التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
بنو ذي النون في طليطلة، مقال د. راغب السرجاني، يتناول تاريخ أسرة بني ذي النون وتكوينهم مملكة طليطلة في فترة ملوك الطوائف في الأندلس على يد الظافر بن ذي
مملكة طليطلة
أهمية طليطلة (الثغر الأوسط)
منذ أن دخل الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس وطُلَيْطِلَة (Toledo) تُمَثِّل عين الاهتمام من الولاة والأمراء، وكانت تُعْرَف بالثغر الأوسط، ويبدو الطابع الجهادي في التسمية واضحًا ذا معنى مهمٍّ وخطير؛ إذ إنها تُمَثِّلُ الحاجز الشمالي الأوسط للدولة الإسلامية في الأندلس ضدَّ غارات الممالك النصرانية المتاخمة؛ ومن هنا فأهميتها تكمن في أمرين:
الأول: الموقع الجغرافي المهم؛ إذ هو موقع إستراتيجي خطير عسكريًّا وسياسيًّا؛ وهذا ما جعلها موضع الاهتمام من كلا الطرفين الإسلامي والإسباني النصراني.
الثاني: المساحة الواسعة والشاسعة لطُلَيْطِلَة وأعمالها (من الكور والمقاطعات) في قلب الأندلس؛ فهي تمتدُّ شرقي مملكة بَطَلْيُوس (الثغر الأدنى)، من قُورِيَة وترجالة (TRUJILLO) نحو الشمال الشرقي، حتى قلعة أيوب وشَنْتَمَرِيَّة الشرق، وتُمَثِّل الجنوب الغربي لمملكة بني هود في سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)، وتمتدُّ جنوبًا إلى الغرب حتى حدود مملكة قُرْطُبَة، وتمتدُّ شمالاً إلى الشرق فيما وراء نهر تاجة متاخمة لحدود مملكة قشتالة[1].
وهذا الموقع الخطير يجعلها من ناحية في وضع الصدام العسكري المسلح مع ممالك الطوائف الأندلسية القوية ذات المطامع التوسعية، خاصة بني الأفطس في بَطَلْيُوس (الثغر الأدنى)؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الشرقي نحو الشمال، وبني هود في سَرَقُسْطَة (الثغر الأعلى)؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الجنوب الغربي، وبني جهور في قُرْطُبَة؛ إذ تُمَثِّل طُلَيْطِلَة لها الجانب الشمالي نحو الغرب، ومن ناحية أخرى فهي موضع عدوان مستمرٍّ وغارات متواصلة من الممالك النصرانية؛ إذ تُعَدُّ طُلَيْطِلَة الخطوة الأولى والأهم للسيطرة على ملوك الطوائف الأندلسية في القبضة النصرانية، وهو ما تمَّ بالفعل على نحو ما سنُبَيِّنُه في موضعه إن شاء الله.
بنو ذي النون الأصل والتاريخ
ذَكَر أصحابُ التاريخ أن بني ذي النون أسرة بربرية من قبائل هوارة، واسم جدهم الأكبر هو زنون، فتصحف الرسم بطول المدَّة ومُضيِّ الزمن، فصار (ذو النون)، وهو اسم شائع في قبائل البربر، وهم من أسرة - على حدِّ تعبير ابن عذاري المراكشي وابن الخطيب- لم يكن لها نباهة ولا رئاسة إلا في زمن الدولة العامرية؛ في فترة المنصور بن أبي عامر وولده من بعده حتى حدوث الفتنة ونكبة الخلافة[2].
وهناك بعضُ الروايات التاريخية تُوَضِّح أن لهذه الأسرة دورًا منذ أيام الإمارة الأموية ثم الخلافة، وقد استحكم أمرهم زمن الدولة العامرية والفتنة، فابن حيان يذكر جدهم ذي النون في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238-273هـ=852-886م)، فقد خَلَّفَ عنده خَصِيًّا بحصن أُقْلِيش (Ucles) فعالجه حتى برئ. وكان ذلك سبيلاً لتوثيق العلاقة بينهما، فولاَّه الأمير حكم أُقْلِيش وشَنْتَمَرِيَّة (Santa Maria) [3]، ومن هنا برز نجم بني ذي النون على مسرح الأحداث، وخاصة في زمن الحكم المستنصر، وقد طمع بنو ذي النون في الاستقلال ولهم في ذلك محاولات؛ منها: محاولة الفتح بن موسى بن ذي النون بقلعة رباح سنة 300هـ زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر، فأرسل له حملة عسكرية بقيادة عباس بن عبد العزيز فأخضعته[4].
ثم علا كعب بني ذي النون خاصة في دولة المنصور بن أبي عامر وولده من بعده؛ ففيها قادوا الجيوش وتَوَلَّوُا الأعمال والبلاد، وظهر منهم عبد الرحمن بن إسماعيل بن ذي النون، وكان قد مَلَك شَنْتَمَرِيَّة كلها، وملكها من بعده ابنه إسماعيل، فلما كانت نكبة الخلافة الأموية وانتهاء عهد الدولة العامرية وقعت الفتنة، فلحق إسماعيل بالثغر وجمع إليه بني عمه، وخطب لسليمان المستعين الملقب بالظافر، فأعطاه سليمانُ ولاية إقليم أُقْلِيش، ثم أخذ يتوسَّع على الممالك المجاورة له، حتى عظمت قوَّته، وانقاد له قوَّاد الثغور؛ فاستقامت له الأمور، فمنحه سليمان الظافر الوزارة ولقَّبه بناصر الدولة، فلما اضطرمت الفتنة أَعلن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذي النون استقلاله، فكان أَوَّلَ الثوار والمفارقين للجماعة، وأخذ يتوسَّع على حساب غيره ويجبي الأموال، وقد وصفه ابن حيان بالبخل قائلاً: «وكان من البخل بالمال، والكَلَفِ بالإمساك، والتقتير في الإنفاق، بمنزلةٍ لم يكن عليها أحدٌ من ملوك عصره، لم يرغب في صنيعة، ولا سارع إلى حسنة، ولا جاد بمعروف، فما أُعْمِلَتْ إليه مَطِيَّة، ولا حَمَلَتْ أحدًا نحوه ناقة، ولا عَرَّج عليه أديبٌ ولا شاعر، ولا امتدحه ناظمٌ ولا ناثر، ولا استُخْرِجَ من يده درهم في حقٍّ ولا باطل، ولا حَظِيَ أحدٌ منه بطائل، وكان مع ذلك سعيد الجدِّ، تنقاد إليه دُنياه، وتَصْحَبُه سعادتُه، فينالُ صعابَ الأمور بأهون سعيه، وهو كان فَرَطَ الملوك في إيثار الفُرقة؛ فاقتدى به مَنْ بعده... فصار جرثومة النفاق، وأوَّلَ مَنِ استنَّ سُنَّة العصيان والشقاق، ومنه تفجَّر ينبوعُ الفتن والمحن، فتباركَ مَنْ أَمْلَى له، ولم يرضَ له عقوبةَ الدنيا مثوبة»[5].
بنو ذي النون في طليطلة
الظافر إسماعيل بن ذي النون (427-435هـ =1036-1043م)
عندما وقعت الفتنة وانهارت السلطة المركزية بالأندلس أضحت طُلَيْطِلَة بلا حاكم أو والٍ يتولَّى أمورها، ويضبط أمنها، ومن ثَمَّ آلت إدارة البلاد إلى قاضيها أبي بكر يعيش بن محمد بن يعيش الأسدي، وبقي في حُكم طُلَيْطِلَة إلى أن عُزِلَ وسار إلى قلعة أيوب، وظلَّ بها إلى أن تُوُفِّيَ سنة 418هـ[6]، ثم تولَّى من بعده عبد الرحمن بن متيوه، فضبط أمور طُلَيْطِلَة، وظلَّ كذلك إلى أن وافته المنية، فتولَّى من بعده ابنه عبد الملك بن عبد الرحمن بن متيوه، فأساء السيرة في أهلها، واضطربت الأمور وعَمَّت الفوضى، فاجتمع زعماء طُلَيْطِلَة على أن يرسلوا إلى حاكم شَنْتَمبَرِيَّة عبد الرحمن بن ذي النون، الذي وَطَّد ابنه إسماعيل أمور البلاد، وكانت هذه فرصة ذهبية لابن ذي النون، وعلى الفور أرسل لهم ابنه إسماعيل بن ذي النون، فاستولى على طُلَيْطِلَة ودخلها سنة (427هـ=1036م)، وتلقَّب بالظافر، وبدأ يتوسَّع في مُلكه الجديد، واستعان في تدبير أمور البلاد بكبير الجماعة وشيخ البلدة أبي بكر ابن الحديدي؛ فهو شيخها والمنظور إليه بها من أهل العلم والعقل، والدهاء وحسن النظر، فضلاً عن كونه محبوبًا من أهل طُلَيْطِلَة، فكان الظافر إسماعيل لا يقطع أمرًا دونه، ويُشاوره في مهمات أموره وشئون دولته، ولم تَطُلْ مدَّة ولاية الظافر إسماعيل؛ إذ وافته المنية سنة (435هـ=1043م)، وخلف من بعده ابنه يحيى بن إسماعيل الملقب بالمأمون[7].
التعليقات
إرسال تعليقك