًا كبيرًا، ودمَّروا إِشْبِيلِيَة تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراضها، ثم تركوها إلى شَذُونة وألمَرِيَّة ومُرْسِيَة وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب، وعمَّ الفزع[12]، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامَّة، وشتَّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم!
فلمَّا علم عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- بهذا الأمر ما كان منه إلاَّ أن جهَّز جيشه وأعدَّ عُدَّته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أُغرِقَت خلالها خمسٌ وثلاثون سفينةً للفايكنج، ومنَّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين[13].
ولم يجنح عبد الرحمن الأوسط بعدها إلى الدَّعَة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:
أولاً: رأى أن إِشْبِيلِيَة تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبُّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًّا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إِشْبِيلِيَة، فقام بإنشاء سور ضخم حول إِشْبِيلِيَة، وحصَّنها تحصينًا منيعًا، ظلَّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة[14].
ثانيًا: لم يكتفِ بذلك بل قام -أيضًا- بإنشاء أسطولين قويين؛ أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك حتى يُدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.
وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية[15]، وكذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمَّلة بالهدايا تطلب وُدَّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم.
وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا[16].
[6] المقري: نفح الطيب، 3/374، وزِمِكّ الطائر: ذيله وذنبه. ابن منظور: لسان العرب، مادة زمك 10/436، والمعجم الوسيط 1/400.
[10] قال المقري: «وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدروزة التي تكسل عن الكد، وتحوج الوجوه للطلب في الأسواق، فمستقبحة عندهم إلى نهاية، وإذا رأوا شخصًا صحيحًا قادرًا على الخدمة يطلب سَبُّوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه؛ فلا تجد بالأندلس سائلاً إلاَّ أن يكون صاحب عذر». نفح الطيب، 1/220، والفقراء هنا هم الصوفية.
[14] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/261، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/84، والحميري: صفة جزيرة الأندلس، ص20.
التعليقات
إرسال تعليقك