التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الخليفة الأموي الحكم المستنصر، مقال بقلم د. راغب السرجاني، يتناول خلافة الحكم المستنصر على الأندلس بعد عبد الرحمن الناصر، وملامح خلافته وأعماله في
خلافة الحكم المستنصر (302-366هـ= 914-976م)
استخلف عبد الرحمن الناصر من بعده ابنَه الحَكَمَ، الذي تولَّى من سنة (350هـ= 961م) إلى سنة (366هـ= 976م)، وتلقب بالمستنصر بالله، وكان يوم تولَّى في نحو السابعة والأربعين من عمره[1]، وكان أبوه يُقَرِّبُه ويعتمد عليه في كثير من الأمور؛ فكان ذا خبرة بشئون الحُكم والسياسة، وكان عبد الرحمن الناصر قد استطاع توطيد أركان الدولة، والقضاء على الفتن، وهو ما يَسَّر للحَكَم المستنصر فيما بعدُ أن يَصِلَ بالأندلس في عهده إلى أعلى درجات الرقي الحضاري، وأن تحدُث في عهده نهضة علمية وحضارية غير مسبوقة.
المكتبة الأموية في قرطبة
يقول عنه ابن الخطيب: «وكان -رحمه الله- عالمًا فقيهًا بالمذاهب، إمامًا في معرفة الأنساب، حافظًا للتاريخ، جمَّاعًا للكتب، مميِّزًا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مِصرٍ وأوان، تجرَّد لذلك وتهمم به؛ فكان فيه حجة وقدوة وأصلاً يُوقف عنده»[2]. ويقول عما وصلت إليه الأندلس في عهده من الرقي والتحضر: «وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية»[3].
أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تُعَدُّ أعظم مكتباتِ العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تُنافس مكتبة قُرْطُبَة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمَّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجِمَ على الفور وضُمَّ إلى المكتبة الأموية، وقد وسَّع الحَكم بن عبد الرحمن الناصر في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أَرْوِقَةً عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين.
وكان الحكم المستنصر –رحمه الله- يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخةَ الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني[4] (وهو كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن؛ فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!
وكَثُرَ النَّسخُ في عصره، حتى قال ابن خلدون: «وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ، والمهرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاَّ ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء»[5].
ومن مآثره أنه رَتَّب معلمين ومربين يُعَلِّمون أولاد الفقراء والضعفاء، وأنفق على أجورهم من بيت المال، وبلغت دور التعليم هذه سبعًا وعشرين؛ ثلاثة منها حول جامع قُرْطُبَة، وباقيها في ضواحي المدينة[6].
كما أنشأ –رحمه الله- جامعة قُرْطُبَة، التي كان مقرها في المسجد الجامع الكبير، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يُدَرِّس الحديث أبو بكر بن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يُدَرِّس النحو، وكان يُدَرِّس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يُعَدُّون بالآلاف[7].
علماء الأندلس في عصر الحكم المستنصر
أبو بكر الزُّبيدي (316-379هـ= 928-989م)
نزيل قُرْطُبَة، ونسبته إلى زُبيد، وهي قبيلة كبيرة باليمن، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبرَ أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر إلى علم السير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه، وله كتب تدلُّ على وفور علمه؛ من أشهرها: «مختصر كتاب العين»، وكتاب «طبقات النحويين والغويين بالمشرق والأندلس» من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمن شيخه أبي عبد الله النحوي الرَّبَاحي، وكتاب «الأبنية في النحو» ليس لأحد مثله.
وقد اختاره الحَكَم لتأديب ولده وولي عهده هشام، فكان الذي علمه الحساب والعربية، وتولَّى قضاء إِشْبِيلِيَة وخُطة الشرطة، وكان كثير الشعر؛ فمن ذلك قوله في أبي مسلم بن فهر: [الطويل]
أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّ الْفَتَى بِجَنَانِهِ *** وَمِقْوَلِهِ لا بِالْمَرَاكِبِ وَاللبْسِ
وَلَيْسَ ثِيَابُ الْمَرْءِ تُغْنِي قُلامَةً *** إِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى قِصَرِ النَّفْسِ
وَلَيْسَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالْحِجَا *** أَبَا مُسْلِمٍ طُولُ الْقُعُودِ عَلَى الْكُرْسِي[8]
ابن القوطية
وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم، وقد أوردنا اسمه الكامل لأن له حكاية طريفة، فجده الأخير عيسى بن مزاحم هو الذي تزوج من سارة القوطية حفيدة يُليان الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس وساعد فيه.
لما مات يُليان ترك ولدين هما إيفا وسيزبوت، ولم يلبث أن مات إيفا وقد أنجب ولدين وسارة، لكن العم سيزبوت اغتصب نصيب أبيهم، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في دمشق، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وفي دمشق تزوجت سارة من عيسى بن مزاحم، وأنجبت منه إبراهيم وإسحاق، ثم كان من نسل إبراهيم صاحبنا المؤرخ أبو بكر الذي عُرِفَ -لهذا- بلقبه «ابن القوطية»[9].
كان من أعلم أهل زمانه باللغة العربية، يروي الحديث والفقه والأخبار والنوادر، وكان من أكثر الناس رواية للأشعار، وإدراكًا للآثار، وكان مضطلعًا بأخبار الأندلس، عارفًا بسير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها، يُملي ذلك عن ظهر قلب، وكانت كتب اللغة أكثر ما تُقرأ عليه وتُؤخذ عنه، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول؛ وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة؛ منها: كتاب «تصاريف الأفعال»، وهو الذي فتح هذا الباب، وكتاب «المقصور والممدود»، جمع فيه ما لا يُحَدُّ ولا يُوصف، ولقد أعجز به مَنْ يأتي بعده، وفاق مَنْ تَقَدَّمه، وكان الأديب الكبير العلامة اللغوي أبو علي القالي يُبالغ في تعظيمه، حتى قال له الحكم المستنصر: مَن أنبل مَنْ رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال القالي: محمد ابن القوطية.
وكان مع هذه الفضائل من العُبَّاد النسَّاك، جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجَّه يومًا إلى ضيعة له بسفح جبل قُرْطُبَة، فصادف أبا بكر ابن القوطية في الطريق، قال: فلمَّا رآني عرج عَلَيَّ واستبشر بلقائي، فقلتُ له على البديهة مداعبًا له: [البسيط]
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا مَنْ لا شَبِيهَ لَهُ *** وَمَنْ هُوَ الشَّمْسُ وَالدُّنْيَا لَهُ فَلَكُ
قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
مِنْ مَنْزِلٍ يُعْجِبُ النَّسَّاكَ خُلْوَتُهُ *** وَفِيهِ سَتْرٌ عَلَى الْفُتَّاكِ إِنْ فَتَكُوا
قال: فما تمالكتُ أَنْ قَبَّلتُ يده؛ إذ كان شيخي، ومجدتُه ودعوتُ له[10].
التعليقات
إرسال تعليقك