التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
حصار غرناطة، مقال د. راغب السرجاني، يتناول حصار فرناندو وإيزابيلا لمملكة غرناطة تحت قيادة أبو عبد الله محمد الصغير
فرناندو الخامس واستغلال النزاع والفرقة
حيال هذا الوضع الذي آل إليه حال المسلمين في الأندلس استغل فرناندو الخامس هذا الموقف جيدًا لصالحه، وبدأ يهاجم حصون غرناطة؛ حيث كان يعلم أن هناك خلافًا وشقاقًا كبيرًا داخل البلد، فدارت المعارك بين المسلمين والقشتاليين على أكثر من جبهة، استطاع المسلمون الانتصار في بعضها، وانهزموا في البعض الآخر، وهذه الهزائم لم تكن لقوة عدوهم بقدر ما كانت للضعف الذي كان قد وصلت إليه مملكتهم، نتيجة لاستمراء أميرهم لحياة الدعة والراحة، أما الشعب فإنه كان متحفزًا للدفاع عن نفسه تحفزًا كبيرًا، ثم تتابعت الأحداث، إذ قامت ثورة وضعت أبا عبد الله محمدًا في السلطة، وفرَّ أبوه إلى الزغل في مالقة، وهناك ومن مالقة كان الزغل يدفع النصارى عنها أشد دفاع، واستطاع –بعون الله- رد النصارى بعد هزائم شديدة مريرة، فقدوا فيها الكثير ومنهم بعض زعمائهم، كما فقدوا فيها الكثير من العُدد والآلات، فنشط أبو عبد الله هو الآخر لغزو النصارى، وغزاهم بالفعل واستطاع أن ينتصر عليهم... وأن يتوغل في بلادهم، وأثناء عودته من هناك محملاً بالغنائم، قطع عليه النصارى طريق عودته، ودارت بين الفريقين معركة قرب إلياسنة هُزم فيها المسلمون، وأُسر ملكهم أبو عبد الله محمد الصغير[1].
وبعد أَسْر الصغير عاد أبوه الزغل لحكم غرناطة، فأصبحت من جديد إمارة واحدة تحت حكم الزغل، غير أن المرض كان قد هدَّه وذهب ببصره؛ إذ أُصيب بمرض شبه الصرع، وأصيب في بصره، وأصابه خدر في جسده، وعاقبه الله تعالى بأنواع من البلاء؛ فتنازل عن الملك لأخيه محمد بن سعد، وحُمل إلى مدينة المنكب فأقام بها حتى مات[2].
وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يُطلق عددًا من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو، وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهودًا آخر لإنقاذ ولدها، بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة؛ ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه إيزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يُفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك كل عام سبعين أسيرًا لمدة خمسة أعوام، وأن يُقَدِّم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضمانًا بحسن وفائه. وتعهَّد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فورًا، وألا يكلف في حكمه بأي أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه في مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير»[3].
فرناندو واحتلال مالقة ووادي آش
كان على الساحة الآن «الصغير» ومعه ولاية غرناطة، والزغل ومعه وادي آش، ثم ملك إسبانيا وتحت قبضته مالقة، واستكمالاً لآمال كان قد عقدها قديمًا، وفي سنة (895هـ= 1490م) انطلق ملك إسبانيا من مالقة إلى ألمرية على ساحل البحر المتوسط، واستولى على كل ما في طريقه إليها من مدن وحصون، ثم تمَّ تسليم ألمرية له بعد ذلك، وقد دافع المسلمون عن مدنهم أشد دفاع وأسناه، ولكن فارق الإمكانيات لم يساعدهم، ولم يحل شيء دون وقوع المصير المحتوم[4].
ثم منها توجه إلى وادي آش (التي هي في يد الزغل) فاستولى عليها، بعد أن رأى الزغل أنه قد أحيط به، وأنه ما عاد يستطيع الدفع عن بلاده، وبعد أن استنجد بمن استطاع الاستنجاد به من ملوك المسلمين[5].
حصار غرناطة
كان الوضع الآن أن حوصرت مدينة غرناطة وكل قراها ومزارعها من كل مكان بجيوش النصارى، أحاطوها من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، وكان كما قال رسول الله r: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن. قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[6].
فقد تداعت ملوك النصارى حول مملكة غرناطة الصغيرة والضعيفة جدًّا في ذلك الوقت، واستولى ملك إسبانيا (قشتالة وأرجون متحدتين) على برجين: برج ملاحة غرناطة، وبرج قرية همدان، وكانا برجين كبيرين حصينين، فزادهما تحصينًا وشحنهما بالرجال، وما يحتاج إليه من آلة الحرب؛ ليضيق على أهل غرناطة؛ لأنهم كانوا قريبين منهما، فضيَّق بذلك عليهم أشدَّ الضيق.
معاهدة تسليم غرناطة
وفي أول عام (985هـ= ديسمبر 1489م) وحسبما تُشير بعض الوثائق، تم صلح جديد، «حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبي عبد الله نفسه في المحرم سنة 895هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهي عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه يُنَوِّه أبو عبد الله بهذا (الصلح السعيد) المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه... وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصَّلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله قد تعهد في هذا الصلح بأن يُسَلِّم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تمَّ تسليم بسطة وألمرية ووادي آش. وعلى أي حال ففي فاتحة سنة 1490م ( أوائل صفر 895هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله سفارة لتخاطبه في موضوع التسليم... ولم يطلب (ملك قشتالة) تسليم غرناطة ذاتها، ولكن طلب تسليم مدينة الحمراء مقر الملك والحكم.
فماذا كان جواب أبي عبد الله؟
لقد كان في سابق مواقفه ما يحمل الملكين الكاثوليكيين على توقُّع استسلامه وخضوعه، ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان؛ إذ أرسل إليهما القائد أبا القاسم المليح برسالة (بتاريخ 29 صفر سنة 895هـ= 22 يناير سنة 1490م)؛ وبالرغم من اللهجة المهذبة المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة التي اختتمت بها الرسالة، فقد كان فحواها هو الرفض. لكن الملكان الكاثوليكيان أصرَّا على طلبهما، فاعتزم أبو عبد الله أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. فأرسل وزيره يوسف بن كُماشة ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى يدعى إبراهيم القيسي إلى الملكين الكاثوليكيين في إشبيلية؛ لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين، وعلى ذلك استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى.
وهنا نقف قليلاً لنتأمل هذا الموقف الجديد من جانب أبي عبد الله؛ أجل كانت الخطوب والمحن التي جازتها الأندلس في هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبي عبد الله رجلاً آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعًا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلَّص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائيًّا من أملاك مملكة قشتالة، وعيّن لها حكام من النصارى، وتدجن مَن بقي من أهلها، أو غدوا مدجَّنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصًا على أوطانهم ومصالحهم، أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيرًا منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم جازوا البحر إلى المغرب.
وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقي؛ حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضمُّ بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس، وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التي أوذيت في الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجني ذنبًا أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغي أو مهادنته تلقى استنكارًا عامًّا، ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكي قشتالة في طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجني، وأدرك -وربما لأول مرة- فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعونته على بني وطنه ودينه، ولما أصرَّ فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة، فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يَعُدْ له القول والفصل في هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطي يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويُصَمِّم على المقاومة والدفاع. هكذا كان جواب أبي عبد الله لملكي قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف -بعزم شعبه- من الاستكانة والمهادنة إلى التحدي والمقاومة»[7].
وما أن علم ملك قشتالة بامتناع أبي عبد الله عن التسليم ذهب إلى غرناطة، وحاصرها، فحاربه المسلمون وبرز إليه الأمير أبو عبد الله محمد، وصمد المسلمون في وجه الطاغية صمودًا بطوليًّا رده –بفضل الله- خائبًا خاسرًا إلى بلاده، وما أن ذهب حتى بدأ المسلمون بقيادة أبي عبد الله يغزون البلاد النصرانية المحيطة، ويساعدون الثوار المسلمين في البلاد التي استولى عليها النصارى قريبًا، وقد استطاعوا بالفعل الاستيلاء على عدد من الحصون والمدن القريبة والمهمة، ثم عاد الطاغية لمحاصرة غرناطة، ورده الله دون أن ينال منها شيئًا، ورجع المسلمون لغزواتهم، وهكذا حتى جاءهم الطاغية محاصرًا للمرة الثالثة، وكله تصميم على ألا يرحل هذه المرة عن غرناطة إلا بعد فتحها، ولعل أحد أسباب تصميمه هذا هو خوفه من هذا النشاط الذي ظهرت به غرناطة في فترتها الأخيرة، على أن غرناطة لم تستسلم لهذا الحصار، وعملت على كسره ضاربة بذلك أروع أمثلة البطولة والفروسية، بل كانت سرايا المسلمين تخرج للعيث في البلاد النصرانية القريبة[8].
[1] مجهول: نبذة العصر، ص50-67، والمقري: نفح الطيب، 4/512-515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/201- 203، ومحمود علي مكي: التاريخ السياسي للأندلس ص134، منشور في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي.
[2] مجهول: نبذة العصر ص67، 68، والمقري: نفح الطيب، 4/515، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/204.
[4] مجهول: نبذة العصر، ص98، والمقري: نفح الطيب، 4/522، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/226، 227.
[5] مجهول: نبذة العصر، ص99- 101، والمقري: نفح الطيب، 4/522، 524، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/227، 228.
التعليقات
إرسال تعليقك